-
الترقية
أيقظته زوجه قبل الوقت الذي طلب منها، حتى يستعد للخروج، ويحلق دقنه، ويسوي البذلة، ويلمع الحذاء، استعدادا لحراسة الشخص المهم الذي كلف بحراسته هذا اليوم، وطمعا في المكافأة التي وعده الشاف. لقد تنبأ أن زوجه ستوقظه قبل الوقت، كما أن الشاف طرح ساعة من الوقت المحدد للموعد. فهو يعلم أن عمله يبدأ في الثامنة والشاف طلب منه أن يكون في السابعة، وزوجه أيقظته في السادسة، حتى يكون في أتم الاستعداد.
قرر أن يضيف بعض الدقائق من النوم، لكنها جذبت عنه الغطاء، ودفعته إلى جانب السرير الذي أحدث صريرا يشبه صرير باب صدىء. لا يدري لماذا يتذكر وجه الشاف كلما أيقظته زوجه، رغم عدم الشبه بينهما، فهو نحيل أسمر، وهي بدينة، مكتنزة.
قام متكاسلا كأنه لم ينم جيدا، التفت إلى ناحية السرير الذي يحدث صرير باب صدىء كلما جلس عليه أو قام منه. زوجه منبطحة على بطنها، وقد احتلت أكثر من ثلثي السرير،
المراقب: لاداعي لكتابة كلام أو أوصاف غير لائقة
. قارن بين جثتها السمينة، وهيكله النحيل، يقول لها دائماإنها أكلت كل رزقه، ولا تزداد إلا سمنة، يعيرها بأن قلبها بارد، لذلك فهي تسمن دائما، وتعيره هي بأنه يشبه الممحاة كلما أكل أكثر كلما ازداد ضعفا ونحولا، هو يقول إن قلبه حار فهو لا يسمن أبدا.
تذكر صوت الشاف الأجش وهو يعطي الأوامر، غدا ستحرس فيلا النورس لأن شخصا مهما وعزيزا على قلوبنا سينزل بها. أود أن تكون عند حسن ظنه، وقد يكافؤك إذا أعجبه عملك. أحس برعدة خفيفة تسري في كافة جسمه، لعن الشاف في نفسه، ليطرد صورته من مخيلته، لم يستطع أن يرفع صوته بالسب وهو يغلق عليه باب الحمام. اقترب من المرآة أكثر، راقب الشعيرات البيضاء التي نبتت في صدغه دون استئذان، في الأيام الأولى كان يعدها كلما دخل الحمام، أما اليوم فقد تكاثرت وتناثرت في سائر الرأس، وإن كانت كثرة الحلاقة تخفي شعيرات الدقن والصباغة ترد الشارب أسود.
أراد لأن يوقظ زوجه لتعد له الفطور، هو يعلم أنها لن تقوم من الفراش مادام وقت إيقاظ الأولاد لم يحن بعد، تنبأ بأنها سوف تقول له مثل المرات السابقة: أمامك متسع من الوقت، اشرب لك جبانية حريرة عند المزابية قرب محطة الحافلات كما اعتدت أن تفعل دائما ولن تبخل عليك بشيئ من الحرشة، تنبأ بهذا حتى وإن لم يطلب منها إعداد الفطور.
لبس القميص، أدخل طرفيه في التبان حتى لا يصعد من السروال، بحث عن الحذاء تحت الماريو، مازالت الجوارب به منذ نزعه آخر مرة، قربهما من أنفه، رائحتهما لم تنتن بعد، أو هكذا خيل إليه، أراد أن يسأل زوجه عن جوارب أخرى، هو يعلم جوابها قبل أن يسألها، تذكر وجه الشاف بشاربه القصير الذي يشبه شارب هتلر، فأسرع في ارتداء الجوارب. تظهر البذلة أكبر من جسمه النحيل، حتى وإن نقص من قياسها عند الخياط، زرر الحذاء من أسفل ثقب إلى أعلاه، ولمعه قبل أن يلبسه. في الأيام الأخرى يطلب تلميعه من أحد ماسحي الأحذية الذين تكاثروا في المدينة هذه الأيام، لو علم أنه سيجد أحدهم عند المزابية لما كلف نفسه عناء تلميعه .
وضع العصا في الحزام من جهة اليمين ومن وراء العصا الأصفاد، وفي الجهة اليسرى وضع المسدس بدون رصاص طبعا، يستعمله للتخويف والديكور فقط، هكذا تعلم أيام فترة التكوين، أو هكذا خيل إليه، العصا قريبة من اليد اليمنى، تستعمل هي الأولى للرؤوس القاسحة ومن بعد العصا يأتي دور الأصفاد. أما المسدس فهو للتخويف فقط. سوى القبعة فوق رأسه طبعا، نظر في المرآة وهو يسويها، تذكر المكافأة فأحس بنشوة طفل وعده أبوه بهدية من السوق.
أغلق الباب وراءه بهدوء ونزل على رؤوس أصابع قدميه طبعا، ليس خوفا من الجيران ولا احتراما لهم، ولكن لئلا يعلموا أنه يخرج في ذلك الوقت المبكر، أو حتى لا يعلم أحد بدخول البوليس وخروجهم، وهذه عادتهم طبعا .
أخرج دراجته النارية من تحت الدروج، بعد أن فك القفل والسلسلة التي تربطها مع الجدار. كلما رآها تذكر وجه أبيه الذي نخرته الأمراض في آخر حياته، من داء الماصل، الذي لم تنفع معه شمس غشت في البلاد ولا رمال الشاطىء التي كان يختفي فيها صيفا، إلى السعال الذي لا ينقطع، إلى البروستات التي كانت سبب وفاته، لم يعرف كيف يشرح للناس في الدوار مرضه، أراد أن يستعين ببعض الكلمات بالفرنسية كلما ذكر الجهاز التناسلي أو البولي، لكنه يعلم أنهم لا يعرفون الفرنسية ولم يسبق لأحدهم أن درس العلوم. اكتفى بأن قال لهم كان عنده " برد النبولة " . هو لا يعلم لماذا تذكره هذه الدراجة وجه أبيه.
ترك دراجة ابنه التي يذهب عليها إلى مركز التكوين بعد أن طرد من المدرسة بسبب ضربه أحد التلاميذ الذين يقولون له ولد بوزرواطة فيثيرون غضبه.
ابتعد بدراجته عن العمارة، وشغلها، محركها يشبه صوت نفاثة، بعد أن قال له السيكليس: إن عادم الدخان لديها لا يمكن إصلاحه. التفت إلى سيارة جاره الريفي ذات الدفع الرباعي، قارنها مع دراجته التي سئمها وسئمته، تنهد تنهيدة عميقة وقال: "الكيف وما يدير". لم يكن جاره يتاجر في هذه المادة، ولكن يأتيه نصيبه من ثمنه هناك. قال في نفسه: " حلوف كرموس ". وتمنى لو تكون له أرض في كتامة.
صوت نفاثته تردد صداه جدران الأزقة الفارغة إلا من بعض المارة المبكرين مثله، يعلم أن جميع مفردات قاموس السب والشتم تنزل على رأسه ورأس أجداده الآن، بسبب صوت النفاثة، قال في نفسه: وماذا أعمل إذا كان السيكليس يقول إن عادمها لا يمكن إصلاحه، ولا أستطيع استبدالها في هذه الظروف.
تذكر الشخص المهم الذي سيحرسه داخل فيلا النورس، تمنى لو تدخل له عند الكباربترقية، تعفيه من هذا الهم الذي يملأ صدره المنخور بدخان سجائر التقسيط، سيعلق درجة أخرى على كتفه، يعطي أوامر، كل همه ألا يحمل الزرواطة في جنبه الأيمن حتى لا يقول الأطفال لابنه ولد بوزرواطة, فيثيرون غضبه.
وصل محطة الحافلات وشرب جبانية حريرة ومعها شيئا من الحرشة عند المزابية، كما تنبأ أن تقول له زوجه وإن لم يطلب منها أن تهيء له الفطور. ساق دراجته التي تذكره بوجه أبيه المنخوربالأمراض إلى الكوميسارية، وربطها مع باقي الدراجات الأخرى لبوليس مثله أو أقل منه درجة. يمني نفسه بالترقية التي يتدخل له فيها الشخص المهم الذي سحرس الفيلا التي يقيم بها، سيتخلص من الزرواطة، ومن الدراجة التي سئمها وسئمته، ويركب الفاركونيت أو سيارات أحسن منها وأسرع، ويعطي الأوامر لبوليس أقل منه درجة.
فيلا النورس من النوع الذي بني للسكن المؤقت فقط، مطلة على شاطىء صخري، أغصان أشجارها مشذبة بعناية من الداخل ومتروكة لحالها من الخارج، استطالت وغطت الجدران، يشذبها المارة القلائل بقطع أطراف منها لتخليل أسنانهم من لحم لم يتذوقوه. وزليج طوارها نبت بين شقوقه النجم، ونباتات أخرى لا يتذكر لها اسما أو لم يرها من قبل.
تحسس العصا والأصفاد في الجهة اليمنى من الحزام، والمسدس الفارغ عن الشمال، سوى القبعة، تنقل من طرف الجدار إلى الطرف الآخر، ناس قلائل يمرون مسرعين يظهر من لباسهم وعدتهم أنهم من عمال الحدائق. بعض الخادمات في البيوت يخرجن لجلب الخبز والحليب. وسيارات سوداء من النوع الذي يركب جاره الريفي. تمنى لو كانت له أرض بكتامة.
ينتظر بفارغ الصبر خروج الشخص المهم، عله يتدخل له بترقية عند الكبار، الفيلا كالحة مثل أيامه، صوت موسيقى ينبعث من الداخل لا يكاد يتبينه، بعض الأصوات النسائية يرتفع من حين لآخر، قال في نفسه: " لا بد أن تكون زوجه معه ". لا يدري كيف جاءته فكرة أن يستعطفها لتطلب من زوجها التدخل له. فالطريق إلى الرجل يمرعبر زوجه.
طاف من أقصى الجدار إلى أقصاه، ينتظر خروج الشخص أو زوجه. يفتح الباب الحديدي فيخرج الرجل المهم مسندا فتاة على دراعه، تترنح من السكر كما بدا له، تلعن بكلمات غير مفهومة: " كلكم كلاب تضحكون على بنات الناس ". لقد سمع هذا الصوت من قبل، فالبوليس لا تخفى عليهم الأصوات ولو مر عليها أمد بعيد كما يقول دائما. حدق في الفتاة فإذا هي بنت جاره الريفي، صاحب السيارة ذات الدفع الرباعي. ولأول مرة تمنى ألا تكون له أرض في كتامة، وهو يقول:" الكيف وشي معاه".
طلب منه الشخص المهم أن يبحث للبنت عن سيارة أجرة، يرتدي لباس النوم ولا تكاد رجلاه تحملانه، يتكلم لهجة تشبه لغة الأفلام التي تدمن زوجه على متابعتها. أسند الفتاة على دراعه فيما توارى الشخص خلف البوابة الحديدية.
هدأت البنت من ثورتها ورفعت رأسها كأنها تراه لأول مرة. لعن الترقية والكيف، والثمن الذي يأتي منه ، تحسس الزرواطة وهو يفتح لها باب الطاكسي .
عبد الرزاق حكماوي
-
مشاركة: الترقية
مشكور اخوي على القصة الحلو
-
مشاركة: الترقية