في هذه السطور سوف أستعرض وأسلط الضوء على عدة جوانب في حي الطندباوي وشارع منصور قديماً وحديثاً لأنني واحداً ممن ولدوا ونشئوا وترعرعوا في هذا الحي الذي يعد من أحياء مكة المكرمة القديمة وقريباً من هذا الشارع إلي يحد حي الطندباوي من جهة الغرب.
(فحي التنضباوي أو الطندباوي نسبة إلى شجرة التنضب الذي كان يكثر فيه وبعض أهل مكة ينطقه الطنضباوي و في عهد الأزرقي مؤرخ مكة كان يسمى اللّيط ويقول المؤرخ عاتق البلادي : أن تسمية التنضباوي أصح وهو امتداد لوادي طوى أحد أودية مكة الثلاثة التي يتكون منها عمرانها . قال ياقوت الحموي : وطُِوى بضم الطاء وبكسرها والفتح أشهر والتنضباوي في أسفل وادي طوى وهذا الوادي الذي بات فيه النبي صلى الله علية وسلم ليلة فتح مكة وذلك بإجماع مؤرخي مكة وكُتّاب السيرة الشريفة.( معالم مكة التاريخية والأثرية لعاتق البلادي ص168- ص169، معجم البلدان لياقوت الحموي ( 4 / 45 ) طوى) ، وحي الطندباوي يتألف من عدة حارات متجاورة منها المكوار وحارة اليمن والفلاته والبرانواه (يروى) والأدماوى وغيرها ، أما شارع منصور بمكة المكرمة فقد وسم بهذا الاسم نسبة إلى صاحب السمو الملكي الأمير منصور بن عبدالعزيز رحمه الله وزير الدفاع الأسبق في عهد والده صقر الجزيرة الملك المؤسس عبدالعزيز طيب الله ثراه ويعتبر هذا الشارع شريان نابض في مكة المكرمة ، وهذا الشارع يحد حي الطندباوي من جهة الغرب.
حكت لي جدتي رحمها الله عن هذا الشارع العريق قائلة : ( أُسِسَ هذا الشارع في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله ولم يكن مكان الشارع إلا مساكن قديمة من العشش والصنادق ) انتهى. ولمن لا يعرف هذه البيوت القديمة نورد ما يلي :
( الصندقة : مفرد صنادق وهي بيوت تصنع من التنك وهو عبارة عن صفائح من الحديد رقيقة تطلى بالقصدير قاله البستاني في كتابه محيط المحيط 1/174.أو تصنع من الزنك على شكل هرمي من الأعلى ومربع القاعدة ، والعشش: ومفردها عشة وهي عبارة عن بيت يصنع من القش أو الجريد وهي أشبه ببيت الشعر على شكل مخروطي.) وعوض الملك عبدالعزيز رحمه الله رحمةً واسعة أصحاب تلك البيوت بجنيهات ذهبية أرضتهم تمام الرضا وتم تأسيس شارع الأمير منصور بعد ذلك ) قلت : وكان وما زال وسيبقى بإذن الله شارع الأمير منصور من أهم الشوارع بمكة المكرمة فقديماً وعلى جانبيه تم بناء قصور لعدد من صاحبات السمو الملكي وبعضها لا زال قائماً إلى الآن وعلى سبيل الذكر لا الحصر وحتى تتضح الصورة لك أخي القاريء الكريم فهب أنك تقف بالقرب من تقاطع شارع الأمير منصور مع شارع أم القرى فإن اتجهت جنوباً ستجد قصر الأميرة منيرة وقصر الأميرة العنود (مقر الهلال الأحمر ومركز الرعاية الأولية حالياً) وقصر الأميرة الجوهرة (مقر المنطقة الخامسة سابقاً) ، وهناك بيت خميس نصار من قدامي الموظفين في وكذلك بيت اليغمور الذي يعد تحفه معمارية لا زال قائماً إلى الآن وكان مقراً للشرطة وإن اتجهت شمالاً فهناك مسجد الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ وبيت العساف الذي كان مقراً للمدرسة السابعة الابتدائية للبنات وقراشات الكعكي وقبل نهاية الشارع باتجاه الشمال شركة الكهرباء وبعدها ملعب ساحة أسلام وملعب فريق العلمين أحد أشهر الفرق في بدايات كرة القدم بمكة المكرمة ، فنادي حراء حالياً يعد امتداداً لذلك النادي حيث صدر في عام 1388هـ نظام دمج الأندية وتم دمج ناديين معه هما الشرق والشباب تحت مسمى الموحد ثم تحمل الاسم إلى الكفاح ثم إلى حراء ولا زال إلى الآن ، نعود مرة أخرى لتقاطع شارع الأمير منصور مع شارع أم القرى وتحت الكبري الحالي حيث كان يوجد دوار النافورة التي تم هدمها في أواخر التسعينات الهجرية لتوسعة شارع أم القرى وعمل امتداد له باتجاه الغرب ثم تم إنشاء طريق مكة - جدة السريع فقديماً لم يكن موجوداً إلا طريق جدة القديم وبجانب النافورة مقهى وموقف صغير للسيارات التي تقل الركاب إلى قلب مكة النابض بيت الله الحرام وكان يسمى موقف " أبو ربع " لأنك تركب من هناك للحرم في سيارات ذات موديلات قديمه بربع ريال وبجوار هذا الموقف توجد " المداريه والشقاليب " وهي ألعاب قديمة لم يلعب بها أبناء الجيل الحالي ولكن ربما سمعوا عنها أو رأوها في القرية الشعبية بالمهرجان الوطني للتراث والثقافة بالجنادرية وهناك بيت السيد نديم (متجر عبدالغني الصائغ حالياً) الذي كان مقراً للمدرسة (22) الابتدائية للبنات.
شارع الأمير منصور في رمضان وأيام العيد ولياليه.
كان بشارع الأمير منصور عدد من المتاجر الصغيرة والدكاكين منها دكان طاهر اليماني وكان بقالاً وبجانبه بائع الفول وكان هناك ما يسمى " منشية " عبارة عن سوق صغير به دكاكين عدد من الجزارين منهم المعلم موسى هوساوي والمعلم يونس الزبرماوي بائع حليب الأبقار الطازج وبعض دكاكين الملابس والأقمشة. أما حالياً يتحول ليل هذا الشارع إلى نهار طيلة أيام رمضان وعيد الفطر المبارك فزحمة السيارات والمتسوقين وخاصة النساء في حركة مستمرة فقد أصبح سوقاً رئيسياً بمكة المكرمة للذهب والملابس والأواني المنزلية والأجهزة الكهربائية بخلاف البائعين المتجولين وأصحاب البسطات وقديماً كان مساء أول أيام عيد الفطر المبارك يطلق عليه ليلة اليتيمة فجميع الدكاكين والأفران مغلقة حتى أن الأهالي كانوا يشترون من المواد الغذائية والخبز ما يكفيهم لثلاثة أو أربعة أيام فلا أحد يفتح دكانه أو متجره طيلة أيام العيد (عيد يعني عيد) أما هذه الأيام فلا يوجد توجد ليلة اليتيمة ولا غيرها فالأسواق والدكاكين مشرعة أبوابها ليلاً ونهاراً.
الكتاتيب :
في حي الطندباوي العديد من الكتاتيب في البيوت لتحفيظ القرآن الكريم بالتلقين وقراءة القاعدة البغدادية وتعليم القراءة والكتابة والحساب وكانت حلقات التحفيظ في المساجد ، وهذه المساجد محدودة ومعروفة فتاريخ بناء بعضها سحيق يتجاوز عمره (100) عام وبعضها أسس قبل توحيد المملكة ومنها مسجد " مي قندي " ويعرف حالياً بمسجد الربوعي والأدماوى ومسجد " نقارا" ومسجد الشيح عمر جيزان ومسجد مالم سيدي وغيرها ، وكان هناك العديد من الفقيهات وكن نساء فضليات يقمن بالتعليم مقابل مبلغ زهيد وعلى سبيل الذكر لا الحصر فقد أدركت كتاب الأبلة خيرية رحمها الله والأبلة أمينة وفي كل حارة هناك فقيهه وشيخ أو أكثر ، أما الآن فقد ازداد عدد المساجد والجوامع وحلقات التحفيظ الرجالية والنسائية تشرف عليها الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمكة المكرمة.
التدريس والتربية والتعليم :
عمل العديد من أبناء حي الطندباوي في مهنة التدريس فقديماً كان هناك عشرات المعلمين الذين درسوا في المسجد الحرام على أيدي كبار العلماء ودرسوا في المدرسة الصولتية والخالدية والسعدية وغيرها من المدارس القديمة ومنهم من حصل على الشهادة الابتدائية ثم دبلوم المعلمين لمدة عام أو عامين أو ثلاثة وعين مدرساً وتخرج من تحت يديه الأجيال تلو الأجيال ، أما الآن فهناك المئات من أبناء الحي ممن حصلوا على الشهادات الجامعية ويعملون في سلك التربية والتعليم وهناك العشرات ممن أكملوا دراستهم العليا وحصلوا على الماجستير والشهادة العالمية العالية الدكتوراه ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر الدكتور محمد عيسى فهيم والدكتور عبدالله بن حامد سمبو والدكتور سامي عمر صبه والدكتور أمين إدريس والدكتور مهدي مصطفى عثمان والدكتور محمد بكر هوساوي وغيرهم كثير فمنهم الأكاديمي في أروقة وقاعات الدرس بالكليات والجامعات ومنهم من يعمل بالمستشفيات والمراكز الطبية المتخصصة.
الجندية والسلك العسكري :
عمل ويعمل الكثير من أبناء الحي في الجندية والسلك العسكري فقديماً يذكر لنا موسى بن عبدالله فلاّته الشهير بـ(موسى أفندي) وكان ضابطاً برتبة عالية يعمل في قطاع الشُرطة يعمل بمبنى الحميدية قُرب المسجد الحرام ، ثم نقل مديراً لمركز سوق البرنو بحي الطندباوي وغيره كثير وحديثاً عمل في هذا القطاع الكثير ومنهم من تدرج في الرتب حتى وصل لأعلى المناصب من امثال اللواء محمد إبراهيم سليمان بالقوات الجوية الملكية العربية السعودية والعميد عبدالعزيز قاضي بالقوات البرية الملكية السعودية والعميد زين العابدين عقاب والعقيد عبدالرحمن زمزمي والمقدم محمد احمد فلاته ووغيرهم كثير.
المناسبات الاجتماعية :
كانت( المِلكة) أو عقد القران ولا تزال تقام في مساجد حي الطندباوي حيث يأتي أهل العريس إلى أقرب مسجد من بيت أهل العروس لإتمام عقد القران ومن أشهر من كان يقوم بذلك في حي الطندباوي الشيخ أحمد قاضي رحمه الله وبعد وفاته ابنه إسماعيل أحمد قاضي رحمه الله ثم شقيقه أمين أحمد قاضي متعه الله بالصحة والعافية أما حالياً فقد زاد عدد مأذوني الأنكحة وقديماً لم تكن قاعات المناسبات والإستراحات منتشرة فقد كان الزواج يقام في الحارة حيث يتعاون أهل الحي في تجهيز مكان الزواج في أي (برحة) مساحة فضاء بالحي فتفرش المفارش وتثبت التيازير على الجدران ويعملون على تجهيز (الميز) وهو مكان به طاولات عليها ما لذ وطاب من الماكل والمشرب للمدعوات من النساء فقط وغالباً بعد تجهيزه يحرسه رجل حاد الطباع شرس لا يجامل ولا يسمح لأحد بالدخول غير النساء والأطفال الصغار فقط ، وكانت الأفراح تمتد حتى ساعة متاخرة من الليل. اما حديثاً فقد انتشرت قصور الأفراح والاستراحات وأصبحت الأفراح مكلفة ومتعبه وتمتد حتي بزوغ الفجر نسأل الله السلامة والعافية.
قديماً كان في الحي من يسمون بالعسس فالواحد منهم يمسك بيده عصا غليظة وصافرة يسهرون طيلة الليل يحرسون البيوت من أي عبث وكانت الشوارع والأزقة مظلمة إلا من بعض (الأتاريك) وحدات إضاءة كانت موجودة أذكر منها إتريكاً كان يعلق عند مسجد البازي وآخر في حارة الموشي وهي غالباً ما تكون في البرحات وقرب المساجد أما الآن فجميع الشوارع والطرقات مضاءة .
قديماً كان الناس يستخدمون التوقيت الغروبي ولمن لايعرفه أقول عند أذان المغرب لابد ان تضبط عقارب ساعتك لتكون على الثانية عشرة تماماً مما يعني ان أذان العشاء سيكون عند الساعة الواحدة والنصف أما الساعة السادسة فهي وقت جداً متاخر ، وكان النوم مبكراً فمعظم البيوت ليس بها كهرباء ولذلك النوم غالباً ما يكون في حوش البيت وقد تنصب الناموسية للنوم تحتها حتى يسلم النائم من لسعات البعوض وفي معظم البيوت دواجن وارانب وفي البعض الاخر أغنام وأبقار فلا يوجد لبن مراعي وصافي واكتيفيا بل هناك قدر في (نملية المركب) ومعناها دولاب المطبخ يُخمر فيه الحليب ليصبح لبن رائب.. يتبع.
----
