تابع :
وهذا تفسير السيد رحمه الله لها :
(ثم استوى على العرش) . .
والاستواء على العرش . كناية عن مقام السيطرة العلوية الثابتة الراسخة , باللغة التي يفهمها البشر ويتمثلون بها المعاني , على طريقة القرآن في التصوير [ كما فصلنا هذا في فصل التخييل الحسي والتجسيم من كتاب التصوير الفني في القرآن ] .
و(ثم) هنا ليست للتراخي الزماني , إنما هي للبعد المعنوي . فالزمان في هذا المقام لا ظل له . وليست هناك حالة ولا هيئة لم تكن لله - سبحانه - ثم كانت . فهو - سبحانه - منزه عن الحدوث وما يتعلق به من الزمان والمكان . لذلك نجزم بأن(ثم) هنا للبعد المعنوي , ونحن آمنون من أننا لم نتجاوز المنطقة المأمونة التي يحق فيها للعقل البشري أن يحكم ويجزم . لأننا نستند إلى قاعدة كلية في تنزيه الله سبحانه عن تعاقب الهيئات والحالات , وعن مقتضيات الزمان والمكان .
ويقول :
ومن هذا المنظور الهائل الذي يراه الناس , إلى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار: (ثم استوى على العرش . .
فإن كان علو فهذا أعلى . وإن كانت عظمة فهذا أعظم . وهو الاستعلاء المطلق , يرسمه في صورة على طريقة القرآن في تقريب الأمور المطلقة لمدارك البشر المحدودة .
وهي لمسة أخرى هائلة من لمسات الريشة المعجزة . لمسة في العلو المطلق إلى جانب اللمسة الأولى في العلو المنظور , تتجاوران وتتسقان في السياق . .
ومن الاستعلاء المطلق إلى التسخير . تسخير الشمس والقمر . تسخير العلو المنظور للناس على ما فيه من عظمة أخاذة , أخذت بألبابهم في اللمسة الأولى , ثم إذا هي مسخرة بعد ذلك لله الكبير المتعال .
ونقف لحظة أمام التقابلات المتداخلة في المشهد قبل أن نمضي معه إلى غايته . فإذا نحن أمام ارتفاع في الفضاء المنظور يقابله ارتفاع في الغيب المجهول . وإذا نحن أمام استعلاء يقابله التسخير . وإذا نحن أمام الشمس والقمر يتقابلان في الجنس:نجم وكوكب , ويتقابلان في الأوان , بالليل والنهار . .
ثم نمضي مع السياق . . فمع الاستعلاء والتسخير الحكمة والتدبير:
(كل يجري لأجل مسمى) . .
وقال :
وفي معرض الخبرة المطلقة والقدرة على الجزاء يذكر خلق الله للسماوات والأرض , واستعلاءه على العرش:
الذي خلق السماوات والأرص وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش , الرحمن , فاسأل به خبيرا . .
وأيام الله التي خلق فيها السماوات والأرض غير أيامنا الأرضية قطعا . فإنما أيامنا هذه ظل للنظام الشمسي , ومقياس لدورة فلكية وجدت بعد خلق السماوات والأرض . وهي مقيسة بقدر دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس . والخلق لا يقتضي إلا توجه الإرادة الإلهية المرموز له بلفظةكن) فتتم الكينونة(فيكون) . ولعل هذه الأيام الستة من أيام الله التي لا يعلم مقدارها إلا هو - إنما تمت فيها أطوار متباعدة في السماوات والأرض حتى انتهت إلى وضعها الحالي . أما الاستواء على العرش فهو معنى الاستعلاء والسيطرة ولفظ(ثم) لا يدل على الترتيب الزمني إنما يدل على بعد الرتبة . رتبة الاستواء والاستعلاء .
ومع الاستعلاء والسيطرة الرحمة الكبيرة الدائمةالرحمن) . . ومع الرحمة الخبرة: (فاسأل به خبيرا) الخبرة المطلقة التي لا يخفى عليها شيء . فإذا سألت الله , فإنما تسأل خبيرا , لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .
ويقول :
(ثم استوى على العرش) . .
والاستواء على العرش رمز لاستعلائه على الخلق كله . أما العرش ذاته فلا سبيل إلى قول شيء عنه , ولا بد من الوقوف عند لفظه . وليس كذلك الاستواء . فظاهر أنه كناية عن الاستعلاء . ولفظ . . ثم , لا يمكن قطعا أن يكون للترتيب الزمني , لأن الله سبحانه - لا تتغير عليه الأحوال . ولا يكون في حال أو وضع - سبحانه - ثم يكون في حال أو وضع تال . إنما هو الترتيب المعنوي . فالاستعلاء درجة فوق الخلق , يعبر عنها هذا التعبير .
وفي ظلال الاستعلاء المطلق يلمس قلوبهم بالحقيقة التي تمسهم:
(ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) . .
ويقول :
وكذلك العرش . فنحن نؤمن به كما ذكره ولا نعلم حقيقته . أما الاستواء على العرش فنملك أن نقول:إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق . استنادا إلى ما نعلمه من القرآن عن يقين من أن الله - سبحانه - لا تتغير عليه الأحوال . فلا يكون في حالة عدم استواء على العرش , ثم تتبعها حالة استواء . والقول بأننا نؤمن بالاستواء ولا ندرك كيفيته لا يفسر قوله تعالى: (ثم استوى) . . والأولى أن نقول:إنه كناية عن الهيمنة كما ذكرنا . والتأويل هنا لا يخرج على المنهج الذي أشرنا إليه آنفا لأنه لا ينبع من مقررات وتصورات من عند أنفسنا . إنما يستند إلى مقررات القرآن ذاته , وإلى التصور الذي يوحيه عن ذات الله سبحانه وصفاته .
ويقول :
وكل فعل ينسب لله سبحانه مثل الذي يحكيه قوله هذا كقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان . . .) . . (ثم استوى على العرش) . . (يمحو الله ما يشاء ويثبت) . . (والسماوات مطويات بيمينه) . .(وجاء ربك والملك صفاً صفاً) . . (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) . . . إلى آخر ما تحكيه النصوص الصحيحة عن فعل الله سبحانه , لا مناص من التسليم بوقوعه , دون محاولة إدراك كيفيته . . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية كما قلنا . . والله ليس كمثله شيء . فلا سبيل إلى إدراك ذاته ولا إلى إدراك كيفيات أفعاله . إذ أنه . لا سبيل إلى تشبيه فعله بفعل أي شيء , ما دام أن ليس كمثله شيء . . وكل محاولة لتصور كيفيات أفعاله على مثال كيفيات أفعال خلقه , هي محاولة مضللة , لاختلاف ماهيته - سبحانه - عن ماهيات خلقه . وما يترتب على هذا من اختلاف كيفيات أفعاله عن كيفيات أفعال خلقه . . وكذلك جهل وضل كل من حاولوا - من الفلاسفة والمتكلمين - وصف كيفيات أفعال الله , وخلطوا خلطاً شديداً !
****************
نلاحظ أنه قد ركز على معنى الهيمنة والاستعلاء وهو لا يخرج عما قاله السلف الصالح
وبالرغم أن الإمام ابن كثير رحمه الله تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وسجن معه في محنته
ومع ذلك لم يوافق شيخه على قوله (( إن الله مستو بذاته على عرشه بائن من مخلوقاته )) وأنه حقيقة لا مجاز
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره
وأما قوله تعالى { ثم استوى على العرش}
فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها
وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً
وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل
والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله لا يشبهه شيء من خلقه و{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}
بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الاَيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى,
***************
أقول :
بل الذين قالوا هذا القول أعني (( إن الله مستو على عرشه بذاته بائن من خلوقاته ))
اضطروا أن يعودوا للتأويل فعندما يقولون استوى حقيقة وليس كاستوائنا نحن فما معناها ؟؟ فهو إثبات ونفي بآن واحد
لأن البشر لا تعرف معنى استوى حقيقة إلا بالمعاني التي ذكرت صراحة في القرآن الكريم وهو الجلوس والاستقرار
فهذا تأويل قطعا لأننا بعد النفي لم نفهم شيئا من الاستواء
ومن ثم فقول ابن كثير رحمه الله هو الأقرب في هذا المعنى والله أعلم
**********************
يتبع :