استيقظت من نومها مذعوره .. قلبها يخفق بعنف .. والعرق البارد يتصبب من جبينها .. كان حلما مزعجا .. كان هناك أربعة رجال يحاولون تقييدها بالحبال .. وجرها إلى إحدى المركبات .. كانت تحاول الهرب منهم دون جدوى .. كانت تصرخ وتصرخ .. ولكن أحدا لم يهب لمساعدتها ..
بدأت أنفاسها المتلاحقة تهدأ قليلا .. حين أدركت أنه لم يكن سوى حلم .. فأغمضت عينيها مجددا .. تحاول العودة للنوم .. إلا أنها شعرت بوخزات من الألم في معصميها .. وكاحليها .. أرادت أن تدلك مكان الألم .. عله يزول .. ولكنها لم تستطع الحراك ..
فتحت عينيها بذعر .. وبدأ جسدها كله يتصلب .. في محاولاتها اليائسه للحراك .. ولكنها كانت مقيدة بإحكام إلى السرير .. الحبال تلف معصميها وكاحليها بقوه .. وتطوق خصرها ورجليها .. فبدأت بالصراخ ..
" اخرجوني من هنا .. انقذوني .. النجده .. أرجوكم " ..
ولكن يبدو أن أحدا لم يكن يسمعها .. فلم يقترب أحد من الباب .. ولم يهب أحد لنجدتها .. وفجأه بدأت أحداث الأمس تعود لذاكرتها شيئا فشيئا ..
لم يكن حلما ما رأته .. لقد كان حقيقه .. الرجال الأربعه الذين كانوا يطوقونها في الحلم .. هم ممرضوا المستشفى .. والمركبة التي كانوا يجرونها إليها .. كانت سيارة الإسعاف .. تذكرت نظرات زوجها المشفقه .. تذكرت الطبيب .. وهو يتمتم له بأسف " لا فائده .. لابد ان ننقلها للمستشفى " .. تذكرت توسلاتها لزوجها .. ورجاؤها له " لا تتركهم يأخذوني .. لست مجنونه .. لا تفعل بي هذا ارجوك .. "
تذكرت كل ذلك .. فتصاعد الخوف في داخلها اكثر من السابق .. فأخذت تصرخ .. وتبكي .. تركل السرير برجليها .. وتحاول تحريك يديها .. لتنهض .. وكلما حاولت اكثر .. كلما ازداد إحكام الحبال حولها .. كلما زاد الألم في أنحاء جسمها المنهوك القوى .. ولكنها لم تفقد الأمل .. فظلت تحاول وتحاول بيأس .. مردده ..
" لست مجنونه .. لست مجنونه .. اخرجوني من هنا .. اخرجوني "
وهناك .. على باب الغرفه .. كان يقف زوجها خالد .. الذي كان ينظر إليها من خلال الزجاج .. ونظرة حقد وكره تملأ عينيه .. سمع صراخها .. سمع توسلاتها .. فشعر بالراحة والسعادة أخيرا .. فهاهو قد انتقم لموت أخيه .. انتقم من قاتلة اخيه .. ولن يشعر بأي شفقة نحوها .. فهي تستحق كل ما فعل بها ..
اتجه إلى غرفة الطبيب .. ليسأله عن حالها .. متظاهرا بالاهتمام .. ولكنه في الحقيقه .. كان يريد التأكد من أنها ستظل حبيسة هذا المستشفى للأبد .. فأكد له الطبيب بأن حالتها ميؤوس منها .. وأنه لا أمل في شفائها مطلقا .. فرسم خالد على وجهه نظرة حزن .. وأجبر عيناه على ذرف الدموع الزائفه .. ثم انصرف من المستشفى عائدا إلى المنزل ..
،،،
دخل خالد إلى غرفة نومه .. واستلقى على السرير .. مغمضا عينيه .. وهو يشعر بإرهاق شديد .. فمنذ البارحة وهو في المستشفى مع رنين .. بانتظار الكلمة الحاسمة من الطبيب .. الكلمة التي ستؤكد له نجاح خطته التي أمضى سنتان كاملتان في تنفيذها .. منذ اللحظة التي علم فيها بموت أخيه محمد ..
كان خالد مقيما في القاهره لفترة مؤقتة .. امتدت لسنة كامله .. لأنه كان قد أسس للتو فرعا لشركته هناك .. فكان منشغلا بعمله إلى الحد الذي جعله ينشغل عن رعاية أخيه .. الذي كان يصغره بعشر سنين ..
كان محمد شابا في الثانيه والعشرين من عمره .. مملوءا بالحياة .. والمرح .. مقبلا على الدنيا بسعاده .. فلم يخطر أبدا ببال خالد .. بأن أخاه قد يقتل في يوم من الأيام .. بأن كل هذا الشباب والحيويه .. قد يصبح مجرد جثة هامدة لا حياة فيها ..
لم يعرف خالد بموت أخيه إلا من الصحف المحلية .. التي كانت تصل متأخرة إلى القاهره .. تذكر صدمته حين قرأ عن الحادث .. " شاب في الثانية والعشرين .. لقى حتفه نتيجة للتهور والسرعه " .. كان هذا عنوان الخبر ..
أما تفاصيله :
لقى الشاب محمد عبدالله خالد .. مصرعه بالأمس .. إثر حادث أليم .. حيث تصادمت سيارته المسرعه بسيارة الآنسة رنين حمد ناصر .. التي كانت مسرعه هي الأخرى .. ولا تزال التحقيقات جارية إلى الآن في مسببات الحادث " ..
ظل الاسم محفورا في رأس خالد .. يتردد بقوة تزداد يوما بيوم .. والرغبة في الانتقام من قاتلة أخيه تملؤه .. وتعمي عينيه .. لم يكفه سجن الفتاه .. ولا الدية التي دفعتها .. كان يريد تحطيمها .. قتلها .. كما قتلت أخاه ..
فقرر العودة .. والانتقام منها .. ولكنه لن يقتلها .. لا لن يلطخ يديه بدمها .. سيجعلها تدفع ثمن جريمتها لبقية حياتها .. سيعذبها .. ويراها تتألم .. سيتلذذ بألمها .. سيجعلها تذوق طعم المرارة الذي يشعر به بعد أن فقد أغلى ماعنده في هذه الدنيا .. أخاه الذي رباه بنفسه ..
تذكر كيف خدعها .. مدعيا الحب .. وتزوجها .. تذكر سعادتها بهذا الزواج .. وكيف أنها ظنت بأنه قد يسامحها على مافعلت بأخيه .. تذكر اعترافها المتكرر له بالحب .. يوما بعد أخر .. ثم .. تذكر كيف بدأ بتنفيذ خطته .. كيف بدأ يدس لها حبوب الهلوسه في طعامها .. وكيف بدأ يدعي بأنها تنسى كل ماتقوله او تفعله .. فمرة يدعي بأنها طلبت منه إحضار شراب ما .. ومرة يدعي بأنه طلب منها تحضير طبق معين .. ومرة يدعي بأنها قد خرجت معه إلى إحدى الأماكن التي لم يذهبا إليها كليا ..
كان لحبوب الهلوسه تأثير كبير على رنين .. فقد بدأت بالفعل تفقد الإحساس بالزمن .. وتنسى الكثير من الأحداث التي تجري في يومها .. بدأ ذهنها يتشتت .. وتركيزها يقل .. فأصبح من السهل على خالد السيطرة عليها .. وإيهامها بأنها بدأت تفقد عقلها ..
ارتسمت ابتسامة النصر على شفتي خالد .. ثم نام قرير العين ..
،،،،،
استيقظ خالد من النوم .. على أصوات غريبه ... في الطابق السفلي .. فعقد جبينه .. ناظرا في الساعه .. متسائلا " ترى .. من يكون هذا المتسلل ؟ ايكون لصا؟! لا .. مستحيل إنها الثانية عشر ظهرا .. لا يمكن أن يكون لصا إلا إن كان مصابا بالجنون .. ليسرق في وضح النهار .. " فقرر خالد النزول لمعرفة سبب هذه الأصوات الغريبه ..
وقبل أن يتمكن خالد من الحراك .. او النهوض من الفراش .. فوجئ بباب الغرفة يفتح ببطء .. وبرنين تقف هناك .. مصوبة المسدس نحوها .. فذعر خالد .. كيف تمكنت من الخروج من المستشفى .. ثم .. ماهذه الملابس الغريبه التي ترتديها ؟! لم يسبق لخالد أن رأى رنين ترتدي مثل هذه الملابس الغريبه في السابق .. نظر إليها بقلق .. فهو لم يتوقع ان تتمكن من الخروج من المستشفى .. كما لم يتوقع ان تقدم على قتله .. فهي لا تعرف بأنه هو من خطط لكل ما كانت تعانيه ..
تكلم خالد بصوت مرتجف " رنين !! كيف خرجت من المستشفى ؟! إنك متعبه .. يجب أن ترتاحي هناك .. ثم لماذا تشهرين هذا المسدس في وجههي ؟! أبعديه عني "
لم تتكلم رنين .. ولم تنطق بحرف واحد .. إلا أنها اقتربت أكثر من السرير .. حيث يستلقي خالد بخوف .. والغضب باد عليها .. ونظرات الكره تملؤ عينيها ..
" مابك رنين ؟! لم لا تجيبينني ؟! ماذا تفعلين ؟! اتنوين قتلي ؟!"
مدت رنين يدها في الجيب الأمامي لسترتها .. وأخرجت منه شيئا ما .. ألقته على السرير .. فتراجع خالد بخوف ..
كان ظرفا .. لم يعرف خالد مابداخله .. فقالت له رنين .. " افتح الظرف وانظر مابداخله "
فتح خالد الظرف بأصابع مرتجفه .. ليفاجأ بصوره .. لفتاتين .. متشابهتين كل التشابه .. وكأن كل واحدة منهما صورة طبق الأصل من الأخرى .. فانتقلت نظراته بحيرة بينهما .. ولم يفهم ماتريد رنين قوله ..
فقال بارتجاف " ماهذه ؟ إنها أنتي ولكن .. هناك أخرى !!!"
فقالت رنين بهدوء .. وهي تشير إلى إحدى الفتاتين .. هذه انا .. وتلك حنين .. أختي .. زوجتك ..
شعر خالد بالغثيان .. ولم يعد يدرك شيئا وازداد ارتجافه ليصل إلى كل قطعة من جسده .. .. فقد كانت الحقيقه اقسى من أن يتمكن من استيعابها ..
" لقد أدركت منذ اللحظة التي رأيتك بها .. بأنك تريد الانتقام لموت أخيك .. فخفت .. وقررت الهرب .. وقد أخبرت حنين بأنك تحاول التقرب مني .. فأخذت تراقبك حين تكون معي .. ولكن يبدو بأن إعجابها بك .. قد بدأ يتنامى .. إلى الحد الذي اعماها عن رؤية الحقد والكره في عينيك ...
هربت .. ولم يخطر ببالي قط .. بأن إعجاب حنين بك .. قد يدفعها إلى انتحال شخصيتي أمامك .. لتتقرب منك .. لقد ظنت بغباء بأنها ستتمكن من جعلك تحبها .. وأرسلت لي خطابا بعد زواجكما .. تخبرني به بأنها ستحاول أن تجعلك تسامحني لموت اخيك ..
لم ادرك حينها ماكنت تفعله بأختي .. ليتني ماهربت .. ليتني عدت حالما اخبرتني بزواجكما .. ولكنني لم افعل .. كنت خائفه .. خائفه أن تقتلني إن أدركت بأنني أنا رنين .. وليست هي "
لم يقل خالد شيئا .. إلا أن الدموع بدأت تتساقط على خديه .. بندم ..
" لم آت إلى هنا لأقتلك .. ولكن لأخبرك بأن موت أخيك كان قضاءا وقدرا .. لم اقصد ان اصدمه .. ولم اقصد قتله .. لقد أخطأت .. وادرك ذلك .. وقد ندمت على مافعلت أشد الندم .. أعرف بأن هذه الكلمات لن تعيد لك اخيك .. ولن تداوي جرح قلبك بعد موته .. ولكن .. ماكان يجب ان تترك الكره والحقد يعميان قلبك إلى هذا الحد ..
ماذنب حنين المسكينة التي أحبتك من كل قلبها .. وحاولت إسعادك بشتى الوسائل ؟!
لن أقتلك .. انتقاما لما فعلت بأختي .. بل سأتركك لعذاب ضميرك .. لتتعذب بذنبها .. وبجنونها .. لبقية أيام حياتك "
أدارت رنين ظهرها وانصرفت .. فبقي خالد وحيدا .. وصدمة الإدراك تجتاحه .. أدرك أخيرا .. بأن موت أخيه كان مكتوبا .. شاء أم أبى .. وأدرك بأنه ظالم .. وقاس .. فقد ظلم الإنسانة الوحيدة التي احبته بصدق .. والتي أحبها هو بكل كيانه ..
نعم .. لقد حانت اللحظة التي يعترف فيها لنفسه .. بأنه أحب حنين .. ولكن .. اعترافه هذا جاء متأخرا .. بعد فوات الأوان ..
تمت