هل هو عالم "مركوزي" أم عالم "سميركل"؟
هل هو عالم "مركوزي" أم عالم "سميركل"؟يبدو العالم اليوم في فوضى عارمة، وليس فوضى منظمة كما يدعون. أمريكا في حالة صراع مع الذات، إذ تبدو كالقطة العمياء التي ضلت الطريق فسقطت في الماء، وعندما ذهبت إلى المدفأة لتجفف نفسها، اقتربت من النار كثيرًا فاحترقت. أمريكا ليست فقط منقسمة على نفسها، بل هي تأكل نفسها من الداخل، ولا تكاد تخرج من أزمة حتى تسقط في كارثة.
أوروبا العجوز تبدو وقد اقتربت كثيرًا من حافة القبر. فهناك سقوط أخلاقي واقتصادي فرض على اليونان، وانقلاب اقتصادي في إيطاليا، وتخفيض ائتماني لفرنسا، وارتعاش عنيف في أسبانيا التي لم يعد يعمل فيها شيء سوى كرة القدم، وتذبذب في ألمانيا، وهروب في بريطانيا، وهبوط حر لليورو وفشل لفكرة الوحدة الأوروبية التي لا يُعرف أعضاؤها حتى الآن هل عددهم 17 أم 27؟
وحال العالم العربي أسوأ بكثير، إذ بدأ الخريف قبل أن يكتمل الربيع، وتحولت ثورات الديموقراطية إلى بيروقراطية عسكرية وقبائلية، وصار الإنسان العربي الواعي الذي يفكر في مخرج من الأزمات المفتعلة والمشتعلة، تائهًا ومرتبكًا لا يعرف هل يكون مع أم ضد؛ هل يؤيد أم يعارض؛ هل يثور أم يخور؛ وهل يدعو للثورات أم يدعو عليها.
في روسيا خرجت الثورات كما في أمريكا. في الأولى يطالبون بانتخابات حرة وتقليص دور الحكومة والحد من تدخلها وتغولها ضد القطاع الخاص، وفي الثانية يطالبون بحكومة نظيفة تطبق الوعود الانتخابية الكاذبة، مع المزيد من التدخل الحكومي للحد من تغول ونفوذ مافيا البنوك وممارسات لصوص القطاع الخاص. الروس والأمريكان يخرجون معًا ضد اقتصادهم وضد نظامهم. الأمريكان يريدون وظائف تساعدهم على العيش بكرامة، والروس يريدون كرامة تمكنهم من العيش دون وظائف.
في آسيا وأفريقيا لا يبدو الحال أفضل كثيرًا. اليابان تشرق شمسها كل يوم وهي غافية، وعندما تصحو وتلعق جراح كوارثها، تتثاءب وتعود للنوم من جديد. وفي الصين ما زال التنين حائرًا بين الاقتصاد الحر، والحكم الشمولي المر. فبعد عشر سنوات من انضمامها لمنظمة التجارة العالمية، تبدو الصين كالغراب الأصفر الذي يحاول تقليد الطاووس، فهي تنتج وتبيع، وتصدر كل شيء، ولا تستورد سوى المواد الخام التي تعيد تصنيعها لتعيد تصديرها، دون أن ترتقي بإنسانها، وكأنها تصر على أن تطعم العالم ليبقى أبناؤها يعملون، فلا يعيشون ولا هم يحزنون. وكذلك هي الهند، تصدر العمالة والبرامج والسيارات، وتصنع القنابل النووية، وتتغنى بالديموقراطية، لكنها ما تزال أكثر دول العالم تصديرًا للمهاجرين والفقراء، وأيضًا للأغنياء. فكل أغنيائها دون استثناء يعيشون خارجها، ومن يعود إليها، يفعل ذلك ليمارس مزيدًا من النفوذ والإفساد.
الغريب أن الدول السابقة تدير برامج لغزو الفضاء واكتشاف العالم الخارجي، وكأنها اكتشفت عالمها وعرفت نفسها، وساهمت في إشاعة السلام. مع أنها لم تحقق العدل ولم تنشر الأخلاق في الأرض بعد! هذا العالم الذي فقد قلبه وعقله يعقد التحالفات، بحثًا عن مزيد من القوة والنفوذ والسيطرة، دون أن يدرك أن علته في روحه وأخلاقه.
في شهر ديسمبر 2011 اجتمع الأوربيون فتفرقوا. خرجت بريطانيا عن الإجماع ونأت بنفسها عن قارتها، وتحالفت فرنسا مع ألمانيا لفرض نظام جديد يخول للبنك المركزي الأوروبي معاقبة الدول السارقة والمارقة فيما يشبه الحوكمة الاقتصادية التي من حقها تأديب أعضاء منطقة اليورو إذا ما كذبوا في دفاترهم المالية أو غالطوا في الحساب.
ونظرًا لهذا الزواج الاقتصادي الإجباري، أطلق الإعلام على الحلف الجديد اسم "مركوزي" أي "ميركل وساركوزي". وعندما سألت خبيرًا إيرلنديًا لماذا لا يسمى: "سميركل"، أي وضع "ساركوزي" قبل "ميركل"، قال: "ليدز فيرست" يا سيدي، أي "النساء أولاً". فقلت: أظنها "ألمانيا فيرست" يا سيدي. ففرنسا على وشك الإفلاس، ولم يتحمل "سركوزي" قبلات "ميركل" الباردة إلا لأنه على وشك الإفلاس. فالمصالح الاقتصادية والمادية دائمًا أولاً يا سيدي!
نسيم الصمادي
هــل هنـاك ضحــك .. دون ســبب؟
هــل هنـاك ضحــك .. دون ســبب؟
هناك مثل يقول: "الضحك دون سبب، قلة أدب." وفي لحظة تجلٍّ ليلة أمس، اكتشفت أنه لا يوجد ضحك بلا سبب. حتى "الضحك على الذقون" له سبب، كما حدث مؤخرا حين ضحك قليلون على كثيرين، وتبخرت "فلوس" الدنيا بين "ضحية وعشاها" أو "عشية وضحاها" هل هناك فرق؟!
نظرت إلى شاشتي فجر اليوم، فطلب مني ابني أن أقرأ الأخبار الاقتصادية أولا لأنه يعمل في إدارة المحافظ الاستثمارية في أحد البنوك، فقلت له ضاحكا: "هل هناك أخبار غير اقتصادية يا بني؟!"
وها هي نشرة الأخبار:
- خبر 1: بنك "يو بي إس" السويسري يفصل 7500 موظف آخرين ليحد من خسائره.
- خبر 2: قراصنة الصومال يختطفون أربع سفن أخرى في يوم واحد.
- خبر 3: اقتصاديو الصين يقولون بأن السوق وصل إلى القاع، وقد بدأ النمو! ولكن...
- خبر 4: "وول ستريت" تواصل الهبوط فتلحق بها أسواق آسيا مرة أخرى.
- خبر 5: آلاف السيارات الراكدة في أسواق الأردن تعادل قيمتها أكثر من ملياري دولار ستعيد الحكومة جماركها للمستوردين، ليعيدوا تصديرها! (إلى أين سيعاد تصديرها؟ ومن سيشتريها منهم؟ ولماذا نستورد سيارات جديدة بمليارين أصلا؟)
- خبر 6: خطة لتحديث وتطوير الصناعة المصرية وفق المواصفات العالمية! (إذا كانت الصناعات العالمية قد أفلست، فلماذا نحدِّث وفق مواصفاتها؟)
- خبر 7: شركة "إيه بيه" تطرح "سكايبي" كشركة مساهمة عامة لتحد من خسائرها! (كلام يثير الضحك! من سيشتري أسمهما؟)
- خبر 8: مشروع لتغذية الأطفال في القرى الفقيرة! (ماذا عن أطفال المدن؟ أليست المدن اليوم أفقر من القرى؟!)
- خبر 9: بلغ عدد أطفال المهاجرين غير الشرعيين إلى أمريكا 4 ملايين طفل! (كيف سيعيشون؟ وأين سيتعلمون؟ وهل سيرحلون؟)
- خبر 10: أكثر من 57 ألف كتاب تضيع من فهارس "أمازون.كوم" خلال الأسابيع الماضية! (هل هو فعلا خطأ تقني في برنامج عرض الكتب؟ أم تم بفعل فاعل لخدمة ناشرين وموزعين على حساب آخرين؟)
- خبر 11: شركة من أبو ظبي تشتري 9.1% من أسهم شركة "مرسيدس." (خبر جميل فعلا، يجعلنا نضحك من القلب.)
- خبر 12: اقتصاديات دول الخليج ستتجازل 2 تريليون دولار عام 2020. (ونقول: "الله أعلم!")
الأخبار - من الصومال إلى سويسرا، ومن الصين إلى الأرجنتين - تستدر الدموع وتبعث على الشفقة! فللبكاء أيضا سبب... العالم فقد عقله، لأنه فقد ضميره! ركزنا على العقار والدمار، واستثمرنا كل الأموال في بعض الأعمال، ولم نستثمر في جوهر الإنسان. ومن يظن أنه يمكن أن يحيا بلا عقل وبلا ضمير، سيجد للضحك سببا، وللبكاء ألف سبب!
نسيم الصمادي
أنا أفكر .. إذن أنا "غير" موجود
أنا أفكر .. إذن أنا "غير" موجود
أتيحت لي مؤخرا فرصة المشاركة في عدد من معارض الكتب. وبسبب القراءة في موضوعات شتى، وجدتني أفكر وأطرح أسئلة جديدة. فالأفكار تنبع من الأسئلة أو من إجاباتها. فنحن نفكر في "مسائل" ومن الصعب أن نصل لفكرة دون أن نطرح سؤالا، أو نجيب عن آخر.
الأسئلة التي روادتني مؤخرا: لماذا تسجل كتب الطبخ أعلى المبيعات دائما؟ ففي معرض أبو ظبي للكتاب - والذي أقيم الشهر الماضي - كان الزائرون يصطفون بالعشرات لشراء كتب الطبخ، ومشاهدة عروض الطبخ الحية. ولا ينافس كتب الطبخ في المبيعات سوى موسوعة "جينس" للأرقام القياسية، وهي موسوعة ملونة كتبت لتُستعرض وتُراجع من أجل الإثارة والمتعة، لا لتُقرأ من أولها إلى آخرها. وحتى في "جينس" تحظى الأرقام القياسية لأكبر "بيتزا،" وأطول شطيرة، وأكبر قالب "كيك" بالاهتمام الأول!
للوهلة الأولى قد تبدو الإجابة عن هذا السؤال سهلة، على اعتبار أن الطريق إلى قلب الرجل يبدأ من معدته. ولكن هذه الإجابة تفترض أن معظم زائري المعارض ومشتري الكتب من النساء، وهذا غير صحيح. كما تفترض أن الطريق الذي يبدأ في المعدة وينتهي في القلب، لا يمر في العقل مطلقا؛ ومن الصعب المحاججة بهذا في زمن طغت عليه المادة، وجعلت بين الإنسان وبين الرومانسية أحبالا وأميالا.
من المؤكد أن للغريزة البشرية دورا تلعبه هنا. فقد وضع "ماسلو" احتياجات الوجود الأساسية كالأكل والشرب قبل بقية الحاجات. ولكن من جانب آخر، فقد جاءت حاجات الإشباع الفكري قبل الحاجة لتحقيق الذات، فهل يمكن أن يعمى بصر الإنسان حقا لكي يسعى لتحقيق وجوده دون تحقيق ذاته؟! إذا كان هذا يحدث فعلا – ويبدو أنه يحدث – فإن التنمية المستدامة للمجتمعات والحضارات تصبح أيضا محل شك. وحيث قال "ديكارت" قديما: "أنا أفكر.. إذن أنا موجود" فإن المقولة الفلسفية الجديدة لإثبات الوجود الضخم للإنسان تصبح: "أنا أطبخ .. وآكل .. إذن أنا موجود!" لكننا نستطيع أن نثبت وجودنا دون أن نطبخ! فنحن موجودون لأننا نأكل "البيتزا" و"الهمبورجر" و"كنتاكي" دون أن نطبخ. وفي تنشئتنا لأبنائنا، فإن "التلقيم" - دائما - يسبق "التلقين." وهذا سبب آخر يضع تغذية البطون قبل تغذية الذهون!
سؤال آخر: إذا استثنينا الحاسة السادسة لأنها غير عضوية، فما هو عدد حواس الإنسان العضوية؟ كلنا نعتقد أنها خمس حواس وهي: التذوق، واللمس، والشم، والنظر، والسمع. لكن هناك حواسا عضوية أخرى منسية! من يستطيع إضافة المزيد من الحواس العضوية، فليرسلها إلى إدارة التحرير في "شعاع!" لكن إجابة هذا السؤال تحتاج إلى قراءة وبحث، لا إلى كتاب في الطبخ، أو وجبة "دليفري!"
نسيم الصمادي - دبي
الأخلاق الاصطناعية وصدمات الضمير
هناك ذكاء اصطناعي وغباء اصطناعي، مثلما هناك أخلاق طبيعية وأخلاق اصطناعية. وكما يحتاج القلب عندما يتوقف بسبب كوليسترول الشرايين إلى صدمات كهربائية، يحتاج الضمير عندما يتوقف بسبب كوليسترول النفس إلى صدمات افتراضية!
في مطلع العام الحالي (2012) أطلقت رئاسة الوزراء البريطانية موقعها الإلكتروني الجديد في حضور لفيف من الصحفيين. وفي كلمة قصيرة اعترف "ديفيد كاميرون" بأنه صار يتردد في تسجيل وإرسال أي من أفكاره وقراراته إلكترونيًا خوفًا من تسربها ومحاسبته على كل كلمة يكتبها. فهو يقر بأنه كثيرًا ما يقول ويكتب كلامًا لا يعنيه، فيفلت منه ما كان يجب أن يخفيه. ورغم أن "لسانك حصانك" كما يقول المثل، فإن الكلام المنطوق يظل أقل خطرًا وأسهل أثرًا، مما توثقه الكلمات وتسجله الكاميرات.
الأخلاق الاصطناعية هي نوع جديد من الذكاء يفتعله الإنسان، ليس لأنه أخلاقي بسجيته وتنشئته، بل لأنه مجبر على التخلق بما ليس فيه، خوفًا من الانتقال الفيروسي للأصوات والكلمات عبر العالم الافتراضي. لا يحدث هذا فقط خوفًا من تسريبات "ويكيليكس" بل ورعبًا من تسريبات الذاكرة والضمير، لأن "حبل الكذب قصير." أما الذكاء الأخلاقي فهو القدرة على التفريق بين الصحيح والخطأ، والتصرف انطلاقًا من القيمة التي تعتقد أنت بصحتها. وهناك سبع لبنات ضرورية لبناء ذكاء أخلاقي راسخ هي: التفهم والضمير والإرادة والاحترام واللطف والتسامح والعدل. وهذا ما عنيته عندما قلت ردًا على سؤال عن أعلى قيمة على الإطلاق بأن "أهم قيمة في الحياة هي أن يتمتع الإنسان بوعي أخلاقي راسخ."
في عالم الأخلاق الاصطناعية لم يعد "الغباء الأخلاقي" مقبولاً. فأنت مجبر كإنسان معاصر على قول الحقيقة وإلا فإن الانتشار الفيروسي للمعلومات سيكشفك قبل أن تخلد إلى النوم في سريرك، وقبل أن يصحو ضميرك. فعلى مدى الأسبوعين الماضيين تبادلت عدة رسائل مع أحد خبراء إدارة الجماهير وتجارة الضمير. والحكاية هي أن أخانا – وهو أحد المنافحين عن الأخلاق والداعين إلى مجتمع إبداعي استنادًا إلى القيم – سمح لنفسه بأن يقتطع عشرات الصفحات من بعض كتبنا وخلاصاتنا، ويلصقها في بعض كتبه. وباستخدام الذكاء الافتراضي وسرعة انتقال المعلومات ومحركات البحث، استطعنا حصر كل المسروقات كلمة.. كلمة. ومما زاد في ورطته أنه قال الشيء ونقيضه ثلاث مرات خلال عشرة أيام، وكأنه يكذب على نفسه. فقد انكشف واعترف بما اقترف، وبعدما توسل، حاول أن يتنصل، وبدأ بالهجوم ثم أصابه الوجوم. لكن الذكاء الرقمي كشفه ووضعه في مواجهة نفسه.
في برنامج "التحول القيادي" أركز على أن نقطة التحول الجوهري هي الانطلاق من المركز لبناء شخصية قيادية قوية ومؤثرة. والمركز هنا هو معادل افتراضي للضمير. في هذه النقطة نطلب من المشارك أن ينظر صباح كل يوم في المرآة ويسأل الشخص الذي يراه: "هل أنت محترم؟" كل من يستطيع طرح هذا السؤال على نفسه في الصباح، لن يخاف أن تكشفه نظم الأخلاق الاصطناعية الذكية في المساء.
نسيم الصمادي
رد: الأخلاق الاصطناعية وصدمات الضمير
ولاننا بشر ولاننا ندعو الي الرقي الاخلاقي
والصلاح والاصلاح فمن هدا المنطلق فالحكمة تقتضي ان نتعامل بالفطنة والتسامح وروح التعلم والصبر وكما اعجبتني مقولتك الفاضله د"أهم قيمة في الحياة هي أن يتمتع الإنسان بوعي أخلاقي راسخ."
اسعد الله احوال امة لااله الا الله محمدا رسول الله صل الله عليه وسلم
عندما لا تعطي الناس صوتًا ولا تمنحهم قوة، فإن النظام يتجه إلى المكان الخطأ
عندما لا تعطي الناس صوتًا ولا تمنحهم قوة، فإن النظام يتجه إلى المكان الخطأ
يبدو أن "مارك زاكربيرج" "مش واخد باله". فعندما اختارته مجلة "تايم" الأمريكية شخصية عام 2010 صرح قائلاً: "عندما تعطي كل شخص صوتًا وتمنح الناس قوة، فإن النظام يتجه إلى المكان الصحيح؛ وهذا ما نقوم به". فلو أنه اكتفى بالنصف الأول من المقولة وحذف الكلمات الأربع الأخيرة لكان أبدع واحدة من أعظم مقولات التاريخ. لكنه تناقض مع نفسه حين تحالف مع الحكومة الأمريكية ضد "ويكيليكس".
هناك حرب عالمية باردة تدور بين أمريكا و"جوليان أسانج"، وهي حرب بين القوة الخشنة والحق الناعم. هناك حربان عالميتان ساخنتان وحرب باردة واحدة دارت بين أمريكا والاتحاد السوفييتي وانتهت بتفكك الأخير. وترى شبكة "سي إن إن" الإخبارية أن حرب "ويكيليكس" مع ساسة العالم هي أول حرب تنشب بين التكنولوجيا والسياسة. لكن هذا ليس صحيحًا. فهناك قوى تكنولوجية كثيرة تقف مع الغرب إلى جانب آلة الإعلام الأمريكية لصد هجمات "جوليان".
الحقيقة أنها حرب باردة ثانية، ربما تسيل فيها دماء ناتجة عن الاغتيالات، لكنها لن تسخن الجليد الذي تغطي عباءته نصف الكرة الشمالي الذي سخنته تسريبات "ويكي" التي قالت للعالم: "شبيكوا.. لبيكوا.. كل أسرار العالم بين إيديكو". وهي حرب لن تنتصر فيها الدول التي تتسرب معلوماتها تباعًا، لأن أسلحة "الويكي" ناعمة وخفية وخفيفة، فهي حرب عصابات افتراضية. المعلومات التي يتم تسريبها تهم كل العالم وهي مخبوءة في كل بقاع الأرض. فإذا ما دُمِر سيرفر أو موقع في الشمال، ظهر لهم جني "ويكي" في الجنوب. لكن لهذه الحرب دلالات وتداعيات بعيدة سيطال شرارها كل مجريات حياتنا المعاصرة.
هدد "جوليان" الأسترالي الوسيم صاحب قضية الحرية والشفافية الدولية بنشر أسرار خطيرة إذا ما تم اغتياله. والمشكلة هي أن جهات كثيرة قد تعمد إلى اغتياله انتقامًا من أمريكا التي ستتحمل وزر تصفيته، أو انتقامًا منه شخصيًا لاكتساحه منصات الإعلام العالمي وسحبه كل البسط من تحت كل أقدام ماكينات الإعلام الجبارة.
أعلن "جوليان" أن ذخيرته من الأسرار لن تنضب، إذ بدأ موظفو الحكومة والشركات الناقمون على إداراتهم بتسريب الملفات المتخمة بالفساد إلى سيرفرات "ويكيليكس" بكل الطرق الممكنة، وهذا يعني أن الفضائح الاقتصادية والإدارية القادمة ستصيب الاقتصاد العالمي في مقتلين:
* بداية ستتعرض أسهم الشركات إلى المزيد من الهبوط عندما تفتح ملفات فساد رؤسائها مما يصب مزيدًا من النار على الأزمات المشتعلة. ومن المؤكد أنه سيتم فتح ملفات فساد ورشاوى كثيرة، وهي إن فتحت لن تغلق أبدًا.
* وثانيًا، بدأت الإدارة الأمريكية – وستحذو كل الدول حذوها – تفرض رقابة مشددة على موظفيها وتمنعهم من الدخول إلى قواعد بياناتها، وتراقب تصرفات كل من تشك في أمره. ستكون هذه الرقابة الصارمة آخر مسمار يدق في نعش الوكالات والمؤسسات التي تعاني من ترهل ومن ثقافة إدارية متهالكة؛ لأن سد قنوات الاتصال أمام المديرين والموظفين الذين سيتم تصنيفهم بأنهم ليسوا أهلاً للثقة سيؤدي إلى إبطاء عمليات اتخاذ القرار، وسيتم إعدام ما كان يسمى بالشفافية، وتعود الشركات لتدفن سياسات التمكين والمشاركة والاتصال والفعالية والابتكار وسرعة اتخاذ القرار في رمال وأوحال البيروقراطية الخائنة والخائفة.
إنها كارثة صنعتها القيادة اللا أخلاقية، وفضحتها التكنولوجيا العصرية التي تم تطويرها بتمويل من الإدارة الأمريكية. وهكذا ارتدت سيوف التقدم إلى نحر التقدمية والرأسمالية وثبت أن الاقتصاد ما زال سياسة، وأن السياسة ما تزال تحاول إصلاح أخطائها بمزيد من الأخطاء. فأمريكا التي هزمت الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة تهزم نفسها بأسلحتها، وهذه مفارقة تاريخية أخرى.
إذا كانت لشركتك أسرار، وإذا كان في ملفاتك بعض بقع الفساد، فراقب موظفيك الغاضبين. هؤلاء يعتبرون "جوليان" صديقهم في السراء والضراء، وقد يرسلون له ملفاتك السوداء والبيضاء. انس الشفافية والثقافة الديمقراطية وأحط نفسك بكل قلاع وأسوار الحماية الممكنة، فربما تنجو من عاصفة "أسانج". وتصحيحًا لمقولة "مارك زاكربيرج" أقول: "عندما لا تعطي كل شخص صوتًا ولا تمنح الناس قوة، فإن النظام يتجه دائمًا إلى المكان الخطأ، ولا يعود إلى مكانه الصحيح أبدًا. وهذا ما نقوم به جميعًا".
نسيم الصمادي