الفصل التاسع عشر
وصل إلى الرياض الآن... فلمعت أنوارها في عينيه، لحظات... ويخرج من قلب الظلمات إلى الأنوار التي مسحت معنى الليل في هذه المدينة التي لا تنام كثيرا ً.
لم يكن مستعدا ً لدخولها، فركن سيارته في محطة على طرفها، ونزل يجر قدميه إلى دورة المياه المتوارية خلف محل ( بنشر) قذر... حيث الهباب والزيوت يغطيان كل شيء، صدمته العفونة حالما دخل وكادت قدمه تزل على الأرضية التي أسودت مما تراكم عليها، فدار على عقبيه وفر، قصد البقالة الكالحة الضيقة، وسحب علبة ماء باردة، نقد البائع ثمنها، ثم خرج... واقفا ً إلى جانب سيارته، دلق الماء على وجهه غير عابئ بثيابه، وارتجف من البرودة التي تخللت عظامه، شرب شيئا ً مما بقي في العلبة، ثم جذب بضعة مناديل بعجل فتمزقت بين يديه... مسح وجهه بلا اهتمام، ثم عاد إلى مقعده... وربض هناك.
في عينيه تلمع أنوار الرياض من خلف زجاج السيارة المتسخ... رياض... يا رياض... كم فيك ِ من الحيوات؟ كم يتقلب تحت سقوفك الآن من بر وفاجر، كم تخفي جدرانك ِ من باك ٍ وضاحك، يا رياض... كم فتاة فيك الآن غارقة في الحلم؟ كم شاب فيك غارق في التيه؟؟ وكم فيك ِ من شاك ٍ يتوجع؟ وروحا ً تقبض؟ كم يقضى بين جنباتك ِ الآن من الأفعال؟ وكم يدبج من الأقوال؟ كم كلمة حب تخالط هوائك ِ؟ كم صفعة ترن في ميادينك؟ يا رياض... لم َ نحبك ِ حتى لا نكاد نخرج منك ِ؟ لم نكرهك ِ حد الفرار منك ِ؟ ما الذي فيك ِ عن غيرك؟ يا رياض... يا عجماء... كم لسانا ً لك ِ؟ يا شلا... كم يدا ً فيك ِ... كم قلبا ً؟ أيتها المدينة التي بلا قلب.
رأى حمد نفسه وقد انفصل عن الواقع في تلك المحطة التي بلا اسم... فصار كطائر كبير، وطار يجوب شوارع الرياض، يراها تحت عينيه، يرى السيارات التي تطوي طرقها... بلا هدف، يرى الناس الذين يدبون في أرجائها، يرى ما في البيوت كأن الحجب قد زالت عن عينيه... فصار يرى كل شيء، وعيناه تبحثان... عن امرأة... تنتظر... رجلا ً طويلا ً على خده أثر قديم.
* * *
عاد إلى البيت بوجه غير الذي خرج به، عاد يطوي بين جنبيه حكايات، ومشاهد وأصوات، يطوي آلاما ً... أحزانا ً، عاد وقد ذاق المعرفة حتى ود أنه لم يعرف... لم يجرب... لم يسمع.
سلم على أهله بخفوت... وأجاب على أسئلتهم، وتبسم في وجوههم حتى آلمه فكه، ثم لاذ بغرفته، ألقى عنه ملابسه التي التصقت بجسده، ليغوص في بركة الماء الدافئ التي ملأت البانيو... وهناك حيث لا يسمع إلا صوت فيضان الماء وتساقطه على الأرض... هناك أراح رأسه على الحافة... وأغمض عينيه تاركا ً بخار الماء يتسلل إلى أنفه... والذكريات تتحدر عليه كتحدر صخور الأعالي.
* * *
تردد كثيرا ً... وهل هذا مستغرب؟ لن نقف هنا طويلا ً، مر حمد بالدورة الطويلة من الوساوس والهواجس التي يمر بها دوما ً قبل اتخاذ قرار، ثم قر عزمه في النهاية على قبول الدعوة والسفر إلى الشرقية لملاقاة سعد، لا يعلم لم َ؟ ولكن كان لديه نوعا ً من الحدس بأن هذا اللقاء سيحمل له جديدا ً، فآخر لقاء جمعهما انفجر فيه سعد وأفضى بالكثير، وهذا اللقاء ربما يحمل له أجوبة لأسئلته الكثيرة.
كان عليه أولا ً أن يكذب، فكيف سيسمح له أهله بالسفر هكذا وحيدا ً ليلقى شخصا ً تعرف عليه في الانترنت؟ سعد بالنسبة لهم لا يعني شيئا ً أكثر من اسم يلفظ، فلذلك قرر أن يوفر على نفسه رواية الحكاية كاملة، وأن يسلك الطريق السهل، أدعى أنه سيسافر مع أصدقائه إياهم، ( شلة البران ) كما تسميهم هيلة، طبعا ً لا بد أن تؤدي أمه دورها الطبيعي في الاعتراض ( وشوله وأنا أمك الواحد يعطل عشان يستريح مهوب عشان يهجهج... إلخ...)، كان يعلم أنها ستضع المسألة في النهاية بين يدي أبوه الذي سيضيق عينيه قليلا ً، ثم سيقول بصوته الحاد ( خير إن شاء الله... انتبه لنفسك... ولا تسرعون بالطريق)، وهذا ما كان... وهكذا وجد نفسه صباح الخميس يطوي الطريق وحيدا ً كما المرة الأولى.
مرت في ذهنه أطياف الطريق، فسعل وحرك رأسه لتزلق بضعة قطرات من شعره، عبرت جبينه قبل أن تتسلل عبر حاجبيه إلى عينيه، مسح وجهه بقوة داعكا ً عينيه، ثم عاد للوضع السابق، وعادت الذكريات من جديد.
* * *
(( أتذكر عندما قلت لك أن الرياض بمثابة ملاذ فكري لي... كان ذلك نصف الحقيقة)).
* * *
(( رباه... ما أصعب هذا... حضوري نفسه كان صعبا ً، فما بالك بما يطلبه مني؟)).
* * *
(( من يومها لم يعد شيء كما كان... كرهت كل شيء... كرهت الجروح القديمة، أصبحت أحس بالغثيان عندما أرى أثرا ً لجرح قديم)).
* * *
(( كم أحتقر ضعفي، استسلامي للألم، وقبلها الأمل، أحتقر مشاعري هذه... كل ما أتمناه هو أني رحلت... عندما حانت اللحظة المناسبة رميت بكل شيء وراء ظهري... ورحلت... ولكني لم أفعل)).
* * *
((عدني مجنونا ً... مهووسا ً... أي شيء يعن لك... ولكن هذه هي الحكاية... بل نصف الحكاية... أما باقيها فسآخذه معي إلى تربتي)).
* * *
وصل الخبر كما وصلها في ذلك اليوم البعيد، والآذان ينطلق من المساجد، أو هو يتوهم ذلك، بعد الصلاة أخذه سعد إلى مطعم قريب وهو يعتذر بفراغ البيت لسفر أهله كما أخبره قبلا ً.
كان مطعما ً فاخرا ً... يقع في الطابق الثاني لعمارة جديدة ذات إطلالة على البحر، فتح لهما الباب عاملا ً فلبينيا ً بابتسامة دافئة، وارتقيا درجا ً حلزونيا ً... التفت عليه نباتات متسلقة... تساءل حمد أهي طبيعية؟ لمسها فبدت ذات ملمس غريب، كان المطعم باردا ً من الداخل، وذو ألوان قاتمة، ربما أضفت عليه كآبة لا معنى لها رغم الفخامة التي تتبدى في كل تفصيلة فيه.
انتحيا ركنا ً منه، ليجاورا الزجاج الملون بالأزرق، حيث ترتمي الأمواج تحت أقدامهما، كانا أول زبونين لهذا اليوم، على المائدة بينهما المغطاة بغطاء أحمر تناثرت أدوات المائدة، وشمعدان ضخم يحمل شموعا ً سكرية اللون، فكر حمد بسخرية أن هذا كاد يصير موعدا ً غراميا ً، لم يعد باقيا ً إلا أن يمسك سعد بيده وأن ينظر في عينيه ليقول ( حمد... أنا بحبك)، كادت تفلت منه ضحكة لهذا الخاطر السخيف.
جاءهما نادل عربي طويل القامة، طلب سعد منه عصيرا ً ذا اسم غريب، ونظر لحمد الذي تردد ثم طلب عصير برتقال، قال سعد وهو يشير لمجموعة طاولات توسطت المكان:
- غداءنا سيكون من هذا البوفيه المفتوح، قم خل نشوف وش السلطات اللي عندهم.
نهضا وقصدا طاولة على الطرف، تراصت عليها أطباق من السلاطة والمقبلات، مضى سعد يملأ صحنه بخبرة وتذوق، فيما كان حمد حائرا ً كان من نوع الناس الذين لا يجيدون التعامل مع البوفيه، تحيره الاختيارات الكثيرة، ويستحي أن يملأ صحنه، ولذلك يخرج دائما ً من هذه البوفيهات جائعا ً.
عادا إلى طاولتهما بصحن مليء، قال سعد وهو يدير شوكته في الصحن ليقتنص شطر زيتونة فارة:
- وش الأخبار؟ وش أخبار روايتك؟ ما كتبت الفصل الثالث؟
- ولا حرف.
- ههههه... ليه؟
- انشغلت بالامتحانات وبعدها بالرواية الجديدة، يعني خل الأمور تستقر... وبعدين أفكر بالكتابة.
- أممممم ( هذه كانت من سعد الذي كان قد حشا فمه بخس مغطى بجبن غريب الشكل).
* * *
تحرك حمد قليلا ً... فعاد صوت الماء المتساقط يتردد وسط سكون الحمام، التقط نفسا ً عميقا ً ثم غاص في الماء بعينين مفتوحتين، في أذنيه أصبح الهواء محجوزا ً في جيب هوائي بين الطبلة والصيوان، فبدت الأصوات مضخمة... كأنها أصوات الذكرى.
ظل يحدق عبر الماء إلى السقف الذي بدا مترقرقا ً، أحس بانفصال عن العالم، أصبح كل شيء مجرد ذكرى، أغمض عينيه، وأحس كأنه ضائع في الفراغ، ضاق به النفس فأخرج رأسه من الماء، وأراحه على يده المنصوبة وهو ما يزال مغمض العينين.
بعد المطعم الفاخر والأكلات البحرية التي أغرقه فيها سعد، والحلوى التي أصر على تذوقها، خرجا يتهاديان بالشبع والانتعاش، وقصدا منزل سعد... ما زال كل شيء على حاله، الممر الضيق ذو الحجارة بلون الرمل، الحديقتان، النخلة اليتيمة، حتى الكرسيان ما زالا هناك.
قصدا وكر سعد مباشرة، حيث كتبه ومكتبه، تركه سعد وهو يرحب به بكلمات سريعة وغاب داخل البيت، وقف حمد يجيل عينيه في الكتب، ويتأمل المكتب الصغير والكراسي الأنيقة.
عم ماذا تكلما في ما تبقى من العصر؟ لا يذكر الآن، كانت مجموعة مواضيع مترابطة، من المنتدى إلى الرواية إلى بعض القضايا الفكرية، وكانت الراية حينها بيد سعد، ولكن التفاصيل غابت عن ذهنه الآن، كل ما يذكره أنهما ظلا يتحدثان ويرشفان الشاي الذي صنعه سعد حتى أذان العصر.
أما ذلك العصر فكان جميلا ً، اصطحبه سعد إلى الشاطئ حيث استأجرا مركبا ً بحريا ً، بدا أن سعد يعرف صاحبه، انطلق بهما المركب إلى عرض البحر في المسار المرسوم له، وهما جالسان على كرسيين وضعا في مقدمة المركب، يتأملان صفحة الماء التي تنشق تحتهما في رفق، ويتحدثان حتى مل الحديث منهما.
عادا على هدي أنوار الشاطئ المتلألئة عندما حل الظلام ، حدث حمد نفسه حينما حط على الشاطئ بأنها أجمل رحلة مر بها قطعا ً، صليا المغرب ثم انطلقا يتمشيان في شوارع المدينة المزدحمة، كان الحديث قد انعقد بينهما وفاض حتى صارت المواضيع المشتركة والمفتوحة بينهما بالعشرات، تحدثا في كل شيء وأي شيء، وكان الوقت هو آخر ما يسألان عنه.
* * *
لا يذكر متى حدث ذلك؟ ولا كيف حدث؟ ربما كانت الساعة قد جاوزت الحادية عشرة والنصف حينها، كل ما يذكره هو أنهما كانا جالسين على رمال الشاطئ البيضاء وتحتهما سجادة صغيرة، والهواء يهب عليلا ًَ جميلا ً، محملا ً برطوبة خفيفة، تجعل ملمس كل شيء زلقا ً، والبحر هادئ... رفيق بأمواجه وبالرمال عند قدميهما، وكان السكون يكمل ما تبقى من اللوحة ليخلق جوا ً آخر... جو البوح.
كان سعد يتكلم حينها في أمر ما... ثم صمت وأطلق نظره للبحر وقال:
- أتعلم؟ لقد قلت لهذا البحر ما لم أقله لمخلوق أبدا ً... لو كان لهذا البحر لسان لحكى لك قصتي... كنت آتي هنا كثيرا ً... آتي وأجلس على الأرض مباشرة... أدفن قدمي في الرمل... وأظل أتحدث كمجنون... كانت تمر الساعات... وأن أهمس له بكل شيء وأي شيء... لم يصم أذنيه ولم يتأفف... عندما فعل الآخرون... رويت له كل شيء... آلامي... أحزاني... سجلت فيه يوميات حبي، وحكاية انهياره، كان صديقا ًَ حانيا ً، استمع لي صابرا ً... وعندما انتهيت... تقبلني بكل أخطائي... ضمني بذراعيه... بأمواجه... وغسل بملوحته ملوحة الدمع الذي بقي في محاجري.
سكت قليلا ً ومضى يقلب وجهه في صفحة السماء كأنه يبحث عن شيء ما، فيما كان حمد صامتا ً تعتري بدنه ارتجافه قوية، وفي جوفه يتردد هتاف ( رباه... لقد دنت لحظة الحقيقة... لحظة المعرفة... لحظة الإجابة على الأسئلة... سيفيض سعد كموج مكتسح).
مضت ثوان ٍ... ولم يخيب سعد ظنه.
- كنت طفلا ً... أحمل قلب طفل... جسد طفل... ملامح طفل... ومشاعر عاشق... وكانت هي ملاكا ً... جنة إنسانية... جمالا ً خالصا ً... قلبا ً خالصا ً... كانت كل ما تغنى به الشعراء... كانت القصيدة التي لم ولن يكتبها أحد... لأنه أعجز من ذلك... كانت الوردة التي تبقى عندما يحط الخريف بقية الورود... كانت حلم الطفولة الطاهر الذي لم تدنسه رغبة أو مصلحة.
- كنت طفلا ً... يبكي عشقا ً عندما كان بقية الأطفال يبكون ألعابا ً... أو حلوى... كنت طفلا ً... يرسم وجهها كل يوم على حواشي كتبه... وعلى بياض دفاتره... على صعيد الرمل الذي تسويه يده الصغيرة... وعلى صفحة الحساء الذي لا يعجبه عله يكسبه حلاوة وقبولا ً.
- كنت طفلا ً... اكتشف المعاني في ابتسامتها... لمعة عينيها... ضحكتها... عندما كان بقية الأطفال يكتشفون الأشياء حولهم.
- كنت طفلا ً... تعلم صياغة الحب في السن التي يتعلم فيها أترابه صياغة اللفظ... تعلم التفكير في السن التي يلقن فيها أقرانه التدبير.
- كنت طفلا ً... ولكنها لم تكن كذلك.
- كانت تدرج في الوقت الذي كنت لا أحسن فيه الجلوس... كانت تزهو بملابسها وأنوثتها في الوقت الذي كنت فيه أتلقى كلماتي الأولى... وكانت قد بدأت بالشرود والهيام في الوقت الذي كنت فيه أتأتي الكلام.
- كانت جارتي... لا يفصل بيننا إلا جدار... وأحلام صغيرة... وكنت أزورهم مع أمي... بقلب متوثب... وأجلس هناك في الطرف... أرقبها... أرقب بسماتها ورنين ضحكاتها الصافية... وأنتظر الوقت الذي تسحبني فيه من يدي إلى غرفتها... لتمنحني شوكولاتة... ومجلة ملونة... وقبلة صغيرة على خدي.
- كنت أعود في كل مرة... بحب برئ صغير... وأوراق مدسوسة بين ثيابي... قد دونت عليها بخطي الوليد... ما أحسبه أبيات شعرية... كنت أكتبها بخلاصة العاطفة في... فتتلقفها هي بإعجاب وتقرأها بابتسامة... ثم تتناول وجهي بين راحتيها... وتتأمل عيني وهي تردد ( الله ما أحلاك... إذا كبرت بتصير شاعر كبير).
- كنت طفلا ً... ولم يكن أحد يعبأ بأحلام الطفولة... أو يلقي لها بالا ً... وكان حبا ً... أكبر من قياس قلبي... وأحلامي... وكانت عاطفة... أتعثر فيها بثوب العشق الطويل... في ذلك الدرب الموحش.
- ثم كبرت قليلا ً... أدركت ذلك عندما طردتني أمي... وهي تسحب أختي إلى بيتهم... ( عيب عليك... خلاص أنت صرت رجل وصارن الحريم يتغطن عنك... يالله لا تلحقني وإلا ترى بعلم أبوك).
- لا أريد أن أكون رجلا ً... رباه... لم أستعد لذلك... لا أعرف كيف أعيش بين الرجال... عمرا ً عشته بين النساء... لا أريد أن أتركها... لا أريد أن أبتعد عنها... لا أريد أن لا أعود أرى ابتسامتها... وأسمع ضحكتها.
- ذلك اليوم الكئيب... وجدت في ظلام غرفتي ملاذا ً... وبكيت... بكيت كل شيء... الطفولة الموءودة... والرجولة الوليدة... بكيت قصائد الحب التي لم أكتبها... وكلماته التي لم أقلها... بكيت الحرمان والفقد... وبكيت أني لم أخبرها بقلبي.
- كنت طفلا ً وظللت كذلك في ثياب الرجال... أغذي نفسي بالوهم كل يوم... حتى جاء اليوم الذي تداس فيه الأماني والأحلام الغبية... اليوم الذي ترتع فيه الآلام في مرابع طفولتي وشبابي.
- زفت إلى آخر... بكل بساطة... هكذا... أحلامي... كل شيء جميل ربطته بها... صار بين يدي آخر.
- ومضيت مسحوبا ً من أبي وأخوتي إلى هناك... كان الكل فرحا ً... يضحكون... ويتكلمون... فيما كنت أنا أذوي في ركن... ويد أخي بدر على يدي... كان هو الوحيد الذي عاش حكايتي... كما عشت أنا حكايته... هو الوحيد الذي كنت أحكي له بانطلاق وقائع حبي... وأحلامي المجنونة... هو الوحيد الذي كنت أتبادل معه الحكايات كما نتبادل الملابس والأشياء... لم يلمني يوما ً على جنوني... تقبلني كما أنا.
- جلست في ذلك الحفل صامتا ً... ذاهلا ً... انكفأت إلى الداخل... لأعالج نفسي... ولكنهم لم يتركوني... جذبتني يد أخي الأكبر من ركني ويده الأخرى تدفع إلي ( دلة ضخمة)... رباه... ما أصعب هذا... حضوري نفسه كان صعبا ً، فما بالك بما يطلبه مني؟
- ثم رأيت العريس... طويلا ً... كأنه يشرف على الجمع من عل ِ... على خده أثر جرح قديم... ندبة صغيرة... متجللا ً ببشت أسود... يبتسم ويصافح الناس في هدوء.
- من يومها لم يعد شيء كما كان... كرهت كل شيء... كرهت حفلات الزواج... كرهت الجروح القديمة، أصبحت أحس بالغثيان عندما أرى أثرا ً لجرح قديم... تساءلت في وقفتي تلك... هل ستمر يدها على هذه الندبة؟ هل ستلصق خدها بها؟ كدت أسقط... وضعت الدلة على أقرب شيء بارز... وفررت.
- كم أحتقر ضعفي، استسلامي للألم، وقبلها الأمل، أحتقر مشاعري هذه... كل ما أتمناه هو أني رحلت... عندما حانت اللحظة المناسبة رميت بكل شيء وراء ظهري... ورحلت... ولكني لم أفعل.
- ثم مات بدر... قطفت روحه سيارة مسرعة... في أرض أخرى... سيارة اقتحمت سيارته على حين غفلة... وحطمت صدره الذي طوى حبه... وحكايتي.
- عندما وقفت على قبره... أيقنت أن كل شيء دفن هناك... كل ما تبقى لي ذهب معه... كل اللحظات الجميلة... أيقنت أني فقدت قلبا ً مفتوحا ً لي... قلبا ً أودعت فيه كل شيء... وفكرت أنا أخطو خارج المقبرة... أن أجزاء كبيرة مني دفنت هناك.
- أتذكر عندما قلت لك أن الرياض بمثابة ملاذ فكري لي؟ أتذكر؟ كان ذلك نصف الحقيقة... هي ملاذ عاطفي أيضا ً... ما يجذبني للرياض هو أنها فيها... انتقلت إلى هنا لتعيش مع زوجها... لذا آتي إلى هنا لأتنفس أنا وإياها هواء ً واحدا ً... آتي إلى هنا كلما أشرفت على اليأس... لا أعرف في أي حي هي... ولا أريد أن أعرف... لقد تقبلت الرياض كاملة من أجلها.
- عدني مجنونا ً... مهووسا ً... أي شيء يعن لك... ولكن هذه هي الحكاية... بل نصف الحكاية... أما الباقي فسآخذه معي إلى تربتي.
* * *
" هذه هي الحكاية إذن يا سعد... هذه هي الحكاية"، همس بها حمد لنفسه وهو يملأ يديه بالماء ثم يفرغه على رأسه، ويمسح وجهه بقوة، كأنما ليطرد هواجسه.
" كل شيء أصبح واضحا ً الآن... ( صفحات حب تذروها الرياح)... كانت أنت... كانت حكايتك... كنت خالد... بعجزه... بألمه... بحبه الصامت... وهي كانت نورا بحضورها الطاغي وقوتها... كانت تلك حكاية الحب... ولكن بإطار مختلف... لقد بحثت عن التطابق فلذا لم أفهم شيئا ً... عددتها قصة أخرى... ولكن الآن... لا... كل شيء واضح... ولكنك منحت خالد ما لم تمنحه لنفسك... القدرة على اتخاذ القرار... القدرة على الرحيل... عندما لم تقوى أنت على الصراخ... أنا راحل... عجبا ً... كيف عميت عن هذا؟ كيف؟ لقد بحثت عن صورتين متطابقتين في اللوحة... وغفلت عن الصورة المشتتة".
" ولكن لم َ تخبرني بهذا كله؟ لم َ؟ حرام عليك يا سعد... لا أظن أني سأقوى على حمل هذا؟ آه... ليتني ما لقيتك... ليتني ما عرفت... ليتني مضيت في مسارب الحياة ولم تتقاطع طرقنا... ما أثقل المعرفة".
" هذه نصف الحكاية... وهناك بقية... ربما ستفضي لي بها يوما ً... ولكن لا... لا أريد أن أسمع شيئا ً... سأبتغي كرسفا ً أحشي به أذني... أو سأضع أصابعي فيهما... لأخرس كل الأصوات في دواخلي... ولأنعم ولو قليلا ً بالسكينة... بالصمت".
" والآن عدت من هناك... كيف تجاوزت تلك الليلة؟ كيف نمتها؟ كيف أمضيت نهار الذي تلاها؟ وماذا بقي لي منه؟ سعد... الذي انبجس أمامي البارحة كجرح ملتهب... هو ذاته الذي أوقظني للجمعة ضاحكا ً... كأنه ما قال... وكأني ما سمعت".
مسح حمد رأسه بقوة بمنشفة كبيرة تركت بعض خيوطها على شعره ووجهه، ثم لف جسده بالروب، وعاد إلى العالم.
* * * * * * * * *