كرة القدم بين الماضي والحاضر
إن رياضة كرة القدم بلغت من الشهرة حداً لم تبلغه الألعاب الرياضية الأخرى.. كما اكتسبت شعبية كبيرة ظهرت في شدة الأقبال على ممارستها والتسابق على مشاهدة مبارياتها .
وقد مرت لعبة كرة القدم بتطورات عديدة منذ القدم إلى أن استطعنا أن نراها في هذه الصورة الحديثة ونستمتع بمشاهدة مبارياتها في الملاعب أو على شاشة التلفزيون أو نستمع إلى وصفها في المذياع .
وإذا رجعنا إلى تاريخ كرة القدم وجدنا أنها في بدايتها كانت تتسم بالارتجال ولا تقوم على أسس من الفن أو الدراسة أو التهذيب مثلها في ذلك مثل أي لعبة رياضية .
وقد اتفق جميع خبراء التربية الرياضية والمؤرخون الطبيعيون على أن لعبة كرة القدم بدأت تمارس منذ زمن بعيد وذلك بين رجال الجيوش.. ويحدثنا التاريخ أن الجيوش الصينية كانت تمارس لعبة تشبه إلى حد كبير لعبة كرة القدم.. وكانوا يعتبرون تدريباتها جزءاً مكملاً لتدريباتهم العسكرية من حيث الهجوم والدفاع .
كما أن الجيوش الرومانية كانت تمارس كرة القدم أيضاً نظراً لمزاياها المتعددة وبعد هؤلاء نقلها الشعب الأنجليزي وتعهدها بالصقل .
ولم تكن هناك قواعد للعبة قد وضعت ونظمت كما هو الحال الآن، فلم يكن هناك وقت محدد للمبارة ولا عدد معين لكل فريق ولا مواصفات خاصة للكرة أو الملابس ولا تحديد للملعب أو الأهداف ـ فكثيراً ما كانت تقام المبارة بين بلدين أو مدينتين متقاربتين ويحاول كل منهما أن يصل بالكرة إلى وسط البلدة الأخرى ليدخلها غازياً منتصراً .
وكانت المبارة تستمر أياماً أو أسابيع وربما شهوراً حتى يصل أحد الطرفين إلى هدفه، وكثيراً ما كانت تقع الحوادث ويذهب ضحيتها البعض أثناء المباريات مما حمل بعض الحكومات إلى إصدار قوانين تحرم لعب كرة القدم .
ولقد دارت في إنجلترا عدة مناقشات تاريخية بين العلماء والمؤرخين كان الغرض منها إيجاد صورة واضحة عن لعبة كرة القدم .
وهل هذه اللعبة ترجع إلى عصر معين أم أنها شائعة بحيث لا يمكن تحديد عصر بدايتها مهما بذل من جهد في سبيل ذلك ؟
وبأت البحوث تدور حول الآراء التاريخية التي تقدم بها الباحثون فكان مما قاله الباحثون :
(( إن لعبة الكرة وجدت في القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد كإسلوب تدريب عسكري في الصين وعلى وجه التحديد في الفترة ما بين سنة 206ق.م، وسنة25بعد الميلاد، كما ورد في أحد مصادر التاريخ الصيني . وكانت اللعبة تذكر باسم صيني ( تسو ـ تشو Chu ـ Tsu) والأولى بمعنى ركل الكرة، والثانية بمعنى الكرة . وكل ما عرف من تفاصيل أنها كانت تتألف من قائمين عظيمين يزيد ارتفاعهما عن ثلاثين قدماً مكسوة بالحرائر المزركشة، وبينهما شبكو من الخيوط الحريرية يتوسطها ثقب مستدير مقدار قطره قدم واحد.. وكان الهدف يوضع أمام الامبراطور في الحفلات العامة .
ويتبارى مهرة الجنود في ضرب الكرة لكي تمر من هذا الثقب، وكانت الكرة مصنوعة من الجلد المغطى بالشعر، ولم تكن بالقوة والشدة التي هي عليها الآن.. بل منفوخة في رخاوة بهواء يعادل 10/9 من حجمها تقريباً.. وكان جزاء الفائز منهم صرف كمية من الفواكه والنبيذ والزهور والقبعات له ـ وقد وصفت حنكة المتنافسين ـ في بعض حركات حمل الكرة وتحريكها بين أعضاء جسمهم، بأنها نوع من الفراسة.. وأيد هذه الرواية بعض الصينيين الذين زاروا إنجلترا وقالوا : إن مصغر العمودين مازال يصنع ضمن الهدايا للسائحين .
وجاء مؤرخ آخر فقال :
(( لقد كانت لعبة كرة القدم باليابان وكانت تسمى باسم ( كيماري Kemari) وقد عرفت منذ 14 قرناً مضت . وكانت تلعب في ملعب مساحته 140 متراً مسطحاً، ولا مزيد من التفاصيل .
وهناك في إيطاليا لعبة كرة قديمة باسم ( كالشيو Calcio) كانت تلعب في فلونسا مرتين في السنة ـ الأولى في أول يوم أحد من شهر مايو والثانية في اليوم الرابع والعشرين من يونيه بمناسبة عيد ( سان جون San John ) في فلونسا ..
وكانت هذه الأيام بمثابة العيد.. وكانت المنافسة تقام بين فريقين :
الأول أبيض باسم ( بيانكي Biancki) .
والثاني أحمر باسم ( روسي Rossi) .
ويضم كل فريق واحداً وعشرين لاعباً يلعبون في ( بياتزا Piatzza) وكان المرمى عبارة عن عرض الملعب كله، وكان اللعب خشناً وكان الملعب يغطى بالرمال وإلى اليوم ما زالت هاتان المباريتان تقامان في نفس الموعد كذكرى للماضي )) .
وهناك مؤرخون قالوا :
(( إن اليونان قديماً كانت لديهم لعبة كرة تلعب باسم ( إبيسكيروس Episkyros) وكانت لدى الرومان لعبة أخرى تلعب باسم ( هارباستوم Harpastom) وإن الأخيرين جاءوا بها إلى الجزر البريطانية حين احتلوها .. والذين ذكروا هذا قرروا في التاريخ أن ارومان لعبوا هذه الكرة في كل بلد احتلوه اثناء غزواتهم وذكروا من بينها مصر )) .
ومن هذه المناقشات التاريخية العديدة نرى أن ليس هناك نقطة تصلح للاتفاق على نشر لعبة كرة القدم بطريقة معينة تؤخذ معالمها من التاريخ .
ولكن المؤرخين البريطانيين تصدوا لهذه الآراء والمناقشات التاريخية وادعوا أن لعبة كرة القدم من افكارهم وحدهم، واستدلوا على ذلك بواقعة تاريخية تتلخص في :
(( إن الدانماركيين احتلوا انجلترا في الفترة ما بين سنة 1016 إلى سنة 1042 بعد الميلاد وأن الانجليز حربوهم في معركة كان من أثرها أن الجنود الانجلييز قطعوا رأس القائد الدانماركي وداسوه باقدامهم وأخذوا يضربونه باقدامهم مثل الكرة .
وصار هذا بعد ذلك تقليداً قومياً علامة على الثأر والانتقام .
وبعد ذلك استبدلوا الرأس البشري بكرة اللعب.. وذكروا أن الأطفال من الحفاة ولبسي الأحذية كانوا يلهون ويتندرون بالحادث، ثم تدريجياً ظهر بعض الأطفال يتقاذفون بين أقدامهم جسماً كروياً من جلد البقر فنشأت فكر الكرو واللعب بها بين الأقدام .
ثم تحولت مع الأيام إلى لعبة كرة القدم، واعتبروا فجر ظهور اللعبة وإكتشافها هو سنة 1050 ـ 1075 بعد الميلاد، وكانوا يسمونها ( ركل الرأس الدانماركي ) ثم سميت بعد ذلك بكرة القدم، وكانوا يكتبونها
( Fut balle) ولم تخصص لهذه اللعبة ميادين خاصة وقانون وقائي عام )) .
وقد ذكر التاريخ أن الملك ( هنري الثاني) حرم لعبها سنة 1154 ـ 1189م ولما توفي سنة 1189م كانت لعبة كرة القدم مجرد ذكرى، لأن تحريمها ظل نافذاً مدة 400 سنة .
وجاء عهد الملك ( جيمس الأول ) فشجع لعبة الكرة وأشرف عليها . فعادت الشمس تشرف على هذه اللعبة التي ظلت مختفية طيلة أربعة قرون وبذلك بدأت اللعبة نحو التقدم والتشريع والتخطيط .
ونذكرفي هذه الجولة التاريخية أن هناك مؤرخاً انجليزياً اختصر الطريق وقال في صراحة مريحة :
(( من يدري من هو أول لاعب لكرة القدم؟ لعله يكون جدنا آدم.. لعب بما يشبه كرة القدم ـ لعب بتفاحته مع جدتنا (( حواء )) من باب التسلية على الأقل.. ولعل ( النمرود ) وكان مغرماً بالصيد والقنص، هو الذي لعبها، أو لعب بجسم مستدير يشبه الكرة ويتدحرج على الأرض مع فرقة الصيد )) .
(( إن الإنسان إذا احتار في بحثه استطاع أن يلجأ إلى الطبيعة ليريح نفسه من عناء البحث، فطبيعة الصبية في كل عصر أن يتسلقوا الأشجار ويتقاذفوا الثمار ويلعبوا بها . وسواء عثرنا على من اخترع اللعب بكرة القدم أو لم نعثر فإننا نحتاج إلى دليل قاطع على أن هذه اللعبة هي التي يلعبها شبابنا اليوم على ضوء تشريع معين وبنظام معين محدد ومرسوم )) .
وبعد ذلك قال المؤرخ الأنجليزي :
(( إذاً يجب أن ننسب لعبة كرة القدم إلى الانجليز لأنهم تسلموها فكرة مجردة من كل حيوية.. وقد ثبت في كل المراجع أنهم تولوها بالتشريع ةالتهذيب والتقنين وتحملوا في سبيلها تضحيات ذكرت في مراجعهم )).
ويرجع التاريخ ليحدثنا أن بعض ملوك انجلترا قد عادوا بعد ذلك واوقفوا لعب كرة القدم رسمياً وذلك عام 1314م وأولهم ( إدوارد الثاني ) وفي عام 1349 أوقف لعبها ( إدوارد الثالث ) وفي سنة 1389 أوقف لعبه( ريتشارد الثاني ) وفي عام 1389 تصدى لها ( هنري الرابع ) .
وعاد القادة في إسكوتلندا فحرموها أيضاً عام 1457 ثم في عام 1491م .
وكان هؤلاء الملوك يعتمدون في ذلك على نص مادة عسكرية هي :
(( أنها لعبة ناعمة لا تصلح للتدريب العسكري ومن شأنها أن تعطل وتضعف التدريب على النشاب(Archery)
وعلى نص مادة أخرى مدنية هي :
(( أنها سبب كثير من الضحايا والخسائر بين الناس )) .
وهؤلاء الملوك الذين حرموها لم يظلموا كرة القدم التي نشاهدها اليوم وننعم بها وبفوائدها وبهجتها.. لأنها لم تكن كرة القدم التعاونية الاجتماعية التي يحكمها قانون محترم وهيئات واعية مثقفة .
ومن الطرائف التي ذكرت في تاريخ كرة القدم ـ أن بعض الصبية كان يختفي أثناء المباراة ويسرق الكرة ـ وسرعان ما تبدأ مبارة أخرى بنفس الكرة في مكان آخر فيذهب لاعبو المباراة الاولى ويشتركون في نزاع على الكرة مع لاعبي المباراة الثانية، ويكثر الشجار والشحناء . وقد ينتهي ذلك بمن يسرق الكرة من جديد ويقيم بها مباراة ثالثة.. وكل هذه الأمور دعت إلى كثرة الشكوى من لعب الكرة .
واقتضى ذلك ولاة الأمور منعها وتحريمها ومطاردتها.. هذا هو حال الكرة منذ 645 سنة وهي الحالة التي دعت الملك ( إدوارد الثاني ) إلى منع لعبها وتجميدها في سنة 1314م .
وقد ذكر ( السير توماس تورنتون ) حادثة طريفة وقعت من أهالي مدينة ( دندي ) باسكوتلندا فقال في أحدى محاضراته :
(( إن لعبة كرة القدم ما زالت محرمة قانوناً في إسكوتلندا، فقد صدر مرسوم ملكي بتحريمها من الملك ( جيمس الثاني ) ملك اسكوتلندا في عام 1458م، وقد ألغى الملك ( جيمس الثالث ) الاسكوتلندي هذا المرسوم، إلا أن المراجع الاسكوتلندية ذكرت بعد ذلك أنه في أبريل عام 1497 رد وزير مالية ( جيمس الرابع ) لخزانة الدولة شلنين غرامة بسبب أن الملك نفسه خالف أمر والده ولعب الكرة )) .
وفي عام 1711م بدأت لعبة كرة القدم تتطور وتتحاشى الإضرار بالناس، وبدأت عناصر المثقفين والنبلاء تظهر في الملاعب تدريجياً، وبدأ قادة اللعبة يبحثون عن القانون والتقاليد حتى لا يعودوا إلى مواجهة قرارات الحرمان والمطاردة من جديد .
وكبداية للتقنين ذكر أنه في سنة 1800م تقرر مساواة عدد لاعبي الفريقن وحدد المرمى مبدئياً بطول يتراوح بين قدمين وثلاث أقدام.. وظلت القوانين تتحسن من أجل صالح اللاعبين والجمهور .
ومما يذكر من الحوادث الطريفة أن مباراة أقيمت سنة 1815م على طريقة القواعد والنظم السالفة الذكر كبداية للتقنين بين فريقي : النبيل ( سير وولتر سكوت )، ( الايرل أوف هوفريارد ) وإليكم ملخصاً لوصف هذه المباراة :
(( إن الفريقين كليهما ذهبا إلى الملعب بصحبة فرقة من الموسيقى ( البايبس ) والناس حولها كأنهم يسيرون إلى ميدان قتال .. )) .
وفي وصف آخر :
(( إن وولتر سكوت كان في الثالثة عشرة من عمره وذهب إلى ميدان اللعب على ظهر جواد وهو يحمل سلة فيها كرة اللعب . ولم تبدأ المباراة إلا بعد أن حضر النبيل ( ديوك أوف بوكلوتش ) وأخذ الكرة من السلة وألقاها في الملعب إيذاناً ببدء اللعب )) .
وهكذا كان حال كرة القدم في الماضي . وفي عام 1904م تأسس الاتحاد الدولي لكرة القدم وأصبح معترفاً به كهيئة تشريعية عليا تشرف على شؤون اللعبة، ويتلقى الاتحاد كل الاقتراحات والتعديلات.. ويعقد اجتماعاً سنوياً للنظر فيما يصله من مقترحات، ويخطر الاتحادات الأهلية هن هذه التعديلات الجديدة التي يتفق على إدخالها في القانون وذلك بغرض حماية اللاعب والهيئات .
وإذا تحدثنا عن قانون كرة القدم في الماضي لوجدنا أن بداءته كانت تتسم بالاتجال دون الفن والدراسة والتهذيب.. وذلك مثل تاريخ أي لعبة رياضية أخرى .
هذه هي بعض التطورات التي مرت بلعبة كرة القدم وهي كافية جداً لإثبات أن لعبة كرة القدم قد تطورت من الخشونة والهجومية إلى الفن ةالتقنين.. ومن جمود في اللعب إلى حركة وتكتيك . وكان من نتيجة الجهود والتعاون بين جميع الدول المحبة للرياضة والسلام وما بذلته كل دولة على حدى من تضحيات لرفاهية شعبها أن ظهرت لعبة كرة القدم بصورتها المشرفة التي تطالعنا حالياً وتزيدنا تعلقاً بكر القدم ولاعبيها .
