عبد الله :
هذه الشبهة من جنس الشبهة الأولى , والأثر غير صحيح , ولكن على القول بصحته فإن جبريل عليه السلام عرض عليه أن ينفعه بأمرٍ يقدر عليه فإنه كما قال الله عز وجل فيه:
( شَدِيدُ الْقُوَى) (لنجم:5)
فلو أذن الله له أن يأخذ نارإبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها بالمشرق أو المغرب لما أعجزه ذلك , وهذا كرجل غني له مالٌ كثير يرى رجلاً محتاجاً فيعرض عليه أن يقرضه شيئاً يقضي به حاجته , فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ , ويصبر حتى يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد , فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك التي تفعل الآن !
وأعلم يا أخي أن الأولين الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أخف شركاً من شرك أهل زماننا :
وذلك لأمور ثلاثة :
أحدها :
أن الأولين لا يشركون مع الله غيره إلا في الرخاء , وأما في الشدة فيخلصون الدين لله , والدليل قوله عز وجل :
(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) (العنكبوت:65)
وقوله عز وجل :
(وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (لقمان:32) ,
فالمشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعون الله ويدعون غيره في الرخاء , وأما في الشدة فلا يدعون إلا الله وحده , وينسون سادتهم , وأما مشركوا زماننا فإنهم يدعون غير الله في الرخاء والشدة , ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً راسخاً , والله المستعان !
الأمر الثاني :أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله : إما نبياً أو ولياً أو ملكاً , أو على الأقل حجراً أو شجرة مطيعة لله عز وجل وليست عاصية , وأهل زماننا يدعون مع الله أناساً من أفسق الناس , والذي يعتقد في الصالح , والذي لا يعصي مثل الخشب والشجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به .
الأمر الثالث :
أن جملة مشركي زمن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان شركهم في توحيد الألوهية ولم يكن في توحيد الربوبية ,خلاف لشرك المتأخرين , فإن الشرك واقع بكثرة في الربوبية ,
كما أنه واقع في الألوهية كذلك , فهم يجعلون الطبيعة مثلاً هي المتصرف في الكون من الإحياء والإماته ...الخ
ولعلي أختم كلامي بذكر مسألة عظيمة تفهم بما تقدم وهي أنه لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بقول وعمل القلب واللسان , وفعل الأسباب بعمل الجوارح , فإن اختل شئ من هذا لم يكن الرجل مسلماً. فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند , كفرعون وإبليس ,
وهذايغلط فيه كثير من الناس ويقولون :
هذا حق , ولكن لا نقدر أن نفعله , ولا يجوز عند أهل بلدنا , ولا بد من موافقتهم ومداهنتهم خوفاً من شرهم , ولم يعرف المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشئ من الأعذار , كما قال عز وجل :
(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة:9)
وإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق , وهو شرٌ من الكافر الخالص , لقوله عز وجل :
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا) (النساء:145) وهذه المسألة تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس :
فترى من يعرف الحق , ويترك العمل به لخوف نقص دنياه كقارون , أو جاه كهامان , أو ملكه كفرعون , وترى من يعمل به ظاهراً لاباطناً كالمنافقين , فإذا سألته عما يعتقده بقلبه فإذا هو لا يعرفه .
ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله عز وجل :
الآية الأولى:
ما تقدم وهو قوله تعالى :
(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ..) (التوبة:66) ,
فإذا علمت أن بعض الذين غزوا الروم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه اللعب والمزاح تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفاً من نقص مال, أو جاه, أومداراة لأحد, أعظم ممن يتكلم بكلمةٍ يمزح بها , لأن المزاح في الغالب لا يعتقد في قلبه ما يقوله بلسانه لإضحاك القوم , أما الذي يتكلم بالكفر, أو يعمل به خوفاً أو طمعاً فيما عند المخلوق , فقد صدق الشيطان بميعاده
(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ..) (البقرة:268)
وخافه بوعيده :
(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ..) (آل عمران:175)
, ولم يصدق الرحمن بميعاده :
(وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً ..) (البقرة:268)
ولم يخف الجبار بوعيده :
(فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:175)
فهل يستحق أن يكون من أولياء الرحمن أم من أولياء الشيطان ؟!
والآية الثانية :
قوله تعالى :
(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل:106)
فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان , وأما غيره فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفاً , أو طمعاً , أو مداراة لأحد , أو مشحة بوطنه , أو أهله أو عشيرته , أو ماله أو فعله على وجه المزاح , أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره , فإن الآية تدل على أن الإنسان لا يكره إلا على العمل , والكلام , والفعل , وأما عقيدة القلب فلا يكره عليها احد , وقوله تعالى :
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (النحل:107)
فصرح أن العذاب لم يكن بسبب الإعتقاد , والجهل والبغض للدين , أو محبة الكفر , إنما سببه إنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا , فآثره على الدين , والله أعلم ..
وبعد هذا كله ألم يأن لك – هداك الله – أن تتوب إلى ربك وتعود إليه وتترك ما أنت عليه , فإن الأمر كما سمعت جِِدُ خطير , والمسألة عظيمة , والخطب جَلَل.
يتبع ان شاء الله