المطر.. نعمة وضرر
و يواصل الغيث انهماره..
واضعا يديّ في جيبي معطفي الدافئين، كنت أجول أزقة المدينة المبللة و قد أسدل الليل ظلاله الباردة.. أرمق قطرات الماء و هي ترتد بقوة عن الأرض لتسقط من جديد جثثا هامدة..
أعمدة الإنارة شاردة، تنظر إلى تحت في حياء.. أتوجه إلى إحداها، أسند عليها ظهري و أنظر للسماء..
كم جميلة هي الشوارع بلا مارّة... فسيحة، رحبة، تدعوك لتأمل الأشياء الجميلة، السارّة..
هناك أحد يجلس القرفصاء فوق الرصيف، دافنا وجهه بين ركبتيه !.. وحده، يقاسم الشارع شروده و تفكيره..
كـان يرتعش كأوراق الخريف.. هالة من الضوء بفعل رذاذ المطر تحيط بجسده النحيف..
غادرت مكاني بجانب عمود الكهرباء إياه، و توجهت نحوه ممسكا مظلتي الزرقاء متفاديا بقع المياه..
لم يرفع رأسه و أنا أدنو منه بحذر..
لاحظت أسماله البالية و رجليه الحافيتين ما إن اقتربت منه أكثر!..
ربتُّ على كتفه و..
ولم يتحرك..
حرّكته برفق و أنا أهمس بما معناه '' هل تواجه مشكلة ما يا صاحبي ؟ ''..
ولم يتحرك..
نزعت معطفي و برفق وضعته على كتفيه المرتعشين..
رفع رأسه لأرى عينين محمرّتين من أثر العبرات.. شعر أشعث، ثائر، متمرد على الحياة...
و رغم وجهه المظلم استطعت قراءة الامتنان و الشكر في ناظريه..
كرّرت سؤالي و أنا أنحني إليه:
- هل تواجه مشكلة ما يا صاحبي ؟..
و لا جواب..
طبعا لا يحتاج الأمر العبقرية لتدرك أن هذا المسكين.. متشرد، ضائع، بلا أهل و لا مُعين..
بقيت لمدة أحدق في عينيه اللتان ترمقانني بدورهما.. وكأنما نظراته كلمات.. كلمات تشكو عذابه و حياته المليئة بالأزمـات..
يا لهذه الدنيا !.. ترى أحدهم غارقا في لذاتها و نعيمها حتى العنق.. و آخر لا يجد ما يسد الرمق !!..
طفت فكرة على حين غرة فوق بحر أفكـاري... لماذا لا أصحب هذا المسكين لداري ؟.. يغتسل و يزيل جوعه، يتدفأ و يُريح ضلوعه.. حتى يُضيئنا يوم جديد بشموعه..
ولكنه نهض.. و كأنه سمع عرضي و رفض.. نهض و بخطى ثقيلة ابتعد..