المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقال رومانسية بالجملة !



رفعت خالد
24-08-2013, 03:14 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله..

في إحدى نقاشاتنا العميقة أثار صديقي طه - أصلحه الله - مسألة شديدة الأهمية وقفتُ عندها كثيرا حتى حِرتُ في أمرها !

هل ما يدعوه الناس حبا هو حب فعلا ؟ أم أن أكثره مجرد خداع نفسي ؟ وكيف يوقن المرء أنه قد أصاب قلبه شيء من ذلك ؟.. كيف يثق بأنه لم يخدع نفسه أو يتظاهر بأنه محبّ ؟.. وهكذا ضِعتُ في هذه الغابة الكثيفة من علامات الاستفهام ولم أجد منها مخرجا..

لا أنفي وجود الحب.. هو موجود بالتأكيد، وفيه المذموم والمحمود، فأما المحمود منه فما وافق الشرع الحكيم، والمذموم ما خالفه وشذ عنه.. لا مراء في هذا. ولكن في عصر تغيرت فيه ملامح كل شيء جميل.. أصبح هذا (الحب) كائنا ضخما مثيرا للجدل، مُلفتا للأنظار، خاطفا للألباب.. لا شكل له ولا وصف، كثير الألوان مبهرجٌ من الخارج.. أجوفٌ فارغ من الداخل.. فماأكثر (المحبين) الذين يعجزون حتى عن الإفصاح عما يزعمون أنه بداخلهم من الوجد والهيام.. إلا شيئا من تلك العبارات الرخيصة التي يجدونها في كتاب (كيف تكتب رسالة لحبيبتك) وما يسمعونه في مسلسل (أحبك حبيبي) !

فقد - والله - اختلطت الأمور في قرننا الذي نحن فيه ولم يعد الصدق واضحا، بائنا عن الأباطيل إلا ما شاء ربي.. لم يعد بالإمكان الجزم كما جزم العرب بحب عنترة لعبلة وقيس لليلى.. في عصر لم يكونوا يعرفون فيه (هرمونات الذكورة) و (مؤشرات البرود عند النساء).. عصرٌ كانت فيه النظرات طازجة والكلمات ساخنة أصلية كأن فيها من رائحة القلب ودمه.. عصرٌ كانت فيه الرجولة فروسية ونبل حتى كان الكافر منهم يغض طرفه عن جارته رفعة ومروءة..

أقول هذا بصرف النظر عن حُرمة العلاقات غير الشرعية، فهي غير مقبولة عندنا نحن معشر المسلمين، ولا خير فيها لأن ربّ الناس أعلم بما يُصلحهم شاؤوا أم أبوا.. إلا أن الكلام في الغريزة ذاتها، التي خلقها فينا الخالق - تعالى في علياءه - وأمرنا بتأطيرها وتقنينها بما أملاه علينا حتى تكون نافعة ويسود الاستقرار في نفوس العباد ويعمّ الأمان والسلام في البلاد..

لكني أرى البشر اليوم قد صاروا ضعافا كالنعاج.. حتى يجزع الواحد منهم إلى (حب).. أي حب، المهم أن ينتحل شخصية ذاك الرجل النبيل، الشهم الشجاع بلا سيف، الكريم بلا عطاء.. الذي تذوب فتاته في حبه، ثم هو يُضيف إلى هذا الخليط بهارات لابد منها مثل (أريد الحلال) و (لستُ كغيري من الذئاب البشرية).. الخ. فهو كما تُلاحظ استثناء بين بني جلدته، وظاهرة في عصره، وقيس زمانه.. لكنهم لا يفهمونه، ولا يكتب الشعر حتى يُشتهر مثل أولئك العشاق..لماذا ؟ لأن ليس لديه الوقت الكافي لمثل هذا الهراء !

لهذا فكل جوّ رومانسي يكون مُحفّزا قويا لهذه التفاعلات في قلوبنا الجائعة.. ويدفع كل ولد وبنت ليتخيلا أنهما يعشقان بعضهما وأن كل واحد هو من كان يبحث عنه صاحبه في الوديان والفيافي !.. والأخطر أنهما قد يعتقدان أو يعقدان ذلك في قلبيهما عَقدا، حتى تصير عقيدة راسخة قد يُقسمان عليها.. فليت شعري أين الحقيقة في كل هذا ؟

هذا مكمن الخطورة التي أريد الإشارة إليها.. ما مدى صحة مثل هذه الاعتقادات ؟ هل تكون مجرد خدعة نفسية سخيفة ؟ ولا يعدو الأمر حينها مجرد أوهام نفسية وضعف في الإيمان وانحطاط في الهمة وقلة صبر على معالي الأمور مع فراغ مهول نتج عنه ضرورة (البحث عن ليلى) ؟

إنه زمان صارت فيه (الرومانسية) بالجملة !

أشعل شمعتين وضع فنجانين ومنديلين على هيأة قلبين.. وأحضر اثنين من جنسين مختلفين.. ذكر وأنثى، وليس من جنس آخر لو سمحت !

ثم اجلس وتحلّى ببعض الصبر حتى تتحمّل سخافة الحوار و(السيناريو).. وتفرّج على هذه المسرحية.. ولا شك أنك ستمسك قلبك، فأنت أمام قيس وليلى مباشرة.. وشخصيا !

والآن امسح دموعك.. انس هذا السّخف، ودعني أكمل لك !

إن الحب يا ولدي - كح كح - أو ما يسمّونه كذلك لأمر عجيب مُغرق في الخيال، مُختلط بالواقع، مليء بالمثاليات و (مانريد أن تكونه الحياة).. هذا الحلم الوردي الذي يرقص له العالم ويغنون ويكتبون ويقتلون وينتحرون.. إنه ليُشبه تلك الدعوات المخادعة من الأحزاب التي تصرّ على أنها (إسلامية) - ولا حزبية في الإسلام - فهم يستغلّون الدّين لرفع رايات أحزابهم.. فكذلك هؤلاء يستغلون هذه الغريزة البريئة بداخلنا وهذا الميلان الجبلّي للجنس الآخر كي يثبتوا المعنى الذي يريدون.. وهو (ضرورة وجود ليلى في حياتك).

والإسلام قد سمح للرجل بأربع (ليلات) إن شاء.. وذلك في إطار محدّد بعناية، له شروط وضوابط تحمي الناس من خبائث تتأفف منها الخنازير..

الله أحكم الحاكمين سُبحانه، وحكمته لا تُحيط بها العقول القاصرة ولا القلوب المريضة الملوثة.. والتعدد- مثلا - مما تنصلح به الكثير من أحوال الناس ومما يُرتق به فتق كبير في الأمة ولكن الناس لا يعلمون.. وذلك بصرف النظر عن موضوع (غيرة النساء) فذلك شيء إنساني لابد منه.. كالغضب مثلا، فهل لأن الناس يغضبون ويتشاجرون ويتهاجرون ويتطالقون نترك كل شراكة بين اثنين ونترك الزواج ؟.. لو اتبعنا منطق هؤلاء الأغبياء الذين قلّ دينهم لقلنا - في ضوء ما نسمع من مشاكل مهولة بين الأزواج - أن الزواج لا يصلح.. فهل يقبل هذا عاقل ؟

إن هناك طبائعا للبشر يمكن العمل على إصلاحها والحدّ منها وتجاوزها.. ولو كان ذلك من المستحيل لما كلفنا الله بذلك ولحذرنا من التعدّد ونهانا عنه.. فلا يكلفنا الله إلا ما نُطيق وهو الرؤوف الرحيم.

ولكن - كما أخبرتك - في عصر تغيّرت فيه المفاهيم.. صارت مثل هذه الأمور الفطرية المشروعة ضرب من المستحيل، فقد تغير مفهوم الحب..

وأقول.. لو كان هذا الحبّ صافيا نقيا كما يدّعون لسبقه حب الخالق.. أعظم من يُحب ويُضحّى في سبيله بكل غال ونفيس. والمرأة إذا كانت صالحة حقا، راقية لقبلت أن يتعدد زوجها مُضحّية بما تجد في نفسها من مقاومة وشُحّ.. ولكبّرت الله وهللّت فرحا بشرعه وترحيبا، أوليس المسلم مستسلما لربّه ؟ لكن أين هذا الرقي ؟ أين هذا النبل ؟ وأي حبّ هذا الذي لا يقيم لحب الله وكلامه وزنا ؟.. هو حب لأجل مصالح شخصية إذا ؟ فإذا ذهبت تلكم المصالح ذهب غير مأسوف عليه !

والقلب الطاهر، الأصيل - الذي يدّعي كل أحد أنه يملكه - يخضع لخالقه أولا.. ومن ثمّ نرجو لصاحب هذا القلب الخير، وأنه صادق في حبه - إن أحب - لأصالة آلة الحب لديه.. وأنه يُضحي بصدق ويبكي بصدق ويلوم بصدق.. أما (حبّ الهرمونات) الذي يبدأ مع ظهور (حَبّ الشباب) فقد صار يُثير خوفي.. وهو يُذكّرني بمواء القطة العصبي ونقيق الضفادع اللزج في موسم التزاوج.. لا أقل ولا أكثر !



وكتب
رفعت خالد
عشية الأربعاء
21 غشت 2013