المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رقيق أبيض



holly_smoke
04-03-2001, 08:48 PM
رقيق أبيض على الشبكة

في إحدى زوايا الصالة الصغيرة، جلست تانيا مشدودة الظهر إلى رفيق عمرها تبثه بأناملها الرشيقة لحناً من باليه "كسارة البندق" لتشايكوفسكي، التي أحبتها منذ الصغر، ومازالت.. كان ينتاب تانيا، كلما عزفت هذا اللحن، شعور البطلة ميشا التي تحلم بالسعادة، والانتصار على الشر.. لكن اللحن المرح لم يفلح، هذه المرة، في تبديد مشاعر القلق الذي يعتمل في نفسها..

غداً تسافر مخلفة وراءها بطرسبرج، نحو عالم جديد، انفتحت آفاقه لها، عبر نافذة إنترنت..

ما إن انتهت تانيا من عزفها حتى أغلقت غطاء البيانو الذي سيفارقها بعد قليل، فقد اضطرت لبيعه لتغطية نفقات مشروع السفر الذي هي بصدده، والحزن المكبوت يكاد يقفز من عينيها.

التفتت إليها صديقتها أولغا التي تشاركها السكن قائلة بتعجب: من كان يصدق أن تانيا الرزينة التي تعشق الاستقرار تقدم على مغامرة كهذه ؟!

دافعت تانيا عن نفسها: مغامرة ربما.. لكنها مدروسة ومبنية على الحب، بعد تعارف دام ستة أشهر..

ردت أولغا ساخرة: آه.. نعم يمكن تسميتها بخطوبة عبر فضاء إنترنت!

تدخلت الصديقة الثانية مؤيدة ومشجعة لتانيا: لا تهتمي لسخريتها، أنا مستعدة أن أسافر إلى المريخ، إن كان من أحببته هناك! ثم ما المانع في السفر؟ أليس أفضل من الوضع الذي نعيشه؟

بعد صمت قصير قالت أولغا بمرارة: وكأن الناس أصيبوا بهستيريا السفر.. لا أحد يريد البقاء.. البعض يرى أنه حتى الجحيم بات أفضل من هنا!

أجابت الصديقة الثانية، المؤيدة لقرار تانيا: أليست هي الحقيقة يا من تدرّس الفلسفة صباحاً، وتعمل في المقهى ليلاً؟! ألم أكن مستعدة للعمل في أي مكان أنا حاملة الإجازة في الهندسة، لولا الظروف التي ساعدتني للعمل في شركة أجنبية بفضل إتقاني اللغة الإنجليزية؟!

حسمت تانيا الجدال بقولها: حقيقة، أنا لا أفضل السفر، ولكنني أحببت رجلاً شاءت الظروف أن يكون في نيويورك.. والحب تضحية، ولو كان بإمكانه المجيء إلى هنا والعمل لربما طلبت منه ذلك، لكن بسبب الظروف السيئة التي تمر بها بلادنا، علي أنا الانتقال إلى المكان الأفضل لتكوين عائلة مستقرة.

لحظات وطرق باب الشقة شخصان فقادتهما تانيا إلى موقع البيانو.. انسلت إلى غرفتها، وأجهشت بالبكاء، لم يكن حزنها بسبب تفريطها بآلة رافقتها لحظات الحزن والفرح في حياتها فحسب، وإنما لشعورها بأنها فقدت اليوم أمها التي مضى على وفاتها ثلاث سنوات بعد إصابتها بالسرطان.. أمها التي كانت تعزف على البيانو بشكل رائع، دفع تانيا لتعلم العزف بحماس.

قبل أكثر من سنة تشاركت تانيا مع صديقتها أولغا بشراء جهاز كمبيوتر والاشتراك بإنترنت، من أجل تحسين فرص كل منهما في العمل، وخاصة بعدما وعدتها إحدى صديقاتها بتأمين عمل لها كسكرتيرة في إحدى الشركات الخاصة التي انتشرت مؤخراً في روسيا، والتي تدفع أجوراً مجزية، مقارنة بما تحصل عليه من عملها كمدرسة بيانو في معهد حكومي.

أنهت تانيا عدة دورات كمبيوتر، كما عملت على تطوير لغتها الإنجليزية التي باتت مطلوبة في كثير من المجالات. لم تكن تصرف الكثير من وقتها في مواقع إنترنت المتنوعة، لكن في إحدى المرات التي كانت تجوب فيها إنترنت، للاطلاع على عالمها الواسع، تعرفت بالصدفة، ضمن أحد مواقع الدردشة (chat)، إلى شاب أمريكي.. ومن خلال الحوار الحي والرسائل عبر البريد الإلكتروني تعمقت المعرفة بينهما، ووجدت نفسها تنجذب إليه لما بينهما من اتفاق في كثير من الأمور.. كانت صريحة معه في أمور حياتها، وكان دائماً يوافقها على آرائها، وبدأ يشجعها على زيارة أمريكا.. اقتنعت تانيا بتلك الفكرة، إلا أنها كانت تؤجلها، ربما لما تحمله في شخصيتها من سمات الحذر والتفكير العميق قبل الإقدام على أية خطوة، وكانت تعزو ذلك دائماً، إلى أنها قد ورثته عن والدها، الذي كان يعمل أستاذاً في الجامعة في علم النفس..

وعندما تيقنت من مشاعرها وصدق مشاعر من أحبت، وبعدما اتفقا على الزواج، تخلت عن حذرها، واتخذت قرارها بالسفر، إلى حيث ستتحقق أحلامها.. قدمت استقالتها من عملها، وباعت كل ما لديها من أجل تأمين متطلبات السفر..

انطلقت الطائرة تحلق عبر الأطلسي، والقلق يسيطر على تانيا، فتراها تفتح حقيبتها وتخرج صور جيم وكذلك مدينة نيويورك، تتأملها لبعض الوقت، وكأنها تطمئن نفسها إلى صواب قرارها.. تغمض عينيها فيمر شريط مدينتها بطرسبرج التي تعتبرها أجمل مدن العالم، رغم أنها لم تر من مدينة غيرها، حتى ذلك الوقت.. ويحاول خيط من الحنين أن يطل برأسه فتدفعه إلى الأعماق.. تفتح عينيها وتتشاغل بقراءة مجلة والاستماع إلى الموسيقا..

في المطار استقبلها جيم بحفاوة، ولم تغب عنه ملاحظة جمالها الذي بدا أعلى بكثير من صورها، وقد أسعدتها ملاحظته تلك وبددت بعضاً من ارتباكها. وفي الطريق إلى الفندق، أعاد جيم عليها عرضه بأن يستقبلها في شقته بدلاً من الفندق، لكنها أصرت على رفضها، وأوضحت له أنها تفضل الإقامة في الفندق في الفترة الأولى، بدون أن تشير بالطبع إلى حذرها الذي تعتبره وسيلة للأمان.

عاشت أسبوعاً جميلاً، شعرت خلاله بالراحة بعدما تعرفت عن قرب على الشخص الذي أحبته عبر المسافات الشاسعة، وبالتالي فقد تلاشت تلك المسافات وبدأ حذرها أيضاً بالتلاشي.. وقبل نهاية الأسبوع كانت قد انتقلت إلى شقة جيم، رغم أنهما لم يبحثا حتى ذلك الوقت موضوع ترتيبات الزواج..

بدأ جيم يحضّرها، كما قال، للانخراط في المجتمع الأمريكي، وكانت البداية سهرة في فيلا رائعة في إحدى ضواحي نيويورك، عند أحد معارفه المهمين على حد تعبيره، ورغم أنها كانت محط أنظار واهتمام الكثيرين، إلا أن شعوراً دفيناً بعدم الارتياح كان يلازمها!

هل كان ذلك بسبب انشغال جيم عنها مع الموجودين بعدما همس في أذنها بأن عليها التصرف بحرية وثقة؟ أم لأنه لفت نظرها إلى وجود الكثير من الأشخاص المهمين ضمن الحضور، مما يتيح لها التعرف على المجتمع الراقي في نيويورك، و يساعدها في إيجاد عمل ممتاز؟

في طريق العودة إلى البيت سألها رأيها في السهرة.. أطرقت لبرهة، وأجابته بصراحة أنها كانت تشعر وكأنها سمكة قد أخرجت لتوها من الماء. ضحك لتعبيرها وقال بثقة: ربما لأنه ليست لديك خبرة في مثل هكذا حفلات!

أثارت جملته غيظها، فردت: وما الخبرة المطلوبة هنا، سوى الابتسامات وعبارات المجاملة، وبعض من الثقة وكثير من الغرور؟!

وتابعت: وما زاد من غيظي تعامل البعض معي وكأنني قادمة من كوكب آخر سكانه يثيرون الاستغراب والشفقة، ولم يقصر أحدهم بتقديم تهانيه لي بالخلاص من العيش في ذلك البلد البائس، خاصة أن تلك الحياة لا تلائم الفتيات الجميلات أمثالي!

يوم عطلة نهاية الأسبوع، وكان قد مضى على وجودها في نيويورك أكثر من أسبوعين، قررت تانيا أنه آن الأوان لتناقش مع جيم أمر زواجهما، وقبل أن تفتح الموضوع أخبرها أن لديهم زائراً على العشاء، وهو شخص مهم، يعمل عضو مجلس إدارة أحد الفنادق الراقية، وبإمكانه تأمين عمل جيد لها، وسيترك أمر تحضير أمور العشاء لها، وخاصة أنه مضطر لمغادرة البيت بسبب عمل مهم لديه، وسيعود في الساعة الخامسة.

خلال النهار بذلت تانيا جهدها في تحضير وجبة العشاء، ولأول مرة منذ أن وصلت نيويورك، شعرت أنها في بيتها، وأن الشعور بالغربة بدأ يختفي. وإمعاناً منها في طرد الحنين الذي يعشش في ثنايا نفسها، عمدت طوال اليوم إلى الاستماع إلى أغاني أمريكية. وأثناء عملها في البيت كانت تلوح لها صور من المستقبل ترى فيها نفسها ومعها جيم وحولهما عدة أطفال لا يقل عددهم عن أربعة يتراكضون ويلعبون..

مساءً حضر الضيف الذي كانت تانيا قد تعرفت إليه في سهرتها الأولى، وقد لاحقها يومها بأسئلة وجدتها مزعجة..

قدم لها هدية، أحرجت من قبولها، وكادت أن تقول له أنها لم تتزوج بعد، ظناً منها أنها هدية زواجها، لكنها آثرت الصمت.

تناول الضيف العشاء مبدياً إعجابه، وعلق بأنه كان يظن أن الجميلات لا يجدن أمور المطبخ. ردت تانيا بسذاجة، بأنها تهتم لأمور البيت والعائلة أكثر من اهتمامها بالجمال!

احتفاء جيم بضيفه زاد من صفاته الإيجابية في نظر تانيا، فهي تحب أن يكون زوجها ودوداً ومحباً للآخرين، ولذا كانت ترنو إليه باستمرار، وتتمنى في قرارة نفسها أن يغادر الضيف سريعاً لتنفرد بمن تحب.

انتهى العشاء وعندما أراد جيم أن يقدم لضيفه المزيد من الشراب، فوجىء بنفاده، فاعتذر واستأذن أن يذهب إلى مكان قريب للشراء، وافق الضيف، فيما لحقت به مبدية استغرابها من ذلك، وطلبت منه بعفوية أن ترافقه.. قبلها ورمى جملته قائلاً: لن أغيب كثيراً، ومؤكد سأكون هنا في الصباح! جحظت عينا تانيا، فضحك وانصرف، وفهمت أنه يمزح.

عندما جلست تانيا مع ضيفها راح يطرح عليها أسئلة وجدتها بعيدة عن الذوق والكياسة. سألها : ماذا كنت تعملين في روسيا؟

أجابت: عازفة بيانو.. أبدى إعجابه قائلاً : آه.. حقاً.. رائع..

تابع: وهل ترقصين؟ ردت باقتضاب: تعلمت رقص الباليه عندما كنت صغيرة، ثم توقفت في الرابعة عشرة.

أقصد الرقص الاستعراضي.. قطبت حاجبيها قائلة: ماذا تقصد؟!

قال: تأتي الكثير من الفرق الروسية للرقص هنا، والفتيات فعلاً رائعات.. ألم تفكري في العمل؟

قالت: أفكر طبعاً، لكن عندما تستقر أموري.

عرض مساعدته، فشكرت له اهتمامه، واستأذنت بترتيب بعض الأشياء، وانسلت إلى المطبخ، لحق بها.. سألته إن كان يرغب بفنجان من القهوة؟ نظر إليها ملياً، واقترب طالباً أمراً غريباً!! ارتجفت وابتعدت بهدوء.. اقترب وأحاطها بذراعيه وأصر على طلبه ثانية، وبوقاحة.. استغربت سلوكه وطلبت منه أن يلتزم حدوده ريثما يحضر جيم فهو لن يتأخر..

ابتسم قائلاً: ربما لن يعود قبل الصباح!!

تلقت العبارة كالصفعة، وسألته ماذا يعني! فكان جوابه صريحاً ووقحاً. ذهلت وابتعدت مسرعة.. جذبها بقوة، فقاومته بعنف.. ضربته وهددته، فاقتنع بأنها جادة في تمنعها..ابتعد قليلاً وقال ساخراً : لست ممن يأخذون شيئاً بالقوة..

مد يده إلى جيبه واستل هاتفه، وطلب رقماً.. وجه عبارته إلى جيم : تعال فوراً واستلم.. بضاعتك مضروبة! صدمتها العبارة.. هل هي المقصودة بالبضاعة؟ كان تفكيرها مشوشاً. ففي البداية اعتقدت أن ما قام به مجرد سلوك وقح من ضيف استغل غياب مضيفه، لكن حديثه الصريح بين لها حقيقة الوضع، وأن الأمر اتفاق مسبق، يدخل ضمن بنود العمل والتجارة.. طالما أن المصطلحات المتداولة بين الأطراف من قبيل بضاعة، واستلام وتسليم..

تهاوت على كرسي قريب.. جلست والأفكار المتضاربة تعصف برأسها.. وبين تلك الأفكار تلمح أحلامها، بل وحياتها بأكملها تنهار تحت أقدام قاسية..

حضر جيم وفوراً راح يعتذر للضيف، وبأن ما حدث ناتج عن سوء تفاهم، وسيعمل على إزالته.. جلسا يدخنان، وأصر جيم على ضيفه أن يتناول كأساً قبل مغادرته، يغسل ما لحق به من إهانة، وأخرج زجاجة من الخزانة!!

شعرت بضيق في التنفس، مشت نحو النافذة، لم تعد تريد أن تسمع شيئاً.. فتحت الباب وخرجت إلى الشرفة الصغيرة. تلألأت أضواء المدينة، وكأنها نجوم تسبح في الفضاء.. شعرت بنفسها نقطة في بحر من الأضواء..

طافت بها الذاكرة بعيداً.. كل ما تركته هناك في المدينة الجميلة كان من أجل سراب.. برز وجه أمها من بين الأضواء.. واقترب منه وجه والدها الذي توفي وهي في السابعة عشرة من عمرها بدون أن يترك الشيء الكثير.. استعادت كيف تخلت بشجاعة وألم عن حلمها في متابعة دراستها في الكونسرفاتوار، وعملت في تدريس البيانو لتتعاون وأمها التي كانت تعمل ممرضة، على صعوبات الحياة، التي راحت تأخذ منحىً قاسياً.

ركضت بها الذاكرة إلى العاشرة من عمرها، وهي تعزف أمام جمهور كبير.. تصفيق حاد يلهب سمعها.. أمها وأبوها في الصف الأمامي يبتسمان لها ويصفقان بحرارة تشجيعاً لموهبتها.. اندفعت إليهما.. بل شعرت يومها أنها تطير!!

فتحت عينيها..تكاثف لمعان الأضواء.. جذبتها.. موسيقا "بحيرة البجع" تصدح من مكان مجهول.. فردت ذراعيها كبجعة بيضاء، و..

من شرفة في الطابق السابع عشر في مدينة نيويورك طارت فتاة جميلة في الثالثة والعشرين من عمرها، ملبية نداء الأضواء، لتنهي رحلة خيالية بدأت بحلم جميل على شبكة إنترنت في بطرسبرج قبل ستة أشهر .. وانتهت بمأساة على أحد شوارع البلد الذي أطلق هذه الشبكة!!