عزلة الرسول (ص) في قلوب المسلمين
لا احسب أحداً من البشر نال من الحب والإعجاب ما ناله محمد رسول الله (ص) ومع ذلك فان كثيراً من المسلمين وخاصة في هذا العصر الحديث لا يقدرون الرسول (ص) حق قدره حتى وهم يتوجهون إليه بالحب ذلك لأنه حب سلبي لا صدى له في واقع الحياة. إن صورة الرسول (ص) في قلوب هؤلاء المسلمين تعاني عزلة وجدانية عميقة . إن الرسول (ص) في اعمق أعماقهم إنه ومضات من النور الرائق والشعاع المتألق إنه روح سارية في حنا يا القلب وفى أنحاء الكون ومع ذلك فهو ليس حقيقة واقعة ليس صورة حية متحركة في واقع الحياة شاخصة بلحمها ودمها وأفكارها ومشاعرها وتنظيماتها وتوجيهاتها وهدمها وبنائها وماديتها وروحانياتها سواء.
إن لهذه العزلة أسباباً تاريخية ففي عهد الأئمة (ع) لم يكن الرسول (ص) منعزلاً في وجدان المسلمين ، كان المسلمين قريبي العهد به مازالوا يعيشون ذكراه الحية في نفوسهم وصوره الشاخصة في مخيلتهم في غدوه ورواحه وحربه وسلمه وعبادته وعمله صورة متكاملة تشمل الحياة كلها في أعماق الضمير وفي واقع المجتمع علي السواء. لم يكن قرب العهد من الرسول (ص) وحده السبب في إحساس المسلمين به حياً في نفوسهم متكاملاً في مشاعرهم وإنما كان إلى جانب ذلك السبب جانب عظيم من الأهمية هو امتداد تعاليم الرسول (ص) ومنهجه التربوي في حياة المسلمين . لقد أحس المسلمون أن الرسول (ص) حي بتعاليمه ومنهجه حتى وان غابت ذاته الرفيعة عنهم في عالم الحس.
وما عالم الحس من واقع النفس؟
إن الأشياء لا تقاس بوجودها أو عدم في عالم الحس وإنما تقاس بمقدار ما توجد في عالم النفس وبالمساحة التي تشغلها من المشاعر والأفكار والسلوك. ولا شك في أن الرسول (ص) كان موجوداً في نفوس المسلمين على مدار الأجيال التي لم تره ولم تصاحبه أضعاف أضعاف ما كان موجوداً في نفس أبي جهل أو غيره من المشركين ممن رأوه رأي العين وجا لدهم وجا لدوه ولكنهم لم يؤمنوا به ولم يقوا علي حبه فأبغضوه. وعلي هذا الأساس وحده نقيس وجود الرسول (ص) في نفوس المؤمنين وغير المؤمنين.
في العهد الأول للإسلام كانت الحياة كلها محكومة بتعاليم الإسلام وروحه ولكن رويداً رويدا أخذت الحياة تبتعد عن الصورة الصافية للإسلام وبدأ المسلمون يحسون بافتراق الطريق وبدأت الصورة المتكاملة للرسول (ص) تنحسر شيئاً فشيئاً إلى داخل النفوس بعد أن كانت ملء النفوس وملء الحياة معاً وعلي نسق واحد. وكلما زاد الانفراج بين الواقع المشهود وبين تعاليم الرسول (ص) وتوجيهاته زادت صورته انحساراً في نفوس المسلمين حتى ينتهي الآمر إلى أن تصبح مثالاً متألقاً في أعماق الوجدان لا صورة حيه في العيان مثالاً منعزلاً عن واقع الحياة لا يحكمها ولا يرسم منهجها ولا يتجه الشعور إليه لتسيير دفتها. ولقد مضت أجيالاً عديدة قبل أن تتم العزلة في صورتها العنيفة التي تقوم اليوم في قلوب المسلمين. كان الحكم في البلاد الإسلامية رغم بعده التدريجي عن روح الإسلام يقوم باسم الإسلام وكان المجتمع إسلامياً رغم فساد الحكام ، كان المجتمع لا يتأثر بفساد الحكم ولا تصل إليه العدوى من القصور الماجنة وصور الحياة الدنسه في تلك القصور ر. كان الرسول (ص) لا يحكم ولا يرسم سياسة المال ولكنه كان يحكم الروابط بين قلوب المسلمين فتقوم بينهم محبة الإسلام وتكافل الإسلام وتراحم الإسلام.
إن العزلة الكاملة والموحشة المرهوبة فقد تمت وأحكمت حلقاتها حين بعد الحكم والمجتمع كلاهما عن الإسلام اسمه وروحه وصار الغرب هو الذي يحكم السياسة والمجتمع باسمه الصريح حيناً وعلي يد صنائعه النافرين من الإسلام حيناً آخر. وصار المجتمع الإسلامي صورة متحللة فاسدة من الأفكار الغربية عن الحياة لا هي إسلامه كما كانت ولا هي نسيج واحد متميز ولا تملك حتى القوة المادية التي يملكها الغرب وإنما هي مسخ مشوه لا وحده له ولا كيان . لم يعد الرسول (ص) موجوداً أصلا في واقع الحياة لم يعد كياناً حياً شاخصاً بلحمه ودمه وأفكاره ومشاعره وتنظيماته وتوجيهاته وماديته وروحانياته ، انحصر وجوده في مشاعر المسلمين السلبية حتى في حالات الوجد والهيام اصبح مجرد صورة مجرد صورة مثالية لا يمسكها إلا الحب العنيف أن تكون أسواره محلقة في الخيال.
{ يا حسرة علي العباد}.
كيف جاز لهم أن يصنعوا ذلك؟ كيف جاز لهم أن يبددوا اكبر طاقة بشرية كونية في هذا الوجود، فينحسروا بها في عزلة عن الحياة وهل الرسول (ص) هو الذي يُصنع معه هذا الصنيع؟ الرسول (ص) الذي كان طاقة حية متحركة فعالة لا تكف لحظة عن النشاط؟ الشخصية التي كانت كلها حياة في واقع الأرض تصبح معزولة عن واقع الأرض؟ وممن من اتباعه ومحبيه.
لو عاش الرسول (ص) في صومعته ، لو كان فيلسوفاً ممن ينشئون الأفكار ويعجزون عن التنفيذ لو كان ممن يحدثون الناس عن الأحلام الجميلة والمثل الرفيعة ولا يبينون لهم في واقع الأرض كيف يكون الطريق، لو كان شاعراً أو كاهناً ، لو انه كان شيئاً من هذا كله لجاز للناس ان يعزلوه في وجدانهم فيمنحوه الحب النظري والإعجاب المجرد ثم لا يلتفتوا إليه وهم يواجهون عالم الواقع ويضربون في مناكب الأرض. آما الرسول (ص) وهو الذي بين لهم كيف يضربون في مناكب الأرض، وهو الذي امسك المعول بيده فهدم الباطل أمام أعينهم وبنى بدله صرح الحق وشيد الدولة الإسلامية لهم حتى قام بنيانها شاهقاً لا يطاوله بنيان ليكون تصرفه سنة تحتذي وأسوة حسنة للناس. الرسول (ص) وهو هذا كله فأي جرم في تبديد هذه الطاقة البشرية الكونية الكبرى وحصرها في داخل الوجدان. وهل جاء الرسول (ص) لينعزل في الوجدان، والدين الذي جاء به يأبى الانعزال في الوجدان.
إن ابرز سمة في هذا الدين انه دين الظاهر والباطن على حد سواء لا يرضى أن يكون الظاهر نظيفاً والباطن غير نظيف فيصبح رئاء الناس، ولا يرضى أن يكون الباطن نظيفاً ولا صدى له في الظاهر فيفقد مهمته ومعناه . انه الدين الذي يجعل العمل عباده والرسول (ص) الذي ظل حياته كلها يتعبد بالعمل المثمر النافع الظاهر للعيان. فكيف جاز بعد هذا كله أن يتحول في قلوب المسلمين إلى مثال منعزل ولو كان ارفع وأنبل مثال علي الأرض. إني لأعجب للمسلمين كيف يحبون الرسول (ص) كل هذا الحب ثم لا يتدبرون حياته للقدوة والأسوة كما قال الله تعالى
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر }.
{ وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }.
{ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله }.
إن من واجب المسلمين أن يتدبروا أقوال وأفعال الرسول (ص) وكيف كانت كل كلمة يقولها منهج تربية ومنهج سلوك ومنهج تفكير ومنهج حياة لعلهم يخرجون صورة الرسول (ص) من عزلتها الموحشة في القلوب إلى واقع ملموس في الحياة.
وصلي الله علي رسولنا محمد وعلي الأئمة الأطهار وآل البيت الأخيار وسلم تسليماً كثيرا.
