موت أخطر رجل في العالم
في ظلمة الليل البهيم ووسط زحام القاهرة انقطع اثر ملثم يرتدي الزي البلدي.. ارتكب جريمة شنعاء اذ اطلق النار من بندقيته المحشوة بالبارود تجاه رجل اعزل يمشي الهوينى.. قد خرج لتوه من جمعية الشبان المسلمين.. فيجعله وسط دمائه الطاهرة.. لينتشر خبر موته في الافاق فتعنون الصحف الأجنبية قبل العربية على صفحاتها الاوائل.. موت اخطر رجل في العالم.
هذا الرجل لم يكن من رؤساء الدول او الحكومات.. ولم يكن من البرلمانيين او من التجار.. ولا حتى من اصحاب (الطبنجات) و(المطاوي).. وانما من مدرسي المرحلة الابتدائية في منطقة الاسماعيلية.. ولد سنة (1906) ونشأ في بيت علم وصلاح فوالده مأذون قرية المحمودية (محافظة البحيرة) وامام مسجدها مهتم بالسنة المطهرة وعلومها ان لم يكن من ائمتها، دفع بابنه هذا الى كتاب القرية ثم الى مدرسة الرشاد الدينية التي أنشأ فيها وهو صغير (جمعية السلوك الاجتماعي) بهدف ترويض سلوك زملائه التلاميذ ليتحلى بالاخلاق الحميدة.
ورغم ترؤسه لهذه الجمعية الا انه اكتشف انها ضعيفة التأثير فانشأ مع زملائه في المرحلة الاعدادية (جمعية منع المحرمات)، والتي تهدف الى فرض الالتزام بتعاليم الاسلام على زملائه وعلى سكان القرية، التي حفظ القرآن الكريم بها وهو في الرابعة عشرة.
التحق بدار العلوم.. فتخرج منها وترتيبه الاول بين دفعته، ليعين بعدها مدرسا في الاسماعيلية التي تفاجأ رواد المقاهي فيها بدخوله عليهم وهو شاب يجذب بحديثه الناس فيقف بين ايديهم محدثا وواعظا مذكرا بالآخرة، ويحظى بصداقة ستة نفر الاول نجار والثاني حلاق والثالث مكوجي والرابع جنايني والخامس سائق والسادس عجلاتي، قاموا بمعاهدته على ان يكونوا معه جندا لرسالة الاسلام، وبحثوا عن اسم لجماعة يؤسسونها، فرد عليهم قائلا: نحن اخوة في خدمة الاسلام.. ومن ثم فنحن الاخوان المسلمون، فولدت حركة (الاخوان المسلمين) في الاسماعيلية عام (1928) بفضل هذا الرجل.. الامام حسن عبدالرحمن البنا، الذي استكمل مشواره الدعوي ببناء مسجد ومركز للاخوان ودار حراء ومدرسة امهات المؤمنات في الاسماعيلية.. وبزيارة اغلب قرى القطر المصري، اذ برمج نفسه على الخروج يوم الخميس من مدرسة الاسماعيلية باتجاه الشمال او الجنوب لزيارة تلك القرى التي في طريقه، وهذه الزيارات لم تكن عابرة او خاطفة وانما زيارات تعارف وتآخ ونصح في الله.. ولعلي انقل بالسند عن رجل قابل رجلا ممن خرجوا مع البنا فيقول: كنا نخرج ظهر الخميس من الاسماعيلية ونعود صبيحة السبت للدوام المدرسي.. فبلغ عدد القرى التي زارها البنا في تلك الزيارات ما يقارب الالفي قرية. وبانتقال الامام البنا للقاهرة يتنقل المركز العام للاخوان، وتصبح الحلمية مكانا مكتظا بالناس القادمين من الاسكندرية او من الصعيد لسماع حديث الثلاثاء الذي يرسم فيه البنا اسس جماعة الاخوان فيقول: نحن نعتقد ان احكام الاسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شؤون الناس في الدنيا والاخرة، وان الذين يظنون ان هذه التعاليم انما تتناول الناحية العبادية او الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالاسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف.. وشارك اتباعه في حرب فلسطين عام (1948) وعلى نفقاتهم الخاصة، فكان كل خمسة او اربعة من الاخوان يجهزون من تقع عليه القرعة منهم كامل تجهيزه العسكري لدخول الحرب.. حتى ساعدوا الكتيبة المصرية على فك حصار (فالوجا) الذي ضربته القوات الاسرائيلية عليها وفيها الضابط جمال عبدالناصر! الامر الذي فسرته القوى الاستعمارية وحتى بعض الوطنية ببداية دولة للاخوان، فتحولت مكافأتهم بدلا من الاعتماد عليهم الى زجهم في السجون والزنازين، دون البنا فيبقى وحده خارج السجن ليجري مشهد اغتياله.. وحمل النساء لنعشه بدلا عن جماعته.
وحتى لا اطيل اقول ان الكتابة في مثل هذا الموضوع خطيرة اذ تفتح علي ابوابا مغلقة، اما رميي بالانتماء لتنظيم الاخوان، واما خوضي بما ليس من شأني واما تلميعي لغير السلف عند متشددينا.. ورغم هذا اقول ان كتابتي هذه في سيرة الامام حسن البنا رحمه الله تأتي بعد وفاته بـ (52) عاما في نفس يوم (12/2/1949) مات وقد غيّر احداثا في القرن بل ومسرى حياة افراد وعمره لم يناهز (43) عاما، انما هي لشحذ الهمم بعد ان تقاعس الدعاة عن الدعوة وتوجه جل اهتماماتهم للانتخابات، فتركت المساجد وحلقات العلم بل وتركت الزيارات الخالصة لوجه الله.
شخصية فريدة ....
وإذا كانت النفوس كبارا..........تعبت في مرادها الأجسام
رحمك الله وتقبلك في الشهداء
