هذه قصة شاب عشتها معه،طلب مني أخيرا أن أكتبها عنه بصيغة أدبية تحمل في طياتها مدى ماساته التي عاشها في سنيه الماضية، فقلت:
لا أدري لمن أكتب هذا الكلام، ولكن الكتابة طريق للبقاء، وتحويل للشفهي إلى مكتوب، يتسم بقابلية البقاء والتنقل لمجهول النسب في عالم يتسم بوحشية الآخر، وتضخم (الأنا)، فأنى لهما أن يجتمعا، وقد تغايرا صفة وطبعا، وتناكرا، ونبعا.
لا يلمني القارئ القريب، فكتابتي هذه بوح ذكرى ألزمتني بها الأيام الماضية الحبلى بسقمي، والمؤججة لنيران صدري، فما شاهد كمن غاب، ولا صبي كمن شاب.
لقد كنت أريد أن أجعل عنوان كتابتي هذه: " حاولت فلم أنجح"، ولكنني أعرضت عن ذلك بغية الحفر الموضوعي في الذاكرة المكتظة بأحاديث الماضي، الضاربة في الصدر بالمواضي.
أما مسألة عدم النجاح، فهي حقيقة، نعم حقيقة أعترف بها، والقضية كانت في الأصل عبارة عن حقيقة من حقائق هذه الحياة، وهذه الحقيقة هي الاختبار، المشار إليه في: " لنبلوكم أيكم أحسن عملا". وقد ساء عملي، ولم امتط صهوة: اصبر واحتسب، ولكنني كتمت وكبتّ حتى بلغ السيل الزبى، والحزام الطبيين، وجاوز الآخر المدى، فإلى الله المشتكى.
بدأ التأجج منذ سنة تقريبا، كان أوار ناره إهمال التدبير وكثرة الخروج المتجاوز لعدد البروج، أما الأول فمنطق الآخر فيه: " جلد غير جلدك..." بعد ما نمى إلى سمعه قرب امتلاك المسكن، وأما الخروج، فكان لا يتسم بواقعية منطقية، بل هو اعوجاج في نظري أقض مضجع صمتي وحلمي، وأشغل فكري ونظري، وكان كالمعول الذي أخذ ينحت في طبقات ذاكرتي فأثار الوقائع المشابهة لذلك الاعوجاج، فانتظم من ذلك عقد من جمر ملتهب، وقع على الجانب المخالف له تماما، وقوع النار على الهشيم.
عذرا أيها القارئ القريب، فلا زلت عند اعترافي السابق بعدم النجاح، ولكن واقع الحفر يقتضي مثل هذا الأسلوب المتسم بنزع الألفة عن اللفظ والتركيب، والتدرج في السرد والتعريب.
ومن تلك الأحافير:
ما أصيب به الآخر من عقدة (الوقر المنزلي) والسبب في ذلك كما تشير إليه الأحافير من خلال الذاكرة: أنه عاش فترة من الزمن في ذلك المنزل الشختباني، لا يختلط بالآخرين خجلا وكسلا ومرضا نفسانيا تسرطن منذ بداية الارتباط الصحيح من جهة، وغير المشروع من جهة أخرى، هي جهة الإكراه من قبل الطامع في عرض الدنيا، المعرض نفسه للضنك والاختلاط المبكر بخلاف ما عليه النجباء.
لقد عاش الآخر حياته تلك في ازدواجية بين لهو الطفولة وواجب البعولة، في مجتمع لم يحلم بسياج وفكر حصين يتسم بالحيوية والمنطقية؛ ليدفع آثار مثل هذا الازدواج العاصف، والتصادم القاصف.
لقد كان من ثمار تلك الازدواجية تلك العقدة في نظر الآخر، وإن لم تكن في نظر الحصيف كذلك؛ لأنه منطوق: "وقرن في بيوتكن".
عودا على بدء ذكر الأحافير:
فثمت أحفورة تقع في دائرة( البعل)، وذات صلة بالآخر، وهي قول البعل معزيا نفسه في فراشه: " صبري عليه لأنه يحنو عليكم، وأما بالنسبة لي فلا خير فيه". هذا معنى كلامه، وأدين الله بهذا الأمر. وتعليل قوله هذا كما ذكر لي عدة مرات، هو ما اتصف به صاحبه الأول من حب وطاعة وخلق حسن في المأكل والمشرب والملبس، مما لم يجده عند الثاني، حتى وصل به الأمر إلى الغربة ليلا، والحرقة نهارا.
وقول البعل: "يحنو عليكم" فهو حنو يضمحل مع طول المعاشرة، وتلك من سنن الله الكاشفة، وعذر البعل في عدم اطلاعه على عدم الحنو هو الغربة التي أشرت إليها، وعدم مبالاته به دخولا وخروجا في الأفق الأنطولوجي ، ويدل على عدم مبالاته به أن أتراب فراشه نسباًلم يذقن من التهميش ما ذاقه هو، حتى أصبح مطلب البعل الأساسي منه في أكله وشربه، وأما المطلب الآخر فلا يأتي إلا حربا وغصبا، كما ذكر لي وشكى في الآن وأيام الصبا. وهذا ما جعل البعل يهمش الآخر ويكتفي منه في التبعل بالنادر.
ومن تلك الأحافير: أحفورة تكشف استحقاق الآخر للقب: " أنيس الذبان" و" خليل الإهمال"، فهو يتصف بعدم الاعتناء بالتدبير المنزلي نظافة، وهي حقيقة لحظتها وعايشتها منذ بداية العقدين الماضيين، وفي اختلاط هذا بالمخالف له خطر من جهة تأثيره عليه بقدر تأثره منه، وفي هذا من الضرر ما فيه.
ومن تلك الأحافير: أحفورة تشير إلى اتصاف الآخر با لاسترجال قولا وفعلا مما يخالف طبيعة جنسه في أخص خصائصه وهي الاعتماد على القيم وعدم إطلاق الثقة بالذات المؤنثة، وذلك الاسترجال مما تأنف منه النفوس وتحتقره العقول المنصفة.
إذا علم ما سبق، وبالنظر في تلك الأحافير واستحضارها جميعا عند النظر في ما يتطلبه واقعي المستظل بظلال البحث الأكاديمي، ومنهجي في الحياة، المتمثل في تربية الفراش على "منطقية الوقر البيتي"، و " حسن التدبير المنزلي" و " الرجوع للقيم فيما قد يعنيه" و "عدم الاسترجال" و" ألا تكون ولاجة خراجة"، مع إعطاء كل ذي حق حقه قدر المستطاع في ظل تقدير الواقع الذي يهم الجميع.
وأما عدم النجاح، فيتمثل في عدم الصبر على التحمل الواجب تجرعه في سبيل ترك البسمة تشرق على شفاه الغالي الذي أوصى الباري به، فالله أسأل أن يغفر لي ما سبق وأن يوفقني لنيل رضاه فيما سيلحق، وأما سبب عدم الصبر، فيعود إلى الازدواجية التي عشتها مع الغالي فيما يتعلق بـ( الآخر) فقد كان يتهمني بكرهه، ويوجب علي إنزاله منزل من رضعت من لبانه، وما ذلك بيسير علي، وقد فقدت المرضع، وافتقدت الحنان بعده، فمن ذا الذي يجرؤ على الحلول محله ابتداءا، فكيف بمن اتصف بما سبق سرده من أحافير الذاكرة.
لقد أخطأ الغالي في نظره وحكمه على الآخر، وعذره في ذلك أمران: الأول: الغربة التي كان يعيشها عن الآخر، والثاني: محاولة الآخر الظهور بمظهر الأليف لنا، والواقع أنه خلاف ظنه، فهو قناص فوائد، قد ظهر لي من طويته خلاف ما ظهر لغيري فيما يتعلق بنا، والمعاشرة كاشفة لأخلاق الناس.
ومما ظهر لي في العام العاشر: توسع الآخر في الحرية قولا وفعلا، وشدة ولعه وافتتانه بالمظاهر وسعيه وراء البحث عن مصدر ترفيه ذاتي نابع من الاسترجال الذي نخر في سويدائه، وكان من تبعات ذلك كثرة نفقة الغالي عليه فوق الحد المعقول، وهذا أثر سلبا علي وفق قانون المخالطة، ولكن الغالي كان يحتج علي بحجة هي أعم من الدعوى، وهي: وجوب النفقة، وعذره في ذلك قلة علمه الشرعي، وعدم إدراكه لتبعات ذلك التصرف، وقد كنت أكتم مثل هذا، ولكني، ولكثرة موارد المخالفة، لم أتحمل ذلك، فأعلنت للغالي خطأ الآخر، وشغبت عليه، فحمل الغالي علي وظنني ظالما، وأنا المظلوم الظالم، مظلوم من قبل الآخر، وظالم لأنني لم أنجح في الابتلاء. وما أجمل قول القائل:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه.... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
أيها القارئ القريب، إن مما زاد أسفي وحزني وبلواي أن من لم يخبر الآخر يحملني تبعات كل شيء، مما دعاني إلى التشكيك في حقيقة الأخبار التي تصل إلى الآخرين. وقد روي في الحديث: "اخبر تقله"،
وقال زهير
لعمرك والأمور مغيرات ........ وفي طول المعاشرة التقالي
وما أجمل قول العربي: رب سامع بخبري لم يسمع عذري.
وقد بينت في هذا المقال عذري وأبنت عن عدم نجاحي.
وعلى كل، فقد يقلب القارئ ما سبق علي ويدعي أن هذا من قبيل الإسقاط، ولكني لا أريد من القارئ القريب سوى أن يتروى في الحكم ولا يحملني كل الخطأ، وأنا أعترف بعدم نجاحي في الابتلاء، وأعترف بسرعة غضبي وعدم تحملي، وهذا الأخير ظهر نتيجة كبت مجحف انتثر صديده على سلوكي عند أي تصرف جديد ينتظمه عقد الآخر المكون من تلك الخرزات الجمرية، ولا يخفى على عاشق القراءة الشغوف تجربة عالم الروس بافلوف، وما ورد على لسان العرب من مثل قولهم: طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، والحزام الطبيين، وللصبر حدود عند غالب البشر، والله المستعان، وعليه التكلان.