هذه قصة أخرى من تأليفي بعد قصة "..بعد الحادث"
و نمطه يختلف عن نمط القصة الأولى..
و سوف أضعه على جزئين
أني أثق بما أكتب...أرجوكم لا تخيبوا ظني بكم.
* * * *
يوم الأربعاء
الساعة 8 صباحاً
" لم صباحي مظلم هكذا؟؟..بينما غيري يتمتعون بيوم بهيّ مشرق!! "
لطالما راودني هذا السؤال في كل يوم افتح فيها النافذة وأسدل الستائر ،
ربما لأنني لم اعتد على الشقة الجديدة ، أو ربما... لأنني لم استطع تقبل رحيل زوجي .
-" أمي ...انظري "
أفقت على صوت ابنتي ( ريم )..كانت تتراقص مرتدية ثوب بجعة بيضاء ،
زاد من نور وجهها الطفولي البريء ..بريئة لا تفقه من الدنيا شيئاً،
وما مضى عليها في الحياة سوى ست سنوات..
صغيرتي "ريم " اعتادت أن ترى دموعي وقت الغروب ،
وكم من ليلة دخلت عليها في غرفتها خلسة لأنام بقربها على سريرها الصغير
الذي لا يكفي حتى لشخص واحد بالغ ...
كم أود بقوة أن أعود طفلة..وأكون في عمر ابنتي..حتى لا أحب وافقد من أحببت ..
حتى لا أعرف في دنياي سوي والديّ..و إن رحلا..سأفهم أنهما في عالم آخر بكل سذاجة و طفولية...
لن يؤلمني فراقهما ..ولن يبكيني ابتعادهما..
" أمي..هيا ..تأخرت "
طرف عيناي ، لأجد ابنتي واقفة على الطاولة حتى تبلغ طولي ،ترمقني بنظرة غاضبة ،
ولم أملك سوى أن أقبلها و أحملها بذراعيّ مداعبة و اتجهت بها نحو الباب الخارجي.
" ريم..إياك أن تشتري طعام من أي بائع متجول..وحافظي على فستانك "
بدأت أملي على ابتني شروط النظافة ، رغم علمي أنها حفظته عن ظهر قلب ،
وهي تهز رأسها موافقة دون مبالاة..
وما كدنا نخرج من المبنى حتى اصطدمت بإمرأة مسنة ، ترتدي ثوبا أسودا ،
اعتذرت لها و مضيت مع ابنتي في دربنا نحو مدرستها ...
اعتدنا كل صباح وفي طريقنا نحو المدرسة أن نمر بقرب بحيرة صغيرة ،
وكم كانت صغيرتي منبهرة و مذهولة بهذه البحيرة ،
و ألحت على كثيراُ أن نقوم بنزهة قربها في يوما ما ،
وكنت اعتذر لها بضيق الوقت وبعد المسافة ..
كانت بحيرة صغيرة جميلة ، تبرز روعتها في الخريف
حيث تتساقط أوراق الشجر وتطفو على سطح البحيرة ،
وكلما مررت بجانبها كلما تساءلت في نفسي : " ماذا يفعل هذا الرجل عند البحيرة؟"..
اعتدت أن أراه جالس على كرسي خشبي ، يتأمل البحيرة بنظرة جامدة ،
لا يتغير حاله أبداً ، حتى عند عودتي إلى الشقة أو لحظة ذهابي إلى العمل أو السوق..أراه هناك دائما ..
كالدمية بلا روح ..مقطب الجبين..ساكن العينين .. وبالبذلة السوداء نفسها..
* * * * * *
يوم الخميس
الخامسة عصراً
" أمي...لقد كذبت علي"
قالتها ريم بنبرة غاضبة ، بينما أقوم بغسل الأطباق ، التفت نحوها ،
كانت تقف عند عتبة الباب ، بوجه عابس كعادتها..لم ترق لي كلمتها الأخيرة فأجبتها :
- " ليس من اللائق أن تكذبي من هم أكبر منك ، دون أن تعرفي الحقيقة "
- " لقد عرفت الحقيقة "
حاولت أن أنهي ما بيدي لأصغي إلى صغيرتي ، وحينما فعلت سألتها :
- " وما هي الحقيقة ؟ "
- " قلت لي بالأمس أنك ستصحبينني إلى البحيرة عصراً..وهاهي الآن الشمس ستغرب "
- " والحقيقة؟ ..ما هي الحقيقة التي استنتجتها؟ "
- " أنك في الواقع لا تريدين أن تصحبينني إلى البحيرة "
في الحقيقة لم تعجبني أسلوب ابنتي في الحديث معي ، لقد تغيرت هي الأخرى ،
لكن علي أولاً أن أفي بوعدي لها ، ثم أبين لابنتي فيما بعد الحديث السليم ..
أشعة الشمس ، ظلال الأشجار ، الطيور السابحة ، امتزجت ألونهم بألوان البحيرة ،
والنسيم البارد لامس وجهي الشاحب ، للمرة الأولى أرى الحياة بألوانها ..ا
ختفى اللون الأسود ..رحل أخيراً..كم كنت بعيدة عن هذه البحيرة؟..
وكنت أعلم أن نظرة واحد ستكفكف دموع الحزن من قلبي..
رأيت ابنتي تتراكض هنا وهناك..
وتداعب القطط الأربعة الصغار اللواتي يرفهن عن أنفسهن كذلك باللعب قرب البحيرة ..
ابتسامة ابنتي ، وضحكاتها ألهتني للحظة عن التمتع بهذا المكان ..كانت منذ لحظات عابسة شاحبة وعنيدة ..
يا إلهي!..كنت سأخلف بوعدي لها ..وأحرم نفسي من رؤية هذه السعادة!..
مشيت بمحاذاة الضفة ، وعيني تتنقل بين البحيرة وابنتي ، حتى سقطت نظراتي فجأة على ذاك الرجل ..
رجل البحيرة..لازال في مكانه ..لم يتزحزح قيد أنملة ، ولم تتغير هيئته ، بدا لي كجثة هامدة بلا روح ،
لا شيء في جسمه يتحرك حتى عينيه، عينيه الجاحظتين ، كنت أراقبهما من بعيد ،
ونسيت أن من الأدب اغضاض البصر ،
لكن عينيه الزرقاوين الباهتتين أغفلتني و أخذت حيزاً من اهتمامي ،
لأدرك حينها أن هذا الرجل يخطط لشيء ما..
كل هذه الخواطر اقتحمت رأسي و أنا أتظاهر بتأملي للطبيعة ،
ولا أفتأ أن أنظر إلى عيني هذا الرجل ، وحينما ركضت ابنتي بقربه وهي تتبع القطط الصغار ،
تحركت عيني الرجل نحوها ، وصار يحدق بها بشكل مريب ، وتحولت نظراته من الذهول والحزن ،
إلى الدهشة واستغراب ، وقطب جبينه حتى أوجس مني خيفة ،
وسرت قشعريرة مريرة بين جوانحي ، جعلني أسرع نحو ابنتي واهمس لها :
" حان وقت العودة الآن عزيزتي.."
حملتها على عجل دون أن أرهف سمعي لسماع جواباً منها.
* * * *
يــــــتــــــــــــبــــــع