فنجان قهوة
عالم جديد بلانظام
في كتابه المثير “نهاية التاريخ وآخر رجل” يقول المفكر الياباني، الأمريكي الجنسية، فوكوياما، إن البشرية، عبر تاريخها، جربت كل ما يمكن أن يخطر على البال من نظريات ونظم: من الديكتاتورية إلى الفاشية إلى الشيوعية إلى الأوتوقراطية إلى التوتاليتارية، إلى غير ذلك من تصنيفات ومسميات، دون أن تجد خلاصها في شيء. وفي ظل النظام العالمي الجديد، يتوقع فوكوياما الذي تخلى عن إرثه الشرقي الساحر، وبات يتكلم بلكنة أمريكية فيها الكثير من إرث الكاوبوي وحضارة هوليوود، أن يمر التاريخ بفترة طويلة جدا من الفوضى والمذابح، وحمامات الدم، قبل أن يرسي مزاده على الليبرالية الديمقراطية.
وفي كتاب “أمريكا طليعة عصر الانحطاط” يقول روجيه جارودي، الذي يعتبر أفضل الشهود على القرن العشرين وأكثرهم نزاهة، إن النظام العالمي الجديد يوشك أن يكون “عالما جديدا بلا نظام” ويضيف: “إننا نغتال أحفادنا ونعد لانتحار كوكبي شامل في القرن الحادي والعشرين، إذا استسلمنا للانحراف القائم في السياسة العالمية التي تهيمن عليها أمريكا” ويرى أن “العولمة” التي تدعو إليها أمريكا ليست في الواقع سوى أمركة للعالم واستعمارا له، و”لا مجال في ظل العولمة للحديث عن عالم ثالث، طالما أن العالم الثاني فقد هويته، أما العالم الثالث فإنه سيقضى جوعا”.
شيء من هذا القبيل يردده جاك جوليار في كتابه “عبقرية الحرية”، عندما يتحدث عن انهيار مجموعة القيم المتوارثة من الماضي، ويصل إلى نتيجة مشابهة للنتيجة التي توصل إليها فوكوياما وروجيه جارودي عندما يتحدث عن “الزمن المسترد في عالم المتغيرات” ويقول: “إن فلسفات التاريخ المعروفة أثبتت إفلاسها، والتاريخ ليس بالضرورة مسيرة تطور إلى الأمام، بشكل مطرد، فهو أحيانا يرجع إلى الوراء، إلى عصر المذابح، وعمليات الإبادة الجماعية” وهو ما يصفه جارودي بالعودة إلى عصر الانحطاط التي تشكل أمريكا طليعتها، (أي طليعة العودة).
ويقول جوليار إن أخطر ما في النظام العالمي الجديد هو أنه أسلم الدفة للاقتصاد، وجعل ضرورات ومستلزمات الاقتصاد تحل محل الأعراف والأخلاق والقوانين، والتقنية محل الإرادة والفلسفة، باعتبار أن العقلانية الأدواتية هي التي أصبحت تملي قوانينها على العقلانية المعنوية في الأخلاق. ولكي يوضح أفكاره بشكل منطقي، يقدم جوليار حالة من حالات الانعكاس المنطقي، ففي حين كان الإنتاج غايته في الماضي سد حاجات الناس الاستهلاكية، أصبح المسؤولون في الشركات يتحدثون بكل برود عن رفع الاستهلاك إلى المستوى الذي تفرضه كفاءة الأجهزة المنتجة. أما الديمقراطية والحرية التي تتحدث أمريكا عنها، فإنها أشبه ما تكون باستراتيجية الدجاج والثعالب، حيث يجري إطلاق الدجاج في الساحة، وإيهامه أنه يمتلك حرية كاملة للتصرف كما يريد، وفي الوقت نفسه يجري إطلاق الثعالب الأمريكية، اقتصادا وسياسة وقوة عسكرية ومعلوماتية، وتعطي الحرية للتصرف بالشكل الذي تريده أيضا، وتكون النتيجة أن ينتهي الدجاج في بطن الثعالب.
إنه عصر الانحطاط، والآلات التي تنتج أشياء للاستهلاك مرة واحدة، وحضارة الفضلات، وسيطرة أمريكا، أما العالم بأسره، فإنه في نظر أمريكا مجرد فائض جغرافي، وفائض إنساني.
أبوخلدون