[ الارهابي ]
[ مين فينا الارهابي ] بقلم Seafood
كانت الشمس على وشك المغيب , وكان لون الشفق يلوح في الأفق خلف الجبال .. وهناك .. في سفح أحد الجبال في " تورا بورا " .. كان يقبع مقهى حديث .. وقد جلس في داخله مجموعة من الشباب والشابات الأفغان .. أمام شاشات الكومبيوتر .. وكان هذا هو المقهى الوحيد الذي يمكن الدخول منه إلى الإنترنت في كل الوادي .. وقد أطلق صاحبه عليه إسم " تورا.كوم- بورا.نت"
وقد تم إفتتاح هذا المقهى بُعيد قدوم القوات الأمريكية الغازية , ولا يُعرف من الذي يملكه على التحديد , وحتى من كان يعمل به لم يكونوا من التورابوريين , صحيح كانت ملامحهم قريبة من ملامح سكان الوادي وينطقون الأفغانية بطلاقة , لكن شيئاً ما كان يُشعر من حولهم من مرتادي المقهى بأنهم من طينة أخرى غير الطينة التورابورية ...
وكان تواجد هذا المقهى في هذا المكان بالذات غريباً , صحيح أنه جذاب من الخارج وخاصة صور الفتيات الحسناوت المعلقة على جدرانه .. ولكن هذه الفخامة لم تكن لتنسجم مع ما يحيط بها من جبال ووديان وكهوف وبيوت من طين ..
وهذا التناقض الملحوظ هو ما جعل كل أفغاني يمر بجانب المقهى فيتعجب له , فهو ليس من الطراز الذي إعتاد عليه , ويظل يحوم حوله مرة ومرات قبل أن يفكر في الدخول إليه . وبعضهم , وخاصة المتقدمين في السن منهم , كان يقف بالساعات أمامه يحملق من خلال زجاج المقهى ليعرف ما الذي يدور بداخله .. وكأنه صندوق الدنيا ... أو طبق طائر قد هبط عليهم من كوكب آخر ...
وأكثر شيئ كان يحيرهم فيه أنهم كانوا لا يعرفون ما هذه الصناديق البيضاء التي يجلس الشباب أمامها بالساعات وهم يلعبون بأصابعهم على لوح آخر أبيض , وبعض هؤلاء الشباب كان يجلس مشدوداً طوال الوقت تتنقل عينيه بين اللوح والصندوق في حركات متتابعة , وبدو وكأنهم يتحدثون إلى الصندوق , بينما نظراتهم تتراوح بين الشك والريبة , والإبتسامة والضحكة , والحنق الذي كان يدفع بعضهم إلى أنه يكاد أن يكسر اللوح الذي أمامه وهو يضغط عليه باصابعه ..
كان الشباب والشابات قد دخلوا جميعاً كالعادة على الموقع المفضل لديهم , وهو موقع لأحد ساحات الحوار الأفغانية على الإنترنت .. كان الموقع يدعى " شؤون قندهارية " , وكان الوقت في أعقاب تفجيرات مارس , أو ما بات يعرف في جندهار بــ "غزوة مدريد" .. وقد كان هذا الوقت مفعماً بالمناقشات الحادة حول عمليات التفجير هذه , ومن الذي وراءها , وأين ومتى ستكون الغزوة القادمة .. وأنشغل الشباب المتحمس بالتحليلات , وإبداء الآراء وخاصة على هذا الموقع الحواري الجندهاري الذائع الصيت في الوسط الأفغاني , فقد كان يرتاده كثير من المثقفين التنويريين الأفغان ...
وفي هذه الأثناء كان هناك على الجانب الآخر من الكرة الأرضية , فتيً شاب من أبناء مدريد كان قد درس اللغة الأفغانية وهو في الجامعة في مدريد , وهو أمر غريب بحق أن يهتم شاب مدريدي باللغة الأفغانية فيعكف على دراستها ...
لكن هذا الفتى كان قد بدأ نظره يتحول إلى هذا الجزء من الكرة الأرضية عندما كان طالباً في الإبتدائية في مدرسة "سانتا ماريا دو كامينيو" بأحدى ضواحي "سانتياجو دي كومبوستيللا" على شاطئ الأطلنطي , وكان له في ذلك الوقت صديق , وكان هذا الصديق من أبوين أفغانيين . وكان أبوصديقه قد هاجر هو وأسرته في أعقاب غزو السوفيت لأفغانستان , وظل يتنقل بين العواصم الأوروبية بحثاً عن عمل إلى أن أستقر به المقام في أسبانيا . وقد كانت تربطه بعائلة هذا الصديق علاقة حميمة .. فكان كثيراً ما يذهب إليه في بيته , ويلعب معه هو وأخوته الأفغان .. ثم يتناول معهم الأطعمة وخاصة الأرز الأفغاني الشهير ,
كان هذا الفتى المدريدي النشأة يدعي "فيرديناندو جارسيا مارتينيذ" , وهو شاب في العشرينيات من عمره .. ومتفتح الزهن متقده , ويبدو أنه كان له أصولاً عربية قد ورثها من أحد أبويه , وتبدو واضحة جلية في ملامح وجهه المائل إلى السمرة , وعيناه الواسعتين اللتين تتقدا حماساً .. على غير هيئة سكان هذا الجزء الشمالي الغربي من أسبانيا ..
وقد كان لهذا الأصل وهذه النشأة أثراً في تكوين شخصية "فيرديناندو", فقد نشأ مختلفاً عن أقرانه , وكان ودوداً محباً للغير عطوفاً على كل من حوله , يساعد كل من يراه في حاجة إلى المساعدة حتى دون أن يسأله أحد , وعندما كبر كان متعاطفاً مع دول العالم الثالث الفقيرة , وأحس بالظلم الواقع عليها , وقد دفعه هذا للإنضمام إلى جمعيات حقوق الإنسان في أسبانيا .. وجمعيات مناهضة العولمة ..
وكان لفيرديناندو نظرة خاصة في الأحداث التي تدور حوله , لم يكن ليدع للإعلام حوله أن يؤثر على رؤيته للأمور , وكان شغوفاً بالبحث والتحري حتى يصل إلى الحقيقة من مصادرها , وهذا قد جعل منه مفكراً من الطراز الأول , فلأول وهلة من الحديث معه , توقن بأن هذا الإنسان يفكر قبل أن يتحدث , ولا يدع لسانه يسبق عقله ...
وكانت له أيضاً نظرة غير تقليدية في "أثنار" , إذ كان يرى أنه أسوأ من فرانكو الدكتاتور في زمانه , وكان مقتنعاً أن أسبانيا قد خسرت كثيراً في عهد أثنار , وخاصة بسبب التبعية الغير مبررة لأمريكا , والتي دفعت بأثنار إلى أن يلقي بجنوده الأسبان في حربين لا طائل من ورائها , يُقتل فيها أبرياء , وكان كلما تذكر أن هناك جنوداً أسبان يشاركون في قتل الأفغان , أصابته غصة في حلقه , لأنه كان يتذكر على الفور الأرز الأفغاني الذي كان يتناوله مع صديقه الأفغاني " مسعود " .. أو كما كان يناديه هو " مسؤد "
ورغم عدم توافقه مع الحزب الإشتراكي إلا أنه كان على إستعداد للتصويت له في الإنتخابات , حتى ينزاح "أثنار" وحزبه من الساحة , بل أنه كان على إستعداد ليصوت في صالح "فرانكو" لو عاد إلى الحياة من جديد , فعلى الأقل كان لأسبانيا في عهده وضع في العالم , و لم تكن مجرد ذيل لأمريكا , لا بل هي لم تصل بعد إلى مقام الذيل , لأن الذيل أخذته إنجلترا عن إستحقاق ورضيت به ...
على أي حال فقد كان "فيرديناندو" شغوفاً بمعرفة أخبار أفغانستان وخاصة في هذه الفترة .. فكان يحلو له أن يتصفح المواقع الأفغانية على قلتها .. وذات يوم وبالصدفة عثر على هذا الموقع الحواري , "شؤون جندهارية" , وكان باللغة البشتونية التي يتقنها .. فبرقت عيناه وكأنه قد عثر على كنز , وقرر فيرديناندو الدخول إليه والتسجيل فيه , وإختار أن يكون لقبه " فيرديناندو لابومبا " حتى يلفت الأنظار إليه كعضو جديد ...
أخذ فيرديناندو يتصفح الموقع , بعد أن سجل فيه , فأُعجب بالمواضيع المثارة فيه .. وإستقر رأيه على أن يشارك أول ما يشارك, في موضوع ساخن , بلغ عدد صفحاته العشرين , والمشاركين فيه بالعشرات , ومشاهدته تعدت البضع ألاف ..
فقال " فيرديناندو لابومبا " في نفسه .. لا بد أن أدخل في هذا الحوار .. خاصةً بعد أن قرأ عنوان الموضوع المثير .. فلم يكن يتصور أنه سيجد في قلب "جندهار" نفسها , من يفتح موضوعات بهذه الجرأة ,...
وكان عنوان الموضوع ...
" إستفتاء : أنقذوا مدريد من سفاحي تورا بور ... "
لأول وهلة إعتقد "فيرديناندو لابومبا" , أن لغته الأفغانية قد خانته , وأنه لم يعد يعرف الفاعل من المفعول به فيها , ولكنه تأكد من صحة النحو في الجملة , فقال في نفسه ربما أن كاتب المقال يقصد " أنقذو تورا بورا من سفاحي مدريد ".. وخانه التعبير فعكس الجملة ..
على أي حال , فقد قرر "فيرديناندو لابومبا" أن يدخل إلى الموضوع لقراءته أولاً قبل أن يشارك فيه , وقد يفسر له المحتوى إن كان هو من خانته اللغة , أم أن كاتب الموضوع هو من خانه التعبير ...
لكن بمجرد أن دخل إلى الموضوع ليقرأه , عرف أن العنوان ليس فيه خيانة , فقد رأى في أول القصيدة شيئ آخر ... شيئ غير الخيانة ..
كان كاتب المقال ويدعى ... "خان الأفغان خان" .. قد بدأ موضوعه قائلاً ..
ما ذنب الأبرياء في مدريد , ما ذنب هؤلاء النسوة والأطفال والشيوخ والأبرياء الذين كانوا متوجهين إلى أعمالهم , فتشردوا وتيتموا , ومات عائلهم ... الويل لكم أيها الأفغان , الويل لكم من عقاب رب السماء , الويل لكم كيف تؤيدون قتل الأبرياء , وتفتحوا المواضيع تلو المواضيع التي تمجد في القتلة والإرهابيين ...
كانت هذه هي الكلمات التي بدأ بها الموضوع .. والتي كانت كفيلة بأن تتوالى الردود على العضو .. " خان الأفغان خان " .. كالمطر في غابات الأمازون ....