-
مشاركة: كتاب النظام الاجتماعي في الاسلام للامام تقي الدين النبهاني
زواج النبي r
نزل قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } في أواخر السنة الثامنة للهجرة ، بعد أن كان الرسول r قد بنى بأزواجه جميعاً ، وكان الرسول عليه السلام حين نزلت متزوجاً بأكثر من أربع ، ولكنه لم يترك واحدة منهن ، بل ظل متزوجاً جميع أزواجه . وذلك لأن من خصوصياته r التزوج بأكثر من أربع دون المسلمين . ويتبين أنها من خصوصياته من كونه تزوج أكثر من أربع واحتفظ بهن بعد نزول الآية بتحديد الزوجات بأربع . لأن النبي لا يخالف فعله الذي يقوم به القول الذي يقوله ، فإذا حصلت مخالفة كان الفعل من خصوصياته والقول عام للأمة . لما تقرر في الأصول أن فعله r لا يعارض القول الخاص بالأمة ، بل يكون مختصاً به ، لأن أمره r للأمة أمراً خاصاً بهم هو أخص من أدلة التأسي القاضية باتباعه في أقواله وأفعاله ، فيبنى العام على الخاص ، ولذلك لا يجوز التأسي به في هذا الفعل الذي ورد أمر الأمة بخلافة . على أن زواجه r بأكثر من أربعة وبالهبة وغير ذلك قد دلت عليه آيات القرآن الكريم ، فقال تعالى : { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ، وما ملكت يمينك مما أفاء الله ، وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ، إن أراد النبي أن يستنكحها ، خالصة لك من دون المؤمنين . قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج } فهذه الآية تقول { خالصة لك من دون المؤمنين} وخالصة مصدر مؤكد لكل ما سبقها أي خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة ، والدليل على أنه وردت شاملة كل ما قبلها ، مخصوصة برسول الله r ، كونها وردت بعد الإحلالات الأربع ، وهي حل الأزواج ، وملك اليمين من الفيء مباشرة ، وبنات أقاربه الذين ذكروا ممن هاجرن معه ، والهبة مباشرة من المرأة ، وكونها وردت على سبيل التوكيد . ويؤيد هذا بكونه جاء بعد تمام هذا المعنى وبعد قوله { من دون المؤمنين } جاء قوله { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم } فمعناه أن هذا غير ما فرضنا عليهم ، ولذلك قال بعد ذلك كله { لكيلا يكون عليك حرج } أي حتى لا يكون ضيق عليك .
وعلى هذا فلا يتخذ زواج النبي r قدوة في العمل ، ولا محلاً للبحث التشريعي لأنه من خصوصياته r . على واقع زواجه r يدل على أنه كان زواج نبي ، ولم يكن زواج رجل يتزوج للاجتماع الجنسي ، وإشباع غريزة النوع من ناحية صلة الذكورة والأنوثة . فإنه بالرجوع إلى الواقع التاريخي نجد أنه r تزوج خديجة وهو في الثالثة والعشرين من عمره ، وظلت خديجة وحدها زوجاً ثمانيا وعشرين سنة ، فقد ماتت في السنة الحادية عشرة بعد البعثة ، أي قبل الهجرة بسنتين ، بعد نقض الصحيفة ببضعة شهور وقبيل خروجه إلى الطائف وذلك سنة 620 ميلادية ، وكان عمره خمسين سنة . ولم يفكر منذ تزوجه بخديجة حتى وفاتها بالزواج بأكثر من واحدة ، في حين كان تعدد الزوجات أمراً شائعاً بين العرب في ذلك الوقت . وقد أمضى مع خديجة سبعة عشر عاماً قبل أن يبعث بالرسالة في حياة هادئة ناعمة ، ومكث معها ما يقرب من أحد عشر عاماً بعد البعثة في حياة دعوة ، وحياة كفاح لأفكار الكفر ، ومع ذلك لم يفكر بالزواج ، ولم يعرف عنه r في حياة خديجة ، ولم يعرف عنه قبل زواجه منها ، أنه كان ممن تغريهم مفاتن النساء ، في وقت كان فيه تبرج الجاهلية مغرياً للناس . فمن غير الطبيعي أن نراه وقد تخطى الخمسين ينقلب فجأة هذا الانقلاب الذي لا يجعله يكتفي بواحدة بل يتزوج ، ويتزوج حتى يأخذ إحدى عشر امرأة فيجمع في خمس سنوات من العقد السادس من عمره أكثر من سبع زوجات ويجمع في سبع سنوات من بقية العقد السادس وأوائل العقد السابع من عمره تسع زوجات . وهل يمكن أن يكون ذلك في هذه السن ناجماً عن الرغبة في النساء ، وعن دوافع الإشباع لغريزة النوع في مظهر الاجتماع الجنسي ؟ أم يكون عن دوافع أخرى كان يقتضيها واقع الحياة التي كان يخوضها عليه السلام ، وهي حياة الرسالة التي أمر أن يبلغها للناس ؟ ولأجل أن تفهم ذلك نستعرض حوادث زواجه عليه السلام .
في السنة الحادية عشرة للبعثة أي في السنة التي توفيت فيها خديجة رضي الله عنها فكر عليه السلام في أن يتزوج ، وكانت سنه في الخمسين . فخطب عائشة بنت أبي بكر ، صديقه وأول من آمن به من الرجال ، ولما كانت لا تزال طفلة في السادسة من عمرها عقد عليها ولم يبن بها إلا بعد ثلاث سنوات وذلك بعد الهجرة حين بلغت سنها التاسعة ، ولكنه في الوقت الذي عقد فيه على عائشة تزوج من سودة بنت زمعة . وكانت سودة هذه أرملة السكران بن عمرو بن عبد شمس أحد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة ، وعادوا إلى مكة ، وماتوا بها . وكانت سودة قد أسلمت مع زوجها وهاجرت معه ، وعانت من المشاق ما عانى ، ولقيت من الأذى ما لقي . وبعد وفاة زوجها تزوجها عليه السلام . ولم يرو أن سودة هذه كانت من الجمال ، أو من الثروة ، أو من المكانة ، مما يجعل لمطمع من مطامع الدنيا أثراً في زواجه منها . فإذا تزوجها رسول الله بعد وفاة زوجها ، فإنما يفهم من ذلك أنه تزوجها ليعولها ، وليرتفع بمكانتها إلى أمومة المؤمنين . ثم إنه حين هاجر جعل مسكن سودة في جوار المسجد ، وهو أول مسكن بناه لزوجة من زوجاته .
ثم في السنة الأولى للهجرة بعد أن أتم أمر المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين بنى الرسول عليه الصلاة والسلام بعائشة وأسكنها بمسكنها إلى جانب مسكن سودة في جوار المسجد . وجعل لوزيره وصديقه أبي بكر أن يأتيه إلى بيته عند ابنته .
ثم إنه في السنة الثانية للهجرة بعد غزوة بدر وقبل غزوة أحد تزوج من حفصة بنت عمر بن الخطاب ، وكانت حفصة من قبله زوج حنيش أحد السابقين إلى الإسلام ، وقد مات عنها قبل زواج الرسول بها بسبعة أشهر ، وبزواج حفصة جعل لوزيره الثاني صاحبه عمر بن الخطاب أن يأتيه إلى بيته عند ابنته فكان زواج عائشة وحفصة زواجاً بابنتي وزيريه ومعاونيه ، بناتي صاحبيه الملازمين له في الدعوة والحكم والقتال وغير ذلك . فهو ليس من أجل مجرد الزواج . وإذا كانت عائشة جميلة محببة للرسول عليه الصلاة والسلام ، فإن هذا المعنى غير موجود في حفصة . مما يدل على أن زواجه بهما لغاية غير غاية الإشباع الجنسي .
ثم إنه في السنة الخامسة للهجرة في غزوة بني المصطلق تزوج من جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، وحديث زواجه منها كان لتقريب أبيها ولرفع مكانتها ، فإن جويرية هذه كانت من سبايا بني المصطلق ، وقد وقعت في سهم أحد الأنصار ، وكانت بنت سيد بني المصطلق . فأرادت أن تفتدي نفسها من سيدها التي أصبحت أمة له ، فأغلى الفداء عليها علماً منه بأنها ابنة زعيم بني المصطلق . فجاء أبوها إلى النبي بفداء إبنته ، ففداها ، ثم أسلم بعد أن آمن برسالة النبي . ثم أخذ ابنته جويرية إلى النبي فأسلمت كما أسلم أبوها ، فخطبها النبي إلى أبيها فزوجه إياها فكان زواجه لها زواجاً لبنت سيد قبيلة قد أخضعها فأراد جلب ود زعيمها بزواجه بنته .
ثم إنه في السنة السابعة للهجرة بعد الانتصار على خيبر تزوج صفية بنت حيي بن أخطب أحد زعماء اليهود . وحديث زواجها أنها أخذت مع السبايا اللاتي أخذهن المسلمون من حصون خيبر ، فقال بعض المسلمين للنبي r : صفية سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك . فأعتقها رسول الله r وتزوجها ، وفي هذا حفظ لها ، وتخليص لها من رق الأسر ، ورفع لمكانتها . وقد وري أن أبا أيوب خالد الأنصاري خشي أن تتحرك في نفسها الضغينة على الرسول الذي قتل أباها وزوجها وقومها ، لذلك بات حول الخيمة التي أعرس فيها الرسول بصفية في طريق عودته من خيبر ، متوشحاً سيفه ، فلما أصبح الرسول رآه وسأله . مالك ؟ قال : خفت عليك من هذه المرأة ، وقد قتلت أباها وزوجها وقومها وقد كانت حديثة عهد بكفر فطمأنه الرسول وظلت صفية عند الرسول على الوفاء له حتى قبضه الله إليه.
ثم إنه في السنة الثامنة للهجرة تزوج من ميمونة أخت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب ، وكان زواجه بها في آخر عمرة القضاء . وحديث زواجه إياها هو أن ميمونة كانت في السادسة والعشرين من عمرها وكانت موكلة أختها أم الفضل في تزويجها . فلما رأت ميمونة ما رأت من أمر المسلمين في عمرة القضاء هفت إلى الإسلام نفسها ، فخاطب العباس ابن أخيه سيدنا محمداً في أمرها ، وعرض عليه أن يتزوجها ، وقبل الرسول زواجها ، وكانت الأيام الثلاثة التي نص عليها عهد الحديبية قد انقضت ، لكن الرسول أراد أن يتخذ من زواجه ميمونة وسيلة لزيادة في التفاهم بينه وبين قريش ، فلما جاءه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى من قبل قريش ، يقولان لمحمد إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا ، قال لهما ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم ، وصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه ، فكان جوابهما لا حاجة بنا إلى طعامك فأخرج عنا ، فلم يتردد الرسول فخرج والمسلمون من وارئه .
وأما زواجه بزينب بنت خزيمة ، وأم سلمة ، فقد كان زواجاً لزوجتي رجلين من أصحابه استشهدوا في معارك القتال . فقد كانت زينب زوجة لعبيدة بن الحارث بن المطلب ، الذي استشهد يوم بدر ، ولم تكن ذات جمال . وإنما عرفت بطيبتها وإحسانها حتى لقبت بأم المساكين ، وكانت قد تخطت الشباب ، فتزوجها رسول الله r في السنة الثانية للهجرة ، بعد معركة بدر ، وبعد استشهاد زوجها . ولم تمكث عنده سوى سنتين ثم قبضها الله إليه ، فكانت بعد خديجة الوحيدة التي توفيه قبله . أما أم سلمة فكانت زوجاً لأبي سلمة ، وكان لها منه أبناء عدة ، وقد جرح أبو سلمة في أحد ، ثم برئ جرحه فعقد له النبي لحرب بني أسد ، فشتتهم وعاد إلى المدينة بما غنم ثم نغر عليه جرح أحد ، وما زال به حتى قضى عليه ، وقد حضره النبي وهو على فراش موته ، وظل إلى جانبه يدعو له بخير حتى مات فأسبل عينه . وبعد أربعة أشهر من وفاته خطب الرسول أم سلمة إلى نفسها ، فاعتذرت بكثرة العيال ، وبأنها تخطت الشباب فما زال بها حتى تزوج منها ، وحتى أخذ نفسه بالعناية بتنشئة أبنائها . فهاتان الزوجتان إنما تزوجهما الرسول ، إعالة لأهل صاحبيه بعد وفاتهما .
وأما زواجه r بأم حبيبة بنت أبي سفيان فقد كان زواجاً لمؤمنة هاجرت إلى الحبشة فراراً بدينها ثم صبرت في سبيل إسلامها بعد أن ارتد زوجها . ذلك أن أم حبيبة هذه هي رملة بنت أبي سفيان زعيم مكة وقائد المشركين . وقد كانت زوجة لابن عمة رسول الله عبيد الله بن جحش الأسدي . وقد أسلم عبيد الله وأسلمت معه رملة ، وأبوها على الكفر ، وقد خشيت أذى أبيها فهاجرت مع زوجها إلى الحبشة وهي مثقلة بحملها . وهناك في المهجر وضعت رملة بنتها حبيبة بنت عبيد الله التي كنيت بها فصارت تدعى أم حبيبة غير أن عبيد الله بن جحش زوجها ما لبث أن ارتد عن الإسلام واعتنق النصرانية دين الأحباش وحاول أن يرد زوجته رملة عن الإسلام فصبرت على دينها . ثم أرسل النبي إلى النجاشي يوكله بزواج أم حبيبة من رسول الله فأخبر النجاشي أم حبيبة بذلك فوكلت خالداً بن سعيد بن العاص عنها بالزواج وجرى عقد زواجها من الرسول ، وتولى خالد العقد بوكالته عنها ، وتولى النجاشي العقد عن رسول الله . ثم إنه لما رجع مهاجرو الحبشة إلى المدينة بعد غزوة خيبر رجعت أم حبيبة معهم ، ودخلت بيت رسول الله ، واحتفلت المدينة بعرس الرسول من أم حبيبة وأقامت في بيته .
أما زواجه r بزينب بنت جحش فكان تشريعاً لعدة أمور ، كان تشريعاً لهدم ما يسمى بالكفاءة بين الرجل والمرأة في تزويجه ابنة عمته وهي من ذؤابة قريش لمولى كان عبداً وأعتق ، وكان تشريعاً لهدم ما تركز عندهم من أن تبنى ولداً كان كابنه لا يتزوج امرأته ، فتزوج امرأة مولاه الذي أعتقه بعد طلاقها منه لهدم هذه العادات . وحديث زواج الرسول بزينب بنت جحش هو أن زينب بنت جحش هذه هي ابنة أميمة بنت عبد المطلب ، عمة الرسول r وأنها ربيت بعينه وعنايته ، وأنها كانت لذلك منه بمقام البنت أو الأخت الصغرى . وأنه كان يعرفها ويعرف أهي ذات مفاتن أم ليست كذلك ، قبل أن تتزوج زيداً ن وأنه شهدها في نموها تحبو من الطفولة إلى الصبا ، إلى الشباب ، فلم تكن مجهولة للرسول ، بل كانت بمقام بنته . وقد خطبها عليه الصلاة والسلام لتتزوج من مولاه زيد فأبى أخوها عبد الله بن جحش أن تكون أخته وهي قرشية هاشمية ، وهي فوق ذلك ابنة عمة رسول الله ، تحت عبد رق اشترته خديجة ، ثم أعتقه محمد ، ورأى في ذلك على زينب عاراً كبيراً . وكان ذلك عاراً حقاً عند العرب كبيراً ، فلم تكن بنات الأشراف الشريفات ليتزوجن من موال ، وإن أعتقوا . لكن محمداً يريد أن تزول مثل هذه الاعتبارات القائمة في النفوس على العصبية وحدها وأن يدرك الناس جميعاً أن لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ، وأن يفهموا قوله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وهو لا يرى أن يستكره بذلك امرأة من غير أهله ، فلتكن زينت بنت جحش بنت عمته هي التي تحتمل هذا الخروج على تقاليد العرب ، وهذا الهدم لعاداتها ، معرضة في ذلك عما يقول الناس عنها مما تخشى سماعه وليكن زيد مولاه الذي تبنى ، والذي أصبح بكم عادات العرب وتقاليدها صاحب حق في أن يرثه كسائر أبنائه سواء ، هو الذي يتزوجها . فيكون مستعداً للتضحية التي أعدها الشارع الحكيم للأدعياء الذين اتخذوا أبناء . وقد أصر الرسول على أن تقبل زينب ويقبل أخوها ، عبد الله ، زيداً مولاه زوجاً لها ولكن زينب أصرت على الرفض وأصر أخوها عبد الله كذلك على الرفض . فأنزل الله تعالى قوله { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً } فلم يبق حينئذ أمام عبد الله وأمام زينب إلا الإذعان ، فقالا : " رضينا يا رسول الله ، وبنى زيد بزينب بعد أن ساق النبي إليها عنه مهرها . إلا أن الحياة الزوجية بين زيد وزينب لم تسر على ما يرام ، بل بدأت مضطربة منغصة ، وظلت مضطربة منغصة . فلم تأخذ زينب نفسها بالرضا من هذا الزواج بعد أن وقع بالرغم من أنه أمر من الله ورسوله . فلم يسلس قيادها لزوجها ، ولا لأن له إباؤها ، بل كانت تفخر على زيد بأنها لم يجر عليها رق ، وتنغص عليه عيشه ، وقد شكاها زيد إلى النبي r عدة مرات ، وشرح له سوء معاملتها له . واستأذنه عدة مرات أن يطلقها ، فكان النبي يجيبه أمسك عليك زوجك . وقد أوحى الله للرسول r أن زينب هذه ستكون بعد من أزواجه ، فعظم ذلك على الرسول r خشية أن يقول الناس إن محمداً تزوج امرأة ابنه ، وأن يعيبوا عليه ذلك ، وكان عليه السلام قد تبنى زيداً . ومن أجل ذلك كان لا يريد من زيد أن يطلقها ، ولكن زيداً ألح على الرسول بطلاقها ، وبالرغم من معرفة الرسول أنها ستكون من أزواجه كما أعلمه الله تعالى بذلك عن طريق الوحي ، فإنه قال لزيد : { أمسك عليك زوجك واتق الله } . فعاتبه الله على ذلك ، إذ قال له إني أخبرتك أني مزوجكها ، وتخفي في نفسك ما الله يبديه ، ، وهذا معنى قوله : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } والذي كان يخفيه هو معرفته أنها ستكون زوجته بالرغم من أنها امرأة من تبناه ، وهذا هو الذي أبداه الله فيما بعد ، وهو زواجه بمطلقة من تبناه . وسبب إخفاء الرسول هذا الزواج الذي أبداه الله فيما بعد ، هو أن العرب كان ما عاداتها التصاق الأدعياء بالبيوت ، واتصالهم بأنسابها ، وكانوا يعطون الدعي أي الشخص المتبنى جميع حقوق الابن ، ويجرون عليه أحكام الابن ، حتى في الميراث وحرمة النسب ، فحينما أعلم الله الرسول بأن زينب زوجة مولاه الذي تبناه ، ستكون زوجته فيما بعد ، كان يخفي هذه المعرفة ويشدد على زيد أن يمسك عليه زوجه ، وأن لا يطلقها ، بالرغم من إلحاح زيد ، وشكواه منها ، وعدم ائتلافهما ، وعدم انسجام الحياة الزوجية بينهما منذ أن تزوجها . ولكن زيداً أصر على أن يطلقها فأذن له الرسول بطلاقها فطلقها دون أن يعلم زيد أن الرسول سيتزوجها ، ودون أن تعلم زينب أن الرسول سيتزوجها . بدليل ما رواه أحمد ومسلم والنسائي من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال : " لما انقضت عدة زينب ، قال رسول الله r لزيد اذكرها علي ، قال فانطلقت فقلت يا زينب أبشري ، أرسل رسول الله يذكرك . فقالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أو أمر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن وجاء رسول الله r حتى دخل عليها بغير إذن ، حين أنزل الله تعالى قوله : { فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم } ولو كانت تعلم أو كان زيد يعلم لما قال لها أبشري ، ولما قالت أو أمر ربي ، استخيره في هذا الزواج . وعلة زواجه هو أن لا يكون على المؤمنين حرج في أن يتزوجوا زوجة من تبنوه .
هذه قصة زاج الرسول بنسائه . وكل واحدة منهن يتبين من حديث زواجها أنه كان لغاية غير غاية مجرد الزواج . وبذلك يظهر معنى زواجه r بأكثر من أربع ، ومعنى خصوصيته r بهذا العدد دون أمته . وأن هذا المعنى ليس فوران غريزة النوع لدى رجل قد جاوز الخمسين من عمره ، ورجل مشغول بالدعوة ، وبالدولة ، مشغول برسالة ربه يبلغها للعالم ، ينهض بها شعباً ليجعله أمة ، غايتها من الحياة حمل رسالة الله إلى العالم ، ويبني مجتمعاً بناءً جديداً ، بعد أن ينقض بناؤه السابق ، ويقيم دولة تدفع الدنيا أمامها لتحمل الناس دعوة الإسلام ، وكل من يشغل ذهنه إنهاض أمة وإقامة دولة ، وبناء مجتمع ، وحمل رسالة للعالم ، لا يمكنه أن تشغله النساء ، فينصرف لهن ، يتزوج كل سنة واحدة وإنما يحمل هم دعوته ، ويتمتع بالحياة الزوجية عادياً كما يتمتع أي إنسان .
-
مشاركة: كتاب النظام الاجتماعي في الاسلام للامام تقي الدين النبهاني
الحياة الزوجية
ليست الزوجة شريكة الحياة للزوج ، وإنما هي صاحبته ، فالعشرة بينهما ليست عشرة شركاء ، وليسوا مجبرين عليها طوال الحياة ، وإنما العشرة بينهم عشرة صحبة ، يصحب أحدهما الآخر صحابة تامة من جميع الوجوه ، صحبة يطمئن فيها أحدهما للآخر ، إذ جعل الله هذه الزوجة محل اطمئنان للزوجين . قال تعالى : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها وزجها ليسكن إليها } . وقال تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها ، وجعل بينكم مودة ورحمة } ، والسكن هو الاطمئنان ، أي ليطمئن الزوج إلى زوجته والزوجة إلى زوجها ، ويميل كل منهما للآخر ولا ينفر منه . فالأصل في الزواج الاطمئنان . والأصل في الحياة الزوجية الطمأنينة ، وحتى تكون هذه الصحبة بين الزوجين صحبة هناء وطمأنينة بين الشرع ، ما للزوجة من حقوق على الزوج ، وما للزوج من حقوق على الزوجة . وجاءت الآيات والأحاديث صريحة في هذا الباب . قال الله تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } أي للنساء من الحقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن . ولهذا قال ابن عباس : " إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي وأحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي ، لأن الله تعالى قال : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } أي زينة من غير مأثم " ، وعنه أيضاً : " لهن من حسن الصحبة والعشرة مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن " .
وقد أوصى الله تعالى بحسن العشرة بين الزوجين قال تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } وقال : { فإمساك بمعروف } . والعشرة المخالطة والممازجة وعاشره معاشرة وتعاشر القوم واعتشروا . فأمر الله سبحانه وتعالى بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون الخلطة ما بينهم وصحبتهم مع بعضهم على الكمال ، فإنه أهدأ للنفس ، وأهنأ للعيش ، ومعاشرة الرجال للنساء تكون زيادة على وجوب إبقائها حقها من المهر والنفقة أن لا يعبس في وجهها بغير ذنب ، وأن يكون منطلقاً في القول ، لا فظاً ولا غليظاً ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها .
وقد وصى الرسول الرجال بالنساء فروى مسلم في صحيحه عن جابر أن رسول الله r قال في خطبته في حجة الوداع " فاتقوا الله في النساء فأنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يطأن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن في ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف " . وروي عن النبي عليه السلام أنه قال : " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي " . وروي عنه عليه السلام أنه جميل العشرة يداعب أهله . ويتلطف بهم ، ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يتودد إليها بذلك . قالت سابقني رسول الله r فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللحم ، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني فقال : " هذه بتلك " . وكان r إذا صلى العشاء يدخل منزله ، ويسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام يؤانسهم بذلك . وروى ابن ماجة أن النبي r قال : " خياركم خياركم لنسائهم " .
وهذا كله يدل على أن على الأزواج أن يحسنوا عشرة أزواجهم . ولما كانت الحياة الزوجية قد يحصل فيها ما يعكر صفوها ، فقد جعل الله قيادة البيت للزوج على الزوجة ، فجعله قواماً عليها . قال تعالى : { الرجال قوامون على النساء } وقال : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، وللرجال عليهن درجة } ووصى المرأة بطاعة زوجها . قال r : " إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع " وقال عليه السلام لامرأة : " أذات زوج أنت ؟ قالت : نعم ، قال " فإنه جنتك ونارك " . وروى البخاري أن النبي عليه السلام قال : " لا يحل لامرأة أن تصوم وزجها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه ، وما أنفقت من نفقة من غير إذنه فإنه يرد ليه شطرة " .
وروى ابن بطة في أحكام النساء عن أنس أن رجلاً سافر ومنع زوجته من الخروج . فمرض أبوها ، فاستأذنت رسول الله r في عيادة أبيها ، فقال رسول الله r : " إتقي الله ولا تخالفي زوجك " فمات أبوها فاستأذنت رسول الله r في حضور جنازته فقال لها : " اتقي الله ، ولا تخالفي زوجك " فأوحى الله إلى النبي r : " إني قد غفرت لها بطاعة زوجها " . فجعل الشرع للزوج الحق في منع زوجته من الخروج من منزله سواء أرادت عيادة والديها أو زيارتهما ، أو أرادت الخروج إلى ما لا بد منه أو للنزهة ، ولا يجوز لها أن تخرج من المنزل إلا بإذنه ، لكن لا ينبغي للزوج منعها من عيادة والديها وزيارتهما لأن في ذلك قطيعة لهما ، وحملاً لزوجته على مخالفته ، وقد أمر الله تعالى بالمعاشرة بالمعروف ، وليس منعها من عيادة والديها وزيارتهما من المعاشرة بالمعروف وليس للزوج أن يمنع زوجته من الخروج إلى المساجد . لما روي عن النبي r أنه قال : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " وإذا تمردت المرأة على زوجها فقد جعل الله له حق تأديبها قال تعالى : { واللاتي تخافوهن نشوزهن فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً } والضرب هنا يجب أن يكون ضرباً خفيفاً ، أي ضرباً غير مبرح . كما فسر ذلك الرسول في خطبته في حجة الوداع حيث قال : " فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح " . وإنما أعطي الزوج صلاحية معاقبة الزوجة إذا أذنبت لأنه القوام على إدارة ورعاية شؤون البيت ، وما عدا مخالفتها لما أمرها الشرع بالقيام به فإنه لا يجوز للزوج أن يزعجها بشيء مطلقاً . قال تعالى : { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} بل يجب أن يكون رفيقاً معها ، لطيفاً في طلب أي شيء منها حتى لو أرادها ينبغى عليه أن يحسن اختيار الأوضاع والحالات المناسبة لها . قال عليه السلام " لا تطرقوا النساء ليلاً حتى تمتشط المشعثة ، وتستحد المغيبة " . وليس معنى قوامة الزوج على المرأة ، وقيادته للبيت أن المتسلط فيه ، الحاكم له بحيث لا يرد له أمر ، بل معنى قيادة الزوج للبيت هي رعاية شؤونه وإدارته ، وليس السلطة أو الحكم فيه ، ولذلك فإن للمرأة أن ترد على زوجها كلامه ، وأن تناقشه فيه ، وأن تراجعه فيما يقول ، لأنهما صاحبان وليسا أميراً ومأموراً ، أو حاكماً ومحكوماً ، بل هما صاحبان جعلت القيادة لأحدهما من حيث إدارة بيتهما ، ورعاية شؤون هذا البيت . وقد كان رسول الله r في بيته كذلك صاحباً لزوجاته ، وليس أميراً متسلطاً عليهن رغم كونه رئيس دولة ، ورغم كونه نبياً ، قال عمر بن الخطاب في حديث له " والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل ، وقسم لهن ما قسم فبينما أنا في أمر أأتمره إذ قالت لي امرأتي لو صنعت كذا وكذا . فقلت لها وما لك أنت ولما ها هنا ، وما تكلفك في أمر أريده ، فقالت لي عجباً لك يا ابن الخطاب ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله r حتى يظل يومه غضبان . قال عمر فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة فقلت لها يا بنية إنك لتراجعين رسول الله r حتى يظل يومه غضبان . فقالت حفصة والله إنا لنراجعه فقلت تعلمين أني أحذرك عقوبة الله ، وغضب رسوله يا بنية لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها ، وحب رسول الله r إياها . ثم خرجت حتى أدخل على أم سلمة لقرابتي منها ، فكلمتها . فقالت لي أم سلمة عجباً لك يا ابن الخطاب ، قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله r وأزواجه . قال عمر فأخذتني أخذاً كسرتني به عن بعض ما كنت أجد ، فخرجت من عندها " . وروى مسلم في صحيحه أن أبا بكر استأذن على النبي ، ودخل بعد أن أذن له ثم استأذن عمر ودخل بعد الإذن ، فوجد النبي جالساً وحوله نساؤه واجماً ساكناً فقال عمر : لأقولن شيئاً أضحك النبي r ثم قال : يا رسول الله . لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله r : " هن حولي يسألنني النفقة " . ومن ذلك يتبين أن معنى قوامة الرجل على المرأة هو أن يكون الأمر له ، ولكن أمر صحبة لا أمر تسلط وسيطرة ، فتراجعه وتناقشه .
هذا من ناحية العشرة وأما من ناحية القيام بأعمال البيت ، فإنه يجب على المرأة خدمة زوجها من العجن ، والخبز والطبخ ، ومسح الدار وتنظيفها ، ويجب عليها أن تسقيه إذا طلب أن يشرب ، وأن تضع له الطعام ليأكل ، وأن تقوم بخدمته في كل ما يلزمه في البيت . وكذلك ما يلزم لخدمة البيت مما تستدعيه أمور المعيشة في المنزل من كل شيء دون تحديد . ويجب عليه أن يحضر لها ما تحتاجه مما هو خارج البيت من إحضار الماء ، وكل ما يلزمها لإزالة الوسخ ، وتقليم الأظافر ، وللتزين له مما تتزين به أمثالها ، وغير ذلك .
والخلاصة أن كل عمل يلزم القيام به داخل البيت فيجب على المرأة أن تقوم به ، أيا كان نوع العمل . وكل عمل يلزم القيام به خارج البيت فيجب على الرجل أن يقوم به . لما روي عن النبي r في قصة علي وفاطمة رضي الله عنهما " قضى على ابنته فاطمة بخدمة البيت ، وعلى علي ما كان خارجاً عن البيت من عمل " وقد كان رسول الله r يأمر نساءه بخدمته فقال : " يا عائشة اسقينا يا عائشة أطعمينا يا عائشة هلمي الشفرة ، واشحذيها بحجر " وقد روي " أن فاطمة أتت رسول الله r تشكو إليه ما تلقى من الرحى ، وسألته خادماً يكفيها ذلك " وهذا كله يدل على أن القيام بخدمة الرجل في البيت ، وبخدمة البيت واجب من واجبات الزوجة يجب أن تقوم به . إلا أن قيامها به إنما يكون بقدر طاقتها فإذا كانت الأعمال كثيرة بحيث تجلب لها المشقة كان على الزوج أن يأتي لها بخادم يكفيها القيام بالأعمال ، وكان لها أن تطالبه بذلك ، وإن كانت الأعمال غير كثيرة ، وهي قادرة على القيام بها فلا يجب عليه خادم لها بل يجب عليها أن تقوم هي بالخدمة بدليل ما قضى به رسول الله r على ابنته فاطمة بخدمة البيت . وهكذا يجب على الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف . ويجب على الزوجة مثل ما يجب لها بالمعروف ، حتى تكون الحياة الزوجية حياة طمأنينة ، يتحقق فيها قوله تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } .
-
مشاركة: كتاب النظام الاجتماعي في الاسلام للامام تقي الدين النبهاني
العزل
العزل هو أن ينزع الرجل إذا قرب من الإنزال لينزل خارجاً من الفرج . والعزل جائز شرعاً ، فيجوز للرجل إذا جامع امرأته ، وقرب من الإنزال ، أن ينزل ماءه خارج الفرج ، فقد روى البخاري عن عطاء عن جابر قال : " كنا نعزل على عهد رسول اللهr والقرآن ينزل " وروي أيضاً عن عطاء أن سمع جابراً رضي الله عنه يقول : " كنا نعزل والقرآن ينزل " ولمسلم " كنا نعزل على عهد رسول الله r فبلغه ذلك فلم ينهنا " وهذا تقرير من رسول الله على العزل ، فيدل على جوازه ، لأنه لو كان العزل حراماً لم يسكت عنه . على أن حكم العزل هذا أضيف من الصحابي إلى زمن النبي r ، والصحابي إذا أضاف الحكم إلى زمن النبي عليه السلام كان له حكم الرفع ، لأن الظاهر أن النبي r أطلع على ذلك وأقره ، لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام . وقد وردت في جواز العزل عدة أحاديث صحيحة . فقد روى أحمد ومسلم وأبو داود عن جابر " أن رجلاً آتى النبي r فقال : إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل فقال : اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها " وروى مسلم عن أبي سعيد قال : " خرجنا مع رسول الله في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبباً من العرب فاشتهينا النساء ، واشتدت علينا العزبة ، وأحببنا العزل فسألنا عن ذلك رسول الله r فقال : ما عليكم ألا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة " وروى أبو داود عن جابر قال : " جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله r : " إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل فقال : " أعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها " والعزل جائز مطلقاً مهما كان قصد العازل ، سواء قصد من ذلك عدم النسل ، أو تقليل الأولاد ، أو قصد الشفقة على الزوجة لضعفها من الحمل والولادة ، أو قصد عدم إرهاقها حتى تظل شابة يتمتع بها ، أو أي قصد آخر فإن للزوج أن يعزل مهما كان قصده ، وذلك لأن الأدلة التي وردت في ذلك مطلقة ، ولم تقيد بحال من الأحوال ، وعامة لم يرد لها أي تخصيص ، فتبقى على إطلاقها وعمومها . ولا يقال إن العزل قتل للولد قبل خلقه ، فقد وردت أحاديث صريحة ترد على ذلك . فقد روى أبو داود عن أبي سعيد " أن رجلاً قال : " يا رسول الله إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى قال : " كذبت يهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه " وقد ورد النص بجواز العزل بقصد عدم الأولاد . فقد روى أحمد ومسلم عن أسامة بن زيد " أن رجلاً جاء إلى النبي r فقال إني أعزل عن امرأتي فقال له لم تفعل ذلك ؟ فقال له الرجل أشفق على ولدها ، أو على أولادها فقال رسول الله r : لو كان ضاراً ضر فارس والروم " فهنا قال له الرسول : " لم تفعل " ولم يقل له لا تفعل . ويفهم من الحديث أنه أقره ولكنه أخبره أن مجيء الأولاد بعد الأولاد لا يضر بدليل ما وقع عند مسلم في حديث أسامة بن زيد ، جاء رجل إلى رسول الله r فقال : " إني أعزل عن امرأتي شفقة على ولدها فقال رسول الله r إن كان كذلك فلا ، ما ضر ذلك فارس ولا الروم " . وعند مسلم في طريق عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد " خشية أن يضر الحمل بالولد الرضيع " ، وإذا كان الرسول أقر العزل لأجل عدم الحمل حتى لا يتضرر الولد الرضيع فهو يصدق على العزل لأجل عدم الحمل فراراً من كثرة العيال ، أو فراراً من حصولهم من الأصل ، أو غير ذلك . لأن الله إذا علم أن الولد سيأتي فلا بد أن يأتي سواء عزل أو لم يعزل . ولذلك روى ابن حبان من حديث أنس أن رجلاً سأل عن العزل فقال النبي r : " لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج منها ولداً " ولا يقال إن تقليل النسل يخالف ما حث به r من كثرة النسل حين قال: " تناكحوا تناسلوا تكثروا " وقال : " سوداء ولود خير من حسناء عقيم " ، لا يقال ذلك لأن إباحة العزل لا تخالف الحث على تكثير النسل ، فذاك ترغيب في تكثير النسل ، وهذا إباحة للعزل . وأما ما رواه أحمد عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت : " حضرت رسول الله r في أناس وهو يقول : " لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئاً ، ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله r ذلك الوأد الخفي وهي : وإذا الموءودة سئلت " فإن هذا الحديث يعارض الأحاديث الصحيحة الصريحة في جواز العزل ، وإذا تعارض حديث مع أحاديث أخرى أكثر منه طرقاً رجحت الأحاديث التي أكثر طرقاً ورد الحديث . وبناء على ذلك يرد هذا الحديث لمعارضته ما هو أقوى منه وأكثر طرقاً في الرواية .
ولا يقال أن الجمع بين هذا الحديث وأحاديث جواز العزل هو أن يحمل هذا الحديث على كراهة العزل ، لأن ذلك ممكن لو لم يكن هنالك تصادم في نفي الرسول في حديث آخر لنفس المعنى الذي جاء به هذا الحديث . فالحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن أبي سعيد " وإن اليهود تحدث أن العزل المؤودة الصغرى قال : " كذبت يهود " . وحديث جذيمة يقول : " ذلك الوأد الخفي وهي : " وإذا الموءودة سئلت " فلا يمكن الجمع بين هذين الحديثين ، فإما أن يكون أحدهما منسوخاً ، أو أن يكون أحدهما أقوى من الآخر فيرد الأضعف ، وبما أن تاريخ الحديثين غير معروف ، وحديث أبي سعيد مؤيد بأحاديث عديدة ، ومن طرق عديدة . وحديث جذيمة جاء منفرداً ، ولم يؤيد بشيء ، فيرد ويرجح ما هو أقوى منه . وعلى ذلك يكون العزل جائزاً مطلقاً دون أي كراهة ، مهما كان قصد العازل من العزل لعموم الأدلة . ولا يحتاج الرجل حتى يعزل إلى إذن زوجته لأن الأمر متعلق به وليس بها ، ولا يقال إن الجماع حقها فصار الماء حقها فلا يريقه خارج فرجها إلى بإذنها ، لأن هذا تعليل عقلي ، وليس بشرعي ولا قيمة له ، فضلاً عن أنه منقوض بأن حقها هو الجماع ، وليس إنزال الماء ، بدليل أن العنين إذا وصل إلى المرأة ولم ينزل فيعتبر قد انتهى حقها بهذا الوصول ، فلا يكون حينئذ لها حق الفسخ . وأما ما رواه ابن ماجة عن عمر بن الخطاب قال : " نهى رسول الله r أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها " فإنه حديث ضعيف وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال . وبذلك تبقى الأحاديث مطلقة في جواز العزل .
وحكم العزل هذا ينطبق على استعمال الدواء ، واستعمال الكيس أو استعمال اللولب لمنع الحمل ، فإنها كلها من باب واحد ، لأن أدلة جواز العزل منطبقة عليها تمام الانطباق ، وهي مسألة من مسائلها ، إذ الحكم هو جواز أن يقوم الرجل بعمل يمنع الحمل ، سواء أكان عزلاً أم غيره ، وما جاز للرجل جاز للمرأة ، لأن الحكم هو جواز منع الحمل بأي وسيلة من الوسائل .
وهذا الجواز لمنع الحمل هو خاص بمنع الحمل المؤقت . أما منع الحمل الدائم وإيجاد العقم فإنه حرام ، فاستعمال الأدوية التي تمنع الحمل نهائياً وتقطع النسل ، وإجراء العمليات الجراحية التي تمنع الحمل نهائياً وتقطع النسل حرام ، لا يجوز القيام به ، لأن ذلك نوع من الخصاء ، وداخل تحته ، ويأخذ حكمه ، لأن هذه الاستعمالات تقطع النسل ، كما يقطعه الخصاء ، وقد ورد النهي الصريح عن الخصاء . عن سعد بن أبي وقاص قال : " رد رسول الله r على عثمان بن مظعون التبتل ، ولو أذن له لاختصينا " وكان عثمان بن مظعون قد جاء إلى النبي r فقال : " يا رسول الله إن رجل يشق علي العزوبة فأذن لي بالاختصاء ، قال : لا ولكن عليك بالصيام " وفي لفظ آخر قال : " يا رسول الله أتأذن لي في الاختصاء ؟ قال : إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة " وعن أنس قال : " كان النبي r يأمرنا بالباءة ، وينهى عن التبتل نهياً شديداً ، ويقول : تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة " .
كما أن قطع النسل الدائم يتناقض مع حمل الشارع النسل والإنجاب هو الأصل من الزواج لذلك قال تعالى في معرض المنة على الناس { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } وقد جعل الشارع تكثير الأولاد مندوباً ، وحض عليه ، ومدح فاعله . فعن أنس أن النبي r قال : " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة " وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله r قال : " انكحوا أمهات الأولاد فإني أباهي بكم يوم القيامة " وعن معقل بن يسار قال : " جاء رجل إلى رسول الله r فقال " إني أحببت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها ؟ فقال لا ، ثم أتاه الثانية فنهاه ، ثم أتاه الثالثة فقال : تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم " .
إن جواز منع الحمل المؤقت بالعزل وغيره من وسائل منع الحمل ، لا يعني جواز إسقاط الجنين ، فإسقاط الجنين إذا نفخت فيه الروح يكون حراماً ، سواء كان الإسقاط بشرب دواء أو بحركات عنيفة ، أو بعملية طبية ، وسواء حصل من الأم أو من الأب ، أو من الطبيب ، لأنه تعدٍ على نفس إنسانية معصومة الدم . وهو جناية توجب الدية ، ومقدارها غرة عبد أو أمة ، وقيمتها عشر دية الإنسان الكامل . قال تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : " قضى رسول الله r في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة " وأقل ما يكون به السقط جنيناً فيه غرة أن يتبين من خلفه شيء من خلق الآدمي ، من أصبع أو يد أو رجل أو رأس أو عين أو ظفر .
أما إن كان إسقاط الجنين قبل أن تنفخ فيه الروح ، فإن حصل الإسقاط بعد مرور أربعين يوماً من ابتداء الحمل ، وعند بدء التخلق للجنين فإنه يكون حراماً كذلك ، ويأخذ حكم إسقاط الجنين بعد نفخ الروح فيه من الحرمة ، ووجوب الدية فيه التي هي غرة عبد أو أمة . وذلك أنه إذا بدأ تخلق الجنين ، وظهرت بعض الأعضاء فيه فإنه يتأكد عندها أنه جنين حي في طريقه إلى أن يصبح إنساناً سوياً . وبذلك يكون الاعتداء عليه اعتداء على حياة إنسانية معصومة الدم ، ويكون وأداً لها ، وقد حرم الله ذلك . قال تعالى : { وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت } .
وبذلك يحرم على الأم وعلى الأب وعلى الطبيب إسقاط الجنين بعد مرور أربعين يوماً من ابتداء الحمل ، ومن يقوم به يكون مرتكباً جناية وإثماً ، وتلزمه دية الجنين المسقط ، وهي غرة عبد أو أمة كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم .
ولا يباح إسقاط الجنين سواء كان في دور التخلق أو بعد نفخ الروح فيه إلا إذا قرر الأطباء العدول أن بقاء الجنين في بطن أمه سيؤدي إلى موت الأم ، وموت الجنين معها . ففي هذه الحالة يجوز إسقاط الجنين لحفظ حياة الأم .
-
مشاركة: كتاب النظام الاجتماعي في الاسلام للامام تقي الدين النبهاني
الطلاق
كما شرع الله الزواج شرع أيضاً الطلاق . والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة وإجماع الصحابة . أما الكتاب فقد قال الله تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وقال : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } . وأما السنة فقد روي عن عمر بن الخطاب : " أن النبي r طلق حفصة ثم راجعها " وروي عن عبد الله بن عمر قال : " كانت تحتي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت فذكر ذلك للنبي r فقال : " يا عبد الله طلق امرأتك " . وقد أجمع الصحابة على مشروعية الطلاق .
والطلاق حل قيد النكاح ، أي حل عقدة التزويج ، وليس لجواز الطلاق أية علة شرعية ، فإن النصوص التي وردت في حله لم تتضمن أية علة ، لا نصوص القرآن ولا نصوص الحديث . فهو حلال لأن الشرع أحله وليس لأي سبب آخر . والتطليق الشرعي ثلاث تطليقات ، تطليقه بعد تطليقة فإن طلق واحدة فقد أوقع تطليقة واحدة ، وجاز له أن يرجعها أثناء العدة دون عقد جديد ، وإن طلقها طلقة ثانية فقد أوقع تطليقتين اثنتين ، وجاز له أن يراجعها أثناء العدة دون عقد جديد . فإن انقضت العدة في هاتين الحالتين ولم يراجعها فإنها أصبحت بائنة منه بينونة صغرى ، ولا يحل له أن يرجعها إلا بعقد ومهر جديدين . فإن طلقها ثالثة فقد أوقع ثلاث تطليقات ، وبانت منه بينونة كبرى ، لا يجوز له أن يراجعها إلا بعد أن تتزوج شخصاً آخر ويدخل بها وتنقضي عدتها منه قال الله تعالى : { الطلاق مرتان ، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما اقتدت به ، تلك حدود الله فلا تعتدوها ، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون . فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ، فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله ، وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون } ، فالله تعالى علم المسلمين في الآية كيف يطلقون ، فقال : { الطلاق مرتان} ثم خيرهم بعد أن علمهم بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بواجبهن ، وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي عليهم . ثم قال : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } ، أي فإن طلقها ثالثة بعد المرتين السابقتين فلا تحل له من ذلك التطليق حتى تتزوج غيره ، ثم قال : { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا } ، أي فإن طلقها الزوج الثاني فيجوز حينئذ للزوج الأول أن يراجعها له بعقد ومهر جديدين . وفاعل كلمة طلقها الثاني يعود على أقرب مذكور وهو كلمة { زوجاً غيره } أي الزوج الثاني ، وفاعل يتراجعا يعود على الزوج الأول . أي لا مانع من أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج . وعلى ذلك فإن الرجل يملك على المرأة ثلاث تطليقات ، منها اثنتان يجوز له أن يراجعها فيهما ، والثالثة لا يجوز أن يراجعها حتى تنكح زوجاً غيره .
والطلاق بيد الرجل وليس بيد المرأة وهو الذي يملكه وليست هي . أما لماذا يكون بيد الرجل فلأن الله تعالى قد جعله بيده ، ولم يرد من الشرع تعليل لذلك ، فلا يعلل . نعم إن التبصر في واقع الزواج والطلاق يري أنه لما كان الزواج ابتداء حياة زوجية جديدة كان الرجل والمرأة متعاونين في اختيار كل منهما زوجه الذي يريده ، وكان لكل منهما التزوج بمن يشاء ، ورفض الزواج بمن يشاء ، ولكن لما حصل الزواج بالفعل ، وأعطيت قيادة الأسرة للزوج ، وجعلت له القوامة عليها ، كان من المحتم أن يكون الطلاق بيد الرجل ، وأن يكون من حقه ، لأنه رئيس العائلة ورب الأسرة . فعليه وحده ألقيت مسئولية البيت وتكاليفه . فيجب أن تكون له وحده صلاحية حل عقدة التزويج . فالصلاحية بقدر المسئولية ، والتفريق بين الزوجين بيد القوام منهما على الآخر ، ولكن هذا وصف لواقع موجود ، وليس تعليلاً لحكم شرعي ، لأن علة الحكم الشرعي لا يجوز أن تكون إلا علة شرعية قد وردت في نص شرعي .
غير أنه ليس معنى كون الطلاق بيد الرجل ، وله وحده ، أنه لا يجوز لها أن تطلق نفسها وتحدث فرقة بينها وبينه ، بل إن الصلاحية له وحده أصلاً ، وإطلاقاً ، دون أي تقييد بحالة من الحالات ، بل له أن يطلق حتى ولو كان ذلك لغير سبب . ولكن الزوجة لها أن تطلق نفسها ، وتوقع الفرقة بينها وبين الرجل في حالات معينة ، نص عليها الشرع . فقد أباح لها الشرع أن تفسخ عقد النكاح في الأحوال الآتية :
1 - إذا جعل الزوج أمر طلاقها بيدها . فإن لها أن تطلق نفسها حسب ما ملكها إياه . فتقول طلقت نفسي من زوجي فلان ، أو تخاطبه قائلة طلقت نفسي منك . ولا تقول طلقتك ، أو أنت طالق ، لأن الطلاق يقع على المرأة لا على الرجل ، حتى لو صدر الطلاق منها . وإنما جاز أن يجعل الزوج أمر الطلاق بيد الزوجة لأن الرسول r خير نساءه ولإجماع الصحابة على ذلك .
2 - إذا علمت أن في الزوج علة تحول دون الدخول ، كالعنة ، والخصاء إذا كانت سالمة من مثلها . فإن لها في مثل هذه الحالة أن تطلب فسخ نكاحها منه ، فإذا تحقق الحاكم وجود العيب أجله سنة فإنه لم يصبها أجيب طلبها وفسخ النكاح . فقد روي أن ابن منذر تزوج امرأة وهو خصي فقال له عمر أعلمتها قال لا . قال أعلمها ثم خيرها . وروي أن عمر أجل العنين سنة . وإذا وجدت المرأة زوجها مجبوباً أو مشلول الذكر ثبت لها الخيار في الحال ، ولا يضرب لها أجل ، لأن الوطء ميئوس منه ولا معنى لانتظاره .
3 - إذا ظهر للزوجة قبل الدخول أو بعده أن الزوج مصاب بمرض من الأمراض التي لا يمكن الإقامة بها معه بلا ضرر ، كالجذام والبرص ، والزهري والسل ، أو طرأ عليه مثل هذه الأمراض ، فإن لها أن تراجع القاضي وتطلب التفريق بينها وبي نزوجها ، ويجاب طلبها إذا ثبت وجود هذا المرض ، وعدم إمكان البرء منه في مدة معينة . وخيارها دائم وليس بمؤقت ، وذلك لما ورد في الموطأ عن مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب أنه قال : " أيما رجل تزوج امرأة وبه جنون أو ضرر فإنها تخير فإن شاءت قرت ، ون شاءت فارقت " .
4 - إذا جن الزوج بعد عقد النكاح ، فللزوجة أن تراجع القاضي وأن تطلب تفريقها منه . والقاضي يؤجل التفريق مدة سنة . فإذا لم تزل الجنة في هذه المدة ، وأصرت الزوجة ، يحكم القاضي بالتفريق وذلك لحديث الموطأ السابق .
5 - إذا سافر الزوج إلى مكان ، بعد أو قرب ، ثم غاب وانقطعت أخباره وتعذر عليها تحصيل النفقة ، فإن لها أن تطلب التفريق منه بعد بذل الجهد في البحث والتحري عليه وذلك لقول الرسول r عن الزوجة تقول لزوجها " أطعمني وإلا فارقني " فجعل عدم الإطعام علة للفراق .
6 - إذا امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته وهو موسر ، وتعذر عليها الوصول إلى ماله للإنفاق بأي وجه من الوجوه فإن لها أن تطلب التطليق وعلى القاضي أن يطلق عليه في الحال دون إمهال ، لأن الرسول يقول : " امرأتك ممن تعول تقول أطعمني وإلا فارقني " ولأن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا ، وقد عرف الصحابة ذلك ولم ينكروا عليه فكان إجماعاً .
7 - إذا ظهر بين الزوجين نزاع وشقاق ، فإن لها أن تطلب التفريق ، وعلى القاضي أن يعين حكماً من أهل الزوجة ، وحكماً من أهل الزوج ، والمجلس العائلي هذا يصغي إلى شكاوي الطرفين ، ويبذل جهده للإصلاح ، وإن لم يمكن التوفيق بينهما يفرق هذا المجلس بينهما على الوجه الذي يراه ، مما يظهر له من التحقيق . قال تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما } .
ففي هذه الحالات أعطى الشرع للمرأة حق تطليق نفسها في الحالة الأولى ، وحق طلب التفريق بينهما وبين زوجها في الحالات الباقية . وواقع هذه الحالات يري أن الشارع نظر إلى أن المرأة صاحبة الزوج في هذه الحياة الزوجية ، وكل كدر ومقت يحصل في البيت يصيبها كما يصيب الزوج ، فكان لا بد من أن يضمن لها أن تتلخص من الشقاء إذا أصابها في البيت ، بحل عقدة الزواج من قبلها ، ولذلك لم يتركها الشارع مجبرة على البقاء مع الزوج إذا تعذرت الهناءة الزوجية . فأباح لها الشرع أن تفسخ عقد النكاح في الأحوال التي يتحقق معها عدم إمكانية العشرة ،أو عدم توفر الهناءة الزوجية .
وبهذا يبين أن الله قد جعل الطلاق بيد الرجل ، لأنه هو القوام على المرأة ، والمسئول عن البيت وجعل للمرأة حق الفسخ للنكاح ، حتى لا تشقى في زوجها ، ولا يصبح البيت الذي هو محل هناء واستقرار موطن شقاء وقلق لها .
أما ما هي العلة في مشروعية الطلاق فقد قلنا إن النصوص الشرعية لم تعلل الطلاق فلا علة له ولكنه يمكن بيان واقع تشريع الطلاق ، والكيفية التي وردت فيها مشروعيته بالنسبة للزواج ، ولما يترتب عليها . فإن واقع الزواج يدل على أنه وجد من أجل تكوين الأسرة ، وتوفير الهناء لهذه الأسرة . فإذا حدث في هذه الحياة الزوجية ما يهدد هذا الهناء ، ووصل الحال إلى حد تتعذر فيه الحياة الزوجية فلا بد أن تكون هنالك طريقة يستعملها الزوجان للانفكاك من بعضهما . ولا يجوز أن يرغما على بقاء هذه الرابطة على كره منهما ، أو من أحدهما . وقد شرع الله الطلاق . قال تعالى : {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} حتى لا يظل الشقاء في البيت ، وحتى تظل الهناءة الزوجية قائمة بين الناس . فإن تعذر قيامها بين اثنين لعدم توافق طباعهما ، أو لأنه طرأ ما أفسد عليهما حياتهما كان لهما أن يعطيا فرصة ليعمل كل منهما على إيجاد الهناءة الزوجية مع آخر . إلا أن الإسلام لم يجعل مجرد التذمر والكراهة سبباً للطلاق . بل أمر الزوجين بالعشرة بالمعروف ، وحث على تحمل الكراهة فلعل فيها خيراً . قال تعالى : { وعاشروهن بالمعروف ، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } . وأمر الرجال باستعمال الوسائل التي بها يخففون من حدة النساء من نشوزهن . فقال تعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن } وهكذا أمر باتخاذ كافة الأسباب اللينة ، وغير اللينة ، لمعالجة المشاكل التي تحصل بين الزوجين ، معالجة تحول بينهما وبين الطلاق . حتى إذا لم تنفع العشرة بالمعروف ، ولم ينفع غيرها من الوسائل الشديدة ، وتجاوز الأمر الكراهة والتذمر والنشوز ، إلى النزاع والشقاق ، فإن الإسلام لم يجعل الخطوة الثانية هي الطلاق ، بالرغم من شدة الأزمة بينهما . بل أمر أن يحال الأمر إلى غير الزوجين من أهليهما ،ليقوما بمحاولة الإصلاح مرة أخرى ، فقال تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً } ، فإن لم يستطع هذان الحكمان أن يوفقا بين الزوجين فحينئذ لا مجال لإبقاء الحياة الزوجية بينهما بعد كل هذه المحاولات . إذ تكون العقدة النفسية عندهما غير قابلة للحل إلا بالتفريق بينهما . فكان لابد من الطلاق لعلهما يجدان الهناءة الزوجية ، أو لعل هذه العقدة تحل بهذا الطلاق ، قال تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً } .
إلا أن هذا الطلاق قد تركت فيه كذلك الفرصة للزوجين ولم يكن فراقاً حاسماً بينهما ، بل جعل لهما حق المراجعة للمرة الأولى ، والثانية . إذ قد يثير بينهما الطلاق الأول أو الثاني في نفس الزوجين رغبة جديدة لمعاودة الحياة الزوجية بينهما مرة ثانية بعد الطلقة الأولى ، ومرة ثالثة بعد الطلقة الثانية ، ومن هنا نجد أن الشرع جعل الطلاق ثلاث مرات ، فقال تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } حتى يترك للزوجين أن يراجع كل منهما نفسه ، وأن يرجع إلى تقوى الله المتركز في صدره ، فلعلهما يحاولان إعادة تجربة الحياة الزوجية مرة أخرى ، فينالان الهناءة الزوجية أو الراحة والطمأنينة التي لم يكونا ينالانها من قبل . ومن هنا نجد أن الإسلام أباح للزوج أن يراجع زوجته بعد الطلقة الأولى والثانية . كما أنه جعل ما يساعد الزوجين على مراجعة نفسهما ، وإعادة التفكير في الأمر ، والنظر إليه نظرة جدية أكثر مما كانا ينظران إليه . إذ جعل فترة العدة بعد الطلاق ثلاث حيضات ، وهي تقرب من ثلاثة أشهر ، أو وضع الحمل ، وجعل على الزوج واجب الإنفاق على هذه المطلقة وإسكانها طوال مدة العدة ، ومنع الزوج من إخراج معتدته حتى تستوفي عدتها ، وذلك تأليفاً للقلوب ، وتصفية للنفوس . وإفساحاً للطريق التي بها يرجعان إلى بعضهما ، ويستأنفان الحياة الصافية الجديدة ، ووصى من هذه الناحية توصيات صريحة في القرآن قال تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } فإن لم تؤثر هذه المعاملات ، أو أثرت بعد الطلقة الأولى والثانية ثم حصلت الثالثة رغم كل ذلك فإن المسألة حينئذ تكون أعمق جذوراً ، وأكثر تعقيداً وأشد شقاقاً ، ولا فائدة حينئذ من المراجعة ، فضلاً عن بقاء الزواج . فكان لا بد من الفراق التام واستئناف عشرة أخرى حتماً . دون إعادة التجربة الفاشلة لنفس العشرة ، قبل تجربة عشرة أخرى . ولذلك جعل الطلاق الثالث حاسماً ، فقال تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } ومنع مراجعة الزوج لزوجته مطلقاً بعد الطلقة الثالثة حتى تعاشر زوجاً آخر غيره ، ويدخل بها . " حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها " لتختبر العشرة الزوجية كاملة . فإن جربت عشرة زوجية أخرى مع غيره تجربة طبيعية ، ولم تجد في هذه العشرة الثانية راحتها وطمأنينتها ، وحصل الفراق بينهما وبين زوجها الثاني ، فحينئذ صار بإمكانها أن ترجع إلى العشرة الزوجية مع الزوج الأول ، لأنها تكون قد مرت في تجربة ثانية للعشرة الزوجية مع الزوج الثاني ، ووازنت بينهما . فحين تختار الرجوع تختار عن معرفة . ومن هنا نجد الشارع قد أباح لها الرجوع إلى الزوج الأول الذي طلقها ثلاثاً بعد زواجها من زوج آخر . قال تعالى { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } ثم قال بعد ذلك مباشرة في نفس الآية { فإن طلقها } أي الزوج الثاني الذي هو غير الأول { فلا جناح عليهما } أي الزوج الأول ومطلقة الثاني { أن يتراجعا } أي يرجع كل واحدة منهما إلى صاحبة بالزواج .
هذا هو ما ترشد إليه كيفية تشريع الطلاق ، وبها يظهر ما في تشريع الطلاق وطريقة تشريعه ، وكيفية إيقاعه من الحكمة البالغة ، والنظر الدقيق للحياة الاجتماعية ، ليضمن لها العيش الهنيء . فإن فقدت هذه الهناءة ، ولم يبق أمل في إرجاعها كان لا بد من انفصال الزوجين . ولذلك شرع الله الطلاق على الوجه الذي بيناه .
-
مشاركة: كتاب النظام الاجتماعي في الاسلام للامام تقي الدين النبهاني
النسب
اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون المرأة هي محل الحمل والولادة ، ولذلك وجب أن تقصر المرأة في التزوج على رجل واحد ، ومنعت من التزوج بأكثر من زوج . وحرم ذلك عليها حتى يمكن كل شخص أن يعرف من انتسب إليه . وقد عني الشرع بثبوت النسب وبين حكمه أتم بيان .
وأقل مدة الحمل ستة أشهر ، وغالبه تسعة أشهر ، وطوله سنتان ، والزوج إذا ولدت امرأته ولداً يمكن أن يكون منه بأن ولدته لستة أشهر فأكثر من تاريخ زواجه بها فهو ولده ، لقول النبي r " الولد للفراش " . والحاصل : أنه ما دامت المرأة في زوجية الزوج وولدت ولداً بأكثر من ستة أشهر من الزواج فهو ولد الزوج مطلقاً .
إلا أن الزوج إذا ولدت امرأته ولداً لستة أشهر فأكثر وتحقق أن هذا الولد ليس منه فإنه يجوز له أن ينفيه بشروط لا بد من تحقيقها ، فإذا لم تحقق هذه الشروط لا قيمة لنفيه بل يبقى ولده شاء أو أبى . وهذه الشروط هي :
أولاً : أن يكون الذي ينفيه منه قد ولد حياً فلا ينفي نسب الولد إذا نزل ميتاً لأنه لا يلحق نفيه حكم شرعي .
ثانياً : أن لا يكون قد أقر صراحة أو دلالة بأنه ابنه ، فإذا أقر صراحة أو دلالة بأنه ابنه ، فلا يصح أن ينفي نسبه بعد ذلك .
ثالثاً : أن يكون نفي الولد في أوقت مخصوصة وأحوال مخصوصة ، وهي وقت الولادة ، أو وقت شراء لوازمها ، أو وقت علمه بأن زوجته ولدت أن كان غائباً ، ولا ينتفي نسب الولد إذا نفاه في غير هذه الأوقات والأحوال . فإذا ولدت امرأته ولداً فسكت عن نفيه مع إمكانه ، لزمه نسبه ولم يكن له نفيه بعد ذلك . ويتقدر الخيار بمجلس علمه وبإمكان النفي ، فإن علم بالولد وأمكنه نفيه ولم ينفه ثبت نسبه ، لأن رسول الله r يقول : " الولد للفراش " فإن ادعى أنه لا يعلم بالولادة وأمكن صدقه بأن يكون في موضع يخفى عليه ذلك ، مثل أن يكون في محلة أخرى ، أو في بلد آخر ، فالقول قوله مع يمينه ، لأن الأصل عدم العلم . وإن لم يمكن صدقه كأن يكون معها في الدار لم يقبل لأن ذلك لا يكاد يخفى عليه ، وإن قال علمت ولادته ولم أعلم أن لي نفيه ، أو قال علمت ذلك ولم أعلم أن عليَّ أن أنفيه فوراً ، وكان مما يخفى عليه ذلك كعامة الناس ، قبل منه ، لأن هذا الحكم مما يخفى على العامة فأشبه ما لو كان حديث عهد بالإسلام . وكل حكم كان مما يخفى مثله على مثله يعذر الجهل فيه ، كمن هو حديث عهد بالإسلام . وإن كان مما لا يخفى مثل هذه الحكم على مثل ذلك الرجل لا يعذر الجهل فيه .
رابعاً : أن يعقب نفي الولد اللعان أو أن يفيه باللعان ولا ينتفي الولد عنه إلا أن ينفيه باللعان التام .
فإذا تحققت هذه الشروط الأربعة نفي الولد ، والحق بالمرأة ، فقد روى ابن عمر أن رجلاً لاعن امرأته في زمن رسول الله r وانتفى من ولدها ففرق رسول الله بينهما ، والحق الولد بالمرأة . وإذا لم تتحقق شروط نفي الولد فلا ينفى ، ويثبت نسبه من الزوج ، وتجري عليه جميع أحكام البنوة . هذا إذا كان الخلاف على حصول الولادة من الزوج ، إما إذا حصل الخلاف بين الزوجين على حصول الولادة من الزوجة ، بأن ادعت الزوجة أثناء قيام الزوجية بينهما أنها ولدت منه ولداً وجحد الزوج ذلك . بأن قال لم يحصل منك ولادة ، فلها أن تثبت دعواها بشهادة امرأة مسلمة ، وتكفي في هذه الحالة شهادة امرأة واحدة ، لأن النسب ثابت بوجود الفراش . والولادة يصح أن تثبت بشهادة امرأة واحدة مستوفيه شروط الشهادة .
اللعان
اللعان مشتق من اللعن ، لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذباً . والأصل فيه قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ويدراً عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } . وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلاً فرأى بعينه وسمع بأذنيه فلم يهجه حتى أصبح ، ثم غدا على رسول الله r ، فقال : " يا رسول الله إني جئت أهلي فوجدت عندهم رجلاً فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله r ما جاء به ، واشتدت عليه فنزلت { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم } الآيتان كلاهما . فسري عن رسول الله r ، فقال : " أبشر يا هلال قد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً . قال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي تبارك وتعالى . فقال رسول الله r أرسلوا إليها . فأرسلوا إليها . فتلاها عليها رسول الله r وذكرهما وأخرهما أن عذاب الآخر أشد من عذاب الدنيا . فقال هلال والله لقد صدقت عليها . فقالت كذب . فقال رسول r : " لاعنوا بينهما " فقيل لهلال : أشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . فلما كانت الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها . فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم قيل لها اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فلما كانت الخامسة قيل لها اتقى الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة . وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فتلكأت ساعة ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة . أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ففرق رسول الله r بينهما وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت .
فإذا قذف رجل زوجته فقال لها زنيت ، أو يا زانية أو رأيتك تزنين ولم يأت ببينة لزمه الحد إن لم يلتعن . فإن التعن هو ولم تلتعن هي عليها الحد لقول الله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات } ، والعذاب الذي يدرأ عنها هو الحد المذكور في قوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } ، لأن هلالاً بن أمية لما قذف امرأته وأتى النبي r فأخبره أرسل إليها فلاعن بينهما . وهذه حالة خاصة من الحالات التي ثبت فيها الزنا وهي حالة ما إذا رمى الزوج زوجته بالزنا فإنه يثبت بلعانه وعدم لعانها ، فإن لاعنت لا يثبت ، فنكولها عن اللعان يثبت الزنا عليها ، ويوجب عليها الحد بلعانه .
فإذا تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبداً ، وحرمت عليه على التأبيد . لأن النبي r فرق بين المتلاعنين . روى مالك عن نافع عن ابن عمر " أن رجلاً لاعن امرأته في زمن رسول الله r وانتفى من ولدها ففرق الرسول بينهما فألحق الولد بالمرأة " وروى سهل بن سعد قال : " مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً " وهذه الفرقة باللعان فسخ لأنها توجب تحريماً على التأبيد ، فلا تحل له حتى لو أكذب نفسه . إلا أنها إذا عاد وأكذب نفسه فلها عليه الحد ، ويلحقه نسب الولد سواء أكذب نفسه قبل لعانها أو بعده .
واللعان الذي يبرأ به الزوج من الحد ويوجب الحد على الزوجة إن نكلت عن اللعان هو أن يقول الزوج بمحضر من الحاكم أشهد بالله لقد زنت ويشير إليها ، وإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها حتى يكمل ذلك أربع مرات ثم يوقف عند الخامسة ويقال له اتق الله فإنها الموجبة ، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فإن أبى إلا أن يتم فليقل : ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا . وتقول هي : أشهد بالله لقد كذب أربع مرات ثم توقف عند الخامسة ، وتخوف كما خوف الرجل ، فإن أبت إلا أن يتم فلتقل : وغضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به من الزنا . فإن كان بينما ولد ذكر الولد في اللعان ، فإذا قال أشهد بالله لقد زنت ، يقول : وما هذا الولد ولدي . وتقول هي : أشهد بالله لقد كذب ، وهذا الولد ولده .
هذه هي كيفية الملاعنة وهذه هي ألفاظها وجملها ، ولذلك لو أن المرأة ولدت فقال زوجها ليس هذا الولد مني ، أو قال ليس هذا ولدي ، فلا حد عليه لأن هذا ليس بقذف ولكنه يسأل فإن قال زنت فولدت هذا من الزنا ، فهذا قذف يثبت به اللعان . وإن قال أردت أنه لا يشبهني خلقاً ، أو قال وطئت بشبهة والولد من الواطئ ، أو ما شاكل ذلك فلا حد عليه ، ويلحقه نسب الولد ، لأنه لم يقذفها . ولا لعان في هذه المواضع ، لأن من شرط اللعان القذف .
ولاية الأب
لما كان الأب هو رئيس الأسرة ، وهو قائدها والقوام عليها كان لا بد أن تكون له الولاية عليها ، فكان هو الولي على الأولاد . وله الولاية على أولاده الصغار والكبار غير المكلفين ، ذكوراً وإناثاً ، في النفس والمال ، ولو كان الصغار في حضانة الأم أو أقاربها .
والشخص إما أن يكون صغيراً ، وإما أن يكون كبيراً . والكبير إما أن يكون عاقلاً ، أو غير عاقل . فإن كان كبيراً عاقلاً فلا ولاية لأحد عليه من حيث النفس والمال ، بل هو الذي يتولى أمور نفسه . ولكن يبقى حق الولاية للأب . وإن كان صغيراً أو كبيراً غير عاقل ، بأن كان مجنوناً أو معتوهاً ، فإن ولايته لا تكون لنفسه ، لأنه عاجز عن ذلك ، وإنما تكون الولاية عليه لأبيه . وتستمر هذه الولاية ما دام الوصف الموجب لها موجوداً وهو الصغر ، وعدم العقل . فإن بلغ الولد الصغير ، أو شفي الولد الكبير من الجنون والعته ، انقطعت الولاية عنه . وصار هو ولي أمر نفسه ، وتبقى للأب عليهما ولاية ندب واستحباب . لأن له حق الولاية دائماً .
كفالة الطفل
كفالة الطفل فرض لأنه يهلك بتركه ، فهي من قبيل حفظ النفس الذي أوجبه الله ، فيجب حفظه من الهلاك ، وانجاءه من المهالك . إلا أنه مع كون كفالة الطفل فرضاً فإنه يتعلق بها حق قرابته ، لأن فيها استحقاقا للطفل ، فيتعلق بها الحق كما يتعلق بها الواجب . والكفالة حق لكل طفل ، ولكل من أوجب الله عليهم كفالته . وتكون فرضاً على الحاضن إذا تعين هو بعينه . أما حق من أوجب الله عليه الكفالة في أخذ هذه الكفالة فإنه خاص بمن هو أهل لها ، وليس عاماً فلا تثبت الكفالة لمن يضيع الطفل عنده ، فيتعرض تعرضاً حتمياً للهلاك . وعليه فلا تثبت الحضانة لطفل ، ولا معتوه ،لأن كلاً منهما لا يقدر عليها ، وهو نفسه محتاج لمن يكفله ، فكيف يكفل غيره . وكذلك لا تثبت الكفالة لمن يتحقق فيه أن الولد يضيع عنده ، لإهماله له ، أو لانشغاله عنه بأعمال لا تمكنه من حضانته ، أو لاتصافه بصفات كالفسق مثلاً من شأنها أن تنشئ الطفل نشأة فاسدة ، لأن الفساد يعتبر من الهلاك . أما الكافر فلا يتصور أن يكون أباً لولد أمه مسلمه ، لعدم جواز أن تتزوج المسلمة من كافر ، فيتعين إذن أن تكون المستحقة لكفالة الطفل امرأة أماً أو غيرها . وفي هذه الحال ينظر ، فإن كان الطفل كبيراً في سن يعقل فيها الأشياء ، ويدرك الفرق بين معاملة أمه ومعاملة أبيه ، كأن كان فوق سن الفطام فإنه في هذه الحال يخير بين أبويه فأيهما اختاره ضم إليه . لما روى أبو داود عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده رافع بن سنان : " أنه أسلم ، وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي r فقالت : ابنتي وهي فطيم أو شبهه . وقال رافع ابنتي . فقال النبي r : أقعد ناحية . وقال اقعدي ناحية . وقال أدعواها ، فمالت الصبية إلى أمها . فقال النبي r : " اللهم أهدها . فمالت إلى أبيها فأخذها " . وقد روى هذا الحديث أحمد والنسائي بألفاظ أخرى ولكن نفس المعنى الموجود في هذه الرواية .
وإن كان الطفل صغيراً في سن لا يعقل فيها الأشياء ، ولا يدرك الفرق بين معاملة أمه ، ومعاملة أبيه ، بأن كان في سن الفطام وما دونها أو فوقها . ولكن قريباً منها فإنها لا يخير ، بل يضم إلى أمه . وذلك لمفهوم حديث رافع بن سنان المار . ولأن الثابت أن الأم أحق بحضانة الطفل ، ولم يرد نص يمنعها من حضانته . ولا يقال هنا أن الكفالة ولاية فلا تثبت لكافر على مسلم لأن واقعها أنها حضانة وخدمة ، وليست ولاية فلا تنطبق عليها أحكام الولاية .
والأم أحق بكفالة الطفل ، والمعتوه إذا طلقت . لما روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص : " أن النبي قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء ، وثديي له سقاء وحجري له حواء ، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني . فقال رسول الله r أنت أحق به ما لم تنكحي " . وروى ابن أبي شيبة عن عمر أنه طلق أم عاصم ثم أتى عليها ، وفي حجرها عاصم ، فأراد أن يأخذه منها ، فتجاذباه بينهما حتى بكى الغلام ، فانطلقا إلى أبي الصديق فقال " مسحها وحجرها وريحها خير له منك حتى يشب الغلام فيختار لنفسه " . فإن لم تكن الأم من أهل الحضانة لفقدان الشروط التي ذكرت فيها ، أو بعضها كأن كانت متزوجة أو معتوهة ، أو ما شاكل ذلك فهي كالمعدومة ، وتنتقل إلى من يليها في الاستحقاق . ولو كان الأبوان من غير أهل الحضانة انتقلت إلى من يليهما ، لأنهما كالمعدومين . وأولى الكل بالحضانة الأم ، ثم أمهاتها وإن علون يقدم منهن الأقرب فالأقرب ، لأنهن نساء ولادتهن متحققة ، فهي في معنى الأم ، ثم الأب ، ثم أمهاته ثم الجد ، ثم أمهاته ، ثم جد الأب ، ثم أمهاته ، وإن كن غير وارثات ، لأنهن يدلين بعصبة من أهل الحضانة . فإذا انقرض الآباء والأمهات انتقلت الحضانة إلى الأخوات ، وتقدم الأخت لأبوين ، ثم الأخت من الأب ، ثم الأخت من الأم ، وتقدم الأخت على الأخ لأنها امرأة من أهل الحضانة ، فقدمت على من هو في درجتها من الرجال . وإذا لم تكن أخت فالأخ للأبوين أولى ، ثم الأخ للأب ، ثم أبناؤهما ، ولا حضانة للأخ للأم . فإذا عدموا صارت الحضانة للخالات ، فإذا عدمن صارت العمات ، فإذا عدمن صارت الحضانة للعم لأبوين ، ثم للعم للأب ، ولا حضانة للعم من الأم ، فإذا عدموا صارت الحضانة إلى خالات الأم ، ثم إلى خالات الأب ، ثم إلى عمات الأب ، ولا حضانة لعمات الأم لأنهن يدلين باب الأم ولا حضانة له .
ولا تنتقل الحضانة ممن يستحقها إلى من دونه إلا في حالة عدمه ، أو في حالة عدم أهليته . أما إن ترك من له حق الحضانة حضانة الطفل ، فإنه لا تنتقل الحضانة إلى من يليه إلا إذا كانت كفالة الطفل تتحقق فيه ، لأن الحضانة وإن كانت حقاً للحاضن فهي في نفس الوقت واجب عليه ، وحق للمحضون فلا يتأتى له تركها إلا إذا قام بالواجب من هو أهل للقيام به ، وحينئذ تنتقل الحضانة إلى من يلي الحاضن الذي ترك حضانته على الترتيب السابق . وإذا أراد من أسقط حقه في الحضانة الرجوع إلى استيفاء حقه ، وكانت أهليته للحضانة لا زالت قائمة فإن له ذلك ، ويعود الطفل إليه . وكذلك إذا تزوجت الأم ، وسقط حقها في الحضانة ، ثم طلقت رجعت على حقها من كفالة الطفل ، وكذلك كل قرابة تستحق بها الحضانة ومنع منها مانع إذا زال المانع عاد حقهم من الحضانة لأن سببها قائم .
وإذا اختصم جماعة في طفل أيهما أحق بحضانته يرجح من يكون من فرع من هو أحق بالحضانة . فعن البراء بن عازب أن ابنة حمزة اختصم فيها على وجعفر وزيد ، فقال علي أنا أحق بها هي ابنة عمي ، وقال جعفر بنت عمي وخالتها تحتي ، وقال زيد ابن آخى . فقضى بها رسول الله r لخالتها ، وقال : " الخالة بمنزلة الأم " .
وهذا كله في الطفل الذي يحتاج إلى كفالة من أجل حفظه من الهلاك . أما الطفل الذي بإمكانه أن يستغني عن الكفالة ، فإنه باستغنائه تذهب علة كفالته ، وبذهابها يذهب الحكم ، وهو وجوب كفالته وحق قريبه بالكفالة ، وحينئذ ينظر فإن كان الذي له حق الكفالة كالأم كافراً فإنه يؤخذ منه ويعطى لمن له الولاية عليه ، لأن واقعه صار ولاية لا كفالة . والولاية لا تجوز لكافر لقوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } ، ولقوله r : " الإسلام يعلو ولا يعلى عليه " وهو عام ولم يأت ما يخصصه ، لأن حديث الحضانة المخصص لا ينطبق عليه حينئذ لاستغنائه عن الحضانة . وأما إن كان من له الكفالة ، ومن له الولاية مسلمين ، بأن كان الأب والأم مسلمين فإن الغلام أو الجارية ، أي الصبي أو البنت ، يخير بين أبيه وأمه ، فأيهما اختار ضم إليه . لما روى أحد وابن ماجة والترمذي : " عن أبي هريرة أن النبي r خير غلاماً بين أبيه وأمه " . وفي رواية أبي داود : " أن امرأة جاءت فقالت : يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني ، وقد سقاني من بئر أبي عنبة ، وقد نفعني ، فقال رسول الله r : استهما عليه فقال زوجها من يحاقني في ولدي ، فقال النبي r : هذا أبوك ، وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به " . وقد أخرج البيهقي عن عمر أنه خير غلاماً بين أبيه وأمه . وأخرج أيضاً عن علي أنه خير عمارة الجذمي بين أمه وعمته وكان ابن سبع أو ثماني سنين . فهذه الأحاديث صريحة وفيها دليل على أنه إذا تنازع الأب والأم في ابن لهما كان الواجب هو تخييره فمن اختاره ذهب به . أما الاستهام الوارد في رواية أبي داود ، فإنه لم يرد في رواية النسائي ، ولا في باقي الروايات فيحمل على حالة عدم اختيار الولد أحداً منهما . ولا يقيد التخيير بسن معينة ، بل يرجع ذلك إلى الحاكم فيما يراه حسب تقدير الخبراء . فإن قالوا إنه قد استغنى عن الكفالة أي عن الحضانة ، وقنع الحاكم بذلك خيَّره ، وإلا تركه عند من لها حق حضانته . ويختلف ذلك في الأولاد باختلاف حالهم ، فقد يستغني ولد عن الكفالة وسنه خمس سنين ، وقد لا يستغني ولد آخر عنها وسنه تسع سنين . فالعبرة بواقع الولد من حيث استغناؤه عن الكفالة أو عدم استغنائه.
-
مشاركة: كتاب النظام الاجتماعي في الاسلام للامام تقي الدين النبهاني
صلة الرحم
إن الله سبحانه وتعالى حين نهى عن العصبية الجاهلية إنما نهى عن جعل العصبية القبلية هي الرابطة بين أبناء الأمة الإسلامية ، ونهى عن تحكيمها في علاقات المسلمين . ولكنه أمر بصلة الأقارب وبرهم . روي أن رجلاً سأل النبي r من أبر ، قال : " أمك وأباك وأختك وأخاك " وفي لفظ " ومولاك الذي هو أدناك ، حقاً وواجباً ، ورحماً موصولاً " وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت : " أتتني أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذا عاهدوا النبي مع ابنها فاستفتيت النبي r فقلت إن أمي قدمت وهي راغبة . قال نعم صلي أمك " .
وقد جعل الإسلام الأقارب قسمين أحدهما الأقارب الذين يمكن أن يرثوا الشخص إذا مات والثاني أولو الأرحام . أما الذين لهم حق الإرث فهم أصحاب الفروض والعصبات ، أما ذوو الأرحام فهم غير هؤلاء ، وهم من لا سهم له في الميراث وليس بعصبة . وهم عشرة أصناف : الخال والخالة ، والجد لأم ، وولد البنت وولد الأخت ، وبنت الأخ ، وبنت العم ، والعمة ، والعم لأم ، وابن الأخ لأم ومن أدلى بأحد منهم . وهؤلاء لم يجعل الله لهم نصيباً في ميراث الشخص مطلقاً ولا تجب نفقة أي منهم على الشخص . ولكن الله أمر بالصلة والبر بالأقارب جميعاً . فعن جابر رضي الله عنه عن النبي r قال : " إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه فإن كان له فضل فعلى عياله فإن كان له فضل فعلى قرابته " . وعن أبي أيوب الأنصاري أن رجلاً قال : " يا رسول الله . أخبرني بعمل يدخلني الجنة . فقال القوم ما له ، ما له ؟ فقال رسول الله r : أرب ما ، له . فقال النبي : " تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم " . فأمر بصلة الرحم ، ولم يبين هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي وردت بصلة الرحم هل المقصود هم ذوو الأرحام فحسب ، أم هم كل من انتسب إلى رحم الشخص . والظاهر من الأحاديث العموم ، فهو يشمل صلة كل واحد من الأرحام ، سواء أكان رحماً محرما أم رحماً غير محرم من العصبة أو ذوي الأرحام ، فإنهم كلهم يصدق عليهم أنهم ذوو أرحام ، وقد وردت عدة أحاديث في صلة الرحم فقد قال عليه الصلاة والسلام : " لا يدخل الجنة قاطع رحم " . وعن أنس بن مالك أن رسول الله r قال : " من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " ، وينسأ له في أثره أي يؤخر أجله . وعن أبي هريرة عن النبي r قال : " إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ؟ قال : نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى ، قال : فذلك لك ، ثم قال رسول الله r : فاقرؤوا إن شئتم { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} ، وقال عليه السلام : " ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها " . وهذا كله يدل على الحث على صلة الرحم . وصلة الرحم تدل على مبلغ ما شرعه الله من الصلة والود بين الجماعة الإسلامية ، في صلة الأقارب بعضهم مع بعض ، والتعاون بينهم ، وعلى مبلغ عناية الشرع في تنظيم اجتماع المرأة بالرجل ، وتنظيم ما ينشأ عن هذا الاجتماع من علاقات ، وما يتفرع عنه ، فكان الشرع الإسلامي بالأحكام التي شرعت للناحية الاجتماعية في المجتمع خير نظام اجتماعي للإنسان .
إنتهى الكتاب
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى