مشكور أخوي شيتا على المساعدة .
عرض للطباعة
مشكور أخوي شيتا على المساعدة .
فنجان قهوة
غاندي وفلسطين
عندما بدأ المهاتما غاندي كفاحه من أجل تحرير الهند من الاستعمار البريطاني، كانت فلسطين تتعرض لهجمة استعمارية استيطانية من جانب الصهاينة اليهود، وكان شعبها يكافح على جبهتين: الأولى ضد بريطانيا، من أجل الحصول على الاستقلال، والثانية ضد الغزاة الصهاينة الجدد، فكيف كان الزعيم الهندي ينظر إلى أزمة الفلسطينيين التي تحولت بعده إلى أزمة للشرق الأوسط، والتي وصفها غاندي حتى في ذلك الحين بأنها “قضية صعبة جدا؟”.
في مقال فريد نشره غاندي في 26 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1938 أي قبل الحرب العالمية الثانية ببضعة أشهر قال إنه يتعاطف كلياً مع اليهود، فقد تعرف إلى الكثيرين منهم أثناء عمله في جنوب إفريقيا، وحدثه هؤلاء عن الاضطهاد الذي تعرض له اليهود عبر العصور، وقال: “إن وضع اليهود في العالم الغربي يشبه وضع المنبوذين في الهند، والمعاملة التي يلقاها هؤلاء شبيهة بالمعاملة التي يلقاها أولئك”، ولكن غاندي يضيف: “إن التعاطف مع اليهود لا يعميني عن متطلبات الحق والعدل، والدعوة لإنشاء وطن قومي لليهود، والتي تستند إلى تفسيرات توراتية، لا تروق لي، فلماذا لا يفعل اليهودي ما يفعله كل مواطن في أي مكان في العالم ويعتبر البلد الذي يولد ويعيش فيه هو وطنه؟”.
ويقول غاندي: “إن فلسطين للعرب، كما هي بريطانيا للبريطانيين، وفرنسا للفرنسيين، ومن الخطأ والظلم فرض اليهود على العرب، وما يجري في فلسطين حاليا (عام 1938) لا يمكن تبريره بأي منطق أخلاقي، وإنها لجريمة إنسانية أن تلحق المذلة بكبرياء العرب من أجل إعطاء جزء من فلسطين، أو كلها، لليهود. وكان الأجدر بالدول الغربية أن تحسن معاملتها لليهود، (بدلا من طردهم من أرضها إلى دولة عربية)، فاليهودي الذي يولد في فرنسا فرنسي، تماما كالمسيحي الذي يولد في فرنسا، وإذا كان اليهود يعتبرون أن فلسطين وطنهم، فهل يعني ذلك استعدادهم للرحيل من الدول التي يقيمون فيها من أجل العودة إلى فلسطين، أم أنهم يريدون أن يكون لهم وطنان، يتنقلون بينهما بمطلق الحرية، والواقع إن مطالبة اليهود بوطن قومي في فلسطين تعطي تبريرا أخلاقيا لعمليات الطرد والترحيل التي مارسها النازيون ضدهم في ألمانيا، ولو كنت أنا يهوديا ألمانيا، فإنني سأعلن في كل منتدى أن ألمانيا هي وطني، وأرفع لواء التحدي في وجه أي ألماني ينكر علي ذلك، ولا أتراجع حتى لو أطلقوا النار علي أو وضعوني في السجن، وسأرفض الخضوع لعمليات الترحيل أو النزوح عن ألمانيا كما أرفض التمييز الذي يمارس ضدي، ولن أنتظر مؤازرة من يهود العالم، ولكنني سأكون على ثقة بأن العالم بأسره سيقف إلى جانبي في كفاحي المشروع، أما أن أهرب من الاضطهاد الألماني وأحمل البندقية لأحتل وطن شعب آخر، فإنني بذلك أزيد أموري تعقيدا، وأجد مبررا للناس يقولون: إنه يستحق كل ما لقيه من اضطهاد، ألا ترون، أنه يلحق مظالم بشعب بسيط مسالم؟”.
ومشكلة اليهود هي أنهم يفتقرون إلى زعيم يتمتع برؤيا، ولذلك فإن زعماءهم يعتبرون النصوص التوراتية صكوك تملك عقارية، ويرون أن الطقوس الدينية يمكن أن تمارس في ظل الحراب، ولو توفر زعيم من هذا النوع بين اليهود، لتحول شتاء اليأس والدماء إلى ربيع أمل، ولتوقفت عمليات اصطياد البشر برصاص البنادق في فلسطين، ولنجا العالم من أنهار من الدماء تغرق المنطقة في المستقبل.
وغاندي كتب هذا الكلام عام ،1938 وكانت المواجهات الفلسطينية اليهودية في بداياتها، وأعتقد أنه لو عاش إلى أيامنا هذه لأحرق نفسه أمام السفارة “الإسرائيلية” أو الأمريكية في الهند احتجاجاً على الآثام التي ترتكب ضد العرب العزل، بدعم من أمريكا.
أبو خلدون
فنجان قهوة
العلاج سينمائياً
بريجيت وولز استاذة في علم النفس في الولايات المتحدة، أصيبت، عندما كانت في الرابعة والثلاثين من العمر، بجلطة كادت تودي بحياتها، وزاد من مصيبتها أن زوجها تخلى عنها، وتركها من أجل امرأة أخرى أكثر شبابا وجمالا.
ولم تفلح كل نظريات علم النفس التي درستها الدكتورة في الجامعة وتعلمها الآن لطلابها في إنقاذها من الآلام النفسية التي بدأت تفتك بها بعد هذين الحادثين، فاستسلمت للكآبة، واعتزلت زملاءها في الجامعة، وباتت تعود إلى المنزل من العمل، وتغلق الباب، وتستسلم لوحدتها وأفكارها السود.
وذات يوم كانت تتابع برامج التلفزيون فشاهدت فيلما سينمائيا شدها إليه، ودفعها إلى متابعته حتى النهاية، ولم تتمكن من مغالبة دموعها أثناء متابعة المواقف الصعبة التي يمر بها البطل مع توالي الأحداث، فكانت تبكي من أجله في كل مرة يتعرض فيها لاختبار صعب، ولكنها بعد انتهاء الفيلم شعرت بارتياح كبير، وكأن الدموع التي سالت من مآقيها غسلت أحزانها.
واستمرت الدكتورة في مشاهدة الأفلام التي تبثها الشاشة الصغيرة، ثم بدأت تستأجر أفلاما من محلات الفيديو، وتتردد على دور السينما، وخلال فترة وجيزة زالت أعراض الكآبة عنها، وعادت لممارسة حياتها العادية، بل إنها أصبحت أكثر نجاحا في العمل وفي علاقاتها الاجتماعية، وتزوجت من جديد. وقد دفعتها هذه التجربة إلى تأليف كتاب يعتبر الآن من أكثر الكتب مبيعا في الولايات المتحدة عنوانه “سحر السينما” تحدثت فيه عن تجربتها الشخصية وقالت إن الأفلام السينمائية التي نشاهدها لا تسلينا فقط، وإنما تساعد على الشفاء من الكثير من الأمراض النفسية. وأضافت: “إن العالم الخيالي الذي ترسمه الأفلام يساعدنا على التكيف مع العالم الواقعي الذي نعيشه، إذ اننا كثيرا ما نجد أنفسنا في الأبطال الذين نراهم يتحركون أمامنا على الشاشة، كما أن المصاعب التي يمرون بها تفتح متنفسا للأحزان التي نعاني منها في دواخلنا، وعندما تسيل دموعنا من أجلهم فإنها تغسل أحزاننا معها”.
وتقول الدكتورة بريجيت إن الأفلام تساعدنا على اكتشاف ذواتنا، وتعلمنا كيف نتكيف مع واقعنا ونحب أنفسنا، ومهما كانت المآسي التي نعاني منها فإننا سنجد على الشاشة أشخاصا يعانون من مآسٍ أكبر بكثير من مآسينا، وقد تمكنوا بالإرادة والتصميم من تجاوز مآسيهم، يضاف إلى ذلك أن الشخص عندما يواجه مأساة، يشعر وكأنه الوحيد في العالم الذي اختاره الحظ هدفا لقسوة الظروف، وإذ به يشاهد في الأفلام آخرين يعانون مما يعاني وأكثر، ويتابع مشاكلهم بكل تفاصيلها، فتهون مآسيه عليه.
وبعض الأفلام السينمائية تدفعنا إلى إعادة النظر في بعض سلوكياتنا التي تؤثر في نجاحنا، خصوصا إذا تعرضت ثقتنا بالنفس للاهتزاز وبتنا نشعر أننا لا نحسن شيئا. يضاف إلى ذلك أن في داخل كل شخص منا “ضوءاً أحمر” يذكرنا دائما بأخطائنا التي قد تكون خفية عن أعين الآخرين، ويسلط الضوء عليها بشكل يسبب وسواساً لنا. وفي فيلم “العرس الإغريقي” مثلا، يعاني البطل “تولا” من مأساة من هذا النوع، وفي فيلم “فريدا” يتابع المشاهد سيرة حياة فنان تنتظره الصعوبات عند كل منعطف، ولكنه يمارس ما يمكن ان نطلق عليه “عملية تسامٍ” لأحزانه ويحولها إلى رصيد إيجابي لمصلحته، ويتمكن من تحقيق النجاح في النهاية، وشيء من هذا القبيل يعانيه أبطال أفلام مثل “راكب الحيتان” و”الحياة جميلة” و”الناس العاديون” و”كريمر ضد كريمر”.
ومن كتاب الدكتورة استاذة علم النفس نخرج بنتيجة واحدة هي: “إذا كنت تعاني من أمراض نفسية، فإن علاج هذه الأمراض ليس في عيادة الأطباء النفسانيين الذين يصرفون الساعات الطويلة يحللون شخصيتك لمعرفة أسباب المرض، إذ يكفي أن تذهب إلى محل الفيديو القريب من منزلك، وتستأجر عددا من الأفلام، لتنتهي مشكلتك”.
أبو خلدون
فنجان قهوة
الرواية المغسولة
عندما حصل بوريس باسترناك على جائزة نوبل للآداب عن روايته “الدكتور زيفاجو” التي تروي قصة عاشق طبيب هو الدكتور يوري زيفاجو، وحبه لفتاة تدعى لارا، على خلفية الثورة البلشفية في مراحلها الأولى بعد عام ،1917 شعرت الأوساط الأدبية في العالم بأسره بالدهشة، ليس بسبب التشكيك بالقيمة الأدبية للرواية التي تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج ديفيد لين وبطولة عمر الشريف، حصل على خمس جوائز أوسكار، ولا تشكيكا بقيمة باسترناك نفسه، وإنما لأن الرواية لم تكن قد نشرت باللغة الروسية في ذلك الحين، لكي تفي بشروط جائزة نوبل التي تقضي أن تكون جميع الأعمال المرشحة منشورة بلغتها الأصلية، وثانيا لأن الجائزة تمنح على مجمل أعمال الكاتب وليس على عمل أدبي واحد، وثالثا لأن باسترناك شاعر من أبرز الشعراء الروس في القرن العشرين، ترك بصماته على أجيال كاملة من الشعراء واستشرف آفاقا لم يطرقها الشعراء من قبل، وحتى ستالين الذي لم يكن يولي اهتماما كبيرا للشعر كان من المعجبين به، وأثناء عمليات التطهير التي نفذها في الثلاثينات من القرن الماضي قدمت المخابرات السوفييتية له لائحة بأسماء بعض الذين ستشملهم حركة التطهير، ومن بينهم اسم باسترناك، فشطب الاسم بقلمه، وقال للمسؤول عن ال “كي جي بي”: “لا تتعرضوا لساكن السحاب هذا”.
وقبل مدة صدر في روسيا كتاب بعنوان “الرواية المغسولة” من تأليف ايفان تولستوي، وهو باحث مشهور في موسكو، يجيب عن كل الأسئلة التي أثيرت حول فوز باسترناك بالجائزة. ويذكر تولستوي ان المخابرات المركزية الأمريكية ال “سي آي إيه” علمت أن النظام السوفييتي منع نشر “الدكتور زيفاجو” في روسيا، فقررت إحراجه، وفي رسالة من عميل سابق في السي آي إيه وصف لخطة الإحراج أورده تولستوي في كتابه، على الوجه التالي: “علمت السي آي إيه أن باسترناك أرسل نسخا من مخطوطة الرواية، باللغة الروسية، إلى أصدقاء له في الغرب، فقامت بالتعاون مع المخابرات البريطانية بإرغام الطائرة التي تحمل إحدى المخطوطات للهبوط في مالطا، وبينما كان المسافرون ينتظرون العودة للطائرة، أخذ العملاء المخطوطة من إحدى الحقائب وصوروها، ثم أعادوها حيث كانت، ونشروا طبعات من الرواية في الولايات المتحدة وأوروبا تجنبوا فيها استخدام أوراق يمكن التعرف إليها بأنها من صنع غربي، واختاروا حروفا خاصة تستخدم في روسيا، ثم طبعوها في أماكن متفرقة ليحولوا دون وقوعها في أيدي أشخاص خطأ”.
ولا شك أن أعضاء جائزة نوبل الذين كانوا يدرسون قائمة المرشحين لجائزتهم، ومن بينهم باسترناك، أصيبوا بالدهشة عندما قدمت لهم نسخ مطبوعة باللغة الروسية للرواية (إيفاء لشرط أن تكون كل الأعمال منشورة بلغتها الأصلية)، وكانت الرواية قد ترجمت وطبعت للمرة الأولى قبل عام واحد، أي عام ،1957 في ميلانو في إيطاليا.
ولم يكن باسترناك يتوقع فوزه بالجائزة، ولذلك فإنه بعد سماعه بنبأ الفوز بعث ببرقية الى الأكاديمية السويدية يقول فيها: “ممتن كثيرا، متأثر، فخور، مذهول، محرج”. وبعد أربعة أيام، وتحت ضغط شديد من الكرملين، أرسل برقية يعتذر فيها عن قبول الجائزة.
وبعد الفوز، تعرض باسترناك للمضايقة من جانب المخابرات السوفييتية، وللتهديد بالطرد من روسيا، وبعد وفاته عام 1960 أمر الكرملين بإلقاء القبض على عشيقته أولغا أفينسكايا التي ألهمته شخصية لارا في الرواية، وعلى ابنتها، بتهمة تلقي مبالغ مالية بصورة غير قانونية عن إصدار رواية في الخارج، هي الدكتور زيفاجو، وحكم على الأم بالسجن ثماني سنوات، وعلى ابنتها بثلاث سنوات.
أبو خلدون
فنجان قهوة
أقوال مأثورة
عندما استدعي بطل العالم الأسبق في الملاكمة محمد علي لتأدية الخدمة العسكرية في فيتنام، قال له المحقق: “لماذا ترفض أداء الخدمة العسكرية؟” فقال محمد علي: “لأن أحدا من الفيتكونج لا ينظر إلي باحتقار ويصفني بأنني نيجر”. وسرت هذه العبارة سريان النار في الهشيم في الأوساط الزنجية في الولايات المتحدة، وانتقلت من شخص إلى آخر بحيث بات يصعب العثور على زنجي واحد لم يسمع بها، واستغلها خصوم الحرب الفيتنامية في أمريكا لإلهاب مشاعر الزنوج، ودفعهم للسير في مظاهرات اتسمت بالعنف ونشرت الحرائق في كل مكان، وكانت هذه المظاهرات بداية الاتجاه الأمريكي للخروج من وحول الحرب الفيتنامية.
والطريف أن هذا الحوار بين المحقق ومحمد علي لم يحدث على الإطلاق، ولم يبرر محمد علي رفضه الخدمة العسكرية بالقول إنه لا يريد أن يحارب شعبا لا يستخدم عبارة “نيجر” في وصف الزنوج، وإنما قال إن الحرب الفيتنامية غير عادلة وغير مبررة، ودينه الإسلامي يمنعه من خوض الحرب ضد أناس لم يرفعوا السلاح في وجهه، ومن هذه الناحية فإن محمد علي بريء من هذه العبارة براءة أحمد الشقيري من عبارة “سنلقي اليهود في البحر”، التي استغلتها أجهزة الإعلام الصهيونية ضده، إلى درجة أنه اضطر إلى الإعلان قبل وفاته أن الحديث عن إلقاء اليهود في البحر لم يرد في أية خطبة من خطبه، أو أية مقالة كتبها أو أي حديث عام أو خاص أدلى به.
وفي كتاب “أقوال مأثورة” الذي نشرته جامعة يال التي تعتبر من بين أرقى خمس جامعات أمريكية، من تحقيق فريد شابيرو، أمين المكتبات في الجامعة، مئات الأقوال المأثورة التي تنسب إلى أشخاص لا علاقة لهم بها، ومثال على ذلك تلك الكلمات التي تفيض نباهة وذكاء وتنسب إلى تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، فالمعروف أن حظ تشرشل من الذكاء وسرعة البديهة لم يكن كبيرا، ومعظم الأقوال المنسوبة إليه هي في الواقع لأناس آخرين، أو من ابتكار مساعديه في الوزارة، بل إن تشرشل لم يكن يحسن اختيار كلامه في المناسبات العامة، ويقال إنه التقى بالكاتب المشهور جورج برنارد شو في إحدى الحفلات، وأراد أن يمازحه، فأشار إلى هزاله وقال له: “من يراك يظن أن هنالك مجاعة في بريطانيا” فأشار شو إلى سمنة تشرشل وقال له: “ومن يراك يظن أنك السبب في هذه المجاعة”.
وماري أنطوانيت، زوجة لويس السادس عشر، ظلمها المؤرخون عندما نسبوا إليها القول، عندما علمت أن المتظاهرين الذين يحيطون بالقصر لا يجدون خبزا في منازلهم: “لماذا لا يأكلون بسكويت؟”، فماري انطوانيت لم تقل هذه العبارة، ولكن زعماء الثورة الفرنسية الذين كانوا يبحثون عن عبارات ترفع حدة الغضب لدى جماهير الثورة ضد طبقة النبلاء والأشراف، ابتكروا قصة أكل البسكويت لكي يشعروا جماهيرهم بأن الطبقة الغنية لا تحس بآلامهم.
وهيرمان جورينج، قائد سلاح الجو الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية، لم يقل: “عندما أسمع كلمة: ثقافة، أشهر مسدسي”، وهذه العبارة من بين العبارات التي ابتكرتها الآلية الدعائية الغربية أثناء الحرب لتشويه صورة الزعماء الآلمان.
والطريف في كتاب جامعة يال أنه ينسب لأناس عاديين أو ممثلين أو عاملين في الحقل السينمائي من الأقوال المأثورة أكثر مما ينسب لمفكرين، ومثال على ذلك، فإن الأقوال المنسوبة إلى كارل ماركس لا تزيد على ،13 من بينها ثمانية مشاركة مع انجلز، ومنها قول يقول ماركس فيه: “أنا لست ماركسيا”، والأقوال المنسوبة للممثل والمخرج وودي ألين تزيد على تلك المنسوبة للشاعر البريطاني روديارد كيبلينج وللرئيسين الأمريكيين ثيودور وفرانكلين روزفلت والشاعر وليام ووردز وورث معاً.
وتظل قيمة كتاب جامعة يال في تحقيقه، وكم نحن بحاجة إلى هذا النوع من التحقيق، على الأقل لكي لا نجد حكمة من نوع “وسافر ففي الأسفار خمس فوائد” منسوبة إلى أربعة أشخاص في وقت واحد.
أبو خلدون
فنجان قهوة
كاوبوي بربطة عنق
في الماضي، عندما كنا صغاراً، كانت أفلام “الكاوبوي” هي الأكثر اجتذابا لنا: مجموعة من رعاة البقر يغيرون على إحدى قرى الهنود الحمر الذين يضعون حول خصورهم غطاء من القش ويطلون وجوههم بالأصباغ ويزينون رؤوسهم بعصابة في وسطها ريشة، ويقوم رجال الكاوبوي بإحراق مساكن الهنود الحمر المبنية من القش، ويقضون على سكان القرية جميعاً، وكنا نهلل للكاوبوي وهو يفعل ذلك، فقد كانت ثقافة الهنود الحمر غريبة عنا، وكانوا دائماً يظهرون في الأفلام بمظهر المعتدين الأشرار الذين يرغبون في إبادة الكاوبوي الأبيض.
وأفلام الكاوبوي والهنود الحمر لا تزال تجتذب الجمهور، ولكن الكاوبوي هذه المرة من نوع آخر، إنه كاوبوي يضع ربطة العنق ويتحكم بمقدرات أقوى دولة في العالم، ومن بين أكثر الأفلام اجتذابا للجمهور في السنوات الأخيرة فيلم “فهرنهايت 911” الذي ينتقد بعنف سياسة الولايات المتحدة ومواقف بوش بعد حادث تفجير برجي مركز التجارة العالمي، و”الطريق إلى جوانتانامو” الذي يتحدث عن مأساة نزلاء ذلك السجن سيئ الصيت الذي تديره المخابرات الأمريكية. وليس غريبا أن تطغى على الأفلام المشاركة في مهرجان برلين السينمائي ثقافة “الكاوبوي ذو ربطة العنق” والثقافة التي يحاول نشرها في العالم، ومن ذلك فيلم “ثقافة غريبة” من إخراج لين هيرشمان ليسون.
ويروي فيلم “ثقافة غريبة” مأساة فنان واستاذ جامعي من معارضي سياسة بوش بنشر الحروب في العالم ويتزعم حملة ضد استخدام هندسة الجينات في الزراعة، هو ستيف كيرتس، توفيت زوجته “هوب” بالسكتة القلبية في 11 مايو/ أيار ،2004 فاتصل بطوارئ الشرطة وقدم بلاغاً بذلك، وفوجئ بعد فترة بعدد كبير من رجال مكتب التحقيقات الفيدرالية يقتحمون منزله ويطوقونه، ويعتقلون صاحب المنزل بتهمة وجود مواد فنية مثيرة للشك في منزله، كما اعتقلوا صديقه الدكتور روبرت فاريل استاذ علم هندسة الجينات في جامعة بتسبرج لمجرد أنه صديقه ويزوده بمعلومات حول مضار استخدام هندسة الجينات في الزراعة، ومن بين الأشياء التي صادروها في منزله: جهاز الكمبيوتر الخاص به، وبعض الكتب، وجثمان زوجته، وقطته الصغيرة، وأثناء التحقيق وجهت إليه تهمة أخرى هي: التعاون مع إرهابيين وتزويدهم بأسلحة جرثومية، وبالطبع دون تقديم دليل على ذلك.
والثقافة الغريبة التي يتحدث عنها الفيلم هي ثقافة الخوف من كل شيء، وثقافة الشك في كل شيء، واعتقال الناس وزجهم في السجون بتهم زائفة، ودون إذن، وفي أحد مشاهد الفيلم يحاول طلاب الجامعة التي يعمل فيها الاستاذان المعتقلان جمع تواقيع على بيان يطالب بإطلاق سراحهما فيرفض أحد الطلاب التوقيع ويقول: “إن توقيعي على البيان سيدفع مكتب التحقيقات الفيدرالية إلى فتح ملف باسمي، مما يشكل خطرا على مستقبلي”.
وحتى الآن لم تجر محاكمة الاستاذين الجامعيين على التهم المنسوبة إليهما، ولكنهما رهن الاعتقال، وتقول مخرجة الفيلم إنها سمعت، أثناء عملها، عشرات القصص المماثلة عن أشخاص جرى اعتقالهم دون اذن، ولم يجر تقديمهم إلى المحاكمة، وقصة كل واحد من هؤلاء مأساة في حد ذاتها، وترفض هوليوود إنتاج أفلام من هذا النوع، كما ترفض شركات توزيع الأفلام توزيعها، باعتبار انها سياسية أكثر من اللازم، ولذلك يجري انتاجها في استوديوهات خاصة، وتقوم شركات خاصة بتوزيعها.
والمهم أنه بعد عرض الفيلم في مهرجان برلين السينمائي، خرج الجمهور وهو يتساءل: هل يمكن أن يحدث ذلك في أمريكا، وكانت مخرجة الفيلم تؤكد: نعم، ذلك يحدث الآن في أمريكا.
أبو خلدون
فنجان قهوة
مثلث الشيطان
الظواهر الخارقة للعادة التي لا يجد العلماء تفسيراً لها تنتقل من مكان إلى آخر حاملة معها الكثير من الألغاز وعلامات الاستفهام، وكأنما لتكشف للعلماء أنهم ما أوتوا من العلم إلا قليلا، وخصوصا في الولايات المتحدة التي تعتبر امبراطورية العلم في العالم، فبعد مثلث برمودا الذي يمتد من مواجهة ساحل ميامي بولاية فلوريدا، إلى سان جوان في بورتوريكو إلى جزيرة برمودا، والذي تختفي فيه السفن والطائرات، في بعض الأحيان، دون أن تترك أي أثر، يتحدث العلماء الأمريكيون عن مثلث مماثل في منطقة البحيرات الكبرى يطلقون عليه اسم “مثلث ميتشيجان” ويمتد من مدينة لودينجتون إلى ميناء بنتون بولاية ميتشيجان، ثم يسير باتجاه الشمال الغربي إلى مانتوفوك بولاية ويسكنسون، وفي هذه المنطقة، يختفي الناس، والسفن، والطائرات، دون ترك أي أثر يكشف أسباب اختفائها.
ويقول المختصون في متابعة الظواهر الخارقة للعادة في الولايات المتحدة إن أول حادث اختفاء حدث في المنطقة كان في 28 إبريل/ نيسان عام 1937 عندما كان الكابتن جورج دونر يقود سفينته عبر البحيرات. وتشير التحقيقات التي أجرتها الحكومة الأمريكية في ذلك الحين، وإفادات البحارة، الى أن الكابتن جورج دخل كابينته وأغلق الباب وراءه، وبعد دقائق، شعر أحد البحارة بضرورة اللجوء إليه في أمر من الأمور، فقرع الباب، ولم يحصل على جواب، وارتاب البحارة في الأمر، وخلعوا الباب ليكتشفوا أن الكابينة خالية، وأن الكابتن جورج غير موجود فيها، وبحثوا عنه في كل مكان فلم يجدوه، والغريب أن الكابتن جورج هو الوحيد الذي اختفى من بين بحارة السفينة، وخلال فترة اختفائه كانت السفينة تبحر وسط المياه وكأن رباناً ماهراً يقودها.
وغابت أخبار الاختفاءات في منطقة البحيرات بعد ذلك فترة طويلة، لم تجر فيها إلا أحداث متقطعة، وفي 30 مارس/ آذار الماضي استقل العروسان آلان وماري كاونا قارباً بخارياً من مدينة فاريزبيرج بولاية ميتشيجان للقيام بنزهة في منطقة البحيرات، وحيث ان العريس الذي كان في الأسبوع الأول من شهر العسل يجيد قيادة الزوارق، فقد قرر قيادة الزورق بنفسه، وبعد ساعتين من انطلاقهما حاولا الاتصال بصديق لهما في شيكاجو، عبر الهاتف الخليوي، ولكن الاتصال انقطع تماما، وكانت هذه المكالمة التي بدت على هاتف صديقهما وكأنهاٌٌفك لمََّّىٍ هي الدليل الأخير على أنهما على قيد الحياة، إذ إنهما اختفيا بعد ذلك، هما والزورق. وذهبت مساعي البحث عنهما من دون جدوى.
والعروسان آلان وماري من بين ستة أشخاص اختفوا في منطقة البحيرات منذ شهر أبريل/ نيسان الماضي، إضافة إلى شخص سابع نجا من عملية الاختفاء ولكنه لا يعرف كيف. وهذا الشخص هو: جوردون مكفيتي، ويعمل في إحدى شركات الطيران الأمريكية، وقد أقلع بطائرته من إنديانا في الساعة الحادية عشرة صباحا، متجها إلى مطار مانتوفوك، في رحلة تستغرق ما يقل عن ساعتين، ولكنه لم يصل إلا في الساعة السادسة مساء، أي بعد سبع ساعات، وعندما وصل، كان خزان طائرته لا يزال ممتلئا، وكأنه لم يحلق في الجو كيلومترا واحدا، وكانت ساعته تشير إلى الثانية بعد الظهر، وفي التحقيق معه قال إن الشيء الوحيد الذي يذكره هو أنه شاهد سحابة كثيفة من الضباب ظهرت في الأفق، ثم اختفت بعد لحظات، ولا يذكر ما حدث بعد ذلك، إلى أن استعاد وعيه، ووجد نفسه فوق مطار مانتوفوك يستعد للهبوط.
ويطلق العلماء الأمريكيون على هذه المنطقة من البحيرات الكبرى الاسم الذي يطلقونه على مثلث برمودا، وهو “مثلث الشيطان” رغم أنهم لا يؤمنون بوجود الشيطان.
أبو خلدون
فنجان قهوة
لعبة الأمم
هل تريدون أن تعرفوا كيف تنهار الامبراطوريات؟ الجواب، بقرار بسيط خاطئ، أو مشبوه يتخذه احد المسؤولين فيها. وأذكر ان الرئيس التركي السابق تورجوت أوزال قال لي إنه عندما كان الجنود الأتراك في الحرب العالمية الأولى يقفون في مواجهة القوات البريطانية والأمريكية ببنادق تركية قديمة، يضغطون على الزناد فلا تقوى أصابعهم على الضغط من الجوع، وكانوا ينتزعون الشعير من بعر الخيل ويأكلونه، كانت أهراءات الحبوب التركية في الشرق الأوسط مليئة بالحبوب، ولكن كان هناك قرار من بعض العسكريين الأتراك ذوي الاتجاهات المشبوهة بتجويع الجيش لكيلا يحارب، كما كان هنالك قرار بتجويع الاقاليم التابعة للامبراطورية العثمانية لكي تتحرك شعوبها بالثورة.
ويقول المؤرخون ان نهاية نابليون بدأت عندما بدأ بغزوته لروسيا، فقد هزت هذه الغزوة ثقة نابليون بنفسه، وبجيشه، وأسلمته للهواجس التي انتهت به منفيا في جزيرة إلبا، ويكشف الصحافي الأمريكي لويس كيلزر في كتابه “خديعة تشرشل” ان الحرب العالمية الثانية لم تكن بين الحلفاء ودول المحور، وإنما بين أوروبا كقارة ذات حضارة تاريخية، وبين كبار رجال المال من اليهود الذين يحلمون بالسيطرة على العالم عن طريق تدمير الحضارة الأوروبية، وفي مقدمة هؤلاء اسرة روتشيلد والصهيونية والماسونية العالمية. ويقول المؤرخ البروفيسور هنري ماركوف إن هذه العصبة هي التي صنعت هتلر وتشرشل، ثم دمرت هتلر بعد ذلك لأنه كان أوروبياً مخلصاً، ومنحت الانتصار في الحرب لتشرشل. ويكشف المؤرخون الذين يحاولون إعادة كتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية ان هتلر لم يكن يرغب في خوض الحرب ضد بريطانيا، فقد كان همه ينحصر في محاربة الشيوعية التي كان يرى أن اليهود يستغلونها كوسيلة لتحقيق طموحاتهم بالهيمنة على العالم، وطوال فترة الحرب كان يقدم المبادرة تلو الأخرى لبريطانيا لإنهاء الأعمال العسكرية، ولكن تشرشل الذي كان يخضع كليا لنفوذ هذه العصبة رفض كل المبادرات.
ويكشف كيلزر في كتابه أن زيارة رودولف هيس، نائب هتلر، لبريطانيا للاتفاق معها حول انهاء الحرب مقابل انسحاب هتلر من كل اوروبا الغربية ومن أجزاء كبيرة من بولندا، لم تكن مفاجئة، وإنما بترتيب خاص مع مجموعة سياسية قوية في لندن كان يطلق عليها اسم “مجموعة كليفدين” وكان النظام النازي في ألمانيا يرتبط بعلاقات وثيقة مع هذه المجموعة منذ سنوات، وقد تمكن هؤلاء من اقناع هتلر ان الاتجاه المعارض للحرب في بريطانيا قوي جداً، ويمكن ان يطيح بتشرشل الذي يعتبر من أشرس معارضي إيقاف الحرب، والغريب أنه في الليلة التي طار فيها رودولف هيس بطائرة عسكرية خاصة توقفت الغارات الألمانية والبريطانية على المدن، واستمر التوقف ثلاثة أيام، ورأى هتلر في ذلك استجابة لمبادراته، وفي الأيام التالية بدأ حملته ضد روسيا التي كان مقرراً أن تنتهي بانتصاره الساحق، ولكن تشرشل خدعه.
ويقول دوجلاس ريد الذي كان يعمل مراسلا لجريدة “التايمز” البريطانية في برلين في ذلك الحين، في كتابه “جدل صهيون” إن هدف العصبة المشبوهة التي كانت تخطط للهيمنة على العالم كان: استمرار الحرب، ومقتل الملايين، وزيادة الديون العامة، وإشاعة الإرهاق في البشرية بأسرها لكي تصبح اقامة حكومة عالمية واحدة في المستقبل أمرا لا بد منه.
فهل ما نشهده حاليا من نشر الحروب وإغراق دول العالم الثالث بالديون بما يذكرنا بالحرب العالمية الثانية وما سبقها فصل من إقامة الحكومة العالمية التي يسيطر عليها اليهود؟
أبو خلدون
فنجان قهوة
استبدادية مقنعة
ينظر الأمريكيون بحسرة إلى ما قبل ولاية بوش الابن، عندما كانوا يتمتعون بحرية لا مثيل لها في أية دولة أخرى في العالم، وها هو عالم الاجتماع الأمريكي جون بوتومز ينعى تلك الأيام السعيدة، ويلاحظ أن تمثال الحرية على مدخل مدينة نيويورك يدير ظهره لأمريكا، ويقول إن النظام الأمريكي تحول إلى نظام قمعي استبدادي ويضيف: “لقد عشنا أياما أفضل”. أما ويليام سافاير، صديق “إسرائيل”، والصحافي المقرب من البيت الأبيض ووزارة الخارجية بغض النظر عن الإدارة الموجودة في الحكم، فإنه يلخص الوضع بهذه الصورة: “عندما تجلس أمام الكمبيوتر، ينبغي ان تعرف ان هناك من يراقبك في مكتب التحقيقات الفيدرالية، حيث يطلع على بريدك الالكتروني، ويسجل المواقع التي زرتها، والأشياء التي تشتريها بواسطة بطاقة السحب الآلي عبر الانترنت، ويحتفظ بصورة عن الحوار الذي تجريه مع أصدقاء الأثير، يضاف إلى ذلك أن أي ورقة توقع عليها، وأي معاملة لك مع الدوائر الحكومية أو غير الحكومية يجري إرسال صورة عنها إلى التحقيقات الفيدرالية لكي تدخل في ملفك”.
وكل مواطن في الولايات المتحدة أصبح له ملف لدى الجهات الأمنية، وباختصار، تحولت أمريكا إلى نظام قمعي استبدادي من الدرجة الأولى، فالحرية الشخصية مصادرة، والجار يتجسس على جاره، والابن على أبيه، والموظف على زميله في العمل، وفي المطارات، يتعرض المواطنون لعمليات تصل إلى حد الإذلال بحجة مكافحة الإرهاب، وعمليات الاعتقال والتوقيف تجري بشكل عشوائي. وقبل مدة أصدر الصحافي والإعلامي الأمريكي من أصل لبناني ريمون حنانيا كتابا بعنوان “سعيد لأنني أشبه الإرهابيين” تحدث فيه بمرارة عن المتاعب التي يواجهها في المطارات الأمريكية لمجرد أن ملامحه شرق أوسطية.
وليست هذه المرة الأولى التي تصادر فيها أمريكا حقوق مواطنيها وتفرض حجرا على حرياتهم، فأثناء الحرب الأهلية أغلق ابراهام لينكولن الصحف في كل الولايات، ووضع معارضيه من الصحافيين والكتاب والناشرين والأدباء والفنانين في السجون، ولم ترتفع سبابات الاعتراض، ولم يسأله أحد ماذا تفعل. وأثناء الحرب العالمية الأولى، اعتقل وودرو ويلسون الذين يناهضون قراره بالمشاركة في الحرب، وعددا كبيرا من الكتاب والفنانين ووصفهم بالشيوعيين والفوضويين، وأودعهم في السجون، ولم يخرجوا إلا بعد انتهاء الحرب. وأثناء الحرب العالمية الثانية جرى اعتقال كل المواطنين الأمريكيين من أصل ياباني، ووضعوا في معسكر اعتقال محاط بالأسلاك الشائكة في صحراء أريزونا إلى حين انتهاء الحرب. والزنوج لم يحصلوا على الحد الأدنى من حرياتهم إلا في الستينات، رغم أنهم يشكلون نسبة كبيرة من المواطنين في الولايات المتحدة.
وفي الخمسينات، أثار السيناتور جوزيف مكارثي (جمهوري من ولاية أركنساس) موجة من الرعب في كل أرجاء أمريكا عندما تحدث عن النفوذ الشيوعي في الإدارة والجيش، وانتزع ورقة من جيبه، في مشهد استعراضي، وقال: “هذه الورقة تحتوي على قائمة بأسماء كل عملاء الاتحاد السوفييتي في الإدارة والجيش”. ولم تكن الورقة تحتوي على أسماء أو أي شيء، فقد كانت فارغة تماما، ومع ذلك فإنها أثارت موجة من الهلع دفعت كل أمريكي إلى التعاون مع المخابرات الفيدرالية لكي ينفي عن نفسه تهمة الشيوعية.
وفي الظاهر، يبدو النظام الأمريكي ديمقراطيا، أما في الواقع فإنه من أكثر الأنظمة شراسة وقمعاً، لأن النظام الذي يستطيع أن يتسلل منه الاستبداديون لممارسة استبدادهم هو نظام استبدادي حتى لو لبس قناعاً ديمقراطياً.
أبو خلدون
فنجان قهوة
مشاهير العزاب
سقراط، الحكيم اليوناني، استسلم للقدر الذي لا مهرب منه، وتزوج، ولكنه كان يرى أن الزواج قسمة ونصيب، وباب للسعادة أو الفلسفة، وكان يقول لابنه: “تزوج يا بني، فإذا كانت زوجتك صالحة فإنك ستعيش سعيداً، وإذا كانت غير ذلك، فإنك ستصبح فيلسوفاً”.
ونابليون بونابرت أمضى حياته يفتش عن المرأة، حتى عثر على جوزفين، فحولته إلى امبراطور، وتحولت هي إلى “صاحبة القلب الذهبي” في فرنسا، أما الأديب الكبير عباس محمود العقاد فلم يكن يتصور الحياة، تحت سقف واحد، مع كائن يصرف من الوقت في ترتيب التسريحة أكثر من الوقت الذي يصرفه في حشو ما تحت التسريحة، ولذلك أضرب عن الزواج، وعندما توفي، لم يكن حوله سوى مجموعة من الكتب.
وهذا ما فعله جبران خليل جبران الذي كان يدعو للحب، ولكن ليس للزواج، ويقول: “إن الأشجار لا تنمو في ظلال بعضها، والناي يعطي ذلك اللحن الشجي لأن أوتاره مؤتلفة، ولكن متباعدة”، وهذا أيضاً ما فعله يوسف إدريس، الكاتب الرائع الذي رشحته دولته أكثر من مرة لجائزة نوبل في الأدب، والمؤرخ الدكتور جمال حمدان الذي لم يكن يشعر بالارتياح تجاه الجنس الذي لم يعد لطيفاً، وطوال حياته التي استمرت 64 عاما فرض على نفسه حصاراً شديداً لم تتمكن أية أنثى من اختراقه، إلى درجة أنه قاطع صديقه الراحل أحمد بهاء الدين في بداية الثمانينات لأنه طالبه في العمود اليومي الذي كان يكتبه في جريدة الأهرام بعنوان “يوميات” بالزواج. ومحمود درويش تزوج لفترة بسيطة جداً، ثم تراجع، وقد أحسن فعلاً.
وبعض العزاب من المشاهير لهم تبريراتهم الخاصة لعزوفهم عن الزواج، فعبد الحليم حافظ كان يقول إنه يرفض الزواج بسبب مرضه، مع أن التاريخ يذكر لنا أن البعض تزوج من المرأة التي يحب في اللحظات الأخيرة من حياته، ومن هؤلاء هتلر، وفريد الأطرش الذي ضحى بالمرأة التي يحبها احتراماً لتقاليد عائلته التي ترفض الزواج من خارج العائلة، ولكنه رفض الزواج من أية امرأة أخرى، وضياء الدين داود، زعيم الحزب الناصري في مصر الذي كان يقول إن السياسة لا تقبل ضرة.
وحلمي مراد عض أصابعه ندماً لأنه بقي عازباً، ولكن بعد فوات الأوان، فقد كان يرى أن الجمع بين الإبداع، سواء كان أدبياً أو فلسفياً أو فنياً أو سياسياً، يحتاج إلى انطلاق يتنافى تماماً مع قيود الزواج.
والطريف أن أحدث نظريات علم النفس تخالف تماماً هذا الرأي، فقد أعلن أحد العلماء أن الأعزب الكبير في السن إنسان غريب يشكل خطراً على المجتمع، وهو بحاجة إلى مستشفى للأمراض العصبية، وليس إلى حرية وانطلاق، وقال إن 90% من العزاب الذين تعدوا سن الزواج بحاجة إلى مراجعة طبيب نفساني على وجه السرعة، قبل استفحال خطرهم على المحيطين بهم، وقال هذا الطبيب إن عزوف الرجل عن الزواج يعني أنه يعاني من خلل ما يجعله غير قادر على التعامل مع الجنس الآخر، أو انطوائياً يعاني من قلق مزمن واكتئاب حاد، ومن النوع الذي لا يتحمل المسؤولية، أو التكيف مع وجود شخص.
والطريف أن عالم النفس هذا أعزب، وعندما سئل عن سبب عزوفه عن الزواج تذرع بما يتذرع به العزاب عادة بأن النصيب لم يطرق بابه، وأن مسؤوليات العمل والبحث العلمي سرقت وقته ولم تترك له أي مجال لإقامة علاقة مثمرة مع أية امرأة.
أبو خلدون
فنجان قهوة
ابناء المشاهير
في أواخر السبعينات، عندما بدأ عادل إمام يرسخ أقدامه كأفضل ممثل كوميدي في الجيل الجديد من الفنانين، ظهر على مسارح القاهرة ممثل ناشئ يشبهه في الشكل، ويقلده في كل شيء، في حركاته وإيماءاته وطريقته في الكلام، وطريقة لبسه، إلى درجة أن الجمهور كان يحس كأن عادل إمام هو الذي يقف على المسرح. وسمع عادل إمام بالممثل الجديد فقرر حضور أحد عروضه. وأثناء العرض، فاجأ الجمهور بالصعود إلى المسرح وقال للممثل الذي يقلده: “أنا بالفعل معجب بك، فأنت تشبه عادل إمام أكثر من عادل إمام نفسه، ولكنني أحس بأن كل طموحك هو أن تكون مثل عادل إمام، بينما طموحي أنا هو أن أتجاوز نفسي دائما إلى الأفضل، واذا تمكنت أنت من تحقيق طموحك فإنك ستصبح مثلي، بينما أكون أنا قد تجاوزت نفسي بكثير، ولذلك أنصحك بأن تكون أنت، وأن تصنع شخصية مستقلة لك لا تقلد فيها أحدا لكي تحقق النجاح” وصافح الممثل وسط تصفيق الجمهور.
شيء من هذا القبيل فعله عادل إمام مع أولاده، فقد ساعد ابنه رامي، في بداية مشواره الفني، بأن أسند إليه إخراج فيلم “طيور الظلام” الذي يؤدي هو دور البطولة فيه، ولكنه رفض بعد ذلك إسناد أي عمل سينمائي آخر له، من الأفلام التي قام ببطولتها، وطلب منه أن يشق طريقه بنفسه دون الاعتماد على شهرة والده، وبالفعل نجح رامي في إخراج بعض الأفلام الجيدة بعيداً عن وساطة والده. وعندما اقترح المخرج علي إدريس مشاركة ابن عادل إمام الثاني “محمد” في الفيلم الجديد “مرجان أحمد مرجان”، رفض عادل إمام بشدة، وطلب إسناد الدور إلى الممثل الشاب إبراهيم سلامة، وبرر رفضه بالقول إن شريف سلامة أنسب للشخصية، وسيضفي عليها مصداقية أكبر، وطلب من ابنه الاعتماد على نفسه في شق طريقه نحو النجومية، كما فعل شقيقه رامي.
وعادل إمام هو الشذوذ الذي لا يبطل القاعدة، ففي الوسط الفني في كل مكان يدور الحديث عن “الأولاد المحظوظين” الذين يجدون كل السبل ممهدة أمامهم للوصول إلى النجومية، لا لشيء إلا لأن آباءهم أو أمهاتهم من المشاهير، فمحمد عدوية تسلق فوق كتف والده أحمد عدوية، وحبة فوق وحبة تحت تحول إلى مطرب، وماهر العطار خبت شهرته في وقت مبكر، ومع ذلك فإنها ظلت كافية لدفع ابنه أحمد للعثور على موطئ قدم في الغناء. ولولا شهرة فريد شوقي لما تمكنت ابنته رانيا من الحصول على أدوار في الأفلام بهذه السهولة، وفي مقابلة تلفزيونية أجريت معه مؤخرا تحدث محمود ياسين عن موهبة ابنته وزوجته، ولكن لولا شهرته هو لما تمكنت الاثنتان من شق طريقهما في عالم الفن الحافل بالمطبات.
وما يقال عن الوسط الفني عندنا ينطبق على هوليوود، فمعظم أبناء الفنانين المشهورين لا يتمتعون بموهبة فنية وكل ما يجيدونه هو الإدمان والسهر والحفلات الصاخبة، ومع ذلك فإن شهرة آبائهم فتحت لهم كل الأبواب المغلقة.
وقسمت، ابنة الفنان الراحل فكري أباظة لم يكن لها حظ في التمثيل، ولم يحاول والدها فرضها على الوسط الفني، ولكنها تستغل الآن شهرة ابيها لفرض حفيده محمد، وعندما قررت إحدى الشركات إنتاج مسلسل تلفزيوني عن حياة رشدي أباظة بعنوان “الدونجوان”، أصرت قسمت على أن يؤدي ابنها محمد الدور تحت طائلة التهديد بمنع تصوير المسلسل. وعرضت الشركة إسناد دور رشدي أباظة في مرحلة الشباب لممثل موهوب هو أحمد عز، على أن يؤدي الفنان محمود حميده دور رشدي في مرحلة متأخرة من العمر، ولكن قسمت صادرت دور المخرج وأصرت على الرفض بدعوى أن ابنها أفضل من يقوم بتجسيد شخصية جده لتشابه الملامح بينهما، وأضافت أن ابنها سيكون أحد نجوم المستقبل، وهو قادر على إعادة أمجاد والدها السينمائية.
وموقف السيدة قسمت مفهوم، فهي تريد أن تضع ابنها على اكتاف جده، حتى بعد وفاة الجد، لكي يسترجع أمجاد الأباظيين ونجوميتهم ونفوذهم، وبذلك فإنها لم تحد عن قاعدة “توريث الأبناء” المعمول بها في الوسط الفني.
أبو خلدون
فنجان قهوة
شرق أوسط مهووس
تأثير العمليات العسكرية التي تنفذها “إسرائيل” في الضفة الغربية وغزة في أطفال هذه المناطق ينبغي أن نوليه ما يستحقه من اهتمام، لأنه مؤشر لمستقبلنا، فقد كشفت دراسات الأمم المتحدة، والتقارير التي أعدها أطباء متطوعون من الأجانب يعملون في الأراضي المحتلة أن هذه العمليات أدت إلى إصابة 70% من الأطفال الفلسطينيين باضطرابات نفسية خطيرة تظهر بوضوح في سلوكهم وردود أفعالهم التي باتت محكومة بالعنف، وأن هؤلاء يستجيبون لبعض المؤثرات الصوتية بشكل تشنجي، ويقول أحد الأطباء في جمعية “أطباء بلا حدود” العالمية إنه يعالج حالات لأطفال دون العاشرة يصابون بحالة هستيريا كلما سمعوا دوياً، وهم يستقبلون أصوات القذائف بالصراخ، والتشنج الذي ينتهي إلى الغيبوبة.
ويقول الأطباء إنهم يعالجون أطفالا أصيبوا بما يطلق عليه العلماء اسم “رجفة الشيخوخة”، وهو مرض عادة ما يصيب الأشخاص الذين تخطوا سن السبعين، ولا يصيب الأطفال أو الشباب. وهناك كشوفات تشير إلى أن نسبة كبيرة من الأطفال في الضفة الغربية وغزة مصابون بأمراض مختلفة مثل: ضيق التنفس، وسوء السمع، والتأتأة، والإسهال، والتوتر الدائم. وفي تقرير أعدته صحيفة “اللوموند” الفرنسية عن تأثير سياسة القتل والتشريد وهدم المنازل التي تتبعها “إسرائيل”، في صحة الأطفال النفسية، ورد أن 30% من الأطفال في الضفة الغربية وغزة بحاجة إلى إعادة تأهيل نفسي، وما يزيد على 70% من السكان يعانون من اضطرابات عصبية، وبعض الأطفال يعانون من الصرع، والنوبات، والفورات العاطفية المفاجئة، وقالت المجلة: “إن عالم الحرب الذي يغطي الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وغزة هو الغلاف العام الذي يغطي تحته عوالم أخرى حافلة بالمآسي، والأزمات، والتوترات، والأمراض النفسية على أنواعها، في مجتمع يفقد يوميا سماته الإنسانية، يضاف إلى ذلك حالة اللااستقرار التي يعيشها الأطفال، فالطفل في الأراضي المحتلة لا يجد، بشكل عام، مكانا ملائما ونهائيا لاستقراره، وهو يضطر إلى التنقل مع والديه لدى تهديم منزلهم، أو الاستيلاء عليه، أو تعرض المنطقة التي يوجد فيها المنزل للخطر والاجتياح من جانب القوات “الإسرائيلية”، حيث يرحل الوالدان إلى منازل أقاربهما، إلى أن يزول الخطر، وهذا الوضع يفاقم حالة التوتر، ويحيط الطفل بهواجس عديدة، ليس أقلها عرقلة عملية بناء علاقات مع الأسرة والخارج، الأمر الذي يساعد على نسف الحلم لديه، وإفقار ذاكرته وتشتيتها على بقعة جغرافية كبيرة، معظمها أصيب بالدمار.
وفي فلسطين والعراق ولبنان، حيث عاش الناس مآسي الحروب حتى الأعماق، لا يزال الأطفال محاصرين بتجليات الحرب النفسية. وأطفال لبنان الذين عاشوا كوابيس الحرب الأهلية، وأطفال العراق الذين ولدوا مع بداية الحرب العراقية الإيرانية وعاشوا كارثة حرب الخليج الثانية والحصار والغزو الأمريكي، وأطفال المناطق المحتلة الذين ولدوا على أصوات الانفجارات وطلقات البنادق، كل هؤلاء أصبحوا الآن شبابا، ولكنهم عاشوا حياتهم كلها يفتقرون إلى الأمن، والغذاء، والدواء، والاستقرار النفسي، وقسم كبير منهم يعاني من تجليات الحرب، وعندما نسمع المسؤولين في إدارة بوش يعلنون تمسكهم باستراتيجيتهم للشرق الأوسط الجديد حتى لو أدى الأمر إلى توسيع الحرب خارج العراق، نتصور صورة هذا الشرق الأوسط الذي تخوض أمريكا الحروب من أجل إقامته: إنه شرق أوسط يعاني معظم سكانه من التشنج والهلوسة والأمراض النفسية.
أبو خلدون
فنجان قهوة
الصحافة والأخلاق
ذات يوم، تساءل الفيلسوف بيسلي في كتاب له يحمل العنوان ذاته: “الصحافة والأخلاق هل يتعايشان؟” وكان جوابه بالنفي، فهو يرى أن الصحافة الغربية تخضع لهيمنة الشركات التجارية بالكامل، وهي تعبر عن الحقائق كما تراها هذه الشركات، لا كما هي في الواقع، ولكنه حث الصحافيين على “تعويد أنفسهم” على التمسك بالأخلاقيات المهنية، بما لا يضر “متطلبات صناعة الصحافة” ومتطلبات السوق. وذات يوم، سئل اللورد طومسون، ناشر الصنداي تايمز، عن مفهومه للجريدة فقال: “صفحات اعلانية فيها مساحات فراغ تغطى بالاخبار”.
ولو كتب بيسلي كتابه في العالم الثالث لربما حصل على إجابة مختلفة تماما، فالصحافة عندنا لا تخضع لضغوط السوق، والشركات الكبيرة في العالم الثالث لا تمارس هيمنة على الصحف كما هو الوضع في الولايات المتحدة، وعلى قدر ما تسعفني الذاكرة، فإني لا اعتقد، خلال ما يقرب من أربعة عقود ونصف من عملي في الصحافة أن صحافياً عربياً فقد عمله لأن إحدى الشركات غير راضية عنه، كما يحدث في الولايات المتحدة، كما لا أذكر أنني وجدت أخلاقياتي المهنية في صراع حقيقي مع واجبي طوال هذه المدة.
وعلى الانترنت تقرير مثير بعنوان “لو عرف الأمريكيون الحقيقة” يكشف الانحياز الكامل الذي تمارسه الصحف الأمريكية الكبرى فيما يتعلق بتغطية أخبار الصراع في الشرق الأوسط، وقبل أيام صدر تقرير جديد من إعداد مجموعة من العلماء الأمريكيين والاستراليين حول تغطية مجلة “نيو انجلاند جورنال أوف ميديسين” التي تعتبر من أبرز وأشهر المجلات الطبية المختصة في العالم، للتطورات الجديدة في الأبحاث الطبية، ويقول العلماء الذين أعدوا التقرير “إن المجلة تتعمد إغفال الحديث عن الآثار الجانبية للعقاقير الطبية الجديدة، وتبالغ في الحديث عن فاعليتها، وتخفي عن الجمهور مصادر تمويل الأبحاث”.
ويقول العلماء في تقريرهم إنهم رصدوا، إلى جانب “نيو إنجلاند جورنال أوف مديسين”، 200 تقرير في الصحف الأمريكية وشبكات التلفزيون المعروفة، مثل ال “ان بي سي”، وال “آي بي سي”، وال “سي بي أس” وال “سي. ان. ان” فاكتشفوا أن الشركات المنتجة للأدوية ترفض بإصرار في 40% من الحالات كشف مصادر تمويل الأبحاث، وفي60% ذكرت فوائد في الدواء ليست فيه، وفي 17% قالت إن فائدة الدواء مطلقة، بينما هو يحتوي على تأثيرات جانبية ينبغي أخذها بعين الاعتبار.
ولا أريد أن استعرض الأدوية التي شملها البحث، لأن القضية قياسية تتعلق بسياسة أجهزة الإعلام الطبي، وليس بدواء معين، وفي هذا المجال يلاحظ العلماء أن 15% من التقارير، فقط، تحدثت عن إيجابيات الدواء وآثاره الجانبية.
ويلاحظ الدكتور ستيفن سوميراي، رئيس قسم الأبحاث الطبية في جامعة هارفارد التي تعتبر واحدة من أفضل خمس جامعات عالمية، والذي ترأس فريق البحث الأمريكي الاسترالي الذي أعد الدراسة أن النتائج التي توصل إليها فريقه مهمة جدا، ويضيف: “ليس لدى الجمهور الوقت الكافي لقراءة الأبحاث الطبية المختصة، ولذلك فإنه يعتمد على أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة لمعرفة فوائد هذا الدواء ومضاره، وإذا كانت هذه الأجهزة تتحدث عن الإيجابيات وتغفل السلبيات، فإنها تخون بذلك ضميرها المهني” وتنصح البروفيسورة ليزا آن بيرو، أستاذة علم الصيدلة في جامعة كاليفورنيا سان فرانسيسكو، التي شاركت في الدراسة الجمهور بتجاهل كل خبر أو نشرة صحافية تتحدث عن فوائد الدواء فقط، وتغفل السلبيات، وتقول: “إن خبرا من هذا النوع لا يعدو كونه جزءا من حملة إعلانية تخلى فيها الصحافي عن واجبه المهني وتحول إلى مندوب إعلانات”.
أبو خلدون
فنجان قهوة
وباء اسمه العلاج المزيف
الأمراض السارية التي كنا نظن أننا تخلصنا منها بفضل التقدم الذي أحرزه الطب عادت لتفتك بالبشرية من جديد، ويقول المسؤولون في منظمة الصحة العالمية إن الملاريا تحصد حالياً ما يزيد على مليون ضحية سنوياً، ولكنهم يضيفون ان هذا العدد يمكن ان ينخفض إلى 200 ألف لو كان اللقاح الذي يستخدم ضد الملاريا “أصليا”، وإذا التزم المرضى بإرشادات الأطباء في استعماله.
ومشكلة اللقاحات غير الأصلية التي تنتجها بعض فروع شركات الأدوية في هونج كونج وجنوب شرق آسيا، التي تتاجر بآلام الناس، وتصدرها إلى الدول الفقيرة تحولت إلى مشكلة عالمية، ففي تحقيق أجري مؤخرا تبين أن 53% من لقاحات الأمراض السارية في جنوب شرق آسيا مزيفة. وفي الشهر الماضي ضبطت نيجيريا شحنة تزيد قيمتها على 25 ألف دولار من اللقاحات المزيفة. وعملية التزييف تتم بشكل دقيق يصعب تمييزه، فغلاف اللقاح، وشكله الخارجي يشبه الأصل تماما، وحتى العلامات المميزة للشركة الأصلية المنتجة (الهولوجرام) التي لا ترى إلا بالأشعة تحت الحمراء موجودة أيضا، ولكن عندما تفحص الدواء في المختبر تكتشف أنه لا يحتوي على أي من المكونات التي تكافح المرض، وأنه مصنوع من مساحيق الطباشير والنشا والطحين. وفي بعض الأدوية تضاف مواد كيماوية تعالج أعراض المرض ولكنها لا تشفي، ومثال على ذلك فإن اللقاح المضاد للملاريا يحتوي على نسبة من مادة الأسيتامينوفين، وهذه المادة تخفف من حدة الحمى التي تصاحب الملاريا ولكنها لا تقضي على جرثومة المرض، وهكذا فإن المريض، عندما يأخذ هذا الدواء الزائف ويلاحظ أن حدة الحمى خفت يعتقد أنه استفاد بينما هو غير ذلك. بل إن بعض لقاحات الملاريا الزائفة تحتوي على نسبة قليلة من مادة الأرتيميسينين المضادة للملاريا ولكن ليس بالقدر الذي يكفي لقتل جرثومة المرض وإنما بالقدر الذي يكشف وجود هذه المادة في الدواء عند فحصه في المختبرات. ولو شاءت أية جهة صحية إجراء فحوصات على الدواء فإنها لن تجد حرجا في إجازته واعتباره صحيحا. وخطورة هذا النوع المزيف من الأدوية هي أن جرثومة المرض تكوِّن مناعة ذاتية ضد اللقاح تنتقل من شخص إلى آخر عن طريق البعوض مثلا، وتنتشر بين الناس، وعندما يجري استخدام لقاح أصلي للملاريا لا يستجيب المرضى له، لأن جراثيم المرض لديهم تحصنت ضد اللقاح، وقد حدث شيء من هذا القبيل بالنسبة لأدوية مثل الكلوروكوين والفانسيدار المضادين للملاريا، حيث كونت جرثومة الملاريا مناعة ضد هذين العقارين ولم يعودا يؤثران فيها.
ويقول البروفيسور ديفيد فيرنهو، الخبير في عمليات تزييف الأدوية، إن عصابات الأدوية المزيفة كونت شبكات موسعة تشبه الشبكات التي تعمل في تجارة المخدرات، فهم يلجأون إلى وسائل غريبة للتهرب من السلطات، كما أنهم أصبحوا من القوة بحيث تصعب مواجهتهم.
وعندما يتحدث البروفيسور بول نيوتن، مدير مركز جامعة أوكسفورد للأمراض القارية في فينتيان في لاوس عن عصابات الأدوية المزيفة يقول: “لا أجد نفسي مضطرا للاعتذار عندما أقول إن هؤلاء يمارسون الإبادة الجماعية”.
ومشكلة الأدوية المزيفة غير موجودة لدى الدول الغنية، ومن ضمنها دول الخليج، وأوروبا، والولايات المتحدة، لأن هذه الدول تشتري لقاحاتها من الشركات العالمية المعروفة، ولكنها تنتشر على نطاق واسع في الدول الفقيرة التي ينتشر فيها الفساد، وخصوصا في افريقيا، ويكون الفقير المسكين هو الضحية.
أبو خلدون