..::||الجزء الثالث والأربعون||::..
أثناء غياب شيماء عن المنزل وصل قيس إلى منزلها، دخل إلى الغرفة عبر الشباك، ووجد الأضواء مطفأة وهذا ليس من عادتها، فأدرك حينها أن شيماء ليست في المنزل. كان المكان مظلماً لا ينيره سوى ضوء القمر المتخلل للداخل، التفت قيس لشماله وإذا بورقة معلقة على المرآة كتبت عليها (ذهبت إلى والدي اليوم، قد أتأخر قليلاً... سأخبرك بما جرى عندما أعود) ابتسم قيس عند قراءته للورقة، وفور انتهائه نزعها ورماها في سلة المهملات.
جلس وحيداً في الظلام ينظر حوله، كانت هناك الكثير من اللوحات التي اسندتها شيماء على الحيطان لتجف، ولوحة وضعت على الحامل وكانت مغطاة بقطعة قماش... لم يرفع عنها قيس القماش لأنه يعلم بأنها ليست مكتملة، فمن عادة شيماء تغطية لوحاتها قبل أن تنهيها فهي لا تحب أن يرى أحد لوحاتها قبل الانتهاء.
بدأ يتأمل في اللوحات، جميعها كانت دموية وتحمل مشاعر القسوة والغضب، وقيس موجود في أغلب هذه اللوحات... السواد يعم المكان، والدماء تغطي الجدران، والجثث منهمدة على الأراض، وملامح الأسى مرتسمة على وجه قيس فيها. رأى قيس هذه المناظر التي طبعت الحزن والأسى في قلبه، نظر إلى صوره التي لا تحوي سوى الدماء الملطِخة لجسده، والأسلحة بين يديه، وهو يقف وسط الظلام...
التفت بعدها نحو المرآة... نظر إلى صورته المنعكسة عليها، كان كما يظهر في اللوحات، الدماء تغطيه لقتله للتو مبارك وأصحابه، وهو يقف في الظلام يحمل ملامح بؤس وحزن.
انخفض أمام أحد اللوحات يفكر وهو ينظر إليها: * أهذه هي نظرة شيماء لي؟ أهي تراني بهذه الصورة دائماً؟ أم هذا ما يعجبها في شخصيتي؟ القسوة، السفك، الغضب!! لِم لم ترسم واحدة وأنا أبتسم؟ أتحب أن تظهر مشاعري الداخلية في لوحاتها؟... أهي قادرة على إنقاذي وهذا هو تفكيرها؟!!*
ثم جلس مستنداً بجوار اللوحة على الحائط ورفع رأسه ينظر إلى السقف وقال بصوت خافت: أرجو ألا تسيئي التصرف مع أسرة والدك...
وفور انتهائه من هذه الجملة دخلت شيماء، لم تلاحظ في بادئ الأمر وجود قيس ولكنها فتحت الأضواء ورأته، التفت قيس ونظر إلى وجهها السعيد فأدرك أنه لم تحدث هناك مشكلة، فابتسم لها ونهض من مكانه...
قيس وهو يضع كفيه في جيبيه: أبشري يا جميلة ما الذي حدث هناك؟
شيماء بابتسامة: أظن أنني سأكون سبباً في تغيير فردين من العائلة
قيس: هذا رائع... إن كان والدك سيتغر إلى الأحسن فقد أنجزت شيئاً عظيماً...
شيماء: تخيل، أبي أخبر جدتي بأنه هو من اتصل بي وأراد مقابلتي..!! كنت أريده أن يخبرها بنفسه بدلاً من أن أكون أنا من يخبرها، إن أخبرتها أنا فقد يضعف هذا من شخصية أبي أكثر فأكثر، أليس كذلك؟
قيس: بالتأكيد... أحسنتِ التصرف حقاً... وماذا عن حمد؟
شيماء: لقد أبدى رأيه أمام تلك العجوز وقد غضبت منه...؟ أتساءل كيف تريدهم أن يعيشوا هكذا؟ أتريد أن تتحكم بهم كما تشاء؟ إنها حقاً خرفة...
قيس: أكره هذا النوع من البشر...
شيماء بابتسامة عريضة: تستحق الموت أليس كذلك؟
نظر إليها قيس بتعجب: .....
ابتسم قيس وقال: يا لك من مشاغبة...
شيماء: دعك من هذا الآن، فلدي مفاجأة لك... إن أردت تفاصيل ما حدث فسأخبرك بعد المفاجأة
ذهبت شيماء نحو اللوحة المغطاة وأزالت عنها الغطاء، لم تكن لوحة ناقصة كما ظن قيس، بل كانت هي المفاجأة التي أعدتها له، كانت اللوحة عبارة عن منظر البحر في وضح النهار وقيس يقف على شاطئه بوجه ضاحك، وهي بجواره... بدأ ينظر إلى الصورة متأملاً فيها، لم يعبر بكلمة أو بوجهه... بقي صامتاً لا يستطيع الكلام...
فقالت شيماء بصوت هادئ وابتسامة صغيرة قد ارتسمت على شفتيها: أنا على يقين بأنه سيأتي اليوم الذي سترى فيه ضوء الشمس ينير السماء الزرقاء
لم يرد قيس على كلامها أو يلتفت نحوها، تابع تأمله للرسمة ولم يلتفت نحوها حتى
فالتف وضمها بقوة وقال: أنا آسف؟
قيس: ستضطرين إلى غسل ملابسك...
شيماء وقد ضمته هي الأخرى: لا بأس... إن كان ذلك سيشعرك بالراحة
قيس: شكراً لك، إنها أجمل لوحة رأيتها، ليس من بين لوحاتك فقط بل في العالم بأكمله
ثم ابتعد عنها ونظر في وجهها متبسماً...
شيماء: إذاً... هل آخذها إلى منزلك؟
قيس: إذاً لنأخذها غداً هناك
قيس: الآن أخبريني بتفاصيل ما حدث...
جلسا سوياً في ذلك اليوم يتحدثان ويضحكان سوياً، كانت ليلة تختلف عن جميع الليالي... كل منهما وجد ما يسعده ويغير جزء من حياته. وفي اليوم التالي منذ الصباح، أخذت شيماء لوحتها وقامت بوضعها داخل إيطار ثم اتجهت نحو منزل قيس، كان نائماً في المكان نفسه، على الأريكة في غرفة المعيشة، نظرت إليه مبتسمة ثم سارت في الطريق المضاد لتعلق اللوحة، وبعد انتهائها من عملها خرجت من المنزل وذهبت لتتجول في المدينة...
أما في منزل أحمد فكان سامي ما زال معهم في المنزل على الفراش ولم ينهض، أصبح كثير النوم والنسيان وكلما استيقظ من نومه يرى من حوله بتعجب وتساؤل من يكونون..!!
استيقظ سامي مرة أخرى عند الساعة الواحدة ظهراً، كان يوسف جالس بجواره، فعندما رأى سامي قد فتح عينيه اقترب منه أكثر ليتحدث معه...
يوسف: ألا تتذكرني؟ البارحة كنا نحن الإثنين نلعب كرة القدم سوياً في النادي ألا تتذكر؟
سامي: أي نادي؟... لا أتذكر شيئاً... لا أتذكر سوى ذلك الرجل...
يوسف: أي رجل؟ أتعني العم مبارك رحمه الله؟
سامي: عم؟ لا لم يكن رجلاً كبيراً... إن كنت تعني الرجل المقتول... أذكر لحظة وفاته عندما قتله ذلك الشاب...
يوسف: أي شاب؟ لم أرَ أحداً
سامي: كنت وحدي في تلك اللحظة، أنا وهو.. فقط، فكيف لك أن تراه؟
يوسف: بل كنت معك... رأيت مبارك وهو يضرب ولكن لم أستطع رؤية الفاعل... لم يكن هناك أحد، كانت العصا تتحرك بمفردها!!
سامي: كنت وحدي معه، واقترب مني وأمسك بوجهي... من يكون؟ أتعرف شاباً يملك عينين زرقاوتين هنا؟ أكنت أعرفه أنا من قبل؟ لا أذكر شيئاً...
دخل عليه أحمد فجأة وأجابه: لا لم تكن تعرفه
أحمد: ألا تتذكرني؟ أخبرتك من أنا صباح هذا اليوم ثلاث مرات.. ألا تتذكر؟
سامي: متى حدث هذا؟ إنها المرة الأولى التي أراك فيها...
أحمد: وما هو آخر شيء تتذكره؟
سامي: كنت أسير لوحدي في الليل ورأيت شاباً أبيض البشرة يقتل رجلاً بطريقة وحشية، ثم اقترب مني... وأمسك بوجهي... و... أغشي علي واستيقظت الآن لأرى نفسي هنا...
يوسف: أبي... أنا كنت معه، ولكنني لم أرَ هذا الشاب الذي يتحدث عنه!!
أحمد: يوسف، لا تفكر في الأمر كثيراً فلا شأن لك في الموضوع
يوسف: لا شأن لي؟ قتل جارنا وصديقي فقد ذاكرته وهو يتحدث عن شخص لم أره!! وكل هذا يحدث حولي وأنا لا أعرف سبباً لها أو جواباً!! ولا شأن لي؟
أحمد: يوسف، صديقك على ما يرام وسيتحسن قريباً وسيتذكر كل شيء فلا تخف
يوسف: أبي أنت تخفي عني شيئاً... منذ أن أخبرتك بالحادث تغيرت ملامحك وبدأت تسأل عن أمور لا حاجة لها كتاريخ ميلاده وكيفية الولادة!!
أحمد: حسناً يا بني... جاء دورك لأسألك... عندما مات مبارك هل ظهر فتى في بداية مراهقته للحظات؟
يوسف: للحظات؟ ماذا تعني؟ أنا لم أرَ شيئاً كنت فقط أنظر إلى وجه صديقي وأحاول سحبه معي لنهرب، لم أركز نظري على الحادثة... وها أنت تسأل سؤال آخر غريب..!!
سامي: أتعرف من يكون؟ الشاب الذي أتذكره كان في عمري تقريباً... في أول مراهقته... وكان...
أنهى أحمد على حديثه قائلاً: وكان يمتلك عينان زرقاوتان وشعراً أسوداً... يرتدي ثوباً أبيضاً ووجه أبيض كلون الثلج أليس كذلك؟
يوسف: أبي..!! أتعرف عن من يتحدث سامي؟
أحمد: أعرفه ولكنني لم أقابله يوماً...
سامي: من يكون؟ أهو أحد أقاربي؟
أحمد: لا... هو فتى وحيد لا يملك أسرة...
يوسف: ولكن يا أبي أنا لم أر أحداً هناك!! أهو شبح يظهر لأناس معينين فقط؟
أحمد: لا أعلم... أهو شبح أم إنسان.. لا أعرف ما هو حقيقةً...
يوسف: كيف لك أن لا تعرف... ما الذي تعرفه إذاً...؟
أحمد: يوسف، أتوسل إليك لا تزعجني، أيمكنك أن تتركنا لوحدنا؟
سامي: دعه وشأنه ولكن أخبرني عن هذا الشاب... ما اسمه وكم عمره ولماذا قتل ذلك الرجل... لماذا سألني قائلاً (أتستطيع رؤيتي)؟ ماذا كان يعني بهذا؟
أحمد: إنه يكبرك بعام واحد... أو شكله يوحي كذلك... يدعى قيس وهو يقتل كل من يرتكب جرائم كبيرة كالقتل وتعاطي المسكرات وفعل الفواحش... أما عن سؤاله ذلك السؤال فالسبب هو... أنه لا يستطيع أحد رؤيته إلا إذا كان مميزاً
يوسف: أبي ما هذه القصة؟ أريد أن أعرف الحقيقة
يوسف: أنا لا أكذبك ولكن...
أحمد: ولكن إن كنت كاذباً فلماذا لم تستطع رؤيته؟ إن كنت قد رأيت عصاً تتحرك لوحدها شيء يصدق فلماذا لا تصدق بأنه كان هناك من يحملها؟
سامي: وماذا على المرء أن يفعل ليستطيع رؤيته؟
أحمد: أن يكون مولود في الأول من ينايل ليلاً بولادة قيصرية... اسمع يا سامي... أنا أخبرك بهذه المعلومات لأنها قد تعينك على تهدئة الصدمة التي واجهتها ولكن لا أريدك أن تخبر أحداً بما قلته، فقد يكذبوك ولن يصدقك أحد... أو قد تتسبب بالمشاكل أنت وأسرتك...
يوسف: ألهذا سألتني عن تاريخ مولده؟ هل علمت حينها بأن هذا الذي يدعى قيس هو الذي قتل العم مبارك؟ ولكن كيف؟ من أين تعرفه؟
أحمد: إن كنت ستجلس معنا ابقَ بلا أسئلة ونقاشات فأنا لا أريدك أن تتدخل في هذه المسألة أيضاً...
سامي: ولكن يا عم أريد أن أعرف أنا ذلك أيضاً... إن كنت لا تراه فكيف عرفت عنه؟
أحمد: أعرف فتاة تستطيع رؤيته، وهي مقربة كثيراً منه، يحبها ويفعل المستحيل من أجلها، ويخاف عليها لكونها الوحيدة التي تعرفه وهو قاتل، كتب يوماً رسالة لي يطلب مني أن أحميها فقد كانت في ورطة حينها لقتله أحد زميلاتها، وكانت زميلتها عدوة لها ولذلك قتلها...
سامي: ولكن لماذا هو غير مرئي؟
أحمد: لا أحد يعرف السبب، وهو بنفسه لا يعرف لماذا حدث له ذلك... حسناً يا سامي، سأحضر لك الآن غداءك فأنت تشعر بالجوع حتماً...
غابت الشمس وحل الظلام، استيقظ قيس من نومه ورأى اللوحة أمامه، نهض من مكانه واتجه نحو اللوحة
وقف أمامها مبتسماً ثم قال في نفسه: *آسف يا شيماء، لقد أسأت الظن فيك، ولكني الآن على يقين بأنك الوحيدة التي تستطيعين إنقاذي*
ثم خرج قيس من منزله الفخم متجهاً مباشرة إلى غرفة شيماء، وصل إليها الساعة السابعة مساء...
شيماء بتعجب: أتيت اليوم مباكراً!! ما الأمر؟
قيس مبتسم: فقط اشتقت إليكِ
قيس: رأيت اللوحة... إنها جميلة، ومكانها مميز حقاً
قيس: البارحة كان يومك للحديث ولم تدعيني أنطق بكلمة
قيس: لا بأس... فقط أردت أن أخبرك بأنه حدث شيء لم أتوقعه يوماً
شيماء: حقاً!! لا أصدق هذا
قيس: بل صدقي... كنت أقتل رجالاً كانوا يتعاطون المخدرات ورأتهم جارة أحدهم وهم يتعاطونها في أحد الزقاق، فأرادوا قتلها فذهبت لقتلهم ولكن بينما كنت أقتل آخر رجل منهم أتى ولدان ورآ ما حدث، الأول شعر بالفزع لأنه لم يراني وكنت حاملاً إنبوبة من الحديد أضرب بها الرجل، ولكن الآخر رآني وتحدث معي، بدى خائفاً وأغشي عليه، لا أعلم ما الذي حدث له الآن ولكن أعجبني صديقه، فلم يهرب لوحده بعد الذي حدث، فبدأ صديقه لا يتحرك عندما رآني ولكنه لم يتركه، بقي بجواره حتى أغشي عليه...
شيماء: إذاً فيوجد هناك غيري...
شيماء: كيف لا وأنت أخبرتني للتو..؟!
قيس: ما أعنيه هو أنني لا أملك غيرك... فأصبحت لا أبالي إن ولد شخص غيرك قادر على رؤيتي...
ابتسمت شيماء في وجهه وهي غير قادرة على التعبير، فقد شعرت بفرح كبير، وحينها ظنت أن قيس ملكها وحدها...