ما لا يكره في الصّوم :
84 - لا يكره للصّائم - في الجملة - ما يلي ، مع الخلاف في بعضها :
أ - الاكتحال غير مكروه عند الحنفيّة والشّافعيّة ، بل أجازوه ، ونصّوا على أنّه لا يفطر به الصّائم ولو وجد طعمه في حلقه ، قال النّوويّ : لأنّ العين ليست بجوف ، ولا منفذ منها إلى الحلق .
واحتجّوا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : » اكتحل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو صائم « ، وحديث أنس رضي الله تعالى عنه قال : » جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : اشتكت عيني ، أفأكتحل وأنا صائم ؟ قال : نعم « .
وتردّد المالكيّة في الاكتحال ، فقالوا : إن كان لا يتحلّل منه شيء لم يفطر ، وإن تحلّل منه شيء أفطر . وقال أبو مصعب : لا يفطر . ومنعه ابن القاسم مطلقاً .
وقال أبو الحسن : إن تحقّق أنّه يصل إلى حلقه ، لم يكن له أن يفعله ، وإن شكّ كره ، ولْيَتَمَادَ - أي يستمرّ في صومه - وعليه القضاء ، فإن علم أنّه لا يصل ، فلا شيء عليه . وقال مالك في المدوّنة : إذا دخل حلقه ، وعلم أنّه قد وصل الكحل إلى حلقه ، فعليه القضاء ولا كفّارة عليه . وإن تحقّق عدم وصوله للحلق لا شيء عليه ، كاكتحاله ليلاً وهبوطه نهاراً للحلق ، لا شيء عليه في شيء من ذلك .
وهذا أيضاً مذهب الحنابلة ، فقد قالوا : إذا اكتحل بما يصل إلى حلقه ويتحقّق الوصول إليه فسد صومه ، وهذا الصّحيح من المذهب .
واستدلّوا بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » أمر بالإثمد المروّح عند النّوم ، وقال : ليتّقه الصّائم « ولأنّ العين منفذ ، لكنّه غير معتاد ، وكالواصل من الأنف .
واختار الشّيخ تقيّ الدّين أنّه لا يفطر بذلك .
ب - التّقطير في العين ، ودهن الأجفان ، أو وضع دواء مع الدّهن في العين لا يفسد الصّوم، لأنّه لا ينافيه وإن وجد طعمه في حلقه ، وهو الأصحّ عند الحنفيّة ، والظّاهر من كلام الشّافعيّة أنّهم يوافقون الحنفيّة .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ التّقطير في العين مفسد للصّوم إذا وصل إلى الحلق ، لأنّ العين منفذ وإن لم يكن معتاداً .
ج - دهن الشّارب ونحوه ، كالرّأس والبطن ، لا يفطر بذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة ، ولو وصل إلى جوفه بشرب المسامّ ، لأنّه لم يصل من منفذ مفتوح ، ولأنّه ليس فيه شيء ينافي الصّوم ، ولأنّه - كما يقول المرغينانيّ - : نوع ارتفاق ، وليس من محظورات الصّوم . لكن المالكيّة قالوا : من دهن رأسه نهاراً ، ووجد طعمه في حلقه ، أو وضع حنّاء في رأسه نهاراً ، فاستطعمها في حلقه ، فالمعروف في المذهب وجوب القضاء وإن قال الدّردير : لا قضاء عليه ، والقاعدة عندهم : وصول مائع للحلق ، ولو كان من غير الفم ، مع أنّهم قالوا: لا قضاء في دهن جائفة ، وهي : الجرح النّافذ للجوف ، لأنّه لا يدخل مدخل الطّعام .
د - الاستياك ، لا يرى الفقهاء بالاستياك بالعود اليابس أوّل النّهار بأساً ، ولا يكره عند الحنفيّة والمالكيّة بعد الزّوال ، وهو وجه عند الشّافعيّة في النّفل ، ليكون أبعد من الرّياء ، ورواية عند الحنابلة آخر النّهار . بل صرّح الأوّلون بسنّيّته آخر النّهار وأوّله ، وذلك لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » من خير خصال الصّائم السّواك « .
ولقول عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه : » رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي ، يتسوّك وهو صائم « .
وقد أطلقت هذه الأحاديث السّواك ، فيسنّ ولو كان رطباً ، أو مبلولاً بالماء ، خلافاً لأبي يوسف في رواية كراهة الرّطب ، ولأحمد في رواية كراهة المبلول بالماء ، لاحتمال أن يتحلّل منه أجزاء إلى حلقه ، فيفطّره ، وروي عن أحمد أنّه لا يكره .
وشرط المالكيّة لجوازه أن لا يتحلّل منه شيء ، فإن تحلّل منه شيء كره ، وإن وصل إلى الحلق أفطر .
وذهب الشّافعيّة إلى سنّيّة ترك السّواك بعد الزّوال ، وإذا استاك فلا فرق بين الرّطب واليابس ، بشرط أن يحترز عن ابتلاع شيء منه أو من رطوبته .
واستحبّ أحمد ترك السّواك بالعشيّ ، وقال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » خلوف فم الصّائم أطيب عند اللّه من ريح المسك الأذفر « لتلك الرّائحة لا يعجبني للصّائم أن يستاك بالعشيّ .
وعنه روايتان في الاستياك بالعود الرّطب :
إحداهما : الكراهة - كما تقدّم - والأخرى : أنّه لا يكره ، قال ابن قدامة : ولم ير أهل العلم بالسّواك أوّل النّهار بأساً ، إذا كان العود يابساً .
هـ - المضمضة والاستنشاق في غير الوضوء والغسل لا يكره ذلك ولا يفطر .
وقيّده المالكيّة بما إذا كان لعطش ونحوه ، وكرهوه لغير موجب ، لأنّ فيه تغريراً ومخاطرةً، وذلك لاحتمال سبق شيء من الماء إلى الحلق ، فيفسد الصّوم حينئذ .
وفي الحديث عن عمر رضي الله تعالى عنه : » أنّه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصّائم ؟ فقال : أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم ؟ قلت : لا بأس ، قال : فمه « .
ولأنّ الفم في حكم الظّاهر ، لا يبطل الصّوم بالواصل إليه كالأنف والعين .
ومع ذلك ، فقد قال ابن قدامة : إنّ المضمضة ، إن كانت لحاجة كغسل فمه عند الحاجة إليه ونحوه ، فحكمه حكم المضمضة للطّهارة ، وإن كان عابثاً ، أو مضمض من أجل العطش كره .
ولا بأس أن يصبّ الماء على رأسه من الحرّ والعطش ، لما روي عن بعض أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : » لقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالعرج ، يصبّ الماء على رأسه وهو صائم ، من العطش ، أو من الحرّ « .
وكذا التّلفّف بثوب مبتلّ للتّبرّد ودفع الحرّ على المفتى به - عند الحنفيّة - لهذا الحديث ، ولأنّ بهذه عوناً له على العبادة ، ودفعاً للضّجر والضّيق .
وكرهها أبو حنيفة ، لما فيها من إظهار الضّجر في إقامة العبادة .
و - اغتسال الصّائم ، فلا يكره ، ولا بأس به حتّى للتّبرّد ، عند الحنفيّة وذلك لما روي عن عائشة وأمّ سلمة رضي الله تعالى عنهما قالتا : » نشهد على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنباً ، من غير احتلام ، ثمّ يغتسل ثمّ يصوم « .
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه دخل الحمّام وهو صائم هو وأصحاب له في شهر رمضان .
وأمّا الغوص في الماء ، إذا لم يخف أن يدخل في مسامعه ، فلا بأس به ، وكرهه بعض الفقهاء حال الإسراف والتّجاوز أو العبث ، خوف فساد الصّوم .
الآثار المترتّبة على الإفطار :
85 - حصر الفقهاء الآثار المترتّبة على الإفطار في أمور ، منها : القضاء ، والكفّارة الكبرى ، والكفّارة الصّغرى - وهذه هي الفدية - والإمساك بقيّة النّهار ، وقطع التّتابع ، والعقوبة .
أوّلاً : القضاء :
86 - من أفطر أيّاماً من رمضان - كالمريض والمسافر - قضى بعدّة ما فاته ، لأنّ القضاء يجب أن يكون بعدّة ما فاته ، لقوله تعالى : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
ومن فاته صوم رمضان كلّه ، قضى الشّهر كلّه ، سواء ابتدأه من أوّل الشّهر أو من أثنائه ، كأعداد الصّلوات الفائتة .
قال الأبيّ : القضاء لما فات من رمضان بالعدد : فمن أفطر رمضان كلّه ، وكان ثلاثين ، وقضاه في شهر بالهلال ، وكان تسعةً وعشرين يوماً ، صام يوماً آخر . وإن فاته صوم رمضان وهو تسعة وعشرون يوماً ، وقضاه في شهر - وكان ثلاثين يوماً - فلا يلزمه صوم اليوم الأخير ، لقوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
وقال ابن وهب : إن صام بالهلال ، كفاه ما صامه ، ولو كان تسعةً وعشرين ، ورمضان ثلاثين .
وكذا قال القاضي من الحنابلة : إن قضى شهراً هلاليّاً أجزأه ، سواء كان تامّاً أو ناقصاً وإن لم يقض شهراً ، صام ثلاثين يوماً . وهو ظاهر كلام الخرقيّ .
قال المجد : وهو ظاهر كلام الإمام أحمد وقال : هو أشهر .
ويجوز أن يقضي يوم شتاء عن يوم صيف ، ويجوز عكسه ، بأن يقضي يوم صيف عن يوم شتاء ، وهذا لعموم الآية المذكورة وإطلاقها .
وقضاء رمضان يكون على التّراخي . لكن الجمهور قيّدوه بما إذا لم يفت وقت قضائه ، بأن يهلّ رمضان آخر ، لقول عائشة رضي الله تعالى عنها : » كان يكون عليّ الصّوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلاّ في شعبان ، لمكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم « . كما لا يؤخّر الصّلاة الأولى إلى الثّانية .
ولا يجوز عند الجمهور تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر ، من غير عذر يأثم به ، لحديث عائشة هذا ، فإن أخّر فعليه الفدية : إطعام مسكين لكلّ يوم ، لما روي عن ابن عبّاس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم قالوا فيمن عليه صوم فلم يصمه حتّى أدركه رمضان آخر : عليه القضاء وإطعام مسكين لكلّ يوم ، وهذه الفدية للتّأخير ، أمّا فدية المرضع ونحوها فلفضيلة الوقت ، وفدية الهرم لأصل الصّوم ، ويجوز الإطعام قبل القضاء ومعه وبعده .
ومذهب الحنفيّة ، وهو وجه محتمل عند الحنابلة : إطلاق التّراخي بلا قيد ، فلو جاء رمضان آخر ، ولم يقض الفائت ، قدّم صوم الأداء على القضاء ، حتّى لو نوى الصّوم عن القضاء لم يقع إلاّ عن الأداء ، ولا فدية عليه بالتّأخير إليه ، لإطلاق النّصّ ، وظاهر قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
وعند غير الحنفيّة يحرم التّطوّع بالصّوم قبل قضاء رمضان ، ولا يصحّ تطوّعه بالصّوم قبل قضاء ما عليه من رمضان ، بل يبدأ بالفرض حتّى يقضيه ، وإن كان عليه نذر صامه بعد الفرض ، لأنّ الصّوم عبادة متكرّرة ، فلم يجز تأخير الأولى عن الثّانية ، كالصّلوات المفروضة .