أنقاض امرأة
بقلم : طاهر أحمد
(1)
كنت دوماً أرى ذلك الكتاب القديم الممزق في مكتبة والدي وكلما كانت يدي تحاول لمسه كان أبي يمنعني ، دفعني الفضول للإطلاع عليه كنت أقلّب صفحاته فتتفتت في يدي من قدم الورق وجور عوامل التعرية عليه ، كان مسماه غريباً بعض الشيء ( سلامة القس ) كيف يكون القس أنثى أو كيف تكون الأنثى رجلاً قرأت الرواية وتأثرت بها ودفعتني إلى عالمها بشدة عندها لم تطل المدة حتى غزوتِ أنتِ عالمي..... فلم أرى شيئاً أقدمه لك غير هذه الرواية الرائعة التي دفعتني لخوض تجربة حبي الأولى معك....
..............
في أيامنا الأولى أردت أن أهدي لك هدية كالعادة المعروفة ( فالعادة محكّمة) فتشت في محفظتي فلم أجد بحوزتي غير ثمانية ريالات فقط لم أجد ما أقدمه لك إلا أن أشتري لك تلك الرواية .
أعرف أن من طبيعة الإهداء وخاصة في مثل مجتمعنا أن تكون الهدية ثمينة زجاجة عطر باهظة الثمن أو سوار من الذهب أو ساعة ذات ماركة عالمية شهيرة !!!
ولكني أهديتك تلك الرواية لأمرين ،الأول : أني لا املك من المال إلا ما أدفع به ثمن تلك الرواية . الثاني : أني أردت أن أجعلك تعيشين عالمي فأنا ليس لدي أصدقاء غير الكتب !!!
............
ومرت الأيام عجلى.... وعندما رأيتك أول مرة أخبرتك أني لا أملك من حطام الدنيا هذه غير بعض الكتب التي بحوزتي ثم قلت لك :
- فاتن أنا فقير معدم وأنت غنية مدلـله ليس لدي شيء البته !!
قلت لي :
- يكفي أن لديك الحب الذي أبحث عنه !!
..............
تزوجنا وعشنا تحت سقفٍ واحد ومرت السنون الجميلة سنين الحب الرائعة.... وبدأت قناعاتك بالقليل والرضى باليسير من العيش يتلاشى شيئاً فشيئاً من روحك ، وبدأت تنظرين هنا وهناك لأهل الثراء والمال والغنى لأن الحب قد ضعفت جذوته في قلبك !!!
..............
كانت الريالات القليلة التي أحصّلها من دور النشر ثمناً لكتاباتي لا تقنعك ولا توفر أتفه الأغراض التافه التي تسعين للحصول عليه ونحن في غنية عنها ورغم ذلك لا أمنعك مما تحبين ، منعتني من القراءة في المنزل ومزقت كتبي ودفاتري وحرقت مذكراتي ورميت ديوان شعري في صندوق النفايات ولعنتني ولعنة الكتابة التي أمارسها ، وانا أصرخ في داخلي ألماً على بنات أفكاري وثمرات حياتي التي لاقت من التعسف الاضطهاد والتعذيب الشيء الكثير ...........
وها أنت الان وبعد عقد من الزمن تريدين الطلاق لأني لاأستطع أن ألبي لك متطلبات حياتك أو بالأصح أصبحت تشعرين بالعار من الارتباط بإنسانٍ فقير مثلي......وأنت من اخترتنني بمحض إرادتك!!!
.............
بعد الحب الذي عشناه بلحظاته وساعاته ورغم الصمود أمام أمواج القهر والظلم العاتية ورغم الخنادق والسدود التي حالت بيننا وبين حبنا وعبرناها بكل صمود ..أنت الان تطلبين الطلاق ..
- طلقني دعني أعيش بقية حياتي مع إنسان يلبي كل احتياجاتي ....طلقني يا رجل ...طلقني..
كنت تتلفظين تلك الكلمة الجبارة بكل سهولة ودون مبالاه ودون تقدير لحياتنا الماضية ...
دار بيننا النقاش طوال تلك الليلة حتى طلع يوم جديد علينا ونحن على تلك الحال ...وأخيراً رأيت أن أقلل من لهيب النقاش فخرجت من المنزل..... إلى أين لا أدري ...لا تتصورين الأماكن التي ذهبت إليها والأزقة التي مررت بها والدور المهجورة التي دخلتها لكي أعرف هل هناك مخرج لمثل هذه الأماكن البالية ...إن الذهول والصدمة الشديدة التي تلقيتها تلك الليلة أوصلتني إلى هذا الحال من التيه داخل المدينة التي تتسم بوضوح المعالم والطرق !!!
دخلت المقهى الشعبي القديم أتى ( القهوجي ) ولم أعلم انه كرر من غير ملل قوله :
- طلبك يا سيد ....طلبك يا أخ ....
- شاي من غير سكر ...
- نارجيلة ....
- نارجيله ....
- نارجيلة عادي ...أم نارجيلة نارجيلة ...
- ماذا تقصد ؟
- العادي عادي والنارجيلة نارجيلة كيف زيادة ....أشرح لك أكثر
- أحضر النارجيلة نارجيلة ..
..........
انقطعت عن التدخين من فترة طويلة جداً وكانت هذه الحادثة كفيلة بأن ترجعني إلى تلك العادة السيئة جداً ، لم أكن أعرف أني في تلك الساعات التي قضيتها في ذلك المقهى أني كنت أحشش فهذه قفزة فظيعة جداً لم أكن أعرف أن ذلك ( القهوجي ) وضع لي الحشيش في تلك الشيشة الصغيرة ....أخذت أسحب نفساً تلو أخر ذهبت إلى عوالم أخرى التقيت بأناس آخرين مررت بأطواري مروراً عابراً ..طفولة...مراهقة...شباب ...حب ...زواج ....؟؟؟؟؟
.............
مكثت طويلاً في ذلك المكان نظرت إلى الساعة فصدمت لأني مكثت في ذلك المكان ما يقارب ثمان ساعات نهضت سريعاً... حاسبت ...عدت أدراجي ...كما عادت الشمس أيضاً إلى عادتها وهو الغروب الممل ...الذي يضيّق عليّ الكون بأرجائه!!!
............
رجعت إلى المنزل فلم أجدك..... بحثت عنك في كل مكان ....ووراء كل الأبواب وفي كل الأماكن الخفية التي في منزلنا الصغير والتي كنت تتخبئين فيها إذا أردت أن تمازحيني ...بحثت هنا وهناك ولم أجد سوى تلك الورقة الصغيرة التي كتبت عليها :
(( إذا كنت إنساناً كريماً وشهماً فأرسل لي ورقة طلاقي في أقرب وقت ....))
كان هذا قرارك الذي دافعت عنه باستماتة الليلة الماضية ...
..........
مرت الساعات ..انتظرتك كثيراً ..لم تأتي ....حضرت العشاء لي ولكنك لم تأتي ...صنعت فنجانين من القهوة وأضفت بعض الحليب في فنجانك وبعض قطع السكر انتظرتك ...انتظرتك حتى برد الفنجان..مضت تلك الليلة وأنا لا أزال أنتظر ...
تعالي أرجوك ....فقد شعرت أن الغبار ملأ حجرات قلبي مما دعاني إلى اغلاق النوافذ والأبواب ولكن أعاصيراً من الأغبره أخذت تدور وتدور جاهدة أن تغلق شرايين الحب التي لم تزل تضخ وتضخ في داخلي .....
............
في الصباح أردت أن أعيش الأمر بكل واقعية وتلقائية أردت أن أنسى ارتباطي أن أنسى كياني الآخر أردت أن أعيش بلا هوية بلا حب بلا سكون ..؟!؟!؟!؟
.............
وقبل حلول المساء وضعتها لك في ذلك الظرف لم أستطع أن أتأملها كثيراً ..أغلقت الظرف ..أغلقته وفصول من المشاعر مختلطة في داخلي ...أخذت الظرف ..حملته ...كانت دموعي هي الشمع الذي وضعتها عليه ....ثم سرت ..إلى منزل أهلك الذي آويت إليه منتظرة تلك الورقة التي تريدينها مني ...تلك الورقة السوداء التي هي بمثابة الصمصامة التي سوف تفصل كياننا وحبنا للأبد ....
قرعت الباب كأني متسول وأعطيت الظرف أختك الصغيرة ....ثم ركضت نحو سيارتي وأنا أبكي بحرقة ....تحركت إلى أين لا أدري ..فعلاً لا أدري لأن الحب اذا ضاع فلا يوجد هناك مأوى آوي إليه!
.............
في المساء أصبح الظرف بين يديها نظرت إليه والألم يهز كيانها أمسكت ذلك الظرف الذي حوى تلك الورقة التي تحيل كل شيء إلى ضده.... فالكيان الواحد أصبح قطعتي جامدتين بلا مشاعر والحب والتضحية والمودة والرحمة تصبح تاريخاً شخصياً قديماً يتألم قارئه ويعاتب نفسه بعد قرأته......القرب بعدها يصبح بعداً ........وممارسة الحب كبيرة ......تلك الورقة تصبح مجداً وذكرى مجددة لسور برلين الشهير .....
...........
فاتن لم تتحمل تلك الأحزان التي غزتها بخيلها ورجلها فلم تستطع أن تفض الظرف الذي حوي تلك الورقة التي طالما طلبتها كثيراً من غير ملل...... لم يفصل بينها وبين تلك الورقة إلا أن تفض ذلك الظرف الذي يحمل المأساة بكل معانيها أصبحت الدموع تجري ساخنة ومعها فوح الحسرة والألم والندم الذي لم تشعر به إلا في تلك الحظة.
فتحت الظرف قاطعة بذلك تلك العواصف المتضاربة في داخلها........ أدخلت يدها البيضاء الصغيرة الى داخل ذلك الظرف المفزع......أمسكتها ..... وكانت المفاجأة غير المتوقعة بتاتاً .......فلم يكن بداخل الظرف شيء سوى رواية ( سلامة القس ) تلك الهدية التي تلقتها منه في أول طريق حبهما ........كانت تقرأ تلك العبارة التي كتبها قبل عقد في الصفحة الأولى :
( اللقاء معكِ حياة ودونك قمة الضياع ... أحبكـــــــــــــــــــ.....)
أخذت تجهش بالبكاء وألوان من مشاعر الفرح والحزن والندم تنهش ضميرها الذي استيقظ بعد سبات طويل من الجمود ضمت الكتاب الى صدرها بشدة.... ضمته قبلته كثيراً.... وارتمت على سريرها مستسلمة لنوبة بكاءٍ لا تنقطع ....
..............
وفي ساعة متأخرة من الليل.....
. كان جالساً على طاولته ....
.وأمامه فنجانا القهوة ...
.ومعزوفة ( ياني ) الحزينة تصدح في الأرجاء.....
تحمله إلى عوالم من الحزن والأمل في نفس الوقت....
وبينما هو سارح بفكره في المجهول ...
.فجأة..... رن الهاتف..........
كانت تبكي بحرقة تريد أن تقول له لازلت أحبك ولكن البكاء خانها في تلك اللحظة .....فلم تعد بينهما لغة سوى لغة البكاء ........