المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اللهم أعنّا ...



Black_Horse82
09-03-2002, 12:13 AM
سمير عطا الله

التقيت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في جنيف الدكتور احمد التويجري، الذي بادرني قبل التحية بالقول، «ان الطريقة التي تكتب بها عن التراث تزيدنا ولعاً به». واعتبرت ذلك شهادة امتياز تأتي من رجل علم مفتون بالتراث. لكنها شهادة حملتها في نفسي. فليس كل ما يقال لنا يدفع الى النشر.
الا انني ابدأ بها الزاوية هذا الصباح لانني بدأت يومي امس بقراءة رسالة مستفيضة في البريد من «رؤوف قبيسي، ماربيا، اسبانيا» يعلق فيها على مقالة «مائتا عام من الشعر» التي كتبتها عن احتفالات فرنسا بمائتي عام على ولادة فيكتور هيغو، وعدَّدت فيها كيف اصبح بعض شعراء الغرب والشرق شعراء اممهم وشعوبهم. وقلت ايضاً ان الشاعر العربي لم يمدح سوى قبيلته وهو اما مداح او هجَّاء. ويقول رؤوف قبيسي، من ماربيا، اسبانيا، انني منبهر بالغرب وتناسيت عظمة الشعر العربي، وخصوصاً المتنبي.
اولاً، المقالة كانت عن فيكتور هيغو وعن المقارنة بين امثاله، وليست عن الانبهار بالغرب. وعن هذه المسألة بالذات وبالتحديد وخصوصاً لست في حاجة الى درس من الكبار فكيف من سواهم.
وثانياً ما قلته في تلك الزاوية عن المتنبي لا يمكن ان يضاهيه اي سرد عنتري تردادي يتسلح به عادة الحفاظون والطبالون. ان عظمة شعر المتنبي (او سواه) لا تشكل كلها جزءاً من رواية «البؤساء». وكل ديوانه، الاجمل من الجميل، لا علاقة له بالنفس البشرية. لا علاقة له سوى بنفسه ومطامحه. ولا علاقة له سوى بعنصرية قبيحة مقيتة مريضة جعلته، هو دعي البطولة والنبوة، يشتم حاكم مصر على لون بشرته ويصفه بالعبد بسبب سمرته ويقول ان «العبيد انجاس مناكيد» ويعلن «لا تشتري العبد الا والعصا معه».
هذا كان اعظم شعراء العرب من حيث الشعر والفروسية. ومن حيث الشعر هو عندي اعظم سبعين مرة، سبعين مرة من وليم شكسبير او طاغور. لكن من حيث «النفس البشرية» التي كانت موضوع الزاوية في الحديث عن هيغو، فان ابا الطيب لم يكن سوى نجس، نرجسي، اناني، منتفخ، وصولي، مقبّل اعتاب، ثأري، انتقامي، ضغين، رخيص، وعنصري، كريه، حاقد، ومهووس، ومعتوه، يحب نفسه دون سواها، مثل جميع المنتفخين، يذوب عبقريته الخارقة في حلّة الحسد والحقد.
لقد كان هيغو موضوع الزاوية لا المتنبي ولا ابو العلاء ولا التراث العربي. ولا يستطيع الكاتب كلما وضع جملة ان يلحقها بفقرتين تفسيراً وتأكيدا. فالتأكيد هنا هو الكاتب نفسه. وهو تراثه الشخصي. وخصوصاً في هذه الزاوية بالذات في ما يتعلق بالتراث واللغة والشعر العربي. ويقول قبيسي ان الشاعر العربي كتب عن خيمته ومدح وهجا، لأن الدولة العربية لم تكن قد قامت بعد. ومشكلة السرد العنتري دائماً هي تجاوز الحقائق الكبيرة بالرد الصغير. فأبو الطيب وابو العلاء اللذان يناطح من اجلهما عاشا وماتا في عز الدولة العباسية، ويوم كانت الامة الكبرى تمتد الى نهر الدانوب وتنتعش في مالقة، من حيث يكتب قبيسي ردوده ويلقن امثولاته في التاريخ.
هناك اشياء قدرية في الحياة، منها مثل هذه الردود. وفي مناسبة الكتابة عن صاحب «البؤساء» روى مرة الممثل الراحل الكبير يوسف بك وهبه انه ذهب لتقديم هذه المسرحية في احدى مدن الصعيد. وبعد قليل من بدء المسرحية المؤثرة بدأ الحاضرون في البكاء بصورة عفوية. ثم ازدادوا بكاء. وكلما ارتفع صوت عميد المسرح العربي كانت ترتفع زفراتهم. ولم تعد اصوات الممثلين تسمع. وضاق «العمدة» بالوضع فوقف من الصف الامامي معاتباً: «هوه كان ناقصين يا يوسف بيه؟». انتهى، في ما يتعلق بالمرسل من ماربيا.
* الى الزميل الكريم الاستاذ حمد بن عبد الله القاضي، «المجلة العربية»، الرياض. تضيق هذه الزاوية بالرد على ادبك وخلقك وثقافتك في موضوع «مائتا عام من الشعر». انا معك دون حساب في تعشق الشعر العربي. ومع مفهومك لهذا الشعر. وان كنت اسأت التعبير عن نفسي فامثالك يعبرون عنا، خصوصاً باخلاقهم الرفيعة وادبهم الجم، ويضيفون شيئاً من السكر على قهوة الصباح التي لا يقدم لها النوع القدري سوى الملح. او الحصرم. واعتذر منك واطلب سماحك انني حشرت هذه الاشارة اليك، بسبب احكام الزاوية وحجمها، في معرض الرد على رؤوف قبيسي. فالاقدار تتشابه احياناً يا صديقي.