تتمة
......
إلى المحاضن التربوية
وبعد هذا السرد لهذه الفوائد التي تتأتى لحافظ القرآن الكريم والمشتغل به نتساءل أين الشباب عن العناية بهذا القرآن، وأين جيل الصحوة عن حفظه وتدارسه؟
وما حجم حفظ القرآن ضمن برامجنا التربوية؟ أليس أولى من كثير مما ينشغل به الشباب اليوم؟ ولماذا لا يصبح حفظ القرآن والعناية بتعلمه أساس برامجنا ومنطلقها، أما حين يكون جزءاً منها فأحسب أننا لم نقدره حق قدره
.
ومع عتبنا على إخواننا الذين يقصرون في هذا الأمر ولا يولونه حق رعايته فإننا نشد بأيدي أولئك الذين جعلوا مبدأ التربية والتوجيه حفظ القرآن الكريم، ونرى أنها بداية بإذن الله تؤذن بالسير على منهج سلف الأمة، إذ كان هذا شأنهم وديدنهم
.
وعلى المدى الأوسع حين ننقل الطرف إلى مقاعد الدراسة فإننا نشارك الأديب مصطفى صادق الرافعي شكواه وهمه إذ يقول «نحن نأسف أشد الأسف وأبلغه بل أحراه أن يكون هماً يعتلج في الصدر ويستوقد في الضلوع إذ نرى نشء هذه الأيام قد انصرفوا عن جمع القرآن واستيعابه وأحكامه قراءةً وتجويداً، فلا يحفظون منه إن حفظوا إلا أجزاء قليلة على أنهم ينسونها بعد ذلك، ثم يشب أحدهم كما يشب قرن الماعز نبت على سواء، ولا يثبت على التواء، ويخرج وقد عق لغته وأنكر قومه، وانسلخ من جلدته واستهان بدينه وخرج من آدابه، ولا يستحي من ذلك أن يقول هاأنذا فاعرفوني
».
وإنه لمما يبعث على الأسى ويحز في قلب كل مسلم غيور أن نرى فئاماً من خريجي الجامعات، بل وربما حملة الشهادات العليا في العالم الإسلامي اليوم لا يجيدون تلاوة كتاب الله، فضلاً عن حفظ شيء منه، وكم نسبة الذين يتجاوز حفظهم الجزء الأخير من القرآن الكريم في خريجي الجامعات في العالم الإسلامي اليوم؟
أليس من الجدير بالعناية أن يتنادى المربون وأصحاب الشأن في الأمة الإسلامية اليوم إلى كلمة سواء تعيد الاعتبار لكتاب الله عز وجل في برامج التعليم
.
فهلا كانت هناك خطوةٌ لتقرير قدر من القرآن على الطلاب والطالبات، وهل كل ما يدرسه أولئك أهم وأحوج من القرآن الكريم؟
ولقد أثبتت الدراسات العلمية المعاصرة أن حفظ القرآن في المراحل الأولية من التعليم له أثره على ملكات ومهارات مهمة يحتاج إليها التلميذ
.
ففي دراسة أجراها الدكتور سعد المغامس أظهرت نتائج الدراسة أن تلاوة القرآن الكريم وحفظه ودراسته أسهمت في تنمية مهارات القراءة والكتابة لدى تلاميذ الصف السادس الابتدائي مما مكن التلاميذ في مدارس تحفيظ القرآن الكريم من الحصول على درجات أعلى من متوسط أقرانهم في مدارس التعليم العام، حيث أظهرت الدراسة أنه توجد فروق ذات دلالة إحصائية بين متوسط درجات تلاميذ الصف السادس من مدارس تحفيظ القرآن، ومتوسط درجات تلاميذ مدارس التعليم العام لصالح تلاميذ مدارس تحفيظ القرآن، وذلك من خلال اختبارات القراءة والكتابة التي أعدها الباحث، وكذلك من واقع درجات التلاميذ في سجلات المدارس التي اعتمد عليها في نجاحهم من الصف الخامس إلى الصف السادس
».
وفي دراسة أخرى أجرتها د. هاتم ياركندي أظهرت نتائج الدراسة« وجود فروق دالة إحصائياً بين مجموعة طالبات تحفيظ القرآن الكريم، وطالبات الصف الرابع في المدارس العادية في مهارتي القراءة والإملاء لصالح طالبات تحفيظ القرآن الكريم
».
والمربون اليوم إذ يدعون إلى إعادة الاعتبار لمادة القرآن الكريم فليس ذلك لأنه يزيد من مهارات معينة للتلاميذ، بل لأنه دستور الأمة وأولى ما تعنى بتعلمه وتعليمه
.
الحـفظ بين العزيمة وهم الطريقة
يحرص كثير من الشباب حين يدرك فضل حفظ القرآن على تحقيق هذا الأمر، بل إن المسلم يحمل هذا الشعور ابتداءً دون أن يحدَّث بفضل حفظ القرآن، وما من مسلم أياً كان إلا ويتمنى أن يكون قد حفظ القرآن، بغض النظر عن جدية هذه الأمنية وتفاوتها
.
حينها يتساءل الشاب كثيراً ما الطريقة المثلى لحفظ كتاب الله؟ كيف أحفظ القرآن؟ أريد الحفظ فما السبيل؟... وهي تساؤلات جادة يبحث فيها صاحبها عن إجابة تعينه على بلوغ هذا الهدف وتحقيقه، ويشعر أن إجابة هذا السؤال تحل له اللغز الذي حيره كيف يحفظ القرآن، فقد سعى وحاول ولكن..؟ ومن ثم يدعوه ذلك إلى التفتيش والسؤال عن طرق الحفظ معتقداً أنه سيجد الإجابة الشافية، وسيجد الحل لهذا اللغز المحير
.
إنه ومع التسليم بأن هناك ضوابط مهمة تعين الحافظ على سلوك هذا الطريق، وأن الجهل بها قد يضيف عليه أعباءً من الوقت والجهد، وقد يتسبب ذلك في ضياع جزءٍ من وقته سدى، إلا أن العامل الأساس والأهم ليس هو هذا، وستبقى مسؤولية الجهل والإخلال بها محصورة في دائرة التأخر أو ضعف الحفظ، أما أن تكون هي وحدها التي تملك الحل السحري فهذا أمر لا يمكن
.
أرأيت رجلاً يقف أسفل جبل شاهق ويراد منه أن يصعده راجلاً فيتساءل عن الطرق الموصلة إلى القمة، فيُعطى خارطة دقيقة أتراه يستطيع ذلك دون أن يكون لديه همة عالية وعزيمة جادة تدفعه لتحمل المصاعب؟
وحين تقدم قائمة محددة بتكاليف إقامة مشروع اقتصادي وخطوات ذلك، فلن تفيد هذه القائمة من لا يملك القدرة أو الاستعداد للتفرغ لهذا المشروع والقيام به
.
كذلك حفظ كتاب الله تبارك وتعالى طريق فيه نوع من الطول والمشقة، ويحتاج ممن يريد سلوكه إلى همة وعزيمة، وجد وتحمل، يحتاج إلى أن يخصص له جزءاً من وقته لا يصرفه لغيره، وأن يعيد ترتيب أولوياته ليكون هذا المشروع في مقدمتها، وأن يعطيه بعد ذلك الفترة الزمنية الكافية
.
وهذا لا يعني أن نهمل العناية بالطريقة المناسبة والأسلوب الأمثل، والاستنارة بتجارب الآخرين، لكن ذلك كله إنما يأتي بعد أن يملك المرء النية الصادقة، والعزيمة الجادة، والهمة العالية ويبدأ الخطوات العملية
.
من سير الحفاظ وأخبارهم
يدرك المسلم بفطرته فضل حفظ القرآن وعلو منزلة حامله، وحشد النصوص والفضائل مما يرسخ هذا المعنى ويزيده
.
وحين يضاف لذلك النماذج الواقعية العملية تزيد من يقين المرء بقدرته على تحويل هذه المعاني إلى واقع ملموس، وليس أدل على ذلك من عناية القرآن الكريم والسنة النبوية بإيراد القصص والنماذج للاعتبار والاتعاظ والتأسي
.
وهذه طائفة يسيرة من سير الحفاظ وأخبارهم علها أن تكون منارة ومثلا يحتذى للجيل
.
من أخبار الشباب والغلمان
كان عمرو بن سلمة -رضي الله عنه- وهو من صغار الصحابة حريصاً على تلقي القرآن، فكان يتلقى الركبان ويسألهم ويستقرئهم حتى فاق قومه أجمع، وأهَّله ذلك لإمامتهم، ولنستمع لذلك من روايته -رضي الله عنه- إذ يقول«كنا على حاضر فكان الركبان -وقال إسماعيل مرةالناس- يمرون بنا راجعين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدنو منهم فأسمع حتى حفظت قرأناً، وكان الناس ينتظرون بإسلامهم فتح مكة، فلما فتحت جعل الرجل يأتيه فيقول يا رسول الله، أنا وافد بني فلان وجئتك بإسلامهم، فانطلق أبي بإسلام قومه فرجع إليهم، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قدموا أكثركم قرأناً» قالفنظروا وإني لعلى حِواء عظيم، فما وجدوا فيهم أحداً أكثر قرأناً مني، فقدموني وأنا غلام...(رواه أحمد
).
ويتساءل الشاب اليوم وهو يرى هذا النموذج، فقد كان هذا الصحابي الشاب -رضي الله عنه- حريصاً على حفظ القرآن وتعلمه، ولم يتح له ما أتيح لنا اليوم من وسائل وإمكانات، فليس أمامه حلقة لتحفيظ القرآن، ولا تسجيلات أو مقرئ متفرغ، بل إن القرآن ليس مجموعاً له في مصحف يقرأه ويحفظ منه، ومع ذلك يبلغ هذا المبلغ رضي الله عنه
.
ونلمس الحرص نفسه عند زيد بن ثابت -رضي الله عنه- فيأتي قومُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مفاخرين بما حصَّل صاحبهم، يحدثنا عن ذلك فيقول إن قومه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فأعجب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال «يا زيد، تعلم لي كتاب يهود؛ فإني والله ما آمن يهود على كتابي» قال زيد فتعلمت كتابهم ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب(رواه البخاري وأحمد
).
وآخر أيضاً جاوز العاشرة بقليل وهو البراء بن عازب -رضي الله عنه- يقول« فلم يقدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سوراً من المفصل
».
وعبدالصمد بن عبدالرحمن بن أبي رجاء البلوي (ت 619هـ) روى عن أبيه القرآن تلاوة، وسمع منه عدة كتب، ومات أبوه وله نحو من عشر سنين
.
وعلي بن هبة الله الجميزي (ت 649هـ) حفظ القرآن وهو ابن عشر سنين
.
ومجد الدين ابو البركات ابن تيمية (ت 652هـ) حفظ القرآن وتفقه على عمه الخطيب فخر الدين، ثم رحل في صحبة سيف الدين ابن عمه وهو مراهق
.
زيد بن الحسن تاج الدين الكندي ت(613هـ)، قرأ القرآن تلقيناً على أبي محمد سبط الخياط وله نحو من سبع سنين وهذا نادر -كما قال الذهبي- وأندر منه أنه قرأ بالروايات العشر وهو ابن عشر حجج
.
أبو شامة (ت 665هـ) قرأ القرآن صغيراً، وأكمل القراءات على شيخه السخاوي وعمره سبعة عشر عاماً
.
أبو بكر بن عمر بن مُشَبَّع المِقصّاتي (ت 713هـ) قرأ القرآن وهو دون العشرين
.
حمزة بن حبيب الإمام المقرئ (ت 158هـ)، قال عن نفسه «ولدت سنة ثمانين، وأحكمت القراءة ولي خمس عشرة سنة
».
خلف بن هشام بن ثعلب الإمام الحافظ الحجة شيخ الإسلام (ت 229هـ) خرج من بغداد وعمره (19) عاماً لم يخلف فيها أقرأ منه
.
مكي بن أبي طالب العلامة المقرئ ولد سنة (355هـ) وقرأ بالقراءات على ابن غلبون سنة (376هـ) أي حين كان عمره (21) سنة
.
أبو علي الأهوازي المقرئ المحدث ولد سنة (362هـ) عني من صغره بالروايات والأداء قرأ لقالون سنة (378هـ) أي حين كان عمره (16) سنة
.
أبو بكر النقاش المقرئ المفسر أحد الأعلام، المولود سنة (266هـ) عني بالقراءات من صغره، فقرأ على الحسن بن عباس بن أبي مهران الرازي سنة (285) ، وذلك حين كان عمره (19) عاماً
.
ومنهم الإمام النووي فقد ذكر عنه شيخه يسين بن يوسف المراكشي قال رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين بنوى والصبيان يكرهونه على اللعب معهم وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم ويقرأ القرآن في تلك الحال، قال فوقع في قلبي محبته، وكان قد جعله أبوه في دكان فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال فأتيت معلمه فوصيته به، وقلت له إنه يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي أمنجم أنت؟ فقلت لا وإنما انطقني الله بذلك، قال فذكر المعلم ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الحلم
».
وحين يقف الشاب على مثل هذه النماذج تعلو همته وتزداد، ويسعى للتأسي بهم واللحاق بركبهم، ويشعر أنه حين يقبل على كتاب الله تبارك وتعالى كما أقبلوا يقفز حاجز الزمن ليشعر أنه وإياهم في درب واحد؛ فمن أحب قوماً حشر معهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم
.
ويتساءل حينها أين ما أرى عليه بعض أترابي الذين فتنوا بنجوم اللهو والعبث، وسعوا للتشبث بما هم عليه - مما أنا عليه من التأسي بهؤلاء؟