المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حديث النفس وحضور القلب



اميرة الكرام
04-04-2002, 09:45 AM
حديث النفس وحضور القلب
إن واحدة من أهم مزايا الإنسان : قدرته على أن يفكر بما وراء اللحظة الراهنة ، وبما وراء المكان الذي هو فيه .
إنه قادر على تذكر الماضي ، وعلى التفكير بالمستقبل ، وعلى العيش من خلال خياله في أماكن ومواقف غي التي هو فيها .
إنه قادر على إستباق الأحداث ، وتصورها ، والتخطيط لها ، وقادر على إعادة النظر في الماضي ، ومراجعة النفس ، والحكم على ما فعلته ليستحسن ما يراه صواباً ، وليلومها على ما أخطأت فيه .
وهذه القدرة على تجاوز الواقع الراهن ، واللحظة الراهنة مفيدة جداً للإنسان ، ولابد منها ليتمكن من الإبداع والتخطيط في أي مجال .
لكن التفكير بما وراء اللحظة الراهنة والواقع القائم يجعل الإنسان حاضراً بجسده ، غائباً بعقله ، وإذا ما سيطر هذا التفكير على الإنسان صار عقله في حالة مستمرة من " حديث النفس" حيث يتوقع شيئاً ، ويفكر كيف يمكنه أن يتصرف عند حدوثه ، ثم يتوقع احتمالاً آخر ، ويقلب الفكر فيما عساه يقول أو يتصرف .
وتتعدد الإحتمالات ويستمر التفكير ، وانشغال البال ، وهكذا يستمر غياب الإنسان الجزئي عن واقعه ولحظته الراهنة ، فتراه شارد الذهن كلما خلا بنفسه ، أي : كلما صمت ولم يتحدث مع غيره حتى لو كان بين ألف إنسان ، إنه معهم لكن فكره في زمان آخر ومكان آخر … حتى حين يستمع إلى الآخرين وهم يحدثونه فإنه لا يجيد الإصغاء إليهم ، فلربما كان أثناء استماعه إليهم مشغولاً في تحضير ما سيقوله عندما يسكتون ، ويأتي دوره في الحديث .
إنه يسمع لكن قلبه لا يصغي، وهو ينظر لكنه لا يكاد يرى ، وهكذا بمرور الوقت يتحول ما كان جميلاً في عينيه عندما رآه لأول مرة إلى شئ عادي لا جمال فيه لأن عقله في إنشغال دائم عن اللحظة الراهنة ، والبقعة الراهنة ، ولا يخرجه من انشغاله وشروده هذا إلا الجديد والصارخ .
وهكذا عندما تنشغل النفس في حديثها شبه الدائم يحرم الإنسان من التمتع بالجمال الذي حوله ويقل إحساسه بواقعية ما حوله ومن حوله وحقيقتهم فيقوم بأفعاله بشكل فيه قدر كبير من الآلية ويصبح التفكير بما يفعله أو يقوله يتم بعيداً عن بؤرة الوعي والشعور ، فقد تراجع عن خلفية الوعي ، وهكذا يؤدي هذا الإنسان ما يؤديه وعقله غائب مستغرق في تفكير حالم لأنه في حديث النفس كالذي يسرح في أحلام اليقظة إنه غافل عن العالم الحاضر الذي تدركه حواسه ولم يترك لهذا العالم الحاضر سوى جزء من وعيه لذا فهو يؤدي ما يؤديه من قول أو فعل إنه كالذي يمشي في الأسواق ويرى الأشياء والأشخاص وفكره مشغول بغير ما يرى إنه يمشي بينهم دون أن يصطدم بهم لكنه لم يرهم حق الرؤية ، الرؤية التي يكون فيها القلب حاضراً أي منتبهاً لما يقول أو يفعل أو يحس به .
صحيح أن قدررة الإنسان على القيام بالكثير بطريقة شبه آلية فيه توفير للطاقة العقلية كي تتفرغ لما هو مهم لكن إن صارت هذه الطريقة شبه الآلية في القول والفعل والإدراك غالبة على الإنسان أغلب وقته تشغله بحديث النفس عما هو قائم "الآن" وهنا بل هي حالة من التفكير الحالم المقيم في الماضي أو المستقبل .
إن حدث هذا فإن الإنسان يفقد حالة " الانتباه" "وحضور القلب" الممتعة ، وتصبح عودته إليها أمراً صعباً ويفقد هذا الإنسان الكثير من سكينته وطمأنينته ويكون لا بد له من أن يدرب نفسه على الإنتباه وحضور القلب وعلى التحرر من حديث النفس ، والتفكير الحالم ،حتى يتسنى له أن أنن يعيش لحظته الراهنة ، بما فيها من مدركات ومشاعر وأفكار وأفعال ليحس بالوجود الحقيقي لكل شئ من حوله ، فلا يبقى خارج حدود الزمان والمكان القائمين .
وليس كالإيمان والعبادة معيناً على ذلك التحرر ، وعلى تلك العودة إلى الإنتباه وحضور القلب بحيث لا تحزنه الذكريات ولا تقلقه احتمالات المستقبل المجهول .

كتاب : سكينة الإيمان
تأملات نفسية إسلامية في العقيدة والأخلاق والعبادات
المؤلف: الدكتور محمد كمال الشريف