الى اللقاء: من يجرؤ على الكلام؟
بقلم: سيد زهران:
فاجأتنا احدى القنوات الفضائية العربية بخروجها على المألوف الاستهلاكي وتحولت في لفتة نادرة الى صناعة الحدث، وضخ دور تنويري في جسد الفضائيات المترهل والمتخم، لدرجة جعلت كثيرين ـ وأنا منهم ــ يتسمرون أمام الشاشة لمتابعة حملة التضامن مع المفكر الفلسطيني المناضل د. عزمي بشارة النائب العربي في الكنيست الاسرائيلي، الذي بدأت السلطات الصهيونية محاكمته أمس، بعد ان فشلت في تحجيمه وجعله مجرد «أيقونة» أو «حلية» على صدر الكيان الاحتلالي، يتباهى بها دليلاً على حداثيته وديمقراطيته، وكبرهان يقتات به الاعلام الغربي الموالي لاسرائيل، في تصويره لها كواحة للديمقراطية وسط صحراء العرب.
وتبدو قصة عزمي بشارة الفلسطيني القابض على جمرة هويته العربية بيد، ورغماً عنه ممسكاً بجواز سفر اسرائيلي بيد اخرى، تلخيصاً عبقرياً لمأساة نحو مليونين من عرب 1948، الذين لم تفلح كل وسائل القمع والارهاب من جانب العصابات الصهيونية، في اقتلاع اجدادهم وآبائهم من ارض فلسطين، وبقيت جذورهم ضاربة في أعماق عكا ويافا والجليل والناصرة، ولم يتوقفوا عن غرس نبت عربي جديد، وكأنهم يقولون كلمتهم للتاريخ: ان كنا قد فشلنا في الحفاظ على الوطن محرراً، فليس أقل من التشبث بالارض، والبقاء رغم مرارة التعايش مع علم ونشيد الاحتلال.
ففي البداية سار عزمي بشارة ابن «الناصرة» على درب من اضطروا للتعايش مع مؤسسات الاحتلال السياسية والمدنية، مثل الراحل اميل حبيبي وتوفيق زياد، وغيرهما ممن جاهدوا وخاضوا الصراع الملتبس، ونجحوا في تذكيرنا نحن، قبل الآخر، بأن هناك منسيين في فلسطين النكبة، ليسوا عرباً اسرائيليين، بل عرب يعيشون رغم سلطة الاحتلال، حتى صاروا يعرفون بعرب 48، صامدون صمود اشجار الزيتون واسوار القدس وعكا.
ومن تجارب الانتصار على الزيف الصهيوني في اشتباكات الحياة اليومية، ومن إلهام اشعار توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم، انتقل عزمي بشارة بنضال عرب 48 الى مرحلة اكثر تطوراً تشكل خطراً حقيقياً يفضح «مسرحية الديمقراطية» الصهيونية، وبدلاً من القبول بدور «الحلية» على صدر الغاصب، تحول بشارة النائب بالكنيست الى شوكة في حلق «العنصرية»، وبدلاً من الوقوف موقف المنتظر لعطايا الاحتلال، او المدافع عن التهم الجاهزة، تحول الى مهاجم يدك كل يوم اركان الأساطير الصهيونية، ويطالب بحق العودة، كحق أصيل لكل لاجئ أجبر على ترك بيارته وبيته، ليقيم في خيام الملاجئ.
والأخطر، ان عزمي بشارة حول مكتبه في الكنيست الى اعلان يومي حي وشاهد على عروبة فلسطين، لدرجة جعلت صحفياً اسرائيلياً يسأله عن حدود 1967، كحل نهائي فيرد بكلمات لا يجرؤ احد على الكلام عنها في زمن المهانة: عندما يوافق الفلسطيني على حدود 1967، فإنه لا يتلقى هدية من الاسرائيليين، بل يقدم تنازلاً ضخماً، فهناك الشريط الأخضر او الاراضي التاريخية المغتصبة عام 1948، وبينها الأرض المقام عليها الكنيست وهي تلال بدر.
وعندما يؤرق الاسرائيليين وجود صورة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر معلقة على جدران مكتبه سواء في الكنيست او في الناصرة، يقول عزمي بشارة في حواره مع الملحق الاسبوعي لصحيفة «هآرتس» العبرية: في بداية الستينيات كنا «عرب 48» أناساً مهزومين ومهانين معزولين، جاءنا صوت عبدالناصر عبر المذياع ليقول اننا جزء من أمة قوية عظيمة من المحيط الى الخليج.
هذا هو عزمي بشارة الذي أعلن بكل جرأة ان التسوية السياسية وتوقيع معاهدات السلام مع اسرائيل لن يحل الصراع ما لم يتحقق حق العودة لكل لاجئ، وما لم تسقط كل الذرائع الصهيونية، وتعترف اسرائيل بجريمتها عام 1948.
ولهذا يحاكم بشارة لنجاحه في وضع اسرائيل للمرة الاولى عارية امام نخبتها السياسية «اليسارية» وأمام العالم، وبعد ان نجح مع منظمات المجتمع المدني في ادانتها بجرم العنصرية في مؤتمر دوربان بجنوب افريقيا.
وايا كانت نتائج المحاكمة، فلقد تحول عزمي بشارة الى قنبلة سياسية اخطر على اسرائيل من القنبلة النووية مثلما وصفه أحد زعماء المستوطنين الصهاينة.