المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أخبار سياسية مبادرة الأمير عبد الله: الأغراض الحقيقية وراء سحابة الدخان



Black_Horse82
02-03-2002, 12:19 AM
صبحي حديدي

علي عكس ما يتردّد هنا وهناك، ويحظي بإجماع مدهش حقاً، ثمة عنصر جديد بالغ الخطورة في مقترح الأمير عبد الله، هذا المقترح التبسيطي الذي تكشّف في سياق دردشة (غير بريئة علي الأرجح) مع الصحافي الأمريكي توماس فريدمان، وانقلب سريعاً إلي مبادرة سلام تهلّل لها الأمم شرقاً وغرباً، ويجري تقديمها في صورة معقل الأمل ومنفذ النجاة. ولا يكمن الجديد الخطير في صدور المقترح عن المملكة العربية السعودية (بما يعنيه ذلك من شحنة رمزية دالّة)، وعن الأمير عبد الله بالذات، وليّ العهد والحاكم الفعلي والرجل الذي عُرف عنه التشدّد في القضية الفلسطينية ومسألة القدس (بما يعنيه ذلك من غياب الإجماع حول المقترح في صفوف الأمراء السديريين، أو عدم اتضاح أيّ نوع من التوافق بين آل سعود والمشايخ الوهابيين، حول أمر يمسّ ثوابت المملكة وجوهر موقعها السياسي والديني في المحيط العربي والعالم الإسلامي).
الجديد الخطير يكمن في هذه المقايضة الجديدة: الأرض مقابل التطبيع، والتطبيع الشامل كما يبدو (وكما نفهم من كلام فريدمان وليس من التعليقات السعودية)، من النوع الذي تريده الدولة العبرية، وكانت وما زالت تسعي إليه. التطبيع الذي يدخلها في عقد الشرق الأوسط كدولة مشاركة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وكعامل منشّط و محرّض وضامن لولادة الشرق الأوسط الجديد . هذا ما حلم به الصهاينة الأوائل، وهذا ــ وليس السلام التعاقدي، أيّاً كان محتواه ومفرداته ــ هو ما يسعي إليه الصهيوني ـ السياسي، والصهيوني ـ العسكري، والصهيوني ـ رجل الأعمال، والصهيوني ـ المبشّر الثقافي.
والحال أنّ قرارات الأمم المتحدة، 242 بصفة خاصة، لا تشترط كلّ هذا الغرام بين الدولة العبرية والدول العربية مقابل الإنسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 7691. كذلك فإنّ مبدأ الأرض مقابل السلام ، الذي استند إليه مؤتمر مدريد وبات حجر الأساس في إطلاق العملية السلمية العربية ـ الإسرائيلية، لا يقول بما يقول به اليوم الأمير عبد الله بن عبد العزيز: التطبيع التامّ بين الدولة العبرية والدول العربية كافّة. وفي هذا تكون الأفكار السعودية قد ذهبت أبعد ممّا ذهبت إليه مبادرات وجهود ومؤتمرات أخري حول السلام في الشرق الأوسط، من مبادرة الملك فهد في العام 1891 (التي عُرفت بعدئذ باسم خطة فهد ) إلي مفاوضات كامب دافيد الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، مروراً بمؤتمر مدريد دون سواه.
في المقابل، إذْ أنّ التانغو يحتاج إلي راقصَين اثنين، لا يلوح البتة أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون مستعدّ للإنسحاب إلي حدود 7691 (بما في ذلك القدس، والجولان، ومزارع شبعا!) مقابل أيّ طراز من الغرام العربي ـ الإسرائيلي، خصوصاً إذا انحصر هذا الغرام في حكاية التطبيع التامّ وحدها، وخصوصاً أيضاً إذا كانت هذه الحكاية سوف تكرّر التجربة الإسرائيلية المريرة في التطبيع مع مصر والأردن: تطبيع مع الأنظمة الحاكمة، وعزلة تامّة عن الشعوب، بل حرج دائم مع الأنظمة ومقت دائم من الشعوب. الرقصة لن تتمّ، إذاً، إلا علي صعيد نظري، لفظي، كلامي، مسرحي. وعرب قمّة بيروت القادمة سوف يكونون جهة الرقص الوحيدة، وأمّا شارون فإنّ جثته أثقل من أن ترقص التانغو، ولعلّ المشاركة الإسرائيلية لن تتجاوز عزف الأنغام علي الطنبور العتيق ذاته... ليس أكثر.
ما الذي تريده الرياض، إذاً؟ وما الذي يريده الأمير عبد الله بالذات، استطراداً؟ لماذا، إذا صدّقنا رواية توماس فريدمان كما نقلها عنه ناحوم برنياع في يديعوت أحرونوت ليوم 52 من شهر شباط (فبراير) الماضي، كان مكتب الأمير عبد الله متلهفاً علي نشر مقال فريدمان الذي ينقل أخبار المبادرة إلي العالم، أكثر بكثير من لهفة الصحافي الأمريكي نفسه؟
ثمة مفاتيح عديدة للإجابة علي هذه الأسئلة، ولعلّ أوّلها هو تلك الريبة الغريزية التي تقود إلي القول بأنّ مبادرة الأمير عبد الله موجهة إلي البيت الأبيض أكثر ممّا هي موجهة إلي أرييل شارون، وأنّ حاجة المملكة العربية السعودية إلي ترميم علاقتها مع الإدارة الأمريكية وتحسين صورتها أمام الرأي العام الأمريكي، أشدّ إلحاحاً من رغبة الأمير عبد الله في إطلاق مبادرة سلام لا يمكن أن تحظي بشعبية داخلية، في أوساط مشايخ الوهابية بصفة خاصة. ولا ريب في أنّ تدهور العلاقات الأمريكية ـ السعودية تحوّل إلي ورقة ضاغطة في التوازنات الداخلية التي تحكم علاقات الأمراء السديريين بالأمير عبد الله وليّ العهد والحاكم الفعلي، وبات حُسن إدارة هذه الورقة معياراً لآفاق انتقال سلس للخلافة من الملك فهد إلي وليّ العهد.
وكان في وسع الأمير عبد الله أن يطلق مبادرته في سياق آخر، أكثر رسمية إذا جاز القول. ولكنّ اختيار الوسيط الإعلامي، والصحافي توماس فريدمان بالذات، كان مؤشراً واضحاً علي طابع الهجوم الإعلامي المضادّ الذي تنطوي عليه المبادرة، لجهة درء التدهور في العلاقات السعودية ـ الأمريكية بصفة خاصة. وينبغي الإعتراف بذكاء اختيار فريدمان لنقل الأفكار السعودية، خصوصاً وأنه سوّد الكثير من الصفحات في هجاء المملكة منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الماضي. وهو يروي يأسه من إمكانية الحصول علي تأشيرة دخول إلي المملكة، وكيف فوجيء تماماً حين تقدّم بطلب التأشيرة فقيل له إنه يستطيع السفر إلي المملكة متي شاء... والأفضل غداً! وهكذا، ليست مصادفة بريئة أن يختاره الأمير عبد الله من أجل الكشف عن مبادرة كان ينوي إطلاقها في مؤتمر القمة العربي القادم. كما أنّ السيناريو المدهش (المتسارع تماماً)، الذي أعقب نشر مقالة فريدمان وحوّلها إلي وثيقة وحيدة مطلقة حول مفردات المبادرة السعودية، لا يوحي البتة بأنّ المرسل إليه هو شارون أكثر من جورج بوش.
المفتاح الثاني ليس أقلّ ذكاء في الواقع، إذا برهنت الأيّام علي صحة رهانات الأمير عبد الله في إمكانية إخراج الرئيس الأمريكي جورج بوش من حال العطالة شبه التامة في معالجة ملفّ السلام العربي ـ الإسرائيلي. الأفكار السعودية تقدّم للإدارة طوق نجاة من نوع ما، يساعد الصقور مثل الحمائم علي السباحة الآمنة في بحر ظلمات الشرق الأوسط، ريثما يحين استحقاق فتح الملفّ العراقي عسكرياً، وعندها يكون لكلّ حادث حديث.
في عبارة أخري، تحتاج الولايات المتحدة إلي نوع من مضيعة الوقت في المنطقة، ولكن دون خسران أوراق جديدة في العلاقة مع الشارع العربي ودون انزلاق إلي المزيد من مواقف الإصطفاف الأعمي وراء أرييل شارون. وليس أفضل من إلهاء الجميع بهذه المبادرة السعودية الجديدة، وصرف الوقت الضائع في امتداحها، والتشاور حولها، وتطويرها إلي سحابة دخان تغطي الزيارة الشاملة ــ أمّ الزيارات كما ينبغي القول ــ التي ينوي نائب الرئيس الأمريكي ديك شيني القيام بها إلي المنطقة... علي خلفية تغيير النظام في العراق بالقوّة العسكرية، وليس علي خلفية تحقيق السلام بالقوّة الدبلوماسية.
وفي إطار هذا المفتاح الثاني ذاته قد تفلح المبادرة السعودية في تزويد أرييل شارون بالذريعة المثلي التي تتيح له التخلّص من ورطة احتجاز الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في رام الله، دون الإضطرار إلي دفع أيّ وزير متشدد إلي الإستقالة احتجاجاً علي إطلاق سراح عرفات. إذْ كيف يمكن التعامل مع هذه المبادرة السعودية، إذا ظلّ عرفات حبيس رام الله؟ وهكذا قد تثبت الأيام أنّ جلّ ما ستنجزه المبادرة السعودية لن يتعدّي الإفراج عن عرفات... ويا له من إنجاز!
المفتاح الثالث هو تجنيب مؤتمر القمة العربي القادم سلسلة الفخاخ التي تنتظر القادة العرب، وتفريغ المؤتمر من زخم ــ وشحنات ــ 11 أيلول دون الإضطرار إلي فقدان ماء الوجه. ومن حيث المبدأ لا نعرف ما إذا كانت القمّة العربية ستنعقد أساساً، فالأوضاع اختلفت كثيراً عما كانت عليه قبل سنة، حين قرّرت قمّة عمّان العادية أن تكون العاصمة اللبنانية هي المضيفة القادمة، وذلك بعد أن تنازلت دولة الإمارات العربية عن دورها لصالح لبنان، تكريماً لانتصار المقاومة اللبنانية وانسحاب جيش الإحتلال الإسرائيلي من الجنوب.
الآن تبدو الأمور وكأنها انقلبت رأساً علي عقب. فمن جانب أوّل سوف تنعقد القمة، إذا انعقدت، في أجواء ما بعد 11 أيلول وخطاب بوش الذي يضع في محور الشرّ دولة عربية هي العراق، ودولة شرق ـ أوسطية ذات صلة وثيقة بلبنان هي إيران. وسوف تجد الدول العربية نفسها وجهاً لوجه أمام استحقاق تأييد أو رفض أو السكوت عن الخطط الأمريكية التي تتكاثر هذه الأيام وتتحدّث عن تغيير نظام الرئيس العراقي صدام حسين بالقوّة العسكرية وعلي غرار السيناريو الأفغاني. ولسوف يكون أيّ من هذه الخيارات محرجاً لهذه الدول أمام شعوبها، خصوصاً بالمقارنة مع مواقف الرفض العالمية للمخططات الأمريكية. وإذا انعقدت القمة فإنها سوف تنعقد بعد أن يكون نائب الرئيس الأمريكي ديك شيني قد أتمّ جولته في المنطقة، وزار الكويت ومصر والإمارات العربية والسعودية والبحرين وقطر وسلطنة عمان والأردن وإسرائيل وتركيا. ولسوف يكون صعباً تماماً علي أصدقاء أمريكا أن يعدوا شيني بشيء، التأييد أو الحياد أو الصمت، ثمّ يأتون إلي قمة بيروت ليتخذوا قرارات أخري محرجة إذا لم تكن نقيضة.
ومن جانب ثانٍ فإنّ جدول أعمال القمّة ينطوي موضوعياً علي بنود سرّية أو مسكوت عنها، تضع القادة العرب ــ و أصدقاء أمريكا بصفة خاصة ــ أمام خيارين أحلاهما مرّ: إمّا مناقشة هذه البنود أو مواصلة السكوت عنها، والنتيجة في الحالتين هي الإنكشاف أمام الشارع العربي وأمام الولايات المتحدة في آن معاً. أبرز هذه البنود هو التأييد الأمريكي شبه المطلق لسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، التي لا تكتفي بحصار الفلسطينيين وإعادة احتلال أراضيهم وممارسة الإغتيال وإرهاب الدولة فحسب، بل تواصل بصفة منهجية تفكيك اتفاقيات أوسلو، وإعادة العدّاد إلي الدرجة صفر أو إلي ما قبل مؤتمر مدريد 1991، وتدمير بُني السلطة الوطنية الفلسطينية السياسية والأمنية والإجتماعية.
بند آخر هو مبدأ بوش القائل بأنّ مَن ليس مع أمريكا في حربها ضدّ الإرهاب ــ وضدّ محور الشرّ استطراداً ــ فهو ضدّها. وكان الأمر سيهون تماماً لو أنّه اقتصر علي إدانة أسامة بن لادن ومجموعة القاعدة ، غير أنّ البيت الأبيض يريد من الأصدقاء أن يكونوا معه بنسبة 001%، سواء ضدّ دولة واقعة في محور الشرّ مثل العراق أو إيران، أو ضدّ منظمات إرهابية مثل حزب الله و حماس . ويبقي البند الثالث الذي يتعلّق بتعطيل أيّ جهد يستهدف مصالحة العراق مع جيرانه دول الخليج، وذلك من منطلق إبقاء العراق في صيغة الدولة المارقة المعادية لجيرانها والمهددة لأمنهم واستقرارهم. ولقد بات معروفاً الآن أنّ الولايات المتحدة أبدت استياء شديداً من مبادرة المصالحة التي قام بها الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسي، وكانت في الأساس قد أعربت عن غضبها لقيام موسي بزيارة بغداد مؤخراً.
ألا تبدو مناقشة المبادرة السعودية في قمّة بيروت، إذا انعقدت، وكأنها البلسم الشافي لكلّ هذا الإصطراع والحرج والشدّ والجذب؟ ألا تبدو العلاقات السعودية ـ الأمريكية وكأنها تستردّ الدفء العتيق رويداً رويداً؟ ألا تبدو الإدارة الأمريكية وكأنها تلعب علي ما يرام في الوقت الضائع؟ الأمور، مع ذلك، بخواتيمها... ولن يطول الوقت حتي تتكشّف تلك الخواتيم، كاملة غير منقوصة!