القلب المهزوم</B>
... لم يدر يسار كيف أدَّى صلاة المغرب والعشاء ، لم يدر كيف قادته رجلاه إلى بيت الجارية ، لم يدر كيف سمح لنفسه أن يقول لها ما قال .
كان في طريقه إلى البيت بعد صلاة العشاء ، وكان القمر كئيبًا حزينًا ، والهواء باردًا ، وغيوم مبعثرة في السماء .
كيف ذهب إلى بيت الجارية ؟
كان يريد أن يذهب إلى المقبرة ، يريد أن يقرأ بعض ما كتب عليها ، ليستمد منها العزم والصبر والتصميم ، فهي الواعظ المفلق !
ولكن أين وجد نفسه ؟
كانت هناك ، استقبلته ، سمع صوتها ، تحدَّثت إليه بعينيها , بهمسها نبقلبها ، حملت إليه كأس العصير ، حملته بيدها ، بنفسها .
وانتبه إلى نفسه ، فإذا به يقف على باب بيتها .
هل يصدق ما قيل عن مجنون بني عامر !! ووضع يده على الباب ، لابد أنها وضعت يدها هنا ، وتلفت حوله .
هذه النخلة الباسقة التي يتوجها سعف أخضر ، تنظر إليه في صمت وهدوء ، تدغدها الريح أحيانًا فيسمع حفيفها كأنه الهمس ..
وتنهَّد وهو يستند بظهره على الباب . واشتدَّت الريح ، وانطفأت الفوانيس ، وبدأ وجه القمر شاحبًا لا أثر فيه للجمال وعاد يسار يجر الخطى وقلبه يلتفت إلى بيت الجارية . وعندما وصل إلى البيت ، واحتوته الغرفة ، شعر بضيق شديد ، شعر كأن جدران الغرفة تشدد الحصار على قلبه المهزوم ، فأسرع يفتح النافذة ، وهجم الهواء ، وتنفَّس يسار ملء صدره ، ولم يشعر إلا وهو يردد ما كتبهله الشيخ في يوم من الأيام ، وطلب إليه أن يردده كثيرًا : { رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} .
وبقي الهواء المغسول بماء النهر يرطب فؤاده ، فشعر بشيء من الراحة ، ثم عزم على أن لا يعود إلى بيت الجارية ، لن تتكرر حادثة اليوم أبدًا ، إنه من الخير أن لا يعود ، سيغسلها من قلبه ، سوف لا يدع لها أثرًا على بساطه وإلا ...
كانت أمه تنظر إليه وتتألم ، تشعر أن ابنها هذا يعيش مشكلة عظيمة قد أحاطت به ولا يستطيع التخلص منها ، ولكن ما هي هذه المشكلة ؟
إنها تستطيع أن تتصور كل مشكلة يمكن أن يقع فيها إلا هذه المشكلة !! إن عاصفة قوية قد هبَّت على قلبه فأشاعت فيه الحيرة والقلق ، ولكنه أسدل عليها ستارًا من التصبُّر والتجمُّل محاولاً كتمانها وعدم ظهورها للعيان ، ولكنها ظهرت رغم كل ما كان يبذله من مقاومة .
أما أبوه ، فلم يلتفت على حاله ، فقد كان مشغولاً بالسوق طول يومه ، حتى إذا عاد إلى البيت ، عاد متعبًا منهوك القوى ، لا يود سماع شيء يكدر عليه هدوءه وراحته !
ولم يغب حاله عن أخته الصغيرة اللطيفة الوديعة سناء ، فكانت تنظر إليه وتتألم ، وتسأله في كل مرة : ماذا ألمَّ بك ؟ فلا يجيب إلا بتنهدة عميقة ، أو زفرة حارة ، أو يشح بوجهه عنها ، فتنطلق وراء قطتها .
وكان يسار قد استنفد قواه ، ونال منه الجهد ، ولم يعد يحتمل مجاهدة نفسه ، فقد استطاعت الجارية أن تتغلغل إلى شغاف قلبه ، فلما انجذب إليها ذلك الانجذاب العجيب أخذت تتهرب منه !!
فاضطرمت النار في أحشائه ، وتغيرت حاله ، وصار لا يقرّ له قرار ، وشعر بوحشة قاتلة ، ويأس مرير ، ولم يعرف كيف يداوي ما به ، ولا يريد أن يداوي ما به ! لم يعد له ذلك الهدوء اللطيف ، والطمأنينة التي يجدها في جنب الشيخ وهو يستمع إلى حديثه الذي يملأ القلب نورًا وبهجة ، وإيمانًا ويقينًا ، وصار يتلوَّى كما يتلوى السقيم .
ولم يرحم أبو محمود حاله ، فأخذ يشير عليه أن يداوي ما به بشرب الخمر !!
وأجابه بكل عزم وتصميم :
معاذ الله ، لا كان ذلك اليوم الذي أقارف فيه هذا المنكر .
وأصبحت صلاته خفيفة جافة ، ليس لها جذور في القلب ، كأنها أوراق يابسة على شجرة في طريقها إلى الذبول ! وأخذ يحس في قعر قلبه بنار متأججة ، واضطراب وعدم راحة ، وعرف السر الذي يدعو هؤلاء إلى انتهاب اللذات ، والانغماس في الشهوات ومقارفة المنكرات .
تكشف له سر ذلك كأجلى وأوضح ما يكون ، إنهم يعيشون حياة قلقة ، جافة ، لا أثر فيها للهدوء أو الراحة ، إنهم يسيرون في طريق متعثر شائك ، يهربون منه إلى طريق أشق منه وأوعر ، إنهم ينتقلون بين النار والرمضاء ، وعلى كليهما لا يجدون الراحة ولا الهدوء ولا الطمأنينة !!
تكشف له كل هذا ، ولكنه هاهو معهم ! فلماذا لا يتركهم ؟ إلى أين يذهب ؟
إنه لم يعد يصلح للعودة إلى أصحابه ، إلى إخوته الأطهار ، الذين يخشى الواحد منهم أن يتكلّم بالكلمة الواحدة إلا بعد تقليبها على وجوهها لئلا يكون فيها شيء من مساخط الله ، إنهم ينقون الكلام كما ينقي الواحد منا التمر ، إنهم يصدرون في معظم أمورهم وكأن النار لم تخلق إلا لهم !
أما هؤلاء السادرون في لهوهم وعبثهم ، فكأن الجنة لم تخلق إلا لهم .
ولكن هاهم يكتوون بنار الدنيا ، فلا يجدون لذة للحياة ، وقد يصل الأمر ببعضهم إلى أن يظن أن طريق الخلاص لا يكون إلا بقتل نفسه !!
والجارية لم يعد يدعو الله بأن يبعدها عن طريقه ، بل أخذ يتلهف لرؤيتها ، وينتظر الساعة تلو الساعة لكي يراها ، وأخذ يتصورها في حركتها ، في مشتها ، في ضحكتها ، في كل شأن من شؤونها !!</B>
يتبع