- ترَاتِيلُ الغِيَاب -
لا أرى في الكتابة إلا جرحاً واهناً يَصِمُ الرُوحَ أبداً مع تكرار فعلهِ ، لاسيّما حين تتعرض الحروف لذاكرةٍ متثلمة تطبع على الماضي البُعدَ والقِدمْ، وحينَ نوغل في الحديث عن تلكَ الذاكرة تأخذ الجراح في ترسيخِ وجودها و تُحالُ آثاراً ٍ لا تمحى ، إلا أنها تغلّفُ ظلالها في دواخلنا بغشاءِ من سخريةٍ باكية.
حينَ تصبحُ ذاكرةٌ مجوّفة سكناً لأرواحنا الضائعة، يفقد الوعي مفاهيمه، ويكتسب صبغة جديدة و تصبغهُ ثيمة الخوف من المجهول أو الماضي التائه في دوامات الزمن. نتوهُ -عبثاً- في متاهةِ الذكرى المختلطة بالوهم و العواطف، نفقد حبّ الذات، و تفقد الـ"أنا" مفهومها؛ إذ نخسر جواهرنا، وتختبئ الهويةُ خلف أقنعةِ الخوفِ المتشابهة.
لا خوفَ أسوء من ذلك الخوف الناشئ عن الحبّ أو جميلِ العاطفة، إذ أنهُ انتكاسة للروح و انهزام لها يدفعها للتقوقع و التكور في دوائر مفرغة من الظلال و الكوابيس، وهناكَ أضعتُ نفسي، و أصبحتُ "هوَ" مجرّدة من معاني تفرّد البشر و تمايزهم.. و أخذت أؤرخُ بدمٍّ أسودٍ سرَّ وجودي.
( 1 )
كانت تفاصيلها مفعمةً بالحياة ، وجهها النابض بكاريزما ساحرة تفيض من روحها ، وعيناها المسكونة بصفاء الفضاء و سوادِه، تغرقُ في عمقِها - أو هكذا تعتقد - من أولى النظرات ، وحينَ تتحدثُ تنهارُ جدران الغربة معها، فتحسُّ بأنكَ مِنها وهيَ منكَ منذ سنين. وبينَ ذراعيها تحسُ بضياعِ العالمِ و إدراكه من يديك، وبأنَّ كل ما في الدنيا هوَ ذلكَ السحر السماوي و أنفاسها الدافئة، هكذا استحوذت عليَّ و أحكمت قيودها مخالفةً لمفاهيم الزمن وتعاليمِ الحياة.
لا أعلمَ حقيقةً كيفَ تحكمُ التجربة البشرية مشاعرَ البشر وتفاصيل أنفسهم، فقد استطاع الإنسانُ أن يُفكك ضوءاً قادماً من قاع الكون، وعجزَ عن تسليطِ ضوءٍ خافتٍ على ظلمة نفسه الحالكة.
هيَ فقط لحظةٌ أولى، ترسمُ خطوط الطريقِ الطويل و أحداثه، وهي لحظةٌ واحدة تكتبُ لنا قدراً يصيرُ مع كلِّ زفرة. وبتلكَ اللحظة قامتْ بنشلي من جسدي بعيداً عن اعتكافات الدنيا إلى لونٍ آخر من ألوان الحياة مشبعٌ بسريالية تخصه وحده.
استحوذت على كياني ، شكلّتني رجلاً كيفما أرادت .
كان اللقاء الأولُ هادئاً، لم يساورني شكٌ لحظتها بأن زيارتي اليومية لمقهى قربَ الجامعة سيغير عمري و يطوي سجلَ حياتي ليكتبَ القدر من جديد. جلستُ وحيداً ، لأطلبَ قهوتي المعتادة .. وكانت على المقعد المجاور .. أخذتُ أتأملُ اللوحة المقابلة بسكونٍ يومي ، الأستوديو لبيكاسو تحملُ لي في كلِّ يومٍ تفاصيلَ جديدة تناسب حالتي المزاجية و العاطفية ، رشفت قهوتي ببطءٍ لدقائق ، وهممتُ بالنهوض.. عندما رنَّ صوتٌ متردد حالم :
- ل.. لحظةً أرجوك..
توقفتُ لأنظر ، فتاةٌ بملامحَ أخرى تختلف عن سكان الأنحاء، شعرها منسدلٌ أسود، و في عينيها تحملُ الحياة .. نظرتُ إليها مترقباً.
- أنا جديدةٌ هنا،أتيتُ بالأمس ،و أبحثُ عن السوقِ المركزي هنا .. هلاّ تدلُّني ؟
أجبت ببهجة :
- أنا ذاهبٌ إليها ، رافقيني ..
عرفتُ أنّها طالبةٌ في جامعتي حُولت هذا الفصل، و تسبقني بمستوى، تبادلنا أحاديثَ كثيرة، وضحكنا كثيراً، في الواقع كنت أحسُّ بشيءٍ مختلف يسكنُ أعماقها ولا أعلمهُ، ولكن.. ما أعلمهُ هو أنهُ جميل .. جداً .. وأنّي كنتُ امضي خلفه بجنونٍ وتعطش..
ودّعتها عند باب السوق، وأحسست بسخرية لطيفة في عينيها حينَ اكتشفت كذبتي وأنّي لم أرغب في القدوم إلى السوق، استدرتُ، واتجهتُ إلى شقتِّي عائداً.
