(( الفصـ...ـل الـ..ـثالـث ))
..............
......
عندما اقتربتُ مِن المنزل، حيث توقعتهم عند الباب ينتظرونني !
( لا أعرف لِماذا نجعل لأنفسنا أهمية كبيرة ؟ )
فجأة وبدون مقدمات انزلقت قدماي في الوحل - والذي لم أنتبه لـِوجوده -
" أهــ ! " وبـِكل قوتي تمسكتُ بأحد الأغصان القريبة
واستطعتُ أن أنقذ نِصف ملابسي مِن الوحل الكريه،
( أي ! ماما... أريد أمــي .. ! )
تقدمت - بـِخطى مُنهكة - نحو باب البيت وألقيتُ بنفسي على العتبة المتهالكة
لم يبقى سِوى العصافير التي تُحلق على الرأس حتى أتأكد بأني تعرضت لِصدمةٍ مفاجئة
" ريــاض، أينَ كُنتْ ؟ "
" أبي ؟ "
ردّ بامتعاض وهو يطالعني بنظرةٍ جانبية : " أنتظرك أنا وأبو هادي في المزرعة "
ومن ثَمَّ شيعني بـِنظرة خاوية ، قبل أن يقول: " أنتظرك، بعد أن تبدِّل ملابسك طبعاً ! "
أجبته بحركة بطيئة بـِعينيّ، و دخلتُ ـ لا أنوي ما يجب عليّ فِعله !
( شيء ما أريد أن ألمّه بـِداخلي... ! )
وعندما وصلت إلى الباب، نظرت نظرة خاطفه إلى الغرفة الشبه خاليه، بعد أن شعرت بأن جسدي مُنهك
جلستُ على السرير الوحيد ، وبدون تفكير تمددت بارتخاء
فجأة..
.... فُتح الباب بـهـدوء وبــطء، انتصبتُ بالجلوس بسرعة وألتفتُ لأفاجأ الصغيرة ربى تنظر بعينيها إليّ ويديها تعبثان بدمية خرقاء!
ابتسمت وقلت ملاطفاً إياها: " تعالي صغيرتي "
تقدمت نحويَ ويا للسعادة!
... قبلتها، تَملصت مني ، ولازالت تقف قريبةً مني وتبحلق في وجهي بـِعمق وسذاجة !
جعلت أتأمل ملامح وجهها .... بالجمال الطفولة !!
تَدفقت إلى روحي سكينة ، هدأت نفسي المبعثرة ...... ،
قُلت لـِلصغيرة بـِغباء: " أنا من؟ " وأخذت أدور بـِعينيّ في محور ثابت !
استمرت تنظر إليّ وأنا أرى الإجابة مُتحيرةٌ بين شفتيها !
ابتسمتُ بمرح ،وَعدتُ أقول بعد أن قَربتُ وجهي من وجهها: " كم عمرك ؟ "
ولا زلت متأكد من أنها تعرف الإجابة ، ولا زالت مكبله بداخلها !
استلقيت على السرير وأعطيت الصغيرة ظهري و... بدون أي تخطيطٍ مُسبقْ
... نُــمـت !
..........
استيقظتُ، وحاولت أن أجد أي أثر لـِلطفلة المثيرة تلك !
" آه .. ظهري يؤلمني "
اتجهت نحو الباب الخارجي وفي طريقي مررتُ على عمتي في المطبخ
فَشعرتُ بأنها تحتاج إلى من يتكلم معها
أدخلتُ رأسي من باب المطبخ وقُلتُ بصوتِ لا يخلو من نبرةٍ مرحه: " عمـــتي، أنا هنا "
ألتفتت وابتسامةٌ كبيرة تعلو مُحياها ، هذا إذنٌ بـِالتطفل !
دخلت وتربعت فوق كرسيِِ خشبيِ صغيرِ،
وعادت تحرك الطعام الذي في القدر
فَقلتُ لها، وأنا أصطنع البراءة: " ما الذي تطبخينه عمتي ؟ "
ألتفتْ عليّ وتعبيرات وجهها تميل إلى الابتسام !
اقتربت مني وهتفت وهي تمسك بـِخدي: " ولد لطــيف! " ثم مسحت جبينها والملعقة الخشبية لا تفارق يدها وقالت : " أطبخ كُل ما سَيعجبك "
ابتسمتُ بخجل وقُلت لها وأنا أهمُّ بالنهوض: " أنا ذاهب إلى أبي؛ أتريدين شيئاً ؟ "
ابتسمت بـِعمق وحنان ( ذكرتني بأمي ) ، وقالت بابتسامة ماكرة : " ولنا حديث آخـر بِكل تأكيد "
ابتسمتُ لها كالقطط - التي بجانب بيتنا في المدينة -
وأثناء ذلك سمعنا صوتَ صُراخ وجلبه مِن الغرفة الثانية في المنزل – غير التي نُمت فيها –
تبادلنا أنا وعمتي نظرات الاستغراب، وجريت إلى الغرفة وتوقفتُ عند بابها ونظرت إلى شيء لم يكن من المفروض أن أنظر إليه !
الفتاة تلك ! ذات العينينُ السوداويتين، و هادي يقف بِمحاذاتها غاضباً !
سألت عمتي بحنق: " ألا تريدان أن تكفا ؟ ما هذا الهراء المستمر ؟ "
نظرت إلينا الفتاة نظرةً مُطوله ، ثم اندفعت صوبَ عمتي قالت بصوت طفوليّ برئ : " لم أفعل شيء " وأمسكت ، ثمَّ تقوس فمها نحو الأسفل ، وأخذت تعد أصابع يدها ،
وَنظرت إليّ نظرة عابرة
مَدّت عمتي يدها نحو حجاب الفتاة والتي كان قد انزلق من فوق شعرها وضبطته بعناية حول وجهها
هَمَمتُ بالخروج ، ولكن الفضول قد استبد بي
قال هادي بارتباك بعد أن طالعني بِطرف عينيه: " حمقاء، لا أستطيع تحمل المزيد من سخافاتها !"
تغيّر وجه العمة وعقدت بِحاجبيها وأجابت بعد تنهيده : " ما الأمر هذه المرة ؟ "
خفضت الفتاة برأسها ولم تجب ؛ يبدو السؤال موجهاًَ لها !
" ديمه ! "
قالت عمتي ،
أجابت بصوت مبحوح: " لم أتعمد ذلك وهو لا يريد تصديقي ! "
قالت عمتي بنفاد صبر: " آه حسناً ما الذي لم تتعمدي فِعله ؟"
رفعت عينيها وقالت : " كُنت أريد ترتيب الغرفة ، وأطلعت على احد دفاتره "
ارتسمت علامات الدهشة على وجه عمتي وهي تقول : " تُعطي الأمر أكبر من حجمه ! "
أتجه هادي بمشيته العسكرية نحو الباب ، ولم يردّ ،
:؛:؛::؛:؛
بعد أن خرجنا أنا وهادي...
جلستُ بهدوء على الأرض ، وهادي - بمعوله - يحرث الأرض
ناديته بِصوت ينم عن شخصِ متطفل: " هادي "
أجابني و هو يمسح العرق عن جبينه " ماذا تريد رياض ؟ "
تلفتُّ حولي، وقلت له برعب مُصطنع: " كيف لي أن أنام هنا ؟ " وكشرتْ بوجهي !
وبعد أن طالعني بتساؤل ، قُلتُ : " أقصد إذا حَلَّ الظلام ! "
ردّ عليّ مداعباً: " فتى ناعم ! لا بد من تخشينه قليلاً "
قُلتُ له بشغف : " حقــاً ؟ "
ألتفتَ إليّ متعجب، قبل أن يقول: " حقاً ماذا ؟ "
قُلتُ له بلهفه : " ستدربني ؟ "
ضـــحك كثيراً ، وشاركته الضَحِك - الخفيف - ، ثُمَّ قال بصوتِ أجش : " لن تتحمل تدريباتي " ثم عَقدَ بـِحاجبيه في تَحدِّ غامض
نظرتُ إلى الشمس وهي تُقارب المغيب ، ثم ركزتَ عينيّ بعينيه وقُلت : " أنا لم أعرف أصلاً أنك مُدرب ! "
ابتسم ابتسامةً خفيفة، ثم قال وهو يتقدم نحوي تاركاً معوله في آخر نقطه قرر حرثها
" نحن لم نعرف أنكم موجودون إلا هذا اليوم ! "
ابتسمت وأنا اعقد بحاجبيّ مُستنكراً
حرك يده من فوق كَتِفه ، وقال : " نعم ... أنا أقول الصدق "
قُلت بسرعة : " خِلتُكَ تَمزح ! "
وهو يبلل شفتيه بلسانه ، قال ببطء : " يحسن ألا تتكلم بهذا أمام أبي "
ابتسمت وأنا أنظر إلى خصلات شعري و التي انسدلت على كتفي: " هذا أفضل " وقد فهمت شعوره تماماً
ثم بعد نظرةٍ إلى الأرض ، ابتسم ابتسامة عريضة : " هل أريك شيئاً ؟"
نظر إليّ مطولاً ، قبل أن يقول بصوتٍ خفيـض : " "
ابتسمتُ حتى أغمضت عيناي
وبداخلي شعور يوحي بعدم الفهم !
، ، ، ، ،
في اليوم التالي ...
بعد أن تناولنا الفطور،
توهج هاتف أبي النقال، قبل أن يبدأ بالرنين - المعتاد -
نهض مِن مكانه وتنحى جانباً ، وأخذ يتكلم بهدوء بادئ الأمر
ثم فجأة ارتفعت نبرة صوته ، وتلاشى حتى أنقطع ..
وضع جواله في جيبه وتقدمَّ نحونا باسماً ، كُنت أثناء ذلك قد توقفت عن سرد النكات
عندما رأيته ، جَزمتُ بأنه قد صفع الهاتف بـِوجه المتصل !
كُنا نجلس أنا وهادي والشيخ وأخيراً عمتي ،
عاد الوضع كما كان من الأحاديث والضحك ،
الشيء الذي قد أختلف أن أبي لم يعد يضحك ، بل كان شارداً طوال الوقت !
قطع أبي علينا الضحكات - التي آلمت بطني - " سنعود إلى المدينة "
رفعت عمتي يدها نحو فمها وهي مصدومة !
ثم عبست وأخيراً ابتسمت بـِعتاب لأبي ،
أبي أبتسم ، ولكن الشيخ بدا لي متضايق ولم يبتسم !
وأخيراً بعد لحظات ارتباك بدرت من أبي وهو يفحص المكان متحاشياً نظرات الكل
تبادلنا السلام بحرارة ،
ونحن نلوح بأيدينا في السيارة ونهم بالانطلاق
لا أعرف أم أني قد توهمت ، ولكني رأيت نظرةً غريبة في عينيّ الشيخ !
ابتعدنا قليلاً ..
وألتفتُ بـِرأسي إلى الخلف ، لم أرى هادي وعمتي
يبدو أنهما قد ذهبا ، هذا لا يهم
ولكن المهم هو أني رأيت الشيخ يقف وحيداً / جامداً ، ومن عينيه تقطر نظرات لم أتوجس بماهيتها !
ومضت عينيّ باندهاش وعدتُ أشغل نفسي بالنظر إلى الطريق
نظرتُ إلى أبي ، فإذا به لم يشعر بي ...
، ، ، ، ،
أبي ألتفتُ إليّ بعد فتره ، وابتسم وتنهد تنهيده تمثلت لي أنه يقول ( وأخيراً ابتعدنا ! )
حاولت أن أعرف ما سبب هذا الخاطر ، ولكني فشلت فآثرت التوقف عن التفكير
وبعد مسافة قضيناها أنا وأبي في سماع آيات من الذكر الحكيم
التفتَ أبي نحوي وهو يقول : " هذه الغابة " وبعدها تنهد بحماس - لم أعهده فيه -
ركزتُ عينيّ في عينيه أحثه على الاسترسال، لكنه ظلَّ صامتاً
فأخذتُ أدور برأسي في المكان ، ثم قُلت له بهدوء : " تـلـك ؟ " وأشرتُ بسبابتي إلى مجموعةٍ أشجار كثيفة ، راقَ لأبي أن يسميها بالغابة !
أبي لم يردّ ؛ وذلك أزعجني فَأخذتُ أراقبه بـِتمعن ، فأمسكَ بالمقود بيديه الكبيرتين وأنعطفَ بالسيارة إلى ذات المكان الذي أشارت إليه إصبعي ،
سألتُ بسرعة وفضول : " إلـى أين أبي ؟ "
وهنا ابتسمَ إليّ وهو يضغط على يدي برفق ،
بعد برهة قال بوقار : " هذه الأرض ... "
صمتَ ، ثُمَّ عاد يركز عينيه في عينيّ
أكمل قائلاً بحزن غريب : " التي أحبـبـت ! "
ابتسمتُ وأنا أقول بمكر : " لم تحدثني عنها قبل ذلك "
ولما رأيته لم يرد ، صِحتُ بفرح : " لم أعرف أنك مغامر "
رأيته يبتسم بـِحذر ويتفحص المكان بعينيه الجادّتين
توغلنا في الغابة ...
شكلها كان أكثر من مثير لـِلعجب ،
" لم أظن يوماً أن شيئاً يشبهها في منطقتنا "
ابتسم أبي وهو يقول : " ذلك أنها لم تتعرض للفضوليين بعد "
أثارني المنظر ؛ فَألصقتُ يدي على زجاج النافذة وهتفت : " شيء خرافي ! "
وأغمضتُ عينيّ وقلتُ بخشوع خافت : " خـرافـي ! "
قال أبي بصوتِ خافت - وكأنه يخشى مِن أن يسمعه أحدهم -
" كـَالأساطير تماماً "
رَفعتُ حاجبيّ وقلت بغبطة : " لا أصــدق ! "
أخذَ أبي يغمغم بأذكار الصباح بصوتِ هادئ - وكأنه لم يكن متوتراً قبل لحظات -
هذا ما يعجبني في أبي ، مهما بلغ بـِه غَضبه ، فإنه يهدأ بـِشكلِ سريع وغير متوقع بتاتاً !
انتصبت في جلستي وأنفاسي تُعبر عن انبهاري بـِما أرى !
كُان أبي يقود بهدوء وحذر شديدين
والطريق كانت شبه ممهده وليست كذلك !
وعلى جوانب الطريق الأشجار تمتد بشكل تجعلك تظن أن ليست لها نهاية !
كانت طويلة جداً وضخمه ومتفرعة وغير مُشذبه ،
ولكني بدأت ألاحظ أنها تكون أكثر ترتيباً وعناية كلما توغلنا في المشي أكثر
وبصورةٍ مُفاجئه بدأنا نرتفع ..
وأنا أزداد جهلاً وتوتراً وصمتُ أبي وارتباكه يُربكانني!
.. لم أطق صبراً ؛ فَسألتُ أبي - بطريقة تشبه طريقة أختي الصغيرة في السؤال - : " أبـي .. أبي حدثني أكثر عن هذا المكان ! "
لم يلتفت أبي ؛ وخيل إليّ بأنه لم يسمعني !
فَقلتً بـِشرود وأنا أنظر إلى الطريق أمامي : " بدأت أخاف يا أبي "
امتدت يد أبي لـِتربت على كَتِفي ،
وعاد هذا الرجل يـفكر أو يتوتر ، لا أعلم
ولكنه كان تفكيراً بـِطريقة عجيبة
وبدا لي جليّاً أن أبي .. هو نفسه ( خائـف ) مِن شيء أجهله !
........
يتبع - بإذن الله -