مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
إياهما، وعند رؤيته لهما اعتمل في صدره شعور بالعزاء، فقد كان دفع مقابلها ست غنمات، إنهما حجران ثمينتان انتزعتا من قلادة ذهبيّة، كان بمقدروه بيعهما وهكذا يستطيع أن يحصل على بطاقة عودته.
- سأصبح من الآن أكثر خبثاً ـ فكّر وهو يستخرج الحجرين ليخبئهما في قعر جيبه، كان في الميناء والشيء الصادق الوحيد الذي قاله ذلك اللص: الميناء يعجّ دائماً باللصوص.
فهم الآن جهود صاحب المقهى اليائسة، فقد كان يحاول أن يقول له بألا يثق بذلك الرجل، أنا ككل الآخرين: أنظر إلى العالم كما أتمنى أن يكون، وليس كما تجري الأمور في الواقع.
بقي يتفحّص الحجرين الثمينتين، داعبهما بلطف وتحسس حرارتهما ونعومتهما، إنهما نزه الوحيد، ومجرّد لمسهما كفيل لأن يزرع في نفسه نوعاً من الشعور بالسكينة فقد كانتا تذكّرانه بالرجل العجوز: " عندما تريد شيئاً بالفعل، فإن الوجود كلّه يتضافر ليهيئ لك الحصول عليه ".
كان يتمنّى لو يفهم كيف يمكن لهذا أن يكون صحيحاً.
الآن يجد نفسه هناك على ساحة سوق مقفرة، لايملك درهماً في جيبه، دون أغنام يحرسها في الليل، أما الحجران فقد كانتا تشكّلان الدليل الذي يثبت أنه قد التقى ملكاً يعرف أسطورته الشخصية، وعلى اطّلاع بما قد فعله بسلاح أبيه، وبتجربته الجنسيّة الأولى.
الحجران تفيدان في التنبؤ وتدعيان " أوريم وتوميم "، أعادهما إلى مكانهما في الجعبة وقرر أن يقوم بالتجربة، فالعجوز كان قد قال له أن عليه طرح أسئلة واضحة، لأن الحجرين لاتفيدان السائل في شيء إن لم يكن يعرف مايريد.
عندئذٍ سأل الشاب إن كانت بركة العجوز ترافقه دائماً، سحب من جيبه واحد من الحجرين فكانت "نعم"، ثم سأل هل سأجد كنزي؟ وضع يده في جيبه ليمسك بواحدة منها، عندها انزلقتا كلتاهما من ثقب موجود في القماش، لم يكن قد لاحظ قط أن جعبته مثقوبة، انحنى ليلتقط أوريم وتوميم، ليعيدهما إلى الكيس، ولكن عند رؤيته لهما على الأرض، مرّت في ذاكرته جملة أخرى: " تعلّم أن تتبع وأن تحترم العلامات "، هذا ماكان قد قاله الملك العجوز أيضاً.
علامة ! وشرع الشاب بالضحك لوحده، ثم التقط الحجرين، أعادهما إلى جعبته الفتوقة، والتي لم يكن لديه أية رغبة في إصلاحها. تستطيع الحجران الهرب من هذا الثقب إن أرادتها، كان قد فهم أن هناك بعض الأشياء التي لايجوز للمرء أن يطلبها كي لايهرب من قدره المحتوم.
- لقد وعدت أن أتخذ قراراتي الخاصة بنفسي ـ قال في نفسه، لكن الحجرين كانتا قد أحبرتاه بأن العجوز كان دائماً إلى جانبه، وهذا الجواب أعاد له الثقة بنفسه. نظر مليّاً من جديد إلى السوق المقفرة، ولم يعد يشعر باليأس الذي كان يعذّبه من قبل، ولم يعد العالم الذي يحيط به عالماً غريباً، بل صار عالماً جديداً، فبعد كل شيء، هذا ماكان يرمي إليه: " معرفة عوالم جديدة، فحتى لو لم يصل إلى أهرامات مصر، فقد ذهب إلى أبعد مما يذهب إليه أي راعٍ آخر ".
- آه ! ليتهم يعلمون أنه بأقل ساعتين من السفر في القارب يوجد الكثير من الأشياء المختلفة ... ـ قال لنفسه.
تبدى العالم الجديد أمام ناظريه على شكل سوق أسبوعية مقفرة، في حين كان قد رأى هذا المكان من قبل يغصّ بالحياة، وهو لن ينساه، تذكّر السيف الذي دفع ثمناً غالياً من أجل تأمله لحظة، وفجأة شعر أن بإمكانه أن ينظر للعالم إما من خلال نظرة ضحية السارق البائسة، أو من خلال نظرة المغامر الذي يسعى وراء كنز.
- إنني مغامر يسعى بحثاً عن كنز ـ فكّر قبل أن يغط منهكاً في نومٍ عميق.
× × ×
أفاق وهو يحس بأن أحداً ما يهزّه من كتفه، كان قد نام وسط ساحة السوق الأسبوعي الذي بدأت تدب فيه الحركة، نظر حوله باحثاً عن أغنامه، لكنّه تنبه إلى أنه الآن في عالمٍ آخر، واستبدل الإحساس بالحزن الذي يكابده بإحساس السعادة، وأصبح بمقدوره الآن الانطلاق، وأن يكد للبحث وراء الطعام والشراب، وصار أكثر إصراراً في البحث عن الكنز، لم يكن لديه درهم في جيبه، لكنّه يملك الإيمان بالحياة، ومساء الأمس اختار أن يكون مغامراً مشابهاً لشخصيات اعتاد أن يقرأ عنها في الكتب.
أخذ يتنزّه على أرض الساحة بتريّث، حيث كان التجار قد أخذوا بنصب براكاتهم، فساعد رجلاً يبيع السكاكر على نصب براكته، وكانت ترتسم على وجه هذا الرجل ابتسامة لامثيل لها، كان جذلاً للغاية، يفيض حبوراً، ومنفتحاً على الحياة، ومستعداً للقاء يوم عمل جيّد.
ابتسامته تذكّر نوعاً ما بالشيخ، ذلك الملك العجوز الغريب، الذي كان قد تعرّف عليه.
- هذا لايصنع الحلوى، لأنه يريد السفر، أو الزواج من ابنة تاجر، كلاّ إنه يصنع السكاكر لأنه يحب هذه المهنة ـ فكّر الشاب ـ ثم لاحظ أنه كان قادراً على فعل مايفعله الشيخ، وهو معرفة إن كان المرء قريباً أو بعيداً عن أسطورته الشخصية.
- هذا سعل مع أنني لم أكن قد تبيّنت ذلك أبداً.
عندما فرغا من تركيب البراكة، قدّم له الرجل ما أعدّ من الحلوى، فأكلها بسرور كبير، ثم شكره وانطلق في طريقه، وبعد أن ابتعد قليلاً عنه رواده التفكير بأن البراكة قد نصبت من قبل شخصين اثنين، أحدهما يتكلّم العربية، والآخر الأسبانية، ومع ذلك كانا متفاهمين.
- توجد لغة فيما وراء الكلمات ـ حدّث نفسه ـ لقد حصلت على هذه الخبرة من قِبَل الأغنام وهاأنذا أتوصّل إلى ذلك مع البشر.
إنه يتعلّم أشياء جديدة ومتنوعة كان قد اختبرها من قبل، ومع ذلك فهي جديدة لأنها قد وجدت مصادفة عبر دربه دون أن يكون قد حسب لها حساباً، هذا لأنه اعتاد على مثل هذه الأشياء.
- لو أستطيع أن اتعلّم فك رموز هذه اللغة التي تتجاوز الكلمات لاستطعتُ فكّ رموز العالم.
- " كل شيء هو شيء واحد وفريد " ، هذا ماقاله الرجل العجوز.
قرر أن يجوب بكل هدوء شوارع " طنجة " الصغيرة، فبهذه الطريقة فقط سينجح بإدراك العلامات، وهذا يتطلّب دون شك قدراً كبيراً من الصبر، لكن الصبر هو الفضيلة الأولى التي يتعلّمها الراعي.
ومرة أخرى فهم كيف يطبّق عمليّاً، في هذا العالم الغريب، الدروس نفسها التي تعلّمها من أغنامه.
- " فكلّ شيء هو شيء واحد وفريد "، كان قد قال الرجل العجوز.
× × ×
رأى تاجر الزجاجيّات شروق الشمس، فأحس بالغم الذي كان يكابده عند مطلع كل صباح، فهو في المكان نفسه منذ مايقارب الثلاثين عاماً، وكان متجره يقع في قمّة طريق منحدرة، ومن النادر مرور زبون واحد من هناك، وقد فات الأوان على التاجر كي يغيّر مهنته، فكل ماكان قد تعلّمه عبر حياته كلّها هو بيع وشراء الزجاجيّات.
جاء وقت صار فيه متجره معروفاً من قِبل كثير من الناس.
تجار عرب، جيولوجيون فرنسيون وإنكليز، وجنودٌ ألمان، وكلّهم لديهم المال الوفير، في حين أن بيع الزجاج في ذلك الوقت كان يشكّل مغامرة كبيرة، وقد تخيّل كيف سيصبح رجلاً غنيّاً، وسيكون عنده تلك االنسوة الجميلات كلهنّ عندما يشيخ.
مضى الوقت بطيئاً، والمدينة على حالها، وازدهرت مدينة " سبتة " أكثر من " طنجة " وأخذت التجارة منحنى آخر، ولم يبق بعد زمن قليل إلا بعض المحلاّت القليلة في المرتفع، ولن يأتي من يتسلّق طريقاً منحدرة من أجل هذه المخازن التعيسة.
أما تاجر الأواني فلم يكن ليملك الخيار، فقد عاش الثلاثين عاماً من عمره في بيع وشراء الزجاجيّات، وصار الوقت متأخراً كي ينخرط باتجاه آخر.
طوال فترة الصباح، كان يراقب الرائحين والغادين القلائل في الطريق الصغيرة، وهذا ماكان يفعله منذ سنوات حتى صار يعرف عادات المارّة فرداً فرداً.
وقبل موعد الغداء بلحظات قليلة توقف شاب غريب أمام واجهة المتجر. كان يرتدي كسائر الناس، لكن تاجر الزجاجيّات اكتشف ببصيرته الثاقبه أنه لم يكن يملك المال.
وعلى الرغم من ذلك، فقد قرر أن يعود إلى متجره وينتظر بضع دقائق حتى ينصرف الشاب.
× × ×
على باب المتجر، كانت قد علقت يافطة تشير إلى أن صاحبه يجيد التكلّم بعدة لغات. لمح الشاب أحدهم يظهر خلف طاولة مبسط السلع، فقال له:
- إنني أستطيع تنظيف هذه المزهريات، ففي هذه الحالة التي هي عليها، فإن أحداً لن يشتريها، هذا إن أردت ذلك.
نظر التاجر دون أن ينبس ببنت شفة.
- بالمقابل، فإنك سوف تعطيني شيئاً آكله، اتفقنا؟
بقي الرجل صامتاً، وفهم الشاب أن عليه أن يتّخذ قراراً. كان معطفه في جعبته، ولم يكن بحاجة إليه في الصحراء، تناوله وأخذ ينظّف به الأواني الزوجاجية، وبعد نصف ساعة كان قد نظّف ماكان يوجد في الواجهة بينما دخل زبونان واشتريا عدداً منها، وعندما فرغ من تنظيفها كلّها، طلب من صاحبها أن يعطيه شيئاً يسد به رمقه.
- هيّا نتغدَّ ـ قال تاجر الزجاجيّات.
علّق لوحة على الباب، وذهبا إلى مقهى صغير في أعلى المرتفع، وبينما كانا جالسين على الطاولة الوحيدة هناك، قال بائع الزجاجيّات مبتسماً:
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
- لم يكن هناك أي داعٍ لتنظيف أي من الزجاجيّات، فالشرع القرآني يرغم على إطعام الجائع كائناً من كان هذا الجائع.
- لكن لماذا تركتني أقوم بهذا العمل؟
- لأن الزجاجيّات كانت متّسخة، وأنت مثلي، كلانا بحاجة لتطهير رأسه من الأفكر السيئة.
عندما فرغا من الطعام، التفت التاجر نحو الشاب:
- أريدك أن تعمل في متجري، فقد دخل اليوم زبونان بينما كنتَ تنظّف الزجاجيّات، إن في ذلك لعلامة حسنة.
- يتكّلم الناس كثيراً عن العلامات ـ فكّر الراعي ـ لكنّهم على الأصح لا يعلمون عمّ يتكلّمون، مثلهم مثلي، أنا الذي لم أكن قد لاحظت أنه طيلة كثير من السنين كنت أتكلّم مع أغنامي لغة دون كلمات.
- هل تريد أن تعمل لدي؟ ألح تاجر الزجاجيّات.
- أستطيع أن أعمل طيلة الوقت المتبقي من اليوم ـ أجاب الشاب ـ سأنظّف حتى طلوع الفجر الزجاجيّات كلّها، بالمقابل يلزمني بعض المال كي أكون غداً في مصر.
فجأة أخذ التاجر بالضحك وقال:
- لو نظّفت زجاجيّاتي طيلة عام بأكمله، أو كسبت عمولة جيّدة لقاء بيع أي قطعة منها، سيلزمك اقتراض المال الكثير كي تذهب حتى مصر، فآلاف الكيلومترات الصحراوية تفصل " طنجة " عن أهرامات مصر.
عندها خيّم فاصل من الصمت، وفجأة بدت معه المدينة غافية، فما عاد يُلمح فيها أي نشاط، وانتهت محادثات التجار فيما بينهم، وآذان الرجال الذين كانوا يصعدون إلى المئذنة قد توقف، ولم يقد يرى تلك السيوف الجميلة ذات المقابض المرصّعة.
لا رجاء، لا مغامرة، لا ملوك كبار لا أساطير شخصيّة، لا كنز ، لا أهرامات بعد الآن، كان يشعر كم لو أن العالم بأسره قد صار أخرس، لأن روحه قد غُلِّفت بالصمت.
لم يبقَ هناك ألم، أو عذاب، أو إخفاق، بكل بساطة لم يكن يملك إلا نظرة جوفاء تعبر باب الحانة ورغبة عارمة في الموت لدى رؤيته كل شيء ينتهي في هذه اللحظة وإلى الأبد.
نظر إليه ذلك التاجر محتاراً، فذلك السرور الذي كان قد لمحه على وجهه في ذاك الصباح قد اختفى فجأة.
- أستطيع أن أعطيك المال كي ترجع إلى بلادك يا بني ـ قال تاجر الزجاجيّات، لكن الشاب بقي صامتاً، ثم نهض، أصلح ثيابه، ولملم جعبته.
- سأعمل عندك ـ قال، ثم أضاف بعد فترة أخرى من الصمت.
- يلزمني المال لشراء بعض الأغنام .
× × ×
:: الجزء الثاني ::
لم يكن قد مضى أكثر من شهر على عمل الشاب عند بائع الزجاجيّات، لكن هذا العمل لم يكن هو الذي يطمح إليه حقاً، فالتاجر لم يكن يكفّ عن التذمر طوال النهار، آمراً إيّاه من وراء طاولته بأن ينتبه على الدوام إلى الحاجات المعروضة خشية أن ينكسر منها شيء، ولكنه بقي، فعلى الرغم من أن التاجر كان متذمّراً، فهو على الأقل لم يكن ظالماً، فقد كان يتلقّى منه عمولة لابأس بها لقاء كل قطعة تُباع، وقد استطاع حتى الآن ادخار بعض المال، وبعد أن قام بحساباته هذا الصباح، ألفى أنه لو عمل طوال اليوم، وبنفس هذه الشروط للزمه عام كامل كي يستطيع شراء بعض الأغنام.
- إنني أود ولو أقوم بعرض الزجاجيّات خارج المخزن، سيكون من المستطاع وضع رف في الخارج، إنه سيجذب المارّة من هناك في أسفل الجبل.
- لم يسبق لي أن فعلتُ شيئاً مماثلاً ـ أجاب التاجر ـ رفّ ! إن الناس ستصطدم به في الممر، والزجاج سوف يتهشّم.
- عندما كنتُ اطوف بأغنامي في القرى، فقد كان من الممكن أن يتعرّض بعضها للدغة أفعى، وتذهب ضحيّة ذلك، هذا الخطر يشكّل جزءاً من حياة الأغنام والرعاة.
راح التاجر يلبّي طلبات أحد الزبائن، لقد باع الآن ثلاث مزهريات من الكريستال، فقد نشط البيع أكثر من أي وقت مضى، وكأن العالم قد عاد إلى ماكان عليه عندما كانت الطريق المؤديّة إليهم واحدة من أهم الطرق التي تجذب الزبائن في " طنجة ".
- أصبح المارّة يتزايدون أكثر فأكثر ـ قال التاجر لمستخدمه عندما انصرف الزبون ـ وإن مانكسه الآن يمكن أن يؤمّن لي معيشة أفضل، ويمكن أن يسمح لك بشراء أغنامك في وقتٍ وجيز، ماذا نريد من الحياة أكثر من هذا؟
- هذا لأنه يتوجد علينا أن نقتفي العلامات ـ أجاب الشاب دون تفكير ـ لكنّه تأسف لأنه تكلّم هكذا، فالتاجر لم يكن قد مُنّي أبداً بفرصة لقاء ملك.
- هذا هو ماداعه الشيخ " المبدأ المناسب " أو " حظ المبتدئين "، لأن الحياة تريد للإنسان أن يحيا أسطورته الشخصية.
على كل حال، فهم التاجر جيداً عم كان يتحدثه مستخدمه، فحضور هذا الأخير يمثّل بحد ذاته علامة، وعلى مر الأيام وبازدياد المال الذي صار يكسبه بعد مجيئه لم يعد نادماً على استئجار هذا الشاب الأسباني، غير أن أجر هذا الأخير كان أكثر من العادي، وبما أنه كان يعتقد بأن البيع سيسر أيضاً نحو الأفضل، فإنه قد دفع للشاب مايستحقه كعمولة. لكن حدسه كان ينبئه أن الشاب سيعود عمّا قريب إلى أغنامه، سأله كي يغيّر الحديث بخصوص عرض البضائع:
- لماذا كنتَ تريد الذهاب لرؤية الأهرامات؟
- لأنهم تحدّثوا لي كثيراُ عنها ـ أجاب الشاب متحاشياً الكلام عن حلمه.
فالكنز صار الآن مسألة ذكرى مؤلمة باستمرار، وكان يحاول أن يمنع نفسه من التفكير به بعد.
قال التاجر:
- إنني ماعرفت أحداً هنا أراد اجتياز الصحراء فقط كي يرى الأهرامات، فهي ليست إلا كومة من الحصى، حتى أنك لتستطيع أنت أن تبني لنفسك هرماً في حديقتك.
- إنك لم تحلم إطلاقاً بالسفر ـ قال الشاب وهو يمضي ليلبي طلب زبون آخر آتى لتوّه إلى المخزن.
وفي اليوم الثالث، عاد الشاب إلى التحدّث مع معلّمه عن رف البضائع، قال:
- أنا لا أحب التغيير كثيراً، فأنتَ وأنا لسنا من " حسان "، ذلك التاجر الغني الذي لن يتأثر أبداً في حال خسارته بصفقة، أما نحن الإثنين، فسوف يتوجب علينا أن نتحمّل تبعة أخطائنا.
- هذا صحيح ـ أجاب الشاب.
سأل التاجر:
- لماذا تصرّ كثيراً على رفّ العرض هذا؟
- أريد العودة بسرعة إلى أغنامي، وعندما تهب رياحنا فعلينا أن نغتنمها، وأن نعمل مابوسعنا كي يحالفنا مايسمونه بـ " المبدأ المناسب " أو " حظ المبتدئ " .
بقي التاجر صامتاً للحظة ثم قال:
- منحنا النبي القرآن، الذي فرض علينا خمسة فروض فقط، علينا مراعاتها في حياتنا، الأكثر أهميّة منها هو ذا: وحدانية الإلة، والفروض الأخرى هي: الصلاة خسمة أوقات في اليوم، صيام رمضان، وواجب الزكان لمساعدة الفقراء، صمت بينما كانت عيناه مغرورقتين بالدموع وهو يتحدّث عن النبي. كان رجلاً ورعاً للغاية، وحتى لو كان يبدو غالباً لجوجاً ونافذ الصبر، فإنه يجهد للعيش منسجماً مع الشرع الإسلامي.
- وماهو الفرض الخامس ؟ ـ سأل الشاب
- منذ يومين سألتني إن لم أكن قد حلمتُ إطلاقاً بأحلام السفر. الفرض الخامس هو أن يقوم كل مسلم مؤمن بالسفر. فأنه يتوجب علينا أن نقوم خلال عمرنا برحلة واحدة على الأقل إلى مدينة "مكة المكرّمة". فـ " مكّة " أيضاً هي مدينة تبعد عنا أكثر من الأهرامات. وعندما كنت فتيّاً فضّلت أن أستثمر القليل نم المال الذي كنت أملكه في شق طريقي في هذه التجارة، على أمل أن أصبح غنيّاً، وأملك المال، لكنني لم أكن لأستطيع أن أعهد لأحد بعناية الزجاجيّات، لأنها أشياء حساسة، حينذاك كنت أرى مجموعات من الناس يمرّون على مخزني، في طريقهم إلى " مكة " ، كان من بينهم حجاج أثرياء يرافقهم موكب من الخدم، وجمال لكن معظمهم كان أكثر فقراً مني. كلّهم كانوا يذهبون ويعودون سعداء، وكانوا يضعون على أبواب مساكنهم رموز قيامهم بالحج، وأحد أولئك الحجيج كان حذّاءً، وكان يعيش من خلال إصلاح أحذية هذا وذاك، وقد أخبرني أنه قد مشى عاماً بكامله في الصحراء، ولكنّه كان يشعر بالتعب أكثر عندما كان يتوجّب عليه المرور على منازل كثيرة في " طنجة " لشراء الجلد.
سأل الشاب:
- لماذا لاتذهب الآن إلى مكّة ؟
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
- لأن مكة تجعلني اتمسّك بالحياة، وهي التي تمنحني القوة لتحمّل هذه الأيام الرتيبة، وهذه المزهريات المنضدة على الرفوف، والغداء والعشاء في هذا المطعم البائس، وأخشى أن أحقق حلمي، ثم أفقد كل رغبة بأن أبقى حيّاً. أما أنت ... فإنك تحلم بالأغنام، وبالاهرامات، أنت لست مثلي لأنك تريد تحقيق أحلامك، أما أنا فكل ما أريده هو أن أحلم بـ " مكة "، لقد تخيّلت من قبل آلاف المرات، عبور الصحراء ووصولي إلى الساحة التي يوجد بها الحجر المقدّس، والدورات السبع التي عليّ ان أتمّها قبل أن أستطيع لمسه، وتخيّلت من سيكون بجانبي أو أمامي، من الأقاويل والدعوات التي سنقولها ونتبادلها معاً. لكنني أخشى ألا يكون ذلك سوى خيبة كبيرة، ولهذا أفضّل أن أكتفي بالحلم.
وفي ذلك اليوم سمح التاجر للشاب بإنشاء رف عرض البضائع، فليس بنفس الطريقة يعيش الناس كلّهم أحلامهم.
× × ×
مرّ شهران، وصار رفّ البضائع يجذب إلى المتجر عدداً كبيراً من الزبائن، الأمر الذي جعل الشاب يحسب أنه سيستطيع خلال أشهر ستة العودة إلى أسبانية وشراء ستين غنمة، فبأقل من عام سيستطيع مضاعفة قطيعه، وأن يتاجر مع العرب لأنه نجح في تعلّم هذه اللغة الغريبة.
منذ هذا الصباح المشهود على أرض ساحة السوق، لم يعد يستخدم أبداً أوريم وتوميم، لأن مصر قد أصبحت بالنسبة له حلماً بعيد المنال، حلماً يبعد عنه كما تبعد مكّة عن بائع الزجاجيّات، على كل حال صار مقتنعاًَ بعمله الآن، ولم يكن يتوقف عن التفكير باليوم الذي سيرسو فيه كمنتصر في "طريفه".
- تذكّر دائماً أن تعرف ماتريد ـ هكذا كان قد قال الملك العجوز، والشاب كان يعرف مايريد أن يعمل في هذا الصدد.
فمن الممكن أن يكون كنزه هو أن يأتي إلى هذه الأرض الغريبة، وأن يلتقي بسارق، وأن يضاعب أغنامه مرتين دون أن ينفق قرشاً واحداً.
كان فخوراً بنفسه، لأنه تعلّم أشياء هامّة كتجارة الأواني الزجاجيّة، لغة دون كلمات، وتفسير العلامات.
في عصر ذات اليوم، رأي رجلاً في أعلى المرتبفع، كان هذا الرجل يشكو لأنه لم يستطع أن يجد مكاناً مناسباً يشرب فيه شيئاً مابعد كل هذا العناء، من تسلّق المنحدر.
كان الشاب يعرف الآن لغة العلامات فراح يبحث عن معلّمه ليكلّمه قائلاً:
- علينا أن نقدّم الشاي للناس الذين يتسلّقون المنحدر.
أجاب التاجر:
- يوجد هنا الكثر من الأماكن التي يمكن أن يُشرب فيها الشاي.
- سيكون بإمكاننا تقديم الشاي إلى الزبائن في أقداح من الكريستال، بهذه الطريقة سيُعجبون بالشاي، وسيبتاعون الأواني الزجاجية لأن أكثر مايفتن الناس هو الجمال.
أخذ التاجر يطلب رأي مستخدمه دون أن يجيب بشيء لكن في ذلك المساء بالذات، وبعد أن أدى صواته، وأغلق مخزنه، جلس على الرصيف، ثم دعاه إلى تدخين النرجيلة، هذا الغليون الغريب الذي يدخّنه العرب !
- وراء أي شيءٍ أنت تجري؟ سأل تاجر الزجاج العجوز.
- كنت قد أخبرتك أنني بحاجة إلى تعويض أغنامي، ومن أجل هذا يلزمني المال.
وضع الرجل جمرات جديدة في النرجيلة وأخذ نفَساً طويلاً.
- ثلاثون عاماً مرّت على إدارتي هذا المخزن، فإنا أعرف الرجاج الجيّد من الرديء، واعرف بعمق خصوصيات هذه التجارة كلّها، فأنا معتاد على مخزني، وعلى حجمه، وعلى زبائني، ولو شرعت في بيع الشاي بأقداح من الكريستال، فإن القضيّة ستزداد أهميّة أكثر فأكثر، وسيتوجب علي أن أغير طريقتي في الحياة.
- ألن يكون في هذا شيء حسن ؟
- أنا معتاد على نمط حياتي، فقبل مجيئك كنت أفكر بأنني قد أضعت وقتي بالمكان نفسه، بينما أصدقائي كلهم، على العكس، قد غيّروا أعمالهم، فبعضهم خسر، وبعضهم من ازدهر عمله، وهذا ماجعلني أغرق في الغم، وأنا أعرف أن الأمر لم يكن فعلاً هكذا،
- فقد أصبح مخزني بالمستوى الذي كنت أتمناه دائماً، ولا أريد التغيير لأنني لا أعرف كيف أتغير، وقد أصبحتُ منسجماً مع نفسي.
لم يكن الشاب يعرف مايقول، عندئذٍ أردف العجوز:
- لقد كنتَ بالنسبة لي بركة وها أنذا اليوم أفهم شيئاً: أن أية نعمة تُرفض يمكن أن تنلقب إلى نقمة، فأنا لا أنتظر بعد شيئاً من الحياة، وأنت، أنت تجبرني على استشفاف ثروات، وآفاق لم تخطر على بالي، وقد عرفتها الآن، وعرفت إمكانياتي اللامحدودة، وسأتألم كثيراً لأنني لم أكن هكذا من قبل، لأنني أدرك الآن إنني أستطيع امتلاك كل شيء، لكنني لا أريد ذلك.
- لحسن الحظ أنني لم أكن قد قلت شيئاً لبائع البوشار ـ قال الشاب في نفسه.
تابع الإثنان تدخين النرجيلة والتحدث باللغة العربية، بيمكا كانت الشمس تميل للغروب...
كان الشاب مسروراً لأنه يتكلم العربيو فمنذ عهد بعيد اعتقد أن نعاجه تستطيع تعليمه كل شيء، لكنها كانت عاجزة عن تعليمه اللغة العربية.
- هناك أشياء أخرى في العالم لا تُحسن النعاج تعليمها للإنسان، فكّر وهو ينظر للتاجر دون أن يقول شيئاً، هذا لأنها لاتبحث عن أي شيء آخر غير الماء والكلأ، أظن أنها ليست هي التي تعلم، وإنما انا من يتعلم.
- " مكتوب " ـ قال التاجر أخيراً.
- ماذا يعني هذا؟
- كان يجب أن تولد عربياً كي تفهم ذلك، لكن يمكن أن تكون الترجمة شيء من هذا القبيل: " هو شيء قد كُتب علينا"، وبينما كان يُطفي جمرات النرجيلة قال للشاب إنه يستطيع أن يقدّم للزبائن الشاء في أقداح من الزجاج،
في بعض الأحيان، يستحيل على المرء أن يسيطر على مجرى الحياة.
× × ×
صار الناس يتسلّقون الطريق المنحدرة، وكانوا يشعرون بالتعب لدى وصولهم أعلاها.
في علية ذلك المنحدة كان هناك متجر للزجاجيّات الجميلة، وشاء بالنعناع يُشرب كمرطب لذيذ، كان الناس يدخلون لتناول الشاس الذي يقدّم لهم في كؤوس زجاجيّة رائعة.
- لم تخطر ببال زوجتي إطلاقاً هذه الفكرة ـ قال رجل وقد اشترى بضع أكواب زجاجية، فقد كان لديه زوار في ذلك المساء، وسوف يُفتنون بروعة هذه الأكواب، زبون آخر أكّد من جهته أن الشاي سيكون أفضل عندما يُقدّم بكؤوس زجاجيّة، فهي تحافظ على طيب نكهته، فشرب الشاي بكؤوس زجاجيّة واحد من تقاليد الشرق بسبب مغرياته السحرية.
وفي وقت قصير انتشر الحبر بين الناس، وبدأ الكثير منهم يتقصّدون الصعود حتى قمة المنحدر، ليتعرّفوا على المتجدر الذي دشّن هذا التجديد لتجارة مندثرة، وافتتحت متاجر آخرى تقدّم الشاي في كؤوس من الزجاج، لكن موقعها لم يكن في عالية طريق منحدرة، الأمر الذي لم يجلب لها الزبائن بسرعة كبيرة واضطرّ التاجر إلى تشغيل عاملين جديدين، وقد توجب عليه أن يستورد بالاضافة إلى الزجاجيّات كميّات كبيرة من الشاي كي تفي بحاجة الاستهلاك المتزايد يوماً إثر يوم، من قِبل الناس والرجال المتعطّشين للأشياء الجديدة.
وهكذا مرّت أشهر ستة .
× × ×
أفاق الشاب قبل طلوع السمي، أحد عشر شهراً وتسعة أيام قد مرّت عليه منذ أن وطئت قدميه إفريقية للمرة الأولى.
لبس البدلة العربية المصنوعة من الكتّان الأبيض، لقد اشتراها خصيصاً من أجل هذا اليوم. غطّى رأسه بعمامة مثبتاً إيّاها بعقال مصنوع من جلد الجمل، وأخيراً انتعل صندلاً جديداً، ونزل بهدوء.
كانت المدينة ماتزال غافية، تزوّد بفطور خفيف مكوّن من خبز وسمسم، وشرب الشاي الساخن في كأن زجاجيّة، ثم جلس على عتبة المخزن وأخذ يدخّن النرجيلة وحده.
دخّن بصمت، دون أن يفكّر بشيء، دون أن يسمع إلا وشوشة الريح المستمرّة التي كانت تصفر حاملة معها رائحة الصحراء، ثم عندما انهى تناول الشاي، وضع يده داخل واحدة من جيوبه، وظلّ للحظات يتأمل ماكان قد سحبه منها، إنه مبلغٌ جيّد من المال يمكن أن يشتري له مائة وعشرين غنمة، مع بطاقة عودته ورخصة استيراد وتصدير من بلده والبلد الذي يقيم فيه في الوقت الحاضر.
انتظر بفارغ الصبر استيقاظ التاجر العجوز من نومه، قم جاء لفتح المخزن. وهكذا سيتناولا الشاي سويّة هذا الصباح.
- في هذا اليوم سأنصرف ـ قال الشاب ـ فقد صار لدي المال اللازم لشراء أغنامي، وأنت أيضاً لديك مايكفي كي تذهب إلى مكّة.
لم يقل التاجر العجوز شيئاً.
- أطلب مباركتك ـ ألحّ الشاب ـ ساعدتني كثيراً.
تابع العجوز تحضير الشاي بصمت، وبعد لأي استدار نحو الشاب وقال:
http://fm.jsad.net/images/sandsofhom...er_offline.gif
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
- أنا فخور بك، لقد أنعشت مخزني، ولكنني لن أذهب إلى مكة، أنت تعرف ذلك جيّداً مثلما أنت على يقين بأنك لن تشتري الأغنام أبداً.
- من قال لك هذا؟ سأل الشاب مندهشاً.
أجاب تاجر الزجاجيّات العجوز بكل بساطة:
- " مكتوب " ، ثم باركه.
× × ×
ذهب الشاب إلى غرفته، وجمع متاعه الذي ملأ ثلاثة أكياس، ولحظة الرحيل تماماً انتبه إلى جعبته العتيقة، جعبته كراعٍ، التي كانت ماتزال في إحدى زوايا الغرفة، وهي في حالة يرثى لها، لقد تناسى تماماً وجودها، وفي داخلها يوجد كتابه القديم، ومعطفه، والذي عندما سحبه منها، فكّر أن يقدمّه كهديّة لأول ولد يلتقيه في طريه، ثم تدحرجن الحجران أرضاً " أوريم وتوميم " فتذكّر عندئذٍ الملك العجوز، وقد اندهش تماماً لدى إدراكه أن زمناً طويلاً قد مرّ دون أن يفكّر في لقائه معه، فانصرافه كليّاً إلى العمل دون انقطاع لكسب المال الذي يجنّبه العودة ذليلاً، خافض الرأي إلى أسبانية، هذا الشعور سيطر عليه ومنعه من تذكّر ذلك.
- " لاتتراجع عن أحلامك، وكن متيقّظاً إلى العلامات " ـ كان قد قال له العجوز.
التقط أوريم وتوميم من على الأرض، وقد تملّكه من جديد إحساس غريب بأن الملك على مقربة منه، وأنه قد عمل بشكل شاق طيلة سنة، وهاهي العلامات تشير إلى أن لحظة الانطلاق قد بدأت.
- سألفي نفسي على ماكانت عليه تماماً ـ فكّر ـ فالنعاج لم تعلمّني أبداً أن أتحدّث العربيّة.
ومع ذلك فقد علّمته شيئاً مهماً آخر، وهو أن هناك لغة ما في العالم يفهمها الجميع، وقد استخدمها هو طيلة ذلك الوقت كي يعمل على الارتقاء بالمتجر، إنها لغة الحماي، أشياء يقوم بها المرء بحب وولع كي يحصل على نتيجة يأملها أو يؤمن بها، لم تعد " طنجة " بالنسبة إليه مدينة غريبة، فقد توّلد لديه شعور بأنه مثلما استطاع اكتشاف هذا المكان، فإنه بالمثل يستطيع اكتشاف العالم.
- عندما تبتغي شيئاً بالفعل، فإن العالم بأسره يسعى ليسمح لك تحقيق مبتغاك، كان قد قال الملك العجوز.
لكن الملك العجوز لم يتكلّم عن لصوص الصحراء الشاسعة، ولا عن الناس، الذين يعرفون أحلامهم ولا يريدون تحقيقها، الملك العجوز لم يتحدّث عن الاهرامات على أنها كومة من الحصى، وقد نسي أن يقول أيضاً أنه عند امتلاك المال لشراء قطيع أكبر من ذلك الذي كنت تملكه من قبل فلا تتردد بشرائه.
التقط الجعبة، وتناولها مع بقية الأمتعة الأخرى ونزل السلّم. كان التاجر العجوز يلبّي طلبات زوجين أجنبيين، بينما زبائن أخرون يتناولون الشاي في المخزن في أقداح من الزجاج. بالنسبة لهذه الساعة من الصباح، كانت بداية جيّدة لنهار جديد.
ومن المكان الذي نظر فيه للتاجر، لاحظ للمرة الأولى أن شعره كشعر الملك العجوز. ثم تذكّر ابتسامة بائع السكاكر أول يوم أفاق فيه " طنجة " حيث لم يكن لديه أية فكرة أين يذهب، ولم يكن لديه مايؤكل، فقط تلك الابتسامة التي استدعت في خاطره ذكرى الملك العجوز.
- إنه قد مرّ من هنا وترك بصمة ـ فكّر الشاب، ربما كا واحد من هؤلاء الأشخاص سنحت له فرصة التعرف على الملك في لحظة أو أخرى من حياته، لقد قال في الحقيقة أنه يظهر دائماً لمن يعيش أسطورته الشخصية.
رحل دون أن يودع تاجر الزجاجيّات فهو لايريد أن يبكي: كان بالامكان رؤيته في هذا الوضع، لكنه سيتحسّر على تلك الحقبة وعلى كل الأشياء الحسنة التي تعلّمها.
وازدادت ثقته بنفسه وأحس برغبة عارمة في اكتشاف العالم.
- لكنني ذاهب باتجاه الريف الذي أعرفه جيّداً من قبل لأرعى أغنامي من جديد.
لم يعد مقتنعاً بقراره، إذ أنه عمل سنة بكاملها من أجل تحقيق حلم، صار مع مرور الوقت يفقد أهميّته شيئاً فشيئاً، ربما لأنه لم يكن في المحصّلة حلمه.
- من يعلم؟ في نهاية الأمر، أليس من الأفضل أن نكون كتاجر الزجاجيّات الذي قرر عدم السفر مطلقاً إلى مكة والعيش مع رغبة السفر إليها؟ لكنه تناول "أوريم وتوميم"، هاتان الحجران اللتان كانتا تمدّانه بقوة وإرادة ذلك الملك العجوز، ولعلّه بفعل مصادفة أو علامه ـ حدّث نفسه، فإنه دخل المقهى الذي دخله في اليوم الأول، سارقه لم يكن هناك، أما صاحب المقهى، فقد أحضر إليه كوباً من الشاي.
- بمقدوري دائماً أن أعود راعياً ـ حدّث نفسه ، فقد تعلّمت العناية بالاغنام، وهذا مالا أنساه أبداً، لكن ربما، لن تتوفر لي بعد فرصة أخرى للذهاب إلى أهرامات مصر، فالرجل العجوز كان يمتلك على قلادة من ذهب، وكان يعرف قصتي، إنه ملك حقيقي، ملك عالِم.
فهو على بعد أقل من ساعتي سفر بالقارب من سهول الأندلس، لكن بينه وبين الاهرامات هناك صحراء شاسعة.
لقد فهم أنه يمكن أيضاً تصوّر الموقف كما يلي: أنه الآن على بعد ساعتين من كنزه، لكن حتى هذه المسافة التي لا تستغرق أكثر من ساعتين من السفر قد كلّفته تكريس سنة كاملة من العمل.
- إنني أعرف جيداً لماذا أريد العودة إلى اغنامي، لأنني أعرف أنها لا تتطلب كثيراً من العمل، وأن المرء يستطيع أن يحبها، لكن لا أعرف إن كانت يمكن للصحراء أن تُحب، علماً بأن الصحراء هي التي تحتوي على كنزي، وإذا لم أستطع إيجاده فبإمكاني الرجوع إلى بلدي، ومع ذلك فإن الحياة قد أعطتني فجأة المال الكافي، ولدي كل الوقت الذي أحتاجه، فلماذا أحجم إذن؟
في هذه اللحظة عاوده شعور عارم بالغبطة، فهو يستطيع أن يعود راعياً، ويستطيع أن يعود بائع أوان زجاجيّة، وربما يخفي العالم كثيراً من الكنوز الأخرى، لكنّه حلم بحلم تكرر، والتقى ملكاً، وهذا لا يحصل لكل الناس.
كان مسروراً للغاية عندما خرج من المقهى، فقد تذكر أحد ممولي التاجر بالبضائع، والذي كان يحمل إليه أوانيه الزجاجية بواسطة القوافل التجارية العابرة للصحراء.
احتفظ بأوريم وتوميم بين يديه، فبسبب هاتين الحجرين هاهو يعود إلى الدرب التي تؤدي به إلى كنزه.
- إنني دائماً مع هؤلاء الذين يعيشون أسطورتهم الشخصية. كان قد قال الملك العجوز.
ولم يفته الذهاب حتى المرفأ، ليعلم إن كانت الأخرامات بعيدة فعلاً.
× × ×
كان الانكليزي جالساً في مدخل مبنى تصدر منه رائحة الدواب والعرف والغبار، وكأنه ليس بمرفأ وإنما حظيرة للماشية.
- أمضي جلّ هذه الأيام لأمرّ على مكان كهذا ـ حدّث الانكليزي نفسه وهو يتسلّى بتقليب مجلة كيميائة ـ عشر أعوام من الدراسة كي أنتهي إلى حظيرة ماشية !
كان عليه أن يتابع طريقه وأن يؤمن بالعلامات، فكل حياته ودراساته قد كرّست في البحث عن اللغة الفريدة، التي يتحدث بها الكون، في البداية كان قد اهتم بالاسبرانتو، ثم بالأديان، ولينتهي بالخيمياء، لقد أجاد التكلّم بلغة الاسبرانتو وانسجم تماماً مع مختلف الأديان، لكنّه لم يصبح خيميائياً بعد، وقد نجح دون شك بتحليل أشياء هامة، لكن أبحاثه وصلت إلى مرحلة لم يعد يستطيع تجاوزها.
حاول إقامة علاقة مع أحد الخيميائيين، لا على التعيين، فالخيميائيون شخصيات غريبة لا يفكّرون إلا بأنفسهم، ويمتنعون في أكثر الأحيان عن تقديم مساعدتهم، من يعلم إن كانوا لم يكتشفوا بعد سر الانجاز العظيم، وبعبارة أخرى، " حجر الفلاسفة " ، ولهذا السبب يتغلّقون على أنفسهم بصمت.
لقد أنفق جزءاً من الثروة التي تركها له والده باحثاً دون جدوى عن حجر الفلاسفة، وتردد على أكبر مكتبات العالم، واشتري أهم وأندر الكتب المتعلّقة بالخيمياء، ففي إحداها كان قد اكتشف أن خيميائياً عربياً زار أوروبا منذ سنوات عديدة، قيل أن عمره أكثر من مائتي عاماً وأنه اكتشف حجر الفلاسفة، وإكسير الحياة. لقد أثّرت هذه القصة بالانكليزي كثيراً، وكان يمكن لهذه الرواية أن تبقى مجرّد أسطورة من بين سائر الأساطير الكثيرة، لولا أن واحداً من أصدقائه العائدين من رحلة أثرية في الصحراء كان قد حدّثه عن أعرابي يملك قدرات خارقة.
إنه يعيش في واحة " الفيّوم " ـ كان قد قال له ـ والناس يروون أن عمره مائتي عاماً، ويستطيع تحويل أي معدن إلى ذهب، عندها عرف الانكليزي الذي أثارته القصة انفعالاً بلا حدود، فألغى في الحل كافة التزاماته السابقة، وجمع أهم كتبه والآن هاهو ذا هنا في هذا المرفأ المشابه لحظيرة الماشية.
وفي هذه الأثناء كانت قافلة تجارية كبيرة على أهبة الاستعداد للانطلاق لاجتياز الصحراء. وكانت هذه القافلة ستمر في طريقها إلى الفيوم.
- لابد لي من أن ألتقي هذا الخيميائي اللعين ـ فكّر الإنكليزي.
وأصبحت رائحة الحيوانات محتملة بعض الشيء.
دخل شاب عربي يحمل أمتعته أيضاً إلى المبنى الذي يحل فيه الانكليزي وحيّاه.
- أين تذهب؟ سأل العربي.
أجاب الانكليزي:
- إلى الصحراء، وعاد إلى قراءته، لم تكن لديه الرغبة في المحادثة حينذاك، إذ كان بحاجة لمراجعة ماكان قد تعلّمه خلال تلك السنوات العشرة، لأن الخيميائي سيُخضعه بالتأكيد لنوع من الاختبار.
تناول الفتى العربي كتاباً أيضاً وأخذ يقرأ بدوره، لقد كتب الكتاب باللغة الأسبانية ـ ياللحظ ـ فكّر الانكليزي، فهو يجيد الأسبانية أكثر من العربية، وإن كان هذا الفتى سيذهب إلى الفيّوم، فسوف يتحدث معه عندما لاينهمك بأشياء ذات قيمة.
× × ×
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
هذا مضحك، على أية حال ـ فكّر الشاب بينما كان يحاول قراءة مشاهد الدفن الذي بدأت به القصة.
سنتان مرتا على بداية قراءتي لهذا الكتاب، وحتى الآن لم أتوصل إلى تجاوز أكثر من بضع صفحات منه، لم يستطع التركيز، فهو مازال متردداً في القرار الذي عليه اتخاذه، لكنه يدرك الآن أن الأمر هاماً، وهو أن القرارات لاتمثّل إلا البداية، فعندما يتّخذ أي انسان قراراً فإنه ينجرف في الحقيقة ضمن تيار عنيف يحمله نحو مصير لم يكن قد استشفه مطلقاً. حتى في الحلم، في اللحظة التي اتخذ فيها القرار.
- عندما اخترت الرحيل بحثاً عن كنزي، فإنني لم أكن اتصور أبداً أنني سأعمل في متجر الزجاجيّات ـ فكّر في نفسه ليؤكد استنتاجه ـ وبالطريقة نفسها، فإنه يمكن لهذه القافة أن تنسجم مع قرار اتخذته، لكن مسيرتها ستبقى دائماً غامضة.
في قبالته، أوروبي يقرأ كتاباً أيضاً، إنه سمج، فقد نظر إليه باحتقار لدى دخلوه، كان من الممكن أن يكونا صديقين حميمين، لكن الأوروبي قطع الطريق في الحال، أغلق الشاب كتابه ولم يرد أن يتصرّف بأي شيء يبدو فيه مشابهاً لهذا الأوروبي، تناول من جيبه " أوريم وتوميم " وأخذ يلعب بالحجرين.
فجأة أطلق الغريب صرخة:
- أوريم وتوميم !
- وبأقصى سرعة أعاد الشاب الحجرين إلى جيبه.
- ليستا للبيع.
- إنهما لا تشكّلان شيئاً قيّماً ـ قال الانكليزي، إنما بلّورات صخرية ليس إلا، فهناك ملايين البلّورات الصخرية على الأرض، ولكن بالنسبة لها إنها أريم وتوميم، لم أكن أعرف أنهما موجودتان في هذه البقعة من العالم.
- لقد قدّمهما لي ملك كهدية ـ قال الشاب.
مكث الغريب مطرق الرأس ثم غرز يديه في جيبه وأخرج منها وهو يرتجف حجرين مماثلتين.
- لقد تحدثت عن ملك ؟!
- لكنك لا تعتقد بأن ملكاً يستطيع التحدث إلى راعٍ ـ أجاب الشاب راغباً هذه المرة أن يضع حداً للحديث.
- بالعكس تماماً، إن الرعاة أول من رد الاعتبار لملك رفض بقية الناس الاعتراف به، وليس من الغرابة أن يتحدث الملوك إلى الرعاة.
ثم أضاف خشية أن يستعصي الفهم على الراعي:
- لقد ورد هذا في التوراة، فهو الكتاب، الذي علمني كيف أصنع هاتين الحجرين، كانتا الأداة الوحيدة للتنبؤ الذي يبيحه الله، والأساقفة يحملونها ضمن قلادة ذهبية.
أحس الشاب بالسعادة لوجوده في هذا المكان.
- ربما في هذا علامة ـ قال الانكليزي، كما لو كان يفكّر بصوت عالٍ.
- من حدّثك عن العلامات؟ قال الشاب الذي كان اهتمامه يزداد شيئاً فشيئاً.
- كل شيء في الحياة علامة ـ قال الانكليزي الذي أغلق الآن المجلة التي يقرأهاـ لقد صنع الكون بلغة يستطيع العالم فهمها، لكن الأنسان نسيها، وأنا أبحث، من بين أشياء أخرى، عن هذه اللغة الكونية، ولهذا أنا هنا، عليّ أن ألتقي رجلاً يعرف هذه اللغة الكونية. إنه خيميائي.
لكن المحادثة قط قطعت من قِبل مسؤول المرفأ:
- ستنطلق قافلة الفيّوم بعد ظهر هذا اليوم.
- لكنني ذاهب إلى مصر ـ قال الشاب.
- الفيّوم في مصر ـ أجاب الرجل الضخم، وأنت تبدو لي كعربي غريب.
- إنني إسباني.
سرَّ الانكليزي بذلك، حتى لو ارتدى الشاب الزي العربي، فهو على الأقل أوروبي.
- إنه يسمى العلامات بالحظ ـ قال الانكليزي لدى خروج الآخر ـ ولو كنت استطيع لألّفت موسوعة ضخمة بخصوص كلمتي حظ ومصادفة، فبهاتين الكلمتين كتبت اللغة الكونية.
ثم تابعا الحديث، وقد قال له الانكليزي بأنه ليس من قبيل المصادفة أن يكون التقاه وهو يمسك بأوريم وتوميم، وسأله إن كان هو أيضاً يمضي للبحث عن الخيميائي.
- انا أمضي للبحث عن كنز ـ اجاب الشاب، وقد ندم على ذلك حالاً .
لكن الأنكليزي لم يعلّق أية أهميّة على ماقاله الشاب لتوّه، ثم قال:
- بشكل أو بآخر أنا أيضاً.
- إنني لا أعرف ماتكون الخيمياء ـ أجاب الشاب في اللحظة التي ناداهما فيها رئيس المرفأ في الخارج.
× × ×
- أنا رئيس القافلة ـ قال رجل ذو لحية طويلة وعينين سوداوين ـ وإن حياة أو موت هؤلاء الذين أقودهم منوط بي، لأن الصحراء امرأة متقلّبة الأهواء، فهي تجعل الرجال مجانين أحياناً.
كانت القافلة تضم مايقارب المائتي شخصاً، وكثيراً من الحيوانات: جمالاً، خيولاً، بغالاً، وطيوراً. وإلى جانب الرجال الذين كان بعضهم يحمل سيفاً في حزامه، أو بندقية على كتفه كان هناك نسوة وأطفال، كان في حوزة الأنكليزي عدة حقائب سفر، مليئة بالكتبة، جلبة كبيرة كانت تهيمن على الساحة، وقد توجب على الرئيس أن يكرر خطابه عدة مرات كي يفهمه الجميع.
- يوجد هنا أنواع مختلفة من الناس، في قلوبهم مختلف أنواع الآلهة، أما أنا فإلهي الوحيد هو الله، وأقسم بالله أنني سأفعل مابوسعي، وسأبذل قصارى جهدي كي أقهر الصحراء ثانية، لكنني أريد أن يقسم كل منكم بالإله الذي يؤمن به من أعماق قلبه، بأن يمتثل لقيادتي في كل الظروف، لأن التمرّد في الصحراء يعني الموت.
ارتفع ضجيج يصمّ الآذان من الحشد الذي أخذ كل فرد من أفراده يقسم متخذاً إلهه شاهداً لقسمه.
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
أقسم الشاب بالسيد المسيح، أما الإنكليزي فقد احتفظ بصمته، وقد استمرت التمتمة وقتاً يتجاوز أداء القسم، فقد كان الناس يرجون عناية السماء أيضاً.
انطلق رنين بوق يؤذن بالانطلاق، وامتطى كل واحد سرج دابته. الإنكليزي والشاب كانا قد اشتريا جملين، وواجها صعوبة بارتقاء ظهري مطيتيهما، وقد عبّر الشاب عن شفقته على مطية الانكليزي المحمّلة بأكياس ثقيلة مليئة بالكتب.
- ليس هناك مصادفات ـ قال الانكليزي محاولاً متابعة المحادثة التي بدأت في المرفأ ـ إنه واحد من أصدقائي من دفعي إلى المجيء إلى هناك لأنه كان يعرف عربياً يـ ...
لكن القافلة انطلقت وصار من المستحيل أن يسمع ماكان يرويه، لكن الشاب فهم في الحال ماكان يرمي إليه، فهذه السلسلة الغامضة التي تربط شيئاً بآخر والتي قادته ليصبح راعياً، وأن يحلم مرات عديدة بالحلم نفسه، وإلى تواجده في مدينة قريبة من إفريقية، وأن يلتقي ملكاً في ساحة، وليُسرق، وليتعّرف على تاجر الزجاجيّات و ...
- كلّما اقتربنا من تحقيق أحلامنا ، أصبحت الأسطورة الشخصيّة دافعاً حقيقياً للحياة ـ استنتج الشاب محدّثاً نفسه.
اتّخذت القافلة في سيرها وجهة المشرق، فكانوا يجدّون في المسير في الصباح ويتوقفون للإستراحة عندما تصبح الشمس حارقة ، ثم يواصلون السفر عندما تبدأ بالانخفاض، لم يكن الشاب يتكلّم كثيراً مع الانكليزي، الذي كان يمضي معظم وقته غارقاً في كتبه.
بدأ يرقب بصمت مسير الحيوانات والناس عبر الصحراء، حيث صار كل شيء مختلفاً عما كان عليه يوم الانطلاق، ففي ذلك اليوم عمّت الفوضى، وعلا الصراخ، وبكاء الاطفال، وحمحمة الدواب، وفي وسط هذه المعمعة كان هناك أوامر الادلاء والتجار اللجوجة.
أما في الصحراء، فلم يكن هناك سوى الريح الأزليّة، والصمت الذي لا يبدده إلا وقع حوافر الدواب، حتى الأدلاء لم يتحدّثوا فيما بينهم إطلاقاً.
- لقد اجتزت مرات عديدة امتدادات من الرمال كهذه ـ قال أحد الجمّالة ذات مساء ـ لكن الصحراء واسعة والآفاق بعيدة بحيث يشعر الإنسان بأنه صغير جداً أمامها، ويُجبر على أن يلوذ بالصمت.
فهم الشاب ماكان يريد الجمّال قوله على الرغم من أنه لم يكن قد طرق الصحراء من قبل، ولكن في كل مرة كان ينظر فيها إلى البحر أو النار ، كان بمقدوره أن يقضي ساعات عديدة دون أن ينطق بكلمة، غارقاً في قلب البعد الهائل والقدرة العجيبة لهذه العناصر.
- لقد تتلمذت من معاشرة أغنامي، وتعلّمت وأنا أبيع الزجاجيّات، أستطيع أيضاً أن أتعلم من الصحراء، فهي تبدو لي أكثر شيخوخة وأكثر حكمة.
كانت الريح نفسها في " طريفه " عندما كان جالساً على الأسوار، ربما تداعب هذه الريح صوف نعاجه الآن، وهي تطوف أرياف الأندلس سعياً وراء الماء والكلأ.
- لم تعد أغنامي ـ قال لنفسه دون أن يشعر بحنين حقيقي إلى مسقط رأسه ـ ولعلّها تعودت على راعٍ آخر ونسيتني بالتأكيد، فالوضع أفضل فكذا، فمن اعتاد على الترحال، كالأغنام يعرف أنه لا بد أن يأتي وقت يكون فيه الرحيل أمراً لامفر منه.
تذكّر من ذلك ابنة التاجر، وشعر كأنه متأكد من انها قد تزوجت، ربما من بائع بوشار، أو من راع يجيد القراءة، يقص عليها عجائب الحكايات فهو ليس الوحيد الذي يستطيع أن يفعل ذلك، لكن هنا الاحساس الباطني ولّد عنده شيئاً من الاضطراب: هل كان يتعلّم بدوره هذه اللغة الكونية الشهيرة التي تعرف ماضي وحاضر الناس قاطبة؟ إنها هواجس ـ كانت أمه تقول ذلك باستمرار.
وقد بدأ يدرك أن هذه الأحاسيس عبارة عن غطسات سريعة للروح في التيار الكوني للحياة، والذي في رحمه تاريخ كل الناس مُتحِد بتاريخ واحد : بطريقة نتمكّن معها أن نعرف كل شيء، لأن كل شيء مكتوب.
- " مكتوب " ـ قال وهو يفكّر بتاجر الزجاجيّات.
كانت الصحراء من رمل ومن حجارة، فلمّا كانت القافلة تصل أما حجر كبير كانت تلف حولها، وإن كانت كتلة صخرية فإنها كانت ترسم لتجاوزها منعطفاً واسعاً، وعندما يكون الرمل ناعماً جداً بالنسبة لخف الجمال، فقد كانوا يبحثون عن ممر يكون فيه الرمل أكثر مقاومة، وأحياناً تكون الأرض مغطاة بالملح وذلك في موقع بحيرة قديمة، وعندما كانت الحيوانات تعاني من التعب، كان الجمّالة ينزلون الأحمال عن ظهورها ويساعدونها بحمل الامتعة على ظهورهم، وهكذا كانوا يعبون المرر الصعب، ثم يعيدون تلك الأمتعة من جديد إلى ظهور الدواب، وإذا مرض أو مات أحد الأدلاّء، فإنهم كانوا يقترعون ليختاروا بديلاً عنه.
لم يكن لكل هذا إلا سبب واحد: فقيام القافلة بكل هذه الأنعطافات لا يهم كثيراً ، طالما أن القافلة تيمم شطر هدف واحد.
وبعد أن تغلّبت على كل العقبات لمحت أماها النجم الذي كانت تهتدي به إلى الوجهة التي توجد فيها الواحة، وعندما رأى الناس أمامهم عند الفجر بريق هذا النجم في السماء أدركوا أنه يدلّهم على مكان فيه الماء والنساء والنخيل والتمر.
كان الانكليزي الشخص الوحيد الذي لم يلاحظ البتة شيئاً من كل هذا، لقد كان منهمكاً بقراءة كتبه.
والشاب أيضاً كان معه كتاب، وقد حاول قراءته منذ الأيام الأولى من السفر ولكنه وجد في مراقبة القافلة والاصغاء إلى الريح أمراً أهم من القراءة بكثير.
فمنذ أن تآلف مع جمله، وتعلّق به، ألقى كتابه، واستراح من عبئه، ومع ذلك فإنه في كل مرة كان يفتح فيها هذا الكتاب كان يتخيّل أنه سيلقى أحداً ذا أهميّة.
صداقة وثيقة قامت بينه وبين الجمّال الذي كان يتواجد باستمرار إلى جانبه، وعند استراحة المساء، أثناء السهرة حول النار، كان يروي له مغامراته عندما كان راعياً.
وخلال إحدى تلك المحادثات، أخذ الجمّال يحدّثه أيضاً عن حياته، وقال له:
- كنت أسكن في بلدةٍ قرب القاهرة، كان لدي بستاني، وأطفالي، وحياة من الممكن ألا تتغير حتى مماتي، وفي إحدى السنوات أعطى البستان محصولاً أفضل بكثير من المعتاد، فسافرنا جميعاً إلى مكة لأداء الفرض الوحيد الذي لم أكن قد أديته حتى ذلك الحين، فأحسست بعد ذلك بالطمأنينة والراحة، وباستعدادي للقاء الموت بسلام. وفي يوم من الأيام أخذت الأرض تهتز، وأخذ نهر النيل الفائض يخرج من مجراه، والذي كنت أعتقد أنه لن يحصل إلا للآخرين، حصل لي أيضاً، خاف جيراني من فقد بساتين الزيتون بسبب الفيضان، وخافت زوجتي أن ترى الأطفال يغرقون، وخفت أنا من رؤية ماقد جنيته طيلة عمري ينهار.
وبعد لحظة تابع:
- لم يكن في اليد حيلة، ولم يكن هناك مايمكن الحصول عليه من الأرض، فصرت مضطراً لإيجاد وسيلة أخرى للعيش، فها أنذا اليوم جمّال. لكنني تمكّنت أن استجيب لكلام الله، يجب على الانسان ألا يخاف من المجهول، لأن كل انساء قادر على اكتساب مايريد، وماهو ضروري له. فكل مانخشاه هو أن نخسر مانملك، سواء مايتعلّق بحياتنا أو بزروعنا، لكن هذا الخوف يتلاشي عندما نفهم ان صيرورتنا وصيرورة العالم قد خطّتها يد واحدة .
× × ×
كانت القوافل تتلاقى في محطة المساء، لدى كل واحدة مايلزم للأخرى، كم لو أن كل شيء كان فعلاً قد كتب بيد واحدة.
كان الجمّالة يتبادلون المعلومات عن العواصف الرملية، ويجتمعون حول المواقد ليسردوا حكايات الصحراء، وفي أوقات أخرى يزورهم رجال مثلثّمون، كانوا من البدو الذين يراقبون الطريق التي تسلكها القوافل، ويقدّمون المعلومات عن قطّاع الطرق أو عن القبائل المتمردة، يصلون بصمت، ويرحلون بصمت ملفحين بجلابياتهم ذات اللون القاتم، ومثلثّمين بطريقة لا تظهر منها إلا عيونهم.
وفي إحدى السهرات التي عقدت حول النار، انضم الجمّال إلى الشاب والانكليزي اللذين كانا يجلسان قرب النار، فقال الجمّال:
- تنتشر إشاعات بأن حرباً ستقوم بين القبائل.
ظل الرجال الثلاثة صامتين، لاحظ الشاب الأسباني أن نوعاً من الخوف الغامض يسري بينهم، علماً بأن أحداً منهم لم يتفوه بكلمة، لمرة أخرى ميّز لغة دون كلمات، إنها اللغة الكونية.
بعد فترة من الوقت سأل الانكليزي إن كان هناك ثمّة خطر.
أجاب الجمّال:
- إن من يتوغل في الصحراء لايستطيع العودة على اعقابه، وعندما لانستطيع الرجوع إلى الخلف، فلن يكون أمامنا سوى التفكير بالطريقة الأفضل للمضي إلى الأمام، والباقي على الله، بما في ذلك الخطر.
وختم قوله وهو يلفظ هذه الكلمة الغامضة : " مكتوب " !
- عليك أن تعطي انتباهك أكثر إلى القوافل ـ قال الشاب للانكليزي بعد رحيل الجمّال ـ فهي تلف وتدور كثيراً، لكنها تتوجه دائماً نحو النقطة نفسها.
- وأنت عليكَ أن تقرأ أكثر عن العالَم ـ علّق الانكليزي ـ فالكتب هي تماماً كالقوافل.
ذلك الرتل الكبير من الرجال والحيوانات، أخذ مذ ذلك الحين يتقدّم متسارعاً أكثر، لم يعد الصمت يخيّم في النهار وحسب، وإنما بدأ يحل شيئاً فشيئاً في المساء أيضاً، حتى في اللحظة التي اعتاد فيها الناس على الثرثرة وهم مجتمعون حول النار، كما أن رئيس القافلة قرر ذات يوم عدم إشعال النار ليلاً
http://fm.jsad.net/images/sandsofhom...er_offline.gif
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
كي لايلفتوا الانتباه، صار المسافرون عندئذٍ ينامون ضمن حلقة مكوّنة من الحيوانات كي يحموا أنفسهم من برد الليل.
كذلك عيّن الرئيس خفراء مسلّحين لحماية المخيّم.
وفي إحدى الليالي، لم يستطع الانكليزي النوم، فذهب إلى الشاب الأسباني يثم تمشيا معاً بين الكثبان القريبة، كان القمر بدراً وروى الشاب للإنكليزي كل شيء عن حياته، بدا الانكليزي مهتماً بشكل خاص لما رواه الشاب عن فترة عمله في متجر الزجاجيّات الذي ازدهر يوماً عن يوم منذ أن بدأ الشاب يعمل به.
- هنا يكمن المبدأ الذي يؤثر في كل شي ـ قال ، هذا مايسمّونه في الخيمياء بـ " النفس الكليّة "، فعندما تمتلك الرغبة في شيء ما بكلّ جوارحنا نكون أكثر قرباً من النفس الكلّية، إنها لقوة إيجابيّة دائماً.
ثم قال أيضاً بأن هذا ليس من امتيازات البشر فقط: فكل ماهو موجود على سطح الأرض له روح أيضاً سواء كان معدناً ، او نباتاً ، أو حيواناً ، أو فكرة.
وكل ماهو موجود تحت أو فوق سطح الأرض لا يتوقف عن التحوّل، لأن الأرض كائن حي ولها روح، ونحن جزء من هذه الروح التي نادراً ماندرك أنها تعمل في مصلحتنا، وحتى في متجر الزجاجيّات عليك أن تعلم أن المزهريات نفسها كانت تتعاون لمساعدتك على النجاح.
احتفظ الشاب بالصمت لبعض الوقت متأملاً القمر والرمل الأبيض، ثم قال أخيراً :
- من خلال مراقبتي للقافلة التي كانت تسير عبر الصحراء، أدركت أنها هي والصحراء تتكلّمان اللغة نفسها، ولهذا السبب سمحت لها بعبورها، ولم تتوقف الصحراء عن مراقبة كل خطوة من خطواتها لتتحقق إن كانت على ائتلاف كامل معها، وإن كان الأمر كذلك، فإن القافلة ستصل حتى الواحة، ولو أن الواحد منا وعلى الرغم من الشجاعة التي يملكها، لم يفهم هذه اللغة لهلك من اليوم الأول.
ثم تابعا معاً مراقبة القمر الوضّاء.
- هذا هو سحر العلامات ـ أردف الشاب ـ لقد رأيت كيف يقرأ الأدلاّء علامات الصحراء، وكيف أن روح القافلة تتحاور مع روح الصحراء.
وبعد فترة وجيرة من الزمن جاء دور الانكليزي في الحديث، فقال:
- عليّ في الواقع أن أمنح القافلة انتباهاً أكثر.
فأردف الشاب:
- وأنا عليّ أن أقرأ كتبك.
× × ×
كانت كتباً غريبة فعلاً ، إذ أنها تتحدث عن الزئبق، عن الملح، عن التنبؤات، عن الملوك، لكنه لم يكن ليفهم منها شيئاً على الاطلاق، مع ذلك كانت هناك فكرة تُذكر دوماً في كل الكتب تقريباً، وهي أن الاشياء كلها ليست إلا تجليّات لشيء واحد وفريد.
واكتشف في أحد الكتب أن النص الأكثر أهمية هو عن الخيمياء ويشتمل على بضعة أسطر فقط، وكانت مكتوبة على زمرّدة بسيطة.
- هذا هو لوح الزمرّد ـ قال له الانكليزي بكل فخر، فقد استطاع أن يعلّم رفيقه شيئاً.
- ولكن لماذا هذا العدد الكبير من الكتب؟
- لكي أتمكّن من فهم هذه السطور القلائل ـ اجاب الانكليزي دون أن يكون هو نفسه مقتنعاً تماماً بهذا الجواب.
أما الكاتب الذي أثار اهتمام الشاب أكثر من بقيّة الكتب كلها، فقد كان يروي تاريخ مشاهير الخيميائيين، لقد كانوا رجالاً نذروا حياتهم كلها في تنقية المعادن في مختبراتهم. وكانوا يعتقدون بأنه لدى تسخين معدن ما لسنوات وسنوات، فإنه يتحرر من كل خواصه النوعيّة، فعندئذٍ لن يبقى في مكانه إلا النفس الكليّة، وهذا الشيء الفريد سيمكّن الكيميائيين من فهم كل مايوجد على الأرض، لأنه اللغة التي بفضلها كانت الأشياء تتواصل مع بعضها بعضاً، هذا هو الاكتشاف الذي سمّوه بـ
" الانجاز العظيم " والذي يتآلف من جزء سائل وجزء صلب.
سأل الشاب:
- ألا تكفي مراقبة البشر والعلامات لاكتشاف هذه اللغة؟
أجاب الانكليزي بانزعاج:
- لديك هوَس مفرط في تبسيط الأشياء، فالخيمياء عمل جاد ودؤوب، ومن المحتّم متابعة كل طور من السيرورة كما علّمها المعلّمون.
اكتشف الشاب أن الجزء السائل من الانجاز العظيم هو المادة التي كانت تدعى " إكسير الحياة المديد "، وهذا الإكسير لم يكن يشفي الأمراض فحسب، بل يحمي الخيميائي من الشيخوخة أيضاً. أما الجزء الصلب فهو ماكان يُدعى " حجر الفلاسفة " .
قال الانكليزي:
- ليس من السهل أبداً اكتشاف " حجر الفلاسفة "، فالخيميائيون كانوا يمضون سنوات عديدة في مختبراتهم لمراقبة النار التي تنقّي المعادن، وطوال مراقبتهم للنار، كانوا يتخلّصون من ضمائرهم شيئاً فشيئاً من كل أباطيل العالم، إلى أن لاحظوا ذات يوم أن تنقية المعادة كانت تطهّر نفوسهم أيضاً.
تذكّر الشاب حينذاك بائع الزجاجيّات الذي قال أن عليهما تنظيف أوانيهما الزجاجيّة لأنهما سيجدان نفسيهما أيضاً قد تخلّصا من الأفكار السيئة، ولقد اقتنع أكثر فأكثر بأنه يمكن تعلّم الخيمياء في الحياة اليومية أيضاً.
- بالإضافة إلى ذلك ـ تابع الانكليزي ـ فإن حجر الفلاسفة يمتلك خاصيّة خارقة للمألوف تماماً، فيكفي جزء صغير منها لتحويل كميّات كبيرة من معدنٍ بخس إلى ذهب.
انطلاقاً من هذا، فإن اهتمام الشاب بالخيمياء صار أكبر بكثير، فقد فكّر بأنه بقليل من الصبر سوف يستطيع تحويل كل شي إلى ذهب.
لقد قرأ سير الحياة لشخصيات مختلفة، كانوا قد وفقوا إلى ذلك، هيلفيتيوس، إيلي، فولكانولي، جابر، وكانت سيرهم جذّابة، فكلّهم عاشوا أساطيرهم الشخصية حتى النهاية، كانوا يسافرون، يتلقون العلماء ويصنعون المعجزات على مرأى من عيون المشككين، وكانوا يملكون حجر الفلاسفة وإكسير الحياة المديدة.
لكنه عندما كان يريد أن يتعلّم بدوره كيفية استخلاص هذا الانجاز العظيم، فقد كان يجد نفسه محتاراً، فلم يكن يجد في تلك الكتب إلا رسوماً، وتعليمات مرمّزة ونصوص غامضة.
- لماذا يستعملون لغة يصعب فهمها جداً ؟ سأل الانكليزي ذات مساء.
بالاضافة إلى ذلك لاحظ ـ وفي هذه المناسبة ـ أن الانكليزي لم يكن صافي المزاج، كما لو انه كان يفتقد كتبه.
- كي لايكون هذا مفهوماً إلا من قِبل هؤلاء القلّة الذين لديهم المسؤولية الكافية للقدرة على الفهم _ أجابه _ تصوّر لو أن كل الناس أخذوا يحوّلون الرصاص إلى ذهب، عندئذٍ وخلال زمن قصير جداً، فإن الذهب سيفقد قيمته ولن يساوي شيئاً أبداً. وحدهم فقط أصحاب العقول العنيدة من الباحثين المثابرين هم الذين يتوصلّون إلى الإنجاز العظيم. هذا هو سبب وجودي في وسط الصحراء، وبالتحديد كي ألتقي خيميائياً حقيقياً يعينني على فك الرموز.
سأل الشاب:
- في أي وقت كُتبت هذه الكتب؟
- منذ عدة قرون، زفي ذلك الزمن لم تكن المطبعة قد اختُرعت بعد، فلم يكن يتسنّى لكل الناس التوصّل إلى معرفة الخيمياء.
- لماذا إذن هذه اللغة الغريبة؟ وكل هذه الرسوم والأشكال؟
على الرغم من هذا الإلحاح، فإن الانكليزي لم يجب على هذا السؤال، بل اكتفى بأنه قال أنه منذ عدة أيام يراقب القافلة دون أن يكتشف شيئاً جديداً، وأنه لم يلاحظ إلا شيئاً واحداً، إنهم يتحدّثون أكثر فأكثر عن الحرب.
× × ×
أعاد الشاب الكتب إلى الانكليزي ذات يوم.
- حسن، هل تعلّمت الكثير؟ ـ سأل الانكليزي بفضول لجوج، فقد كان بحاجة إلى من يثرثر معه لينسى الخوف من الحرب.
- تعلّمت أن للعالم روحاً، وأن من يستطيع إدراك هذه الروح سيكون مقدوره إدراك لغة الأشياء، علمت أن خيميائيين عديدين قد عاشوا أساطيرهم الشخصية، وتوصلوا إلى اكتشاف النفس الكليّة وحجر الفلاسفة وإكسير الحياة المديدة. لكنني تعلّمت على الأخص أن هذه الأشياء على درجة من البساطة بحيث يمكن أن تُنقش على زمرّدة.
شعر الانكليزي بالخيبة لدى رؤيته أن حصيلة سنوات الدراسة والرمزو الغامضة، والكلمات المتعذّرة الفهم، وأجهزة المختبرات، لاشيء من كل هذا قد جذب انتباه الشاب.
- لابد أن نفسه فظّة وغير مصقولة لتحسس هذه الأشياء ـ قال في نفسه، ثم تناول كتبه وأعادها إلى الأكياس المعلّقة بسرج الجمل.
- عد إلى قافلتك، هي أيضاً لم تعلّمني شيئاً يُذكر.
عاد الشاب إلى تأمّل اتساع الصحراء الصامت والرمال التي تثيرها الحيوانات في سيرها.
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
- لكل طريقته في التعلّم ـ كرر الشاب في سرّه ـ فنهجه ليس نهجي، ونهجي ليس نهجه، ولكن كل واحد منا يسعى وراء اسطورته الشخصية، ولهذا فإنني احترمه.
صارت القافلة تسير ليلاً نهاراً، وفي كل لحظة كان يظهر لهم الرسل ذوو الوجوه الملثّمة، والجمّال الذي غدا صديقاً للشاب، نبأ بأن الحرب بين القبائل قد شبّت، وانهم سيكونون محظوظين لو نجحوا في الوصول إلى الواحة، فلقد أنهكت الحيوانات، والناس سادهم الصمت أكثر فاكثر، وأصبح رغاء جمل ما يخيف كل الناس، والذي لم يكن سابقاً سوى جمل يرغي، لعلّ في ذلك مؤشر لبدى هجومٍ ما ؟
ومع ذلك فإن الجمّال، لايبدو مضطرباً جداً من خطر اندلاع الحرب.
- أنا حي ـ قال الشاب وهو يلتهم حفنة من البلح في ليلة غاب فيها القمر وخمدت النار.
- عندما آكل فإنني لا أفعل شيئاً آخر سوى الأكل، وعندما أمشي، فإنني أمشي، هذا كل شيء، وإذا اضطررت يوماً للقتال، فكل الأيام تتساوى عند الموت، فأنا لا أحيا في ماضيَّ ولا في مستقبلي، فليس لي سوى الحاضر لأعيشه، وهو وحده الذي يهمّني، وإن كنت تستطيع ان تعيش الحاضر دوماً، فأنتَ إذاً رجل سعيد. ستدرك أن في الصحراء حياة، وفي السماء نجوم، وأن المتقاتلين يتحاربون لأن هذا جزءٌ من الحياة الإنسانية، والحياة ستصبح عندئذٍ احتفالاً كبيراً لأنها تمثّل دائماً اللحظة التي تعيشها فقط.
بعد انتقضاء ليلتين، وبينما كان الشاب على وشك النوم، نظر الفتى إلى السماء، نحو النجم الذي كان يرشدهم إلى وجهة سيرهم، تراءى له أن الأفق أكثر انخفاضاً بقليل من المعهود، لأن مئات النجوم كانت تعلو الصحراء.
- إنها الواحة ـ قال له الجمّال .
- لماذا إذن لانذهب إليها حالاً ؟
- لأننا بحاجة للنوم.
× × ×
فتح عينيه عندما كانت الشمس تنبثق من الأفق وأمامه، هناك حيث كانت النجوم الصغيرة تتلألأ في الليل، كان يمتد صف لانهاية له من أشجار النخيل ويحتلّ كل اتساع الصحراء.
- وصلنا إليها ـ هتف الانكليزي الذي أفاق لتوّه فرحاً.
ظلّ الشاب صامتاً، فقد تعلّم الصمت من الصحراء، واكتفى بمشاهدة أشجار النخيل تنتصب أمامه، كان مايزال عليه أن يقطع درباً طويلة كي يصل إلى الأهرامات، وفي يوم ما لن يكون هذا الصباح سوى ذكرى، أما الآن، إنها لحظة الحاضر، العيد الذي تكلّم الجمّال عنه، وكان يحاول أن يعيش هذه اللخظة مع العِبر التي استقاها من ماضيه، والأحلام التي يرسمها من أجل مستقبله، ويوماً ما لن تكون رؤية هذه الآلاف من أشجار النخيل سوى ذكرى، لكنها الآن تعني بالنسبة إليه الظل والماء وملاذاً من الحرب.
بالطريقة نفسها التي يبدو فيها جمل يرغي علامة للخطر، والشيء نفسه عندما يمكن لصف من أشجار النخيل أن يمثّل معجزة.
- العالم يتكلّم بأكثر من لغة ـ قال لنفسه.
× × ×
عندما يتسارع مرور الزمن، فإن القوافل أيضاً تَغُذّ بالمسير ـ فكّر الخيميائي وهو يرى مئات الأشخاص والحيوانات يصلون إلى الواحة، وسكّانها الذين يندفعون للقاء القادمين الجدد، والغبار المتصاعد الذي كان يحجب شمس الصحراء والأطفال يقفزون مبتهجين لدى رؤية الغرباء.
لاحظ الخيميائي أن شيوخ القبائل كانوا يتجمّعون من أجل لقاء رئيس القافلة، وان اجتماعهم معه قد طال، لكن هذا لم يثر اهتمامه بشيء، لقد استطاع أن يرى من قبل الكثير من الناس يصلون ويرحلون، ومع ذلك كانت الواحة والصحراء ثابتتين لا تتغيران، كان قد رأي ملوكاً، ومتسوّلين يجوبون هذه المساحات المديدة والرمال التي يتغير شكلها بفعل الرياح، لكنها كانت هي نفسها تلك التي عرفها مذ كان صغيراً، وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يكن يستطيع أن يخمد في أعماق قلبه شيئاً من ذلك الحبور الذي يشعر به كل مسافر، وذلك عندما رأى اخضرار النخيل يحلّ محلّ صفرة الأرض وزرقة السماء.
- ربما قد خلق الله الصحراء كي يبتهج الإنسان عند مشهد أشجار النخيل ـ فكّر ـ عزم إذن أن يفكّر بمسائل أكثر عملية، كان يعلم أن مع هذه القافلة سيصل الانسان الذي يتوجب عليه أن يعلّمه جزءاً من أسراره، أخبرته العلامات بذلك. لم يكن يعرف بعد هذا الإنسان، لكن عينيه الخبيرتين ستتعرفان عليه لمجرّد رؤيته، كان يأمل أن يكون موهوباً كتلميذه السابق.
- لستُ أدري لماذا ينبغي لهذه الأشياء ألا تُنقل إلا بالسر فقط ـ فّكر الخيميائي ـ هذا ليس إلا لأن الأمر يعني تماماً أسراراً حقيقية، فالله قد كشف أسراره بحريّة إلى كل المخلوقات.
لم يكن يرى لهذا إلا تفسيراً واحداً، هو أن هذه الأشياء قد توجّب عليها الانتقال بهذه الطريقة، لأنها دون شك قد استخلصت من حياة طاهرة. وأنه من الصعب لهذا النموذج من الحياة أن يُحَدَّ على شكل رسوم أو كلمات، لأن الناس يستسلمون لإغراء الرسوم والكلمات، واخيراً ينسون اللغة الكونية.
× × ×
اقتيد القادمون الجدد في الحال إلى حضرة شيوخ قبائل واحة الفيّوم، لم يكن الفتى ليستطيع أن يصدّق ماتراه عيناه: فبدل أن يرى يئراً محاطة ببعض أشجار النخيل (حسب الوصف الذي كان قد قرأه مرة في أحد كتب التاريخ).
لاحظ أن الواحة أكبر بكثير من العديد من قرى في إسبانية، فهي تحتوي على ثلاثمائة بئراً، وخمسين ألف نخلة، وعدد كبير من الخيام الملوّنة تنتشر بين أشجار النخيل.
- كأننا نعيش حكاية ألف ليلة وليلة ـ قال الانكليزي المستعجل لمقابلة الخيميائي.
وخلال لحظات أُحيطوا بأطفال ينظرون بفضول إلى المطيات والجمال والناس القادمين، كان الرجال يريدون أن يستعلموا عن علامات معركة، والنساء كنَّ يتنازعن على الاقمشة والأحجار الكريمة التي أحضرها الباعة، حينئذٍ بدا صمت الصحراء حلماً بعيداً، فالجيمع يتكلّمون دون انقطاع، يضحكون، ويهزجون ويغنّون بأعلى أصواتهم، وكأنهم خرجوا من عالم الروح، ليجدوا أنفسهم في عالم البشر، كان الناس فرحين وراضين، على الرغم من الحفظّات التي اتُخذت أمس، فإن الجمّال قد شرح للشاب أن الواحات في الصحراء، تُعتبر دائماً أرضاً حياديّة، لأن معظم من يعيش بها هم من الأطفال والنساء، وهناك واحات في هذا الجانب كما في الجانب الآخر، بحيث أن المتحاربين كانوا يذهبون ليتعاركوا وسط رمال الصحراء تاركين الواحات بسلام كأماكن ملاذ.
جمع رئيس القافلة كل أفرادها، ولم يكن هذا ليتم بسهولة، واعلمهم أنهم سيحلّون ضيوفاً لدى سكّان الواحات الذين سيستقبلونهم في خيامهم وسيقدّمون لهم صدر المكان طالما أن الحرب قائمة بين العشائر، فهذا هو قانون الضيافة التقليدي. ثم طلب من الجميع بما فيهم حرّاسه، بتسليم أسلحتهم إلى الرجال الذي عيّنهم رؤساء العشائر.
- هذه هي قواعد الحرب ـ وضّح ـ فالواحة لايمكن أن تكون ملاذاً للمتحاربين.
ولشدّ ما ذهل الفتى عندكا رأي الانكليزي يخرج من جيبه مسدساً مطلياً بمعدن الكرون ويسلّمه للرجل المكلّف بجمع الأسحلة.
- لماذا تحمل مسدساً؟ سأل الشاب.
- كي يساعدني على الثقة بالناس ـ أجاب الانكليزي الذي كان سعيداً لتوصّله إلى غاية هدفه.
من جهته كان الشاب يحلم بكنزه، وكلّما اقترب منه أكثر بدت الأمور تبدو أكثر صعوبة، ولم يعد يتجلى ماسماء الملك العجوز " بحظ المبتدئ "، والآن كان يعرف ذلك، يبدأ البرهان على الإصرار والشجاعة لمن يبحث عن أسطورته الشخصية، كما أن عليه ألا يُظهر أي تعجّل أو نفوذ صبر، كل لا يجازف بعدم رؤية العلامات التي وضعها الله في طريقه.
- إن الله من وضعها في دربي ـ فكّر مندهشاً، فهو نفسه حتى الآن يعتبر العلامات كشيء ينتمي إلى العالم، شيء ما كالأكل، أو النوم، كالرحيل بحثاً عن الحب أو عن العمل، لكنه لم يخطر بباله أبداً، أن يكون لغة يخاطب الله بها عبده ليرشده إلى ماعليه أن يفعل.
- لاتكن لجوجاً ـ كرّر في ذهنه ـ ومثلما قال الجمّال: " كل عندما يحين وقت الطعام، وسِر عندما تزف ساعة السير ".
في اليوم الأول كان الجميع نائمين تحت تأثير التعب، بما فيهم الإنكليزي، ألفى الشاب نفسه بعيداً في خيمة يشعلها خمسة فتيان آخرين من أقرانه.
كانوا من سكان الصحراء، ويتوقون إلى سماع قصص عن المدن الكبرى، تحدّث الشاب عن حياته كراع، وكان أن يأتي على ذكر تجربته في مخزن الزجاجيّات عندما تخل الانكليزي وقطع عليه ذلك.
- لقد بحثتُ عنك طوال فترة الصيف ـ قال الانكليزي وهو يصحب رفيقه إلى الخارج ـ يجب أن تساعدني على معرفة أين يسكن الخيميائي.
حاولا إيجاده بوسائلهما الخاصة، فلابد للخيميائي أن يعيش بنمط مختلف عن باقي سكان الواحة، ومن المُحتمل كثيراً وجود فرن مشتعل على الدوام في خيمته، وبعد طول مسير، انتهيا إلى إدراك شيء واضح وهو أن الواحة أكثر اتساعاً مما كانا يتصوّران، وأن فيها مئات ومئات من الخيام.
- لقد أضعنا نهاراً كاملاً ـ قال الانكليزي، وهو يجلس مع رفيقه قرب أحد آبار الواحة.
- ربما كان من الأفضل لو سألنا عنه ـ قال الشاب.
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
- لم يكن الانكليزي يرغب في أن يفصح عن سبب وجوده في الفيّوم، وبدا متردداً، لكنه وافق في النهاية وطلب من الشاب الذي يفوقه في تكلّم العربية، أن يأخذ الأمر على عاتقه.
تقدّم الشاب عندئذٍ من امرأة وصلت لتوّها كي تملأ قربتها ماءً وسألها:
- مساء الخير ياسيّدتي ! أودُّ لو أعرف أين يقيم خيميائي يعيش في هذه الواحة.
أجابت المرأة بأنها لم تسمع على الاطلاق أحداً أتى على ذكره. لكنها قبل أن ترحل نبّهت الشاب إلى عدم حقه في التوجه بالحديث إلى نساء يتّشحن بالسواد، لأنهن نساء متزوّجات، وهذا من التقاليد التي يجب احترامها، ثم انصرفت في الحال.
أحس الانكليزي بخيبة أمل حادة، هكذا يكون قد قام بكل هذه الرحلة من أجل لاشيء ! رفيقه أحس بالأسف أيضاً، فالانكليزي مثله كان يجري وراء اسطورته الشخصية، وعندما يكون المرء في هذا الصدد، فإن العالم بأسره يتضافر ليجعله يحصل على مبتغاه، هكذا كان قد قال الملك العجوز، ولايمكن له أن يُخطئ.
- لم أكن قد سمعت قط أحداً يتكلّم عن خيميائيين أمامي ـ قال الشاب ـ وإلا لكنتُ حاولت مساعدتك.
بريق من الأمل شع من نظرة الانكليزي وهتف قائلاً:
- لكن هذا مؤكد، فربما ليس هنا من يعرف ماهو الخيميائي ... استعلم عن الرجل الذي يعالج أمراض القرية كلها.
عدة نساء يرتدين السواد، جئن إلى البئر لإحضار الماء، لكن الشاب لم يتحدّث إليهن على الرغم من إلحاح الانكليزي، أخيراً اقترب رجل منهما، فسأله الشاب:
- هل تعرف أحداً يعالج الأمراض في القرية؟
- إن الله هو الذي يعالج الأمراض كلها، أجاب الرجل وقد بدا عليه الخوف من هذين الغريبين، انتما تبحثان عن سحرة، أنتما الإثنين ! ..
ومضي في طريقه بعد أن تلا عدة آيات من القرآن.
ظهر رجل آخر، كان أكبر عمراً من سابقه يحمل دلواً صغيراً، فطرح الشاب عليه السؤال نفسه.
- إن كان هناك وجود لهذا الرجل، فهو لابد أنه على درجة كبيرة من القوة ـ أجاب الرجل العجوز بعد قليل من التفكير ثم تابع ـ حتى أن شيوخ العشائر لايستطيعون رؤيته على هواهم عند الحاجة. يجب أن يقرر هو ذلك، انتظرا بالأحرى نهاية الحرب، وارحلا مع القافلة، ولاتسعيا أبداً إلى التوغل في حياة الواحة، ختم قوله مبتعداً.
عندئذٍ بدت شابة ترتدي ثياباً مختلفة، فابتهج الانكليزي، لقد كان على الطريق الصحيح، كانت تحمل جرّة على كتفها، وتضع خماراً حول رأسها، لكنها كانت سافرة الوجه. اقترب الشاب ليسألها عن موضوع الخيميائي.
أحس الشاب كما لو أن الزمن كان يتوقف، وكما لو أن النفس الكليّة كانت تنبعث بكل قوّتها أمامه.
وعندما رأى عينيها السوداوين، وشفتيها المترددتين بين الصمت والابتسام فهم الجزء الرئيسي من اللغة التي يتحدّثها العالم، والتي باستطاعة كائنات الأرض كلها أن تفهمها عبر القلوب.
كان هذا هو مايدعى بالحب، شيء أقدم من وجود البشر، ووجود الصحراء، والذي كان ومايزال ينبثق دائماً وبقوة، وفي كل مكان عندما تلتقي نظرتان كما تلتقي الآن هاتان النظرتان قرب البئر. انفرجت الشفتان عندئذٍ عن ابتسامة، إنها علامة، علامة كان قد انتظرها دون أن يعلم خلال فترة طويلة من حياته، ولطالما قد بحث عنها في الكتب، وقرب نعاجه، وفي الزجاجيّات، وفي صمت الصحراء.
هاهي ذي لغة الكون الخالصة، مفهومة دون أدنى شرح، لأن الكون ليس بحاجة إلى أي تفسير كي يتابع دورانه في الفضاء اللامتناهي.
إن مافهمه في تلك اللحظة هو انه أمام امرأة حياته، وعليها أن تعلم ذلك دونما أية ضرورة للكلام، كان متأكداً من هذا أكثر من تأكده من أي شيء آخر في العالم، على الرغم من أن آبائه وآباء آبائه كانوا قد قالوا إن على الانسان أن يحب أولاً، ثم يخطب، أن يعرف الآخر، وأن يملك المال قبل أن يتزوج. من كان يقول ذلك، لم يكن يعرف مطلقاً اللغة الكونية، لأن المرء عندما يغوص في هذه اللغة يسهل عليه أن يدرك أن في هذا العالم يوجد شخص ينتظر شخصاً آخر، سواء أكان هذا في وسط الصحراء أو في قلب المدن الكبرى، وعندما يلتقي هؤلاء الشخصان، وتتقاطع نظرتاهما، فإن الماضي والمستقبل لا أهميّة، ولحظة الحاضر وحدها هي التي تبقى. وهذا اليقين العجيب بأن كل شيء يوجد تحت قبة السماء قد خطّته اليد نفسها، اليد التي أنجحت الحب، وخلقت لكل كائن روح شقيقة، وهذا الكائن يعمل، ويستريح، ويبحث عن الكنوز في وضح النهار، ولو أن الأمر لم يكن كذلك، لما وجد أي معنى لأحلام الجنس البشري.
- مكتوب ـ قال في نفسه.
نهض الانكليزي الذي كان جالساً، وحرّك صاحبه قائلاً:
- هيا اذهب واسألها.
اقترب الشاب من الفتاة التي ابتسمت من جديد، فابتسم وسألها:
- ماذا تدعين؟
- فاطمة ـ أجابت وهي تغض من طرفها.
- إنه اسم تحمله بعض النسوة في البلد الذي جئتُ منه.
- إنه اسم ابنة النبي ـ قالت فاطمة ـ ومجاهدونا قد نقلوه إلى هناك.
كانت الشابة الحلوة تتحدث بفخر عن المجاهدين، والانكليزي يقف جانباً يلح، فسألها الشاب إن كانت تعرف شيئاً عن الرجل الذي يشفي الأمراض.
أجابت:
- إنه رجل يعرف أسرار العالم، وهو يتكلّم مع جن الصحراء، والجن هم جن الخير وجن الشر.
وأشارت الشابة بإصبعها باتجاه الجنوب، حيث تسكن هذه الشخصية الغريبة، ثم ملأت جرّتها ورحلت، وانصرف الانكليزي أيضاً للبحث عن الخيميائي، وبقي الشاب جالساً بجانب البئر لوقتٍ طويل، وقد أدرك أن ريح الشرق التي كانت قد حملت إليه ذات يوم عطر هذه المرأة، وأنه أحبها قبل أن يعلم إن كانت موجودة فعلاً، وأن الحب الذي يكنّه لها سوف يدفعه إلى اكتشاف أسرار الكون كلّها.
وفي الغد عاد الفتى إلى البئر لينتظر فتاته هناك، لكنه تفاجأ بوجود الانكليزي يتأمل الصحراء للمرة الأولى.
قال الانكليزي:
- لقد انتظرت طوال مابعد الظهر والمساء، لقد وصل عندما ظهرت أولى النجوم في السماء، أخبرته عن الشيء الذي أبحث عنه، وسألني إن كنت قد حوّلت الرصاص إلى ذهب، فأجبته بأن هذا ما أتمنى فعله على وجه التحديد، طلب مني عندئذٍ أن أحاول، ولم يقل شيئاً آخر سوى هاتين الكلمتين: " إذهب وجرّب ".
مكث الشاب صامتاً، وهكذا فإن الانكليزي قد قطع كل هذه المسافة ليسمع ماعرفه من قبل، وتذكّر الشاب أنه هو نفسه قد أعطى ست نعاج إلى الملك العجوز مقابل نتيجة مشابهة.
- حسن ! حاول ـ قال للإنكليزي.
- هذا فعلاً ما سأفعله، وسأباشر حالاً.
بعد انصرافه بقليل، وصلت فاطمة إلى البئر كي تملأ قربتها.
- أتيت لأقول لك شيئاً واحداً ـ قال الشاب ـ أريد أن تكوني زوجتي، فإنني قد أحببتك.
تركت الشابة آنيتها تطفح بالماء، وتابع الشاب:
- سأنتظرك هنا كل يوم، فقد عبرت الصحراء باحثاً عن كنز موجود قرب الأهرامات، كانت الحرب بالنسبة لي نقمة، والآن اعتبرها نعمة لأنها تبقيني هنا قربك.
- لابد للحرب أن تنتهي يوماً ما ـ قالت الفتاة.
تأمل أشجار النخيل، لقد كان راعياً وكان يملك قطيعاً من الغنم، أما فاطمة فهي بالنسبة له أهم من الكنز بكثير.
- المقاتلون يبحثون عن كنوزهم ـ قالت فاطمة، كما لو أنها كانت تقرأ أفكاره ـ ونساء الصحراء فخورات بمقاتليهم، ثم ملأت جرّتها من جديد وانصرفت.
صار الشاب يأتي كل يوم إلى البئر ينتظر قدوم فاطمة، يحدّثها عن حياته كراع، عن لقائه بالملك، وعن مخزن الأواني الزجاجيّة.
صارا صديقين، وصار يجد الوقت طويلاً جداً بقيّة النهار ماعدا الخمس عشرة دقيقة التي كان يقضيها بصحبتها.
كان قد مضى على وجوده في الواحة شهر تقريباً، عندما دعا رئيس القافلة الناس كلّهم إلى الاجتماع، وقال لهم:
- نحن لانعرف أبداً متى ستنتهي الحرب ولن نستطيع استئناف السفر، فالمعارك ستستمر دون شك وقتاً طويلاً، وربما سنوات... وفي كل جانب يوجد مقاتلون شجعان وأشدّاء، وكلٌ من الجيشين يعتز بالقتال، ليس هناك حرب بين الأخيار والأشرار، إنها حرب بين قوى تتصارع للوصول إلى السلطة نفسها، وعندما تنشب معركة من هذا النوع، فإنها تستمر أكثر لأنه في مثل هذه الحالة يكون الله مع الجانبين في آنٍ واحد.
تفرّق الناس، وفي ذلك المساء رأى الشاب فاطمة من جديد ونقل لها مادار في الاجتماع.
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
في مقابلتك الثانية ـ قالت الشابة ـ حدّثتني عن حبك، ثم علّمتني الكثير من الأشياء الجميلة كلغة النفس الكليّة مثلاً، وكل هذا قد جعل مني شيئاً فشيئاً جزءاً منك.
كان الشاب يصغي إلى صوتها فيجده أجمل من حفيف سعف النخيل، ثم تابعت:
- منذ زمن طويل وأنا أجيء إلى هنا، قرب البئر لانتظارك، إنني لم أتوصّل لأتذكر ماضيَّ والتقاليد، ولا للطريقة التي يرغب بها الرجال أن تسلكها نساء الصحراء، منذ صغري كنتُ أحلم بأن تمنحني الصحراء يوماً ما أجمل حاضر في حياتي، وهاهي ذي تمنحني هذا الحاضر الذي هو أنت.
أراد الشاب أن يمسك بيدها، لكن فاطمة كانت تمسك بعروتي الجرّة. ثم أردفت:
- لقد حدّثتني عن أحلامك، عن الملك العجوز، عن الكنز، حدّثتني عن العلامات، ذاك مايجعلني لا أخشى شيئاً، لأن العلامات هي التي قادتك إليَّ، وصرتُ جزءاً من حلمك ومن أسطورتك الشخصيّة، مثلما تقول باستمرار، ولهذا السبب بالذات، أريد لك أن تتابع طريقك نحو ماجئت من أجله، إن كان يتوجّب عليك الانتظار حتى تنتهي الحرب فهذا عظيم، أما إذا كان عليك أن تسافر، فانطلق إذن نحو أسطورتك الشخصيّة، فإن الكثبات تتغير بفعل الرياح، لكن الصحراء تبقى دائماً نفسها، وهذا ماسيكون عليها حبنا، إنه لقدرٌ مكتوب، ولو كنتُ حقاً أمثّل جزءاً من أسطورتك الشخصيّة فإنكَ ستعود يوماً ما.
لقد أحس بالحزن حين غادرها، كان يفكّر بالناس الذي عرفهم، فالرعاة كانوا يعانون كثيراً لإقناع زوجاتهم بالضرورة التي تفرض عليهم التجوال في الأرياف، لكن الحب يتطلّب البقاء قرب المحبوب.
وفي الغد حدّث فاطمة عن كل هذه الأشياء، فقالت:
- الصحراء تأخذ منا رجالنا، ولاتعيدهم في بعض الأحيان، ينبغي علينا أن نعتاد على ذلك، وعندئذٍ نراهم حاضرين في السحب التي تمرّ دون أن تمطر، وفي الحيوانات التي تختبئ وسط الحجارة، والماء الفيّاض الذي ينبجس من الأرض، فهم ساعتها يشكّلون جزءاً من كل شيء ويصبحون النفس الكليّة، البعض يعود، وحينذاك تلقى النساء الأخريات سعيدات لأن الرجال الذين ينتظرنهم يمكن ان يعودوا ذات يوم. سابقاً، كنتُ أرى تلك النسوة، وأحسدهن على سعادتهن، وها أنذا الآن مثلهن، وسيكون لي من انتظر عودته، فأنا إحدى نساء الصحراء وأنا فخورة بذلك. أريد لزوجي أيضاً أن يسير حرّاً كالريح التي تحرّك الكثبان، أريد أن أحظى برؤيته في السحب، وفي الحيوانات، وفي الماء.
ذهب الشاب للقاء الانكليزي ليحدّثه عن فاطمة وقد تفاجأ عندما لاحظ أنه قد بنى فرناً صغيراً بجانب خيمته، كان فرناً غريباً، وُضعت فوته قارورة شفّافة، وكان الانكليزي يلقم النار بالحطب، ويتأمل الصحراء.
عيناه كانتا تبدوان أكثر لمعاناً مما كانت عليه عندما كان يمضي كامل وقته غارقاً بين الكتب.
بادر الانكليزي قائلاً:
- هذه أولى مراحل العمل، عليَّ أن أفصل الكبريت الشائب، وحتى أتوصّل إلى ذلك ينبغي عليّ ألا أخشى الاخفاق، لأن خوفي هو الذي منعني من اكتشاف هذا الانجاز العظيم، ها أنذا الآن أبدأ ماكان يجب ان أقوم به منذ عشرات السنوات، لكنني مع ذلك سعيد، لأنني لم انتظر عشرين سنه أخرى. وتابع إذكاء النار وهو يرقب الصحراء، بقي الشاب قربه بعض الوقت، حتى الساعة التي تلوّنت بها الصحراء بلون غروب الشمس الوردي، عندئذٍ شعر برغبة عارمة بالذهاب إلى هناك لعلّ بمقدور الصمت الإجابة على أسئلته.
مشى لبعض الوقت دون هدف، دون أن تغيب عن ناظريه نخلات الواحة، مصغياً إلى الريح، متحسساً الحصى تحت أقدامه، كان يجد بعض الأصداف، وكان يعلم أن هذه الصحراء كانت منذ عهد بعيد بحراً واسعاً، جلس على حجر كبيرة، وتركنفسه يسحر بالأفق الذي كان قبالته. لم يكن يستطيع أن يتصوّر الحب مجرّداً من فكرة التملّك، لكن فاطمة كانت واحدة من نساء الصحراء، ولعل أهم شيء بمقدوره أن يعينها على الإدراك هو الصحراء.
مكث هكذا دون أن يفكّر بشيء، إلى أن احسَّ بشيء يتحرّك فوق رأسه، نظر في الجو فرأى صقرين يحلّقان عالياً في السماء.
راقب الطيرين الجارحين والأشكال التي كانا يرسمانها في طيرانهما، كانت في الظاهر خطوطاً غير منتظمة، لكنها مع ذلك كانت بالنسبة له ذات معنى، إلا أنه لم يستطع تحليل معناها، قرر أن يتابع حركات الطائرين بنظره علّه يكتشف رسالة ما، ربما يمكن للصحراء أن تفسّر له الحب دون تملّك.
أحس بالنعاس يتلسلل إليه، لكن قلبه كان يأبى عليه ذلك، وبالعكس تماماً ينبغي عليه أن يستسلم ـ ها أنذا من يدخل صميم لغة الكون، فكل شيء في الأرض صار له معنى حتى طيران الصقور نفسه.
لقد أحسَّ بنفسه مكنّاً بالعرفان لهذا الحب الذي يحمله لإمرأة، فقال لنفسه:
- عندما نحب يصبح للأشياء معنى أكبر.
وفجأة انتفض أحد الصقرين لمهاجمة الآخر، في هذه اللحظة بالتحديد لاحت للشاب رؤيا مفاجئة ووجيزة: زمرة مسلّحة كانت تجتاح الواحة، والسويف كانت مسلولة، وامَّحت الرؤيا في الحال تاركة فيه انطباعاً حاداً. كان قد سمع من قبل عن السراب، وكان قد رأي بعضها، إنها رغبات تتجسد على رمال الصحراء، ومع ذلك لم يكن يرغب بالتأكيد رؤية جيس يستولي على الواحة.
أراد أن ينسى هذا ويعود إلى تأمله، وهو يحاول من جديد أن يركّز على الصحراء الوردية وعلى الحجارة، لكن شيئاً ما في داخله كان يخطف السكينة من قلبه.
تذكّر قول العجوز: " اتبع العلامات دائماً " .
فكّر بفاطمة، ثم تذكّر الرؤيا التي تجلّت له، وحدس بأنها قريباً سوف تتحوّل إلى واقع، بصعوبة استطاع أن يتغلّب على الضيق الذي يختنقه. نهض ثانية وبدأ يمشي صوب أشجار النخيل، ومن جديد أدركَ لغة الأشياء الجديدة: أصبحت الصحراء الآن موطن الأمان، طالما أن الواحة قد غدت موطن الخطر.
كان الجمّال جالساً قرب إحدى النخلات، يرقب أيضاً غروب الشمس، عندما رأى الشاب قادماً من وراء الكثبان، فبادر الشاب قائلاً:
- هناك جيس يتقدّم، فقد حصلت لديّ رؤيا.
- الصحراء توحي إلى قلوب الناس بالكثير من الرؤى ـ أجاب الجمّال.
لكن الشاب حدّثه عن الصقرين، لقد كان يراقب طيرانهما، عندما غاص فجأة في النفس الكليّة.
لم يجب الجمّال بشيء لقد فهم ماكان محاوره يقول، كان يعلم أن أي شيء على وجه الأرض يمكن له أن يحطي قصة الأشياء كلّها وعندما نفتح كتاباً على صفحة ما لا على التعيين، أو عندما نتفحصّ كفّ انسان ما، أو نراقب طيران الطيور، أو ننظر في ورق اللعب، أو أي شيء آخر كائناً ماكان، فإن كل واحد منا سيستطيع اكتشاف تلك الرابطة بين كل ماهو حي. وفي الحقيقة ليست الأشياء هي التي تكشف أي شي بذاتها، وإنما هم البشر الذين يراقبون هذه الأشياء ويكتشفون الطريقة التي تمكّنهم من دخول النفس الكلية.
الصحراء آهلة برجال يكسبون معيشتهم لأن باستطاعتهم اقتحام النفس الكليّة بسهولة، وقد عُرفوا باسم " العرّافين "، وكان المسنّون والنساء يهابونهم، ولم يكن المحاربون ليستشيرونهم إلا فيما ندر، لأنه لاداعي للذهاب إلى المعركة عندما تعرف مسبقاً اللحظة التي تموت فيها. كان المقاتلون يفضّلون نكهة القتال، وركوب المخاطر، ولمس المجهول، فالمستقبل قدر كتبه الله، وأيّاً كان هذا المكتوب، فإنه دائماً لخير الناس. إذن، فالمحاربون يعيشون الحاضر فقط لأن الحاضر يعجّ بالمفاجآت، وعليهم أن يكونون متيقظّين للكثير من الأشياء: أين يوجد سيف العدو، أين فرسه وأين عليه أن يضرب ليتحاشى الموت.
لم يكن الجمّال مقاتلاً، وكان قد استشار العرّافين، الكثيرون منهم ذكروا أشياء حقيقية وأخبره آخرون بأشياء خاطئة إلى أن ٍاله أحدهم ذات يوم وهو الأكبر سناً والأكثر هيبة عن سرّ اهتمامه بمعرفة المستقبل.
أجاب الجمّال:
- كي أستطيع القيام بأشياء عدة، ولكي أغيّر مجرى مالا أحب أن يقع لي.
- عندئذٍ لن يكون هذا مستقبلك ـ علّق العرّاف.
- لكن ربما أريد معرفة المستقبل لأحضّر نفسي لتلقي ماينبغي أن يحصل
أجاب العرّاف:
- لو كانت أموراً جيّدة، لحصلت على مفاجأة جميلة، ولو كانت سيئة فإنها ستسبب لك العذاب قبل وقوعها.
قال الجمّال:
- أريد أن أعرف المستقبل لأنني إنسان، والناس يعيشون تبعاً لمستقبلهم.
مكث العرّاف لحظة دون أن ينطق بشيء، اختصاصه كان بلغة العيدان، التي يلقيها أرضاً، يفسّر الطريقة التي توزّعت بها على الأرض، لكنّه في ذلك اليوم لم يستعمل العيدان، بل لفّها في قماش قطني، وأعادها إلى جيبه قائلاً:
- إنني أكسب معيشتي كعرّاف يتنبأ بمستقبل الناس، إنني أعرف علم العيدان، وأعرف كيفية استعمالها، كي أوغل في هذا الفضاء، حيث كل شيء كُتب مسبقاً، واستطيع فيه أن أقرأ الماضي، واكتشف المنسي، وأفهم علامات الحاضر، وعندما يستشيرني الناس فإنني لا أقرأ مستقبلهم، أنا أخمّنه لأن المستقبل ملك لله ووحده يكشف ستره، كيف لي أن أخمّن المستقبل؟ الفضل في ذلك يعود لعلامات الحاضر، فالسرّ يكمن في الحاضر. وإذا تنبّهت إلى حاضرك، بإمكانك جعله أفضل، وإن حسّنت الحاضر، فإن مايعقبه يكون جيّداً، انسَ المستقبل وعش كل يوم من حياتك حسب تعاليم الشريعة، وثق بعناية الإله تجاه أبنائه، فكل يوم يحمل الخلود في طيّاته.
أراد الجمّال أن يعرف ماهي تلك الظروف الاستثنائية التي يسمح الإله فيها بمعرفة المستقبل.
http://fm.jsad.net/images/sandsofhom...er_offline.gif
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
هذا عندما هو نفسه يزيح الستر عنه، ونادراً مايكشفه، وذلك لسبب واحد: إنه مستقبل كُتب ليتغير.
- لقد أظهر الله للشاب مستقبلاً ما، لأنه أراد أن يجعل منه أداته ـ حدّث الجمّال نفسه، ثم قال للشاب:
- اذهب للقاء شيوخ القبائل، وحدّثهم عن المقاتلين الذين يقتربون.
- سيسخرون مني.
- إنهم من أبناء الصحراء، وهم معتادون على العلامات.
- إذاً فهم يعلمون ذلك مسبقاً.
- ليس هذا همّهم، فهم يعتقدون بأنه لو أراد الله لهم أن يعلموا بشيء، فإن الله سيعمل على ذلك وسيأتي من يخبرهم به، وهذا ماحدث مراراً، أما اليوم فإنك أنت هذا الرسول.
فكّر الشاب بفاطمة، وقرّر الذهاب للقاء شيوخ القبائل.
- إنني أحمل رسالة من الصحراء ـ قال للحارس الذي كان يقوم على حراسة خيمة بيضاء كبيرة مقامة في مركز الواحة ـ أريد التحدّث إلى الشيوخ.
لم يجب الخفير بشيء، دخل الخيمة، مكث فيها وقتاً طويلاً ثم خرج بصحبة أعرابي شاب يرتدي ثياباً بيضاء ويتقلّد الذهب، وروى له الشاب ماكان قد رآه، فطلب منه العربي أن ينتظر قليلاً ثم عاد إلى خيمته.
هبط الليل، عرب وتجار كثر، دخلوا وخرجوا، وشيئاً فشيئاً كانت نيران الوقد تخمد، وأضحت الواحة خلال لحظات صامتة كصمت الصحراء، لم يبقَ مشتعلاً إلا ضوء الخيمة الكبيرة، وبمرور الوقت لم يتوقف الشاب عن التفكير بفاطمة، دون أن يفهم جيداً ما أسفرت عنه المحادثة التي تمّت مابعد الظهر.
أخيراً، وبعد ساعات عديدة من الانتظار أدخله الحارس.
مارآه جعله يشرد في ذهول شديد، فلم يكن ليتخيّل قط وجود خيمة كهذه في وسط الصحراء، كانت أرضها مغطاة بأجمل السجاد الذي لم يسبق له أن مشى عليه، من الأعلى ثريات تتدلى، شمعدانات مذهّبة ومنقوشة تحمل شموعاً مشتعلة، وشيوخ العشائر يجلسون في الخيمة على شكل نصف حلقة، متكئين على أرائك حريرية مطرّزة بأبهة، خدم يأتون ويروحون حاملين أطباقاً عليها مالذ وطاب من الطعام ويقدّمون الشاي، آخرون يسهرون على إبقاء جمرات النراجيل مشتعلة، ورائحة تبغ طيبة تعطّر الجو.
لكنه فهم في الحال أيّهم الأعلى قدراً، إنه عربي يرتدي البياض ويضع الذهب، وكان يجلس في مركز نصف الحلقة، وبجانبه يجلس الشاب الذي كان قد تحدّث معه منذ وقت قصير.
- من هو الغريب الذي يتحدّث عن رسالة؟ سأل احد الشيوخ وهو ينظر إليه.
- إنه أنا، وروى ماكان قد رآه.
- هل للصحراء أن تقول هذه الأشياء لرجل قدم من مكان آخر، وهي تعلم أننا نقيم هنا منذ أجيال عديدة؟ قال شيخ آخر.
- لأن عينيّ لم تعتادا بعد على الصحراء بحيث أنني أستطيع أن أرى مالا تستطيع العيون المعتادة عليها أن تراه، ولأنني أعرف ماهي النفس الكليّة ـ قال لنفسه، لكنه لم يضف شيئاً لأن العرب لايعتقدون بتلك الأشياء.
قال شيخ ثالث:
- الواحة أرض محايدة، ولن يهاجمها أحد.
- إنني أروي مارأيته، وإذا كنتم لا تريدون تصديقي، فلا تفعلوا شيئاً.
أطبق الصمت على الخيمة، ثم أعقبته مشاورة حادة بين الشيوخ العشائر، كانوا يتكلّمون بلغة عربية محلية، لم يفهمها الشاب، لكنه عندما تظاهر بأنه يريد الخروج، طلب منه الحارس أن يبقى. بدأ يكابد بعض الخوف، فالعلامات كانت تنبئه بأن شيئاً ما لايسير على مايرام وتأسّف لأنه أخبر الجمّال عن هذا الأمر.
فجأة ابتسم الرجل المسن الذي كان يحتل مركز الخيمة ابتسامة شبه خفيّة، فاطمأن الشاب. لم يكن الشيخ العجوز قد ساهم في النقاش، ولم يكن بعد قد نطق بأية كلمة، لكن الشاب كان معتاداً على اللغة الكونية، واستطاع أن يشعر برعشة سلام تجوب الخيمة من طرف إلى آخر، حدسه قال بأنه قد فعل خيراً بمجيئه.
انتهى النقاش، وصمت الجميع لينصتوا إلى ذلك الرجل العجوز يتكلّم، وقد التفت إثر ذلك إلى الغريب، وقد بدت الآن تعابير وجهه صارمة ومتحفظّة.
- منذ ألفي عام، في بلاد بعيدة، أُلقي برجل في بئر، وبِيع كعبد، كان يؤمن بالاحلام وقد اشتراه تجار من عندنا، واصطحبوه إلى مصر، وكلنا يعلم أن من يعتقد بالأحلام يعرف تفسيرها.
- ومع أنه لايصل دائماً إلى تحقيقها ـ فكّر الشاب متذكّراً الغجرية العجوز.
وتابع الشيخ:
- وبفضل الحلم بالبقرات العجاف، والبقرات السمان، الذي حلمه فرعون، فقد استطاع ذلك الرجل إنقاذ مصر من المجاعة، كان يُدعى " يوسف "، وكان مثلك غريباً في أرضٍ غريبة، وكان له تقريباً نفس عمرك.
امتد الصمت، وبقيت نظرة العجوز صارمة.
- نحن نتّبع التقاليد دائماً ـ ردّد ـ فالتقاليد قد انقذت مصر من المجاعة آنذاك، وجعلت من شعبها أكثر الشعوب ثراءً، التقاليد تعلّم كيف ينبغي على الرجال عبور الصحراء، وتزويج بناتهم، التقاليد تقول أن الواحة تمثّل أرضاً محايدة لأن المعسكرين يمتلكان واحات وهي ضعيفة أمام العدوان.
لم يلفظ أحد أدنى كلمة عندما كان الرجل العجوز يتكلّم.
- لكن التقاليد أيضاً تدعونا للوثوق برسائل الصحراء، وكل مانعرفه، فإنما الصحراء علّمتنا إياه.
أشار بإصبعه، فهبّ كل الأعراب واقفين، فقد انتهى الاجتماع، واُطفئت النراجيل، وعدَّل الحرّاس وضعيتهم.
تهيأ الشاب لمغادرة المكان لكن العجوز استأنف الكلام:
- غداً سنفسخ الاتفاق القاضي بمنع حمل السلاح في الواحة، وسننتظر العدو أثناء النهار، وعندما تميل الشمس للغروب، فإن الرجال سيعيدون لي أسلتحهم، ومقابل كل عشرة قتلى من العدو ستلقى قطعة من الذهب. على كل حال، لا يمكن للأسلحة أن تخرج إلا إلى المعركة، إنها متقلّبة المزاج كالصحراء، وإن أخرجناها من أجل لاشيء فبإمكانها رفض إطلاق النار، وإن لم تُستعمل أياً منها غداً، فإن واحدة على الأقل ستُستخدم ضدّك.
عندما غادر الخيمة لم تكن الواحة مضاءة إلا بنور القمر، وعليه أن يمشي عشرين دقيقة كي يصل إلى خيمته، فمضى في دربه.
كان يقاسي ألماً شديداً من جرّاء ما حصل، لقد غاص في النفس الكليّة، وربما سيدفع حياته ثمناً لذلك، اختبار عسير، لكن كان قد راهن منذ اليوم الذي باع فيه أغنامه لكي يتبع أسطورته الشخصيّة.
ومثلما قال الجمّال: " الميتة واحدة سواء أكانت غداً، أو في يوم آخر، وماوُجد أيُّ يوم إلا لنعيشه أو لنخرج فيه من الدنيا، وكل شيء من الوجود مبني على كلمة واحدة: مكتوب "
سار بصمت، غير آسف على شيء، وإن كان سيفترض أن يموت غداً، فليس هذا إلا لأن الله لايريد تغيير المستقبل، ولكنه سيموت بعد أن اجتاز المضيق، وعمل في متجر الزجاجيّات، وعرف الصحراء، وعيون فاطمة، فمنذ أن غادر بلده وهو يعيش أيامه بحدّة، وكان هذا منذ زمن طويل، وإن قُدّر له أن يموت غداً، فلا بأس لأن مارأته عيناه من الدنيا يفوق مارأته عيون الكثيرين من الرعاة الآخرين، وهو فخور بذلك.
فجأة، رنَّ في أذنه صوت أشبه بالدوي، وسقط أرضاً، مدفوعاً بهبة ريح شديدة العنف، واجتاحت المكان سحابة من الغبار غطّت تقريباً ضوء القمر، وأمامه شب حصان ضخم ذو صهيل مرعب.
كان يميّز مايجري بصعوبة، ولكن عندما تبدد الغبار أحس برعب فظيع لم يسبق إطلاقاً أن أحسّ بمثله، فقد برز أمامه رجل يمتطي صهوة الحصان، ويرتدي ثياباً سوداء، يعلون كتفه الأيسر صقر، وقد غطّى رأسه بعمامة ولثام يحجب كل وجهه ماعدا عينيه، يبدو أنه رسول الصحراء، وله حضور لايرتقي إليه أحد في العالم.
وامتشق هذا الفارس الغريب سيفاً كبيراً ذا نصل مقوّس، كان معلّقاً بسرج حصانه، إنه من الفولاذ ويتألّق تحت ضوء القمر.
- من تجرّأ أن يفسّر طيران الصقرين؟
سأل بصوت قوي، حتى لكأنه يرجع صدى خمسين ألف شجرة نخيل.
- أنا من تجرأ ـ قال الشاب متذكّراً في الحال تمثال القدّيس جاك، شاطر العرب إلى شطرين، ساحقاً الكفار بسنابك حصانه الأبيض، إنه الشيء نفسه تماماً، ماعدا أن الوضع الآن معكوس !
- أنا تجرّأت ـ كرّر الشاب، وأحنى رأسه مستعداً لضربة السيف، العديد من الأرواح البشرية سيُكتب لها النجاة، لأنك لم تحسب حساباً للنفس الكليّة.
لم يخفض السلاح بسرعة، ويد الفارس نزلت على مهل، ورأس السلاح الذي لامس جبهة الشاب كان حاداً، فسالت منه قطرة من الدماء.
كان الفارس والشاب كلٌّ في مكانه لا يتزحزح، وحتى فكرة الهروب لم تخطر بباله، جذل غريب استحوذ على فؤاده، سيموت في سبيل اسطورته الشخصيّة ومن أجل فاطمة، والعلامات في النهاية لم تخطئ، فالعدة هنا وليس عليه أن يأبه بالموت طالما أن النفس الكليّة حاضرة، بعد قليل سيصبح جزءاً منها، وغداً سيصبح العدو جزءاً منها.
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
اكتفى الغريب بتثبيت رأس السيف على جبهته.
- لماذا قرأت في طيران الصقرين؟
- قرأت فقط ماكانت تريد الطيور أن تحكيه، فهي تريد أن تنقذ الواحة وأنت وجماعتك ستموتون، فرجال الواحة أكثر عدداً منكم ـ وطرف السيف الحاد مايزال موضوعاً على حبهته.
- من أنت كي تغيّر القدر الذي خطته يد الله؟
- خلق الله الجيوش، وخلق الطيور أيضاً، والله هو الذي أطلعني على لغة الطيور، فكل شيء قد كُتب بيد واحدة ـ قال الفتى، متذكّراً ماقاله الجمّال.
أخيراً رفع الفارس سيفه، وأحس الشاب بالانفراج، غير أنه لم يكن يستطيع الهرب.
- حذار من التنبؤات، فعندما تكون الأمور مكتوبة، فليس هناك مجال لتلافيها.
- لقد رأيت جيشاً، ولم أرَ نهاية المعركة.
بدا الفارس مقتنعاً بالاجابة، لكنه بقي محتفظاً بسيفه في يده، ثم سأله:
- ماذا يفعل غريب في أرض غريبة؟
- أبحث عن أسطورتي الشخصيّة، هذا شيء لن تستطيع فهمه أبداً.
أعاد الفارس سيفه إلى غمده، أطلق الصقر الجاثم على كتفه صرخة غريبة، فبدأ الشاب يستريح.
- كان عليَّ أن أمتحن شجاعتك، فالشجاعة هي الفضيلة الأولى لمن يبحث عن اللغة الكونية.
دهش الشاب، هذا الرجل يتحدّث عن أشياء لايعرفها إلا قلّة من الناس.
- يجب عدم الاستسلام إطلاقاً، حتى لو توصّل الانسان في معرفته إلى مدى بعيد ـ تابع الفارس ـ فعليه أن يحب الصحراء، ولكن عليه ألا يثق بها تماماً، فالصحراء هي محك الرجال: إنها تمتحن الانسان من خلال خطواته وتقتل من ينصرف للعبث.
كلماته كانت تذكّره بكلمات الملك العجوز.
ثم أضاف الفارس:
- إن جاء المقاتلون، وإن بقي رأسك فوق كتفيك، فغداً وبعد غروب الشمس تعالَ لأراك.
واليد التي كانت تقبض بالسيف صار فيها سوط، ثم شب الحصان من جديد، مثيراً سحابة من الغبار.
ودلّت اليد الممسكة بالسوط على جهة الجنوب.
الشاب كان قد التقى الخيميائي.
× × ×
صباح الغد كان هناك ألفا رجل مدججين بالسلاح وسط أشجار نخيل الفيّوم، وقبل أن تبلغ الشمس أوج السماء، ظهر عند الأفق خمسمائة محارب.
دخل الفرسان الواحة من الشمال، كانت الحملة سِلميّة، لكن الأسلحة كانت مخبّأة تحت برانسهم البيضاء، وعندما وصلوا بالقرب من الخيمة الكبيرة المنتصبة في مركز الواحة، أظهروا سيوفهم المعقوفة، وبنادقهم وهاجموا خيمة خالية.
طوّق رجال الواحة فرسان الصحراء، وفي ظرف نصف ساعة، كانت هناك أربعمائة وتسعة وتسعين جثة مبعثرة على الأرض، كان الأطفال في الجهة الأخرى من بستان النخيل، ولم يروا شيئاً، والنساء كنَّ في الخيم يبتهلن من أجل أزواجهن، وهنَّ لم يرين شيئاً أيضاً.
وعلى الرغم من كثرة الجثث الهامدة في كل مكان، فإن الواحة بدت وكأنها تعيش يوماً عادياً.
محارب واحد فقط نجا من الموت في الموقعة، هو ذاك الذي كان يقود المقتحمين، وقد اقتيد في المساء ليمثل أمام شيوخ القبائل الذين سألوه عن سبب انتهاكه لحرمة التقاليد.
أجاب أن رجاله كانوا يقاسون الجوع والعطش، منهكين من المعركة التي طال أمدها، فعزموا على الاستيلاء على واحة ما، كي يستطيعوا استئناف القتال.
أعرب شيخ الواحة عن حزنه تجاه هؤلاء المحاربين الذين كان ينبغي عليهم احترام التقاليد في أي ظرف كان، فالشيء الوحيد الذي يتغير في الصحراء هو الكثبان عندما تهب الريح.
ثم حكم الشيخ على المعادي بميتة غير مشرّفة، فبدل أن يُقتل بالسلام الأبيض، أو بطلقة من بندقية، فإنه سيموت شنقاً، معلقاً بجذع نخلة يابسة، وستبقى جثّته تتأرجح في مهب ريح الصحراء.
استدعى شيخ القبيلة الشاب الغريب، وأعطاء خمسين قطعة ذهبيّة، ثم ذكّر من جديد بسيرة يوسف في مصر، وطلب من الشاب أن يظل اعتباراً من الآن مستشار القبيلة.
× × ×
عندما غابت الشمس، وبدأت أولى النجوم بالظهور، ( لم تكن تلمع كثيراً لأن القمر كان بدراً)، ذهب الشاب نحو الجنوب ولم يكن هناك إلا خيمة واحدة، وحسب بعض العرب الذين كانوا يمرّون من هناك فإن المكان مسكون بالجن، لكنّه جلس وانتظر طويلاً.
ظهر الخيميائي بينما كان القمر مايزال عالياً في السماء حاملاً على كتفه صقرين ميتين.
- ها أنذا ـ قال الشاب.
- كان ينبغي عليك أن تكون هنا، أم أن أسطورتك الشخصيّة اقتضت عليك المجيء؟
- هناك حرب بين العشائر وليس من الممكن عبور الصحراء.
نزل الخيميائي عن حصانه، وأشار إلى الشاب أن يدخل معه خيمته، كانت مشابهة لكل الخيام التي تمكّن من رؤيتها في الواحة، باستثناء الخيمة المركزية الكبيرة التي تذكر فخامتها بحكايات الجن.
جال بنظره باحثاً عن أجهزة وعن أفران خيمياء، لكنه لم ير شيئاً من ذلك، كان هناك فقط أكداس من الكتب، وموقد صغير لتحضير الطعام، وسجادات مزخرفة برسوم غريبة.
- أجلس سأحضر الشاي ـ قال الخيميائي ـ وسوف نأكل معاً هذين الصقرين.
تساءل الشاب، إن كان هذان الصقران، هما نفسهما اللذان رآهما عشيّة البارحة، لكنه لم يقل شيئاً.
أشعل الخيميائي النار، وبعد قليل عبقت في الخيمة رائحة لحم شهيّة، كانت ألطف بكثير من رائحة النرجيلة.
- لماذا كنت تريد رؤيتي؟ سأل الشاب.
أجاب الخيميائي:
- بسبب العلامات، فالريح قد أخبرتني بأنك ستأتي وبأنك ستحتاج للمساعدة.
- لا ليس أنا، إنه الغريب الآخر، فالانكليزي هو الذي كان يبحث عنك.
- سينبغي عليه أن يجد أشياء أخرى قبل أن يراني، لكنه على الطريق الصحيحة، فقد بدأ بتمعّن الصحراء.
- وأنا؟
- عندما يريد الإنسان شيئاً، فإن الكون كلّه يتضافر ليسمح له بتحقيق حلمه ـ قال الخيميائي مردداً كلمات الملك العجوز.
فهم الشاب، أن إنساناً آخر ينتظره، كي يقوده إلى أسطورته الشخصيّة.
- ستعلّمني إذن.
- كلا، فأنت تعرف مسبقاً ماعليك معرفته وبكل بساطة سأرشدك فقط إلى الدرب التي تقودك إلى كنزك.
- هناك الحرب بين العشائر ـ كرّر الشاب.
- لكنني أعرف الصحراء.
- لقد وجدتُ كنزي، لدي جمل، والمال الذي كسبته من متجر الزجاجيّات، والقطع الذهبيّة الخمسون، فأنا أسطيع أن أكون إنساناً غنيّاً في بلدي.
- لاشيء من كل هذا يوجد قرب الأهرامات.
- لديَّ فاطمة، إنها أعظم كنز استطعت الحصول عليه.
- هي أيضاً ليست قرب الأهرامات.
أكلا الصقرين بصمت، وفتح الخيميائي زجاجة، وصبَّ منها سائلاً أحمر في قدح ضيفه، كان نبيذاً من أطيب انواع النبيذ التي شربها في حياته.
- لكن الشرع يحرّم الخمر.
رد الخيميائي:
- الشر ليس بما يدخل فم الانسان، وإنما بما يخرج منه.
وما إن شرب حتى أخذ يحس بأنه على أحسن مايرام، لكن الخيميائي كان يخيفه قليلاً. ثم ذهبا ليجلسا خارج الخيمة، وبدآ يتأملاّن نور القمر الذي يغمر ضوء النجوم.
- اشرب وتمتع بجزء من وقتك ـ قال الخيميائي ملاحظاً أن الشاب أصبح مرحاً أكثر فأكثر ـ واستراح دائماً كما يستريح مقاتل قبل ذهابه إلى المعركة، لكن لاتنسَ أن فؤادكَ يوجد حيث يوجد كنزك، ولابد لكنزك أن يُكتشف، حتى يكون هناك معنى لكل ماكتشفته في دربك.
- بعْ جملكَ غداً، واشترِ حصاناً، فالجمال غدّارة، لأنها تقطع آلاف الخطوات دون أن تدعك ترى أية دلالة على أنها متعبة، وفجأة تخرّ على ركبها وتموت، أما الخيول فإنها تتعب تدريجياً وستعرف دائماً الحدّ الذي يمكنك أن تطالبها به، واللحظة التي ستموت فيها.
× × ×
وفي الغد وصل الفتى أمام خيمة الخيميائي، ممتطياً حصاناً، انتظر لحظة حتى ظهر له راكباً بدوره حصاناً، والصقر جاثم على كتفه الأيسر.
http://fm.jsad.net/images/sandsofhom...er_offline.gif
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
قال الخيميائي:
- أرني الحياة في الصحراء، فوحده الذي يستطيع أن يجد فيها الحياة يستطيع أن يكتشف فيها الكنوز.
مضيا في طريقهما عبر الرمال، وضوء القمر يغمرهما.
- لستُ أدري إن كنت سأنجح في إيجاد ثمة حياة في الصحراء ـ فكّر الشاب ـ فأنا لا أعرف الصحراء بعد.
أراد أن يلتفت كي يعلن للخيميائي عن فكرته، لكنه كان يخافه، وهاهما قد وصلا الآن إلى المكان الكثير الحصى حيث كان قد رأى فيه الصقرين في السماء.
الآن، كل شيء كان يلّفه الصمت والريح.
لا أستطيع التواصل إلى لقاء الحياة في الصحراء، فأنا أعلم أنها موجودة، لكنني لا أتوصل إلى إيجادها.
- الحياة تجذب الحياة ـ أجاب الخيميائي.
فهم الشاب ماكان يقصد بقوله، وفي الحال أرخى عنان حصانه الذي أخذ يعدو على هواه وسط الحجارة والرمال، كان الخيميائي يتبعه واستمر حصان الشاب يسير هكذا لمدة نصف ساعة.
لم يكن الرجلان يستطيعان أن يميّزا نخيل الواحة، لم يكن هناك إلا صفاء السماء العجيب، يجعل الصخور تلمع كلمعان الفضّة، وفجأة وفي مكان لم يأت إليه مطلقاً من قبل أحس الشاب أن مطيته قد توقفت.
- هنا توجد الحياة ـ قال الخيميائي ـ فإنني لا أعرف لغة الصحراء، لكن حصاني يعرف لغة الحياة.
تسمرّا في الأرض، لم يقل الخيميائي شيئاً، بل أخذ في تأمّل الحجارة وهو يتقدّم ببطء.
توقف فجأة وانحنى بدراية فائقة، فإن جحراً كان هناك في الأرض بين الأحجار، أدخل الخيميائي فيه يده، ثم مدّ ذراعه كلّها حتى الكتف، شيء ما تحرّك هناك في الداخل، واغمضت عينا الخيميائي لتشهدا على الجهد الذي كان يبذله، يبدو أن اليد كانت في عراكٍ مع مايوجد داخل الجحر. وثب الكيميائي وثبة أخافت صاحبه وقد سحب ذراعه ونهض واقفاً، كانت يده تمسك بأفعى من ذيلها.
قفز الشاب إلى الخلف، حيث كانت الأفعى تتخبط بجنون، وتُصدر فحيحاً يقطع صمت الصحراء، إنه ثعبان كوبرا يمكن لسمّه أن يقتل رجلاً في بضعة دقائق.
- حذار من السّم ـ نبهه الشاب.
لكن الخيميائي الذي أدخل يده في الحجر لا بد أن يكون قد لُسع، على الرغم من ذلك كانت هيئته مشرقة.
الخيميائي رجل طاعنٌ في السن وهو يبلغ من العمر مائتي عام. هكذا كان قد قال له الانكليزي، ولابد أنه يعرف كيف يتعامل مع ثعابين الصحراء.
رأى الشاب صاحبه يعود إلى حصانه، ويتناول سيفه الهلالي الكبير، وبه رسم دائرة على الأرض، ثم وضع الأفعى وسط هذه الدائرة، وفي الحال شلّت حركتها.
- لاتقلق ـ قال الخيميائي ـ فهي لن تخرج من هنا أبداً، وقد اكتشفت الحياة في الصحراء، إنها العلامة التي أحتاجها.
- لِمَ ؟ هل لذلك أهميّة كبيرة؟
- لأن الأهرامات تقع وسط الصحراء.
لم يكن الشاب يريد أن يسمع حديثاً عن الأهرامات، فؤاده كان مُجهَداً وحزيناً منذ مساء الأمس، وجدّه في طلب الكنز يعني في الحقيقة تخليه عن فاطمة.
قال الخيميائي: سأقودك عبر الصحراء.
- أريد البقاء في الواحة ـ أجاب الفتى ـ لقد التقيت بفاطمة، وهي أغلى لدي من أي كنز,
- فاطمة بنت الصحراء، فهي تعلم أن على الرجال الرحيل كي يعودوا. هي وجدت كنزها الذي هو أنت، وهي تنتظر منك أن تجد ماتبحث عنه.
- وإن قررتُ البقاء؟
- ستكون مستشار الواحة، وستملك من الذهب مايكفي لشراء عدد جيد من الأغنام والجمال وستتزوج فاطمة، وستعيش سعيداً.
في السنة الأولى ستتعلم حب الصحراء، وستعرف كل نخلة من أشجار نخيلها الخمسين ألفاً، ستدرك كيف تنمو، وسوف تريك عالماً لا يتوقف أبداً عن الغيير، وستصبح ضليعاً في تحليل العلامات، لأن الصحراء أعظم معلّم بين المعلّمين.
في السنة الثانية، ستتذكر وجود الكنز، والعلامات ستحدّثك عنه بإلحاح، وستحاول ألا تهتم بذلك، وستسخّر معارفك لخير الواحة وساكنيها فقط، وسيكون شيوخ القبائل في غاية الامتنان لك، وجِمالك ستجلب لك الغنى والسلطة.
في السنة الثالثة، ستستمر العلامات في التحدّث عن الكنز، وعن أسطورتك الشخصيّة، ستقضي الليالي هائماً على وجهك في الواحة، وستصبح فاطمة حزينة لأن مسيرتك انقطعت بسببها، لكنك ستستمر في حبها لك وستتقاسمان هذا الحب، ستتذكر أنها لم تطالبك البقاء، لأنها امرأة من الصحراء، تحسن انتظار عودة زوجها، لن تحقد عليها، لكنك ستمشي الليالي في رمال الصحراء، وسط أشجار النخيل، ظانّاً أنك ربما كنت تستطيع متابعة طريقك، مُعتمداً أكثر على حبك لفاطمة، لأن ما سيجعلك تبقى في الواحة هو فقط خوفك من عدم تمكّنك من الرجوع إليها أبداً، وعندما تصل إلى هذا الحدّ فإن العلامات ستبيّن لك أن كنزك قد توارى إلى الأبد تحت التراب.
في السنة الرابعة، ستتخلى عنك العلامات، لأنك لم ترد الاصغاء لها وسيفهم ذلك شيوخ القبائل وسوف تُخلع من عملك كمستشار، ستصبح عندئذٍ تاجراً ثريّاً، يملك عدداً من الجِمال، ووفرة من البضائع، لكن ستقضي مابقي من أيامك هائماً وسط أشجار النخيل والصحراء، وأنت تعرف أنك لم تكمل أسطورتك الشخصيّة، وعندما يحصل ذلك فهذا يعني أنه لم يكن يحباً حقيقياً، ذاك الذي يتكلّم اللغة الكونية.
محى الخيميائي الدائرة التي خطّها على الرمل، وثعبان الكوبرا هرب بسرعة ليختفي بين الحجارة.
كان الفتى يتخيّل تاجر الزجاجيّات الذي طالما أراد الذهاب إلى مكة، والانكليزي الذي يبحث جاهداً عن الخيميائي، وامرأة تثق بالصحراء التي ساقت إليها الانسان الذي أحبه قلبها.
امتطيا حصانيهما، وفي هذا المرّة فإن الشاب هو الذي تبع الخيميائي. كانت الريح تحمل ضجيج الواحة، وكان الشاب يحاول التعرّف على صوت فاطمة، ففي ذلك اليوم لم يتمكّن من الذهاب إلى البئر بسبب المعركة. لكن في تلك الليلة، وبينما كان يشاهد الثعبان داخل الدائرة، فإن الفارس الغريب مع صقره الذي يحط على كتفه، قد تكلّم عن الحب والكنوز وعن نساء الصحراء وعن أسطورته الشخصيّة.
- سأذهب معك ـ قال الشاب، وأحس فوراً بالأمان يستقر في داخله.
- سننطلق غداً قبل شروق الشمس.
كانت هذه هي إجابة الخيميائي الوحيدة.
× × ×
لم يستطع الشاب أن ينام تلك الليلة، فقبل الفجر بساعتين أيقظ وحداً من الفتيان الذين في الخيمة، وطلب منه أن يرشده إلى مكان سكنى فاطمة.
خرج الإثنان وذهبا إلى هناك.
وبالمقابل أعطى الشاب لديله مايكفي لأن يشتري له نعجه، ثم ترجاه أن يبحث عن خيمتها، وأن يوقظها، ويخبرها بأنه ينتظرها في الخارج، نفذّ الفتى العربي مهمّته، وتلقى كأجر مالاً يكفي لشراء نعجة أخرى.
- الآن دعنا وحدنا ـ قال للفتى الذي عاد وهو يشعر بالسعادة لمساعدته مستشار الواحة، وماكسبه من مال يكفي لشراء نعجتين.
ظهرت فاطمة على باب الخيمة، فراحا يتمشيّان معاً وسط أشجار النخيل، كان يعلم أن هذا مُخالف للتقاليد التي يقدّر أهميّتها في هذه اللحظة.
قال:
- سأرحل وأريد أن تعلمي أنني سأعود، أنا أحبك لأن ...
- لاتقل شيئاً ـ قاطعته فاطمة ـ إننا نحب لأننا نحب، لايوجد سبب آخر كي نحب.
مع ذلك فقد استأنف:
- أحبكِ لأنني رأيت حلماً، ثم التقيتُ ملكاً، بعت الزجاجيّات، عبرت الصحراء، ثم تقاتلت العشائر، وجئت قرب بئر لأعلم أين يسكن خيميائي، أحبك لأن الكون كلّه قد تضافر ليوصلني إليكِ.
تعانقا، وكانت تلك المرة الأولى التي يتلامس فيها جسداهما.
- سأعود ـ قال الشاب أيضاً.
- من قبل، عندما كنت أنظر إلى الصحراء، فقد كنت أنظر إليه بشوق، أما الآن فسوف يستحيل هذا الشوق إلى أمل، فقد سافر والدي ذات يوم، لكنه عاد إلى أمي، ومايزال يعود في كل مرة يسافر فيها.
لم يقولا شيئاً بعد، وإنما مشيا قليلاً وسط صريمة النخيل ثم أوصلها حتى مدخل خيمتها.
- سأعود مثلما عاد أبوكِ إلى أمكِ ـ قال لها، وقد لاحظ أن عينيها قد اغرورقتا بالدموع.
- أنتِ تبكين؟
- صحيح أنني بنت الصحراء ـ أجابت وهي تخفي وجهها ـ لكنني امرأة فوق كل اعتبار.
عادت فاطمة إلى خيمتها، بينما كانت الشمس تشرف على الشروق، وعند مطلع النهار ستخرج لتفعل ماكانت تفعله منذ سنوات، لكن كل شيء قد تغيّر، فالشاب لم يعد في الواحة.
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
والواحة فقدت ذلك المعنى الذي كانت تنطوي عليه حتى ذلك الحين، لن تصبح بعد الآن، تلك البقعة الكبيرة ذات الخمسين ألفاً من أشجار النخيل، وذات الثلاثمائة بئراً، والتي كان يبتهج الحجيج عند الوصول إليها بعد سفر طويل، واعتباراً من هذا اليوم لن تكون الواحة سوى مكان خاو، منذ الآن ستكون الصحراء أكثر أهمية من الواحة، وستقضي وقتها مراقبة السماء، متسائلة أي نجم سيكون دليل الشاب في بحثه عن كنزه، ولسوف ترسل له قبلاتها عبر الأثير آملة أن تلامس وجهه وتخبره بأنها على قيد الحياة، وأنها بانتظاره، كامرأة تنتظر رجلاً جسوراً يتابع طريقه بحثاً عن الكنوز والأحلام.
من اليوم لن يكون من الصحراء إلا الأمل بعودته ثانيةً.
× × ×
- لاتفكّر بمن خلّفت وراءك ـ قال الخيميائي عندما بدءا مسيرتهما في الصحراء ـ كل شيء منقوش في النفس الكليّة وسيبقى فيها إلى الأبد.
قال الشاب الذي بدأ يألف صمت الصحراء من جديد:
- الرجال لا يحلمون بالعودة أكثر مما يحلمون بالرحيل.
- إن كان ماوجدته يتكوّن من المادة النقيّة فإنه لن يفسد مطلقاً، ولسوف تستطيع العودة إليه يوماً، وإن لم تكن إلا ومضة مؤقتة، كانفجار نجم، فإنك لن تجد شيئاً عند عودتك، ولكنك تكون قد رأيت ضوءاً يومض، وهذا وحده يستحق أن يُعاش.
كان الرجل يتحدّث بلغة الخيمياء، لكن رفيق دربه فهم بأنه يلمّح إلى فاطمة.
لقد كان من الصعب جداً عدم التفكير بمن خلف وراءه، فالصحراء ذات الشكل الواحد في كل مكان لاتتوقف عن الاكتناز بالأحلام، والشاب مازال يرى أشجار النخيل والآبار، ووجه محبوبته، كان يرى الانكليزي ومختبره، والجمّال الذي كان معلّماً وهو لا يعلم ذلك.
- قد يكون الخيميائي لم يحب امرأة في حياته ـ قال لنفسه.
كان الخيميائي يسير في المقدّمة، وعلى كتفه الصقر، إنه يعرف لغة الصحراء، فعندما كانا يتوقفان كان الصقر يفارق كتف الخيميائي ويطير للبحث عن الغذاء، وقد أحضر في اليوم الأول أرنباً بريّاً وفي اليوم التالي طائرين.
في المساء مدَّا أغطيتهما على الأرض، لكنهما لم يشعلا النار. كانت ليالي الصحراء باردة، وظلمتها تشتد أكثر كلما أخذ القمر يفك تصالبه في القبة الزرقاء.
خلال أسبوع بكامله، تقدّما بصمت، لم يتحدّثا إلا عن الاحتراسات التي صارت حتمية لتلافي الوقوع في خضم المعارك الدائرة، فحرب العشائر كانت مستمرة، والريح كانت تحمل أحياناً رائحة الدماء النقيّة، فلعلّ معركة قد شبّت في هذه النواحي، والريح مازالت تذكر الشاب بلغة العلامات المستعدة دوماً أن تكشف له مالا تستطيع عيناه أن تراه.
في مساء اليوم السابع من السفر، قرر الخيميائي أن يخيّم في العراء، أبكر من المعتاد.
انطلق الصقر بحثاً عن طريدة، فتناول الخيميائي قربة من الماء وقدّمها إلى الشاب قائلاً:
- ها أنت ذا ستصل قريباً إلى نهاية رحلتك، لقد تتبّعت أسطورتك الشخصيّة، وأنا أهنئك.
- لكنك قدتني دون أن تقول كلمة، لقد ظننت أنك ستعلّمني علمك كلّه، فمنذ بعض الوقت ألفيت نفسي في الصحراء، بصحبة رجل كان بحوزته كتب في الخيمياء لكنني لم أستطع أن أتعلّم شيئاً.
أجاب الخيميائي:
- ليس هناك إلا طريقة واحدة للتعلّم: " التعلّم بواسطة العمل "، إنه السفر من يعلّمك ماكنتَ بحاجة إلى معرفته، ولا ينقصك إلا شيء واحد.
أراد الشاب أن يعرف ماهو، لكن الخيميائي حافظ على نظره محدّقاً في الأفق يراقب عودة الصقر.
- لماذا يدعونك بالخيميائي؟
- لأنني كذلك.
- وماهو الأمر الذي جعل الخيميائيين يخفقون في بحثهم عن الذهب؟
- لقد اكتفوا بالبحث عن الذهب، فقد بحثوا عن أسطورتهم الشخصيّة دون رغبة بأن يعيشوا الأسطورة نفسها.
- وما الذي مايزال ينقص معرفتي؟ ألحّ الشاب.
- لكن الخيميائي ظل يحدّق في الأفق.
وبعد أن عاد الصقر بفريسته، حفرا حفرة، وأشعلا النار فيها حتى لا يتمكّن أحد من رؤية ضوء اللهب.
- إنني خيميائي، لأنني خيميائي ـ أجاب بينما كانا يحضّران وجبتهما ـ وقد أخذتُ هذا العلم عن أسلافي الذين أخذوه عن أسلافهم، وهكذا على التوالي منذ خلق الكون، حيث كان من الممكن للإنجاز العظيم كلّه أن يكون مكتوباً على زمرّدة بسيطة. لكن البشر لم يعطوا أية أهمية للأشياء البسيطة وبدأوا بكتابة مؤلفات وترجمات ودراسات فلسفية، وادّعوا بأنهم قد عرفوا السبيل بشكل أفضل مما عرفه الآخرون.
سأل الشاب:
- ما الذي كان مدوّناً على لوحة الزمرّد؟
بدأ عندها الخيميائي بالرسم على الرمل، ولم يستغرق معه هذا العمل أكثر من خمس دقائق.
وبينما كان يرسم فقد تذكّر الشاب الملك العجوز، والمكان الي ضمّهما في يوم غابر وقد بدا له ذلك مغرقاً في القدم.
قال الخيميائي:
- هذا ماسُجّل على لوح الزمرّدة.
عندما انتهى، اقترب الشاب وقرأ الكلمات المكتوبة على الرمل.
- إنها رموز ـ قال وقد خاب ظنّه قليلاً بلوح الزمرّد، وحسبها تلك التي كانت موجودة في كتب الإنكليزي,
أجاب الخيميائي:
- لا إنه كطيران الصقرين. ولا ينبغي لهذا أن يفهم وذلك لسبب وحيد: هو أن لوح الزمرّد معبر مباشر يفضي إلى النفس الكليّة، ولقد فهم الحكماء أن هذا العالم الطبيعي ليس إلا صورة مشابهة او نسخة عن الجنّة، وطالما أن العالم موجود، فهذا وحده دليل كاف على أن هناك عالماً أكثر كمالاً منه، وقد خلقه الله كي يستطيع البشر إدراك تعاليمه الروحانية، ومعاجز حكمته، وهو ما أدعوه بالعمل.
- هل يتوجب عليَّ أن أفهم لوح الزمرّد ـ سأل الشاب.
- ربما، فلو كنت في مخبر خيميائي، لتسنّت لك دراسة أفضل الطرق لفهم لوح الزمرّد، لكنك في الصحراء، فخير لك أن تتوغل بها أكثر، فهي تفيد بفهم الكون أكثر من أي شيء آخر على سطح الأرض، حتى أنك لست بحاجة إلى فهم الصحراء، بل يكفي أن تتأمل حبة رمل بسيطة، لترى فيها عجائب الخلق كلّها.
- كيف عليّ أن أتصرّف كي أوغل في رحم الصحراء؟
- أصغِ إلى قلبك، إنه يعرف كل شيء، لأنه وُلد من النفس الكليّة، وإليها ذات يوم سيعود.
× × ×
سارا بصمت طيلة يومين، بدا الخيميائي محترساً أكثر، لأنهما كانا يقتربان من منطقة المعارك الأكثر ضراوة، بينما كان الشاب يجهد نفسه في سبيل الإصغاء إلى قلبه.
كان قلباً عصيّاً على الاستجابة، فمن قبل كان مستعداً دائماً للرحيل، أما الآن فهو يريد الوصول مهم كلّف الثمن.
لقد روى له قلبه مرّات عديدة قصصاً تلهب عنده الحنين إلى الوطن، وأحياناً كان قلبه يتأثر عن شروق الشمس في الصحراء، فيجعله يبكي ويبكي في الخفاء، لكنّه كان يخفق بسرعة عندما يحدّثه عن الكنز، وتتباطأ دقاته كلّما شردت عينا الفتى في أفق الصحراء اللامتناهي.
غير أنه لم يكن ليصمت أبداً حتى عندما لم يكن الشاب يتبادل أية كلمة مع الخيميائي.
- لماذا علينا أن نصغي إلى قلوبنا ؟ ـ سأل في ذلك المساء بينما كانا يتوقفان في استراحة.
- لأنه حيث يكون قلبك يكون كنزك.
قال الشاب:
- قلبي مضطرب، إنه يحلم، يفكّر، وهو عاشق لفتاة من الصحراء، ويطالبني بأشياء تقضّ مضجعي عندما أفكّر بها.
- هذا جيّد فقلبك حيّ، واظب على الاصغاء لما يقوله لك.
وخلال ثلاثة أيام متتالية، التقيا عدة مقاتلين، ولمحا آخرين أيضاً عند خط الأفق، بدأ قلب الشاب يتحدّث عن الخوف، روى قصصاً قد سمعها من النفس الكليّة، قصص عن رجال ارتحلوا بحثاً عن كنوزهم، لكنهم لم يجدوها على الإطلاق.
كان قلبه يخيفه أحياناً، من احتمال فكرة عدم توفقه في إدراك الكنز، أو احتمال موته في الصحراء، أو كان يقول له بأنه الآن راضٍ من فوزه بلقاء حبه واكتسابه العدد كبير من القطع الذهبيّة.
- قلبي خائن ـ قال الشاب للخيميائي عندما توقفا لإراحة حصانيهما ـ إنه لا يريد لي أن أتابع طريقي.
أجاب الخيميائي:
مشاركة: الخيميائي لباولو كويلو
- هذا جيّد، فهذا برهان على أن قلبك يحيا، وإنه لشيء طبيعي أن تخاف مبادلة كل مانجحت في الحصول عليه من قبل مقابل حلم.
- إذن لماذا عليّ أن أصغي إلى قلبي؟
- لأنك لن تتوصل أبداً إلى إسكاته، حتى لو تظاهرت بعدم سماع ما يقوله لك، سيبقى هنا في صدرك، ولن ينقطع عن ترديد مايفكّر به حول الحياة والكون.
- حتى وهو خائن.
- الخيانة هي الضربة التي لاتتوقعها، وإن كنتَ تعرف قلبك جيّداً، فإنه لن يستطيع مباغتتك على حين غرّة، لأنك ستعرف أحلامه، ورغباته وستعرب كيف تتحسب لها، لا أحد يستطيع التنكّر لقلبه، ولهذا يكون من الأفضل سماع مايقول كي لايوجه لك ضربة لم تكن تتوقعها أبداً.
تابع الفتى الإصغاء إلى قلبه بينما كانا يتقدّمان في الصحراء، وقد توصّل إلى معرفة حيله ومناوراته، وانتهى إلى قبوله كما هو عليه، عندئذٍ أحجم عن الخوف، وعن الرغبة في العودة على أعقابه، لأن قلبه قال له ذات مساء أنه كان مسروراً: " حتى لو تذمرت قليلاً، فهذا لأنني قلب رجل وقلوب الرجال هي هكذا دوماً، إنهم يخافون تحقيق أعظم أحلامهم، لأنهم يظنون إنهم إما لا يستحقّون بلوغها، أو لا يستطيعون النجاح في بلوغها، فنحن القلوب نموت لمجرّد التفكير بحب توارى إلى الأبد، أو بلحظات وُئِدت، وكان من الممكن لها أن تكون رائعة، وبالكنوز التي لم يُقدّر لها أن تُكتشف وبقيت مطمورة في الرمال، وأخيراً عندما يحصل هذا فإننا نتعذّب بشكل رهيب ".
- إن قلبي يخشى العذاب ـ قال الشاب للخيميائي في ليلة كانا يراقبان فيها السماء المظلمة.
- قل له إن الخوف من العذاب أسوأ من العذاب نفسه، وليس هناك من قلب يتعذّب عندما يتبع أحلامه، لأن كل لحظة من البحث هي لحظة لقاء مع الله و الخلود.
- كل لحظة في البحث هي لحظة لقاء ـ قال الشاب لقلبه ـ عندما كنت أبحث عن كنزي، فإن أيامي كلها كانت ساطعة، لأنني علمت أن كل ساعة تمر كانت جزءاً من حلم إيجاده، عندما كنت أبحث عن كنزي اكتشفت في طرقي أشياء لم أكن أحلم أبداً بمصادفتها لو لم أملك الشجاعة لمحاولة القيام بأشياء مستحيلة على الرعاة.
دبت الطمأنينة في قلبه طيلة مابعد ظهيرة ذلك اليوم، وفي الليل نام بهدوء، وعندما أفاق أخذ قلبه يقصّ عليه أشياء عن النفس الكليّة، قال إن كل رجل سعيد كان هو ذاك الذي اعتنق الله في داخله، وأنه يمكن للسعادة أن تكون موجودة في حبة رمل بسيطة في الصحراء على حد قول الخيميائي، لأن حبة الرمل هي لحظة من عملية الخلق، وأن الكون قد كرّس ملايين وملايين السنين في خلقها.
- " لكل امرئ على الأرض كنزه الذي ينتظره ـ قال له قلبه ـ فنحن القلوب، نادراً مانتحدّث عنها، لأن البشر لايريدون العثور على هذه الكنوز، نحن لا نتحدّث عنها إلا للأطفال الصغار، وبعد ذلك ندع للحياة أن تتحمّل مسئولية قيادة كل واحد نحو قدره، ولسوء الحظ فإن قليلاً من البشر يتبعون الدرب الذي خطّته لهم الحياة، والذي هو سبيل الوصول إلى الأسطورة الشخصيّة وإلى السعادة.
جلّ الناس ينظرون إلى العالم كمصدر تهديد، ولهذا السبب فإن العالم يصبح في الواقع شيئاً مهدداً، عندئذٍ فإننا نحن القلوب نبادر إلى الحديث بصوت منخفض أكثر فأكثر لكننا لانصمت إطلاقاً، ونتمنّى بألا يكون كلامنا مسموعاً، نحن لانريد للبشر أن يتعذّبوا لأنهم لم يسلكوا الطريق التي أرشدناهم إليها ".
- لماذا لاتقول القلوب للناس أن عليهم ملاحقة أحلامهم ؟ سأل الشاب الخيميائي.
- لأن القلب هو من يتعذّب في هذه الحالة، والقلوب لاتحب العذاب.
منذ ذلك اليوم، أصغى الشاب إلى قلبه فطلب منه ألا يتخلّى عنه أبداً، وأن ينقبض في صدره عندما يكون بعيداً عن أحلامه وأن يعطيه إنذار الخطر، وأقسم أنه سيأخذ حذره في كل مرة يسمع فيها هذا الإنذار.
- ماذا عليّ أن أفعل الآن؟ سأل الشاب.
قال الخيميائي:
- واصل السير باتجاه الأهرامات، وابق متيقظاً للعلامات، فقلبك الآن قادر أن يدلّك على مكان الكنز.
- كان هذا إذن ما أجهله حتى الآن ؟!
- لا، والشيء الذي ماتزال معرفتك تفتقر إليه هو التالي:
" قبل تحقيق حلم ما، تريد النفس الكليّة أن تُقوّم كل ما اكتسبه المرء أثناء تجواله، وعندما تفعل، فليس ذلك نتيجة عدوانيّة تجاهنا، وإنما كي نستطيع وحلمنا اكتساب الدروس التي تعلمناها ونحن ماضون نحوها، إنها اللحظة التي يتراجع فيها معظم الناس، وهذا مانسميه بلغة الصحراء: الموت عطشاً عندما تكون أشجار النخيل على مرمى النظر في الأفق. إن أي بحث يبدأ بحظ المبتدئ، ويكتمل بامتحان الفاتح ".
تذكّر الشاب المثل الشعبي القديم والشائع في بلده الذي يقول:
" أشدّ ساعات اليوم ظلمة هي تلك التي تسبق طلوع الشمس ".
× × ×
أولى إشارات الخطر الحقيقي بدت في الغد، فقد ظهر ثلاث محاربين، وسألوا المسارفين لدى اقترابهم منها، عمَّ كانا يفعلان هناك.
أجاب الخيميائي:
- جئت لأصطاد مع صقري.
- علينا أن نفتّشكما كي نرى إن كنتما لاتحملان أسحلة ـ قال أحد المقاتلين.
نزل الخيميائي عن حصانه بكل هدوء، وصاحبه حذا حذوه.
- لماذا كل هذا المال؟ سأل المقاتل لذى رؤيته كيس نقود الشاب.
- للوصول حتى مصر.
الرجل الذي كان يفتّش الخيميائي وجد معه قارورة صغيرة من الزجاج مليئة بسائل، وبيضة من الزجاج صفراء اللون بحجم بيضة الدجاج تقريباً.
- ماهذا؟ سأل.
- إنه حجر الفلاسفة، وإكسير الحياة، إنجاز الخيميائيين العظيم، من يشرب من هذا السائل لن يتعرّض للمرض أبداً، وإن كسرة صغيرة جداً من هذا الحجر تحوّل أي معدن إلى ذهب.
انفجر الرجال الثلاثة ضحكاً، وشاركهم الخيميائي بالضحك، فقد وجدوا الجواب مضحكاً، ثم سمحوا لهما بالذهاب مع كل مايملكانه دون أن يعرقلا مسيرتهما أكثر.
- هل أنت مجنون ؟! ـ سأل الشاب، عندما صارا على مسافة منهم ـ لماذا أجبتَ هكذا؟
- كي أظهر لك واحداً من قوانين العالم، قانوناً بسيطاً للغاية: " عندما تكون كنوزنا قريبة جداً منا، فإننا لا نلاحظها أبداً، أتعلم لماذا؟ لأن الناس لا يؤمنون بالكنوز ".
تابعا مسيرهما في الصحراء، وكلما كانت الأيام تمرّ كان قلب الشاب يميل أكثر فأكثر إلى الصمت. لم يكن ليهتم بأشياء الماضي أو المستقبل بل اكتفى بتأمل الصحراء والارتواء مع الشاب من النفس الكليّة. فقلبه وهو صارا صديقين حميمين غير قادرين بعد الآن على أن يخون أحدهما الآخر.
فعندما كان القلم يتكلّم، كان بقصد حث وتشجيع الشاب الذي كان يجد أيام الصمت الطويلة متعبة بشكل مقيت، وللمرة الأولى حدّثه قلبه عن مزاياه العظيمة: الشجاعة التي هوّنت عليه هجران أغنامه ليعيش أسطورته الشخصيّة، والحماس الذي أبداه في متجر الزجاجيّات.
أخبره بشي آخر لم يلاحظه الشاب من قبل: الأخطار التي كان يسير بمحاذاتها ولم يتبيّنها، ففي إحدى المرّات كان قد أخفى المسدس الذي اختلسه من أبيه، وأوشك فعلاً أن يصيب نفسه به، ذكّره في يوم كان قد تألّم فيه، وهو في وسط الريف: تقيأ، ثم نام زمناً لابأس به، بينما كان هناك اثنان من قطّاع الطرق على مسافة منه، وكانا قد عزما على سرقة أغنامه واغتياله، وعندما لم يأت فقد رحلا ظناً منهما بأنه غيّر خط سيره.
سأل الشاب الخيميائي:
- هل القلوب تكون عوناً للناس دائماً؟
- إنها تساعد فقط الذين يعيشون أسطورتهم الشخصيّة، لكنها تساعد كثيراً الأطفال، والسكّيرين والمسنّين.
- هل هذا يعني أن الخطر لاوجود له؟
- هذا يعني بكل بساطة أن القلوب تعمل كل مابوسعها ـ أجاب الخيميائي.
مرّا ذات مساء على مضرب خيام لإحدى العشائر المتحاربة، حيث كان هناك الكثير من الأعراب بزيّهم الرائع، وأسلحتهم الجاهزة، كان الرجال يدخّنون النرجيلة ويثرثرون، متحدّثين عن الحروب، لكن أحداً لم يعر اهتماماً للمسافرين.
- لايوجد أي خطر ـ قال الشاب بعد أن ابتعدا.
غضب الخيميائي قائلاً:
- ثق بقلبك، ولاتنسَ أبداً أنك في الصحراء، فعندما يتحارب الناس فإن النفس الكليّة هي أيضاً تسمع صيحات القتال، ولا أحد في منجى مما يمكن أن يحصل تحت السماء.
- كل شيء هو شيء واحد وفريد ـ قال الشاب في نفسه.
وفجأة ظهر فارسان وراء المسافرين، فكأن الصحراء كانت تريد أن تثبت حكمة الخيميائي الشيخ.
قال أحدهما:
- لن تستطيعا المضي بعيداً، فأنتما في منطقة المعارك.
- أنا لستُ بذاهب إلى أبعد من ذلك.