وراحت سلوى تزورني كل يوم –بعد ذلك – وتملأ جو غرفتي بمرحها وهي ما تفتأ تصوب نحوي نظراتها الجريئة وتداعبني بعباراتها الساخرة ثم تنشر حولي عبير عاطفة فيها حرارة وفيها حنان .
ومع ذلك فإنها ما كانت تخرج من عندي حتى كنت أتسلل إلى النافذة فأرى كوثر واقفة وراء مصراع النافذة وأرى الشاب جالسا قبالتها فتعتصر قلبي يد قاسية وأعود إلى السرير مهموما محزونا !
وقد حدث أن كانت سلوى في حجرتي ذات يوم وطلبت مني كتابا تقرأه فقمت انتقي لها أحد كتبي وإذ لاحظت هي وهني وتضعضعي أمسكت بإحدى يديها يدي ووضعت الأخرى على ظهري فلما أصبحنا أمام النافذة لمحت كوثر مقبلة وما أن رأتنا على هذا الحال حتى امتقع لونها واستدارت –في الحال – وعادت مسرعة .وحينئذ شعرت بشيء غريب شعرت بسعادة تغمر قلبي دفعة واحدة .وبلذة تسيطر على كياني كله وتدغدغه ..وأدركت أن هذه هي لذة الانتقام أو لذة التعذيب ! كان قلبي لا يزال على حبه لها ,ولكنه وجد لذته _مع ذلك_ في أن يعذبها !
ومن ذلك اليوم بدأت أجلس مع سلوى بجانب النافذة وأبهج قلبي بإيلام كوثر وإدماء قلبها !
إلا أنها أدركت –فيما يبدو –غايتي فأغلقت نافذتها مرة أخرى ولمن تفتحها فحرمتني حتى من هذه اللذة التي كانت تنبثق كينبوع ماء في صحراء محرقة ! وعادت النار تلهب قلبي مرة أخرى .وعبثا حاولت أن أحول عاطفته إلى سلوى لأرحمة من هذا الجحيم الذي يتلظى فيه .ولكنه كان كالمؤمن المتعصب الذي يتحمل أقسى أنواع العذاب ولا يتحول إيمانه ! ...ومضت بضعة أيام أخرى وإذ كنت في إحدى الأمسيات جالسا في الشرفة ومعي سلوى وقد انصرفت أختي إلى بعض شأنها في المنزل رأيت النور من خلال نافذة كوثر ثم إذا بها تفتح النافذة وتلتفت إلى ناحيتنا ولمحت بريق عينيها خلال ظلمة الشارع وفي هذه اللحظة قفزت إلى ذهني فكرة جنونية فجذبت سلوى إلى الجزء الذي يسطع فيه نور الحجرة من الشرفة وضممتها إلى صدري وقبلتها ! ...وعندئذ رن في أذني صوت غلق النافذة في شدة فتركت سلوى –وهي ذاهلة مما حدث – والتفت إلى ناحية النافذة المغلقة وقد اختفت كوثر خلفها . فغمرت قلبي لذة وحشية وشعرت بالنار المنطفئة فيه تنطفئ كلها ويحل محلها إحساس الأرض العطشى حين تنسكب فجأة فوقها السيول
ومرت دقيقة واحدة ..وإذا بصرخة تمزق الليل .وحدثني قلبي ,فإذا بي اندفع كالمجنون –حافي القدمين- إلى باب المنزل ,أطوي درجات السلم في طرفة عين ثم اجري –في الشارع – إلى باب المنزل المقابل واصعد درجاته واهجم هجوما على المسكن الواقع في الدور الثاني .وهنالك في الردهة رأيت كوثر تقف ذاهلة والنار تشتعل في كل جسمها ..وأمها تخرج من إحدى الحجرات منفوشة الشعر وفي يدها رداء ثقيل تلقيه عليها وتلفها به ,فلم يبق باديا إلا وجهها وهي تنظر ناحيتي بعينين زائغتين ! ولكن النار امتدت إلى شعرها فاندفعت الأم إلى اقرب غطاء منها ولفت به الرأس أيضا وقد حدث كل ذلك في لحظة خاطفة وقفت فيها جامدا كمن نزلت عليه صاعقة ثم ما لبثت أن صرخت كوثر !
وفطنت أمها إذ ذاك إلى وجودي فالتفت نحوي وقبل أن تنطق كلمة واحدة كنت قد اندفعت إلى داخل البيت فعرفت في الحال مقصدي وجرت خلفي فلم تلحق بي إلا في المطبخ وعلبه الكبريت في يدي فقضيت على جسمي بذراعين قويتين وقالت لي((ماذا تريد أن تفعل بنفسك أنت الآخر ؟.)) ثم دفعتني إلى الردهة وقالت لي ((اطلب الإسعاف )) فانطلقت إلى الخارج وكان السكان الآخرون في هذه اللحظة قد أقبلوا مهرولين فلم أميز منهم أحدا لولا أن والدي وأخي حملاني حملا إلى البيت حتى إذا وصلا إليه أرقداني على السرير
فقفزت منه8 واندفعت إلى المطبخ وأمسكت مرة أخرى بعلة الكبريت لولا أن لحقا بي مع أمي وبقية إخوتي فرحت أحاول –بكل قوتي وأعصابي – أن افلت منهم وهم بين الإشفاق على ضعفي والخوف مما أريد أن اصنع بنفسي !
وظللنا على هذه الحال طويلا حتى إذا عرفوا أن قوتي قد انهارت ابتعدوا عني وحينئذ سقطت على الأرض كما يسقط المقتول وغبت عن الدنيا !