خامساً : العقوبة :
92 - يراد بالعقوبة هنا : الجزاء المترتّب على من أفطر عمداً في رمضان من غير عذر ، فهي من لوازم الإفطار وموجباته .
وفي عقوبة المفطر العامد ، من غير عذر ، خلاف وتفصيل :
فمذهب الحنفيّة أنّ تارك الصّوم كتارك الصّلاة ، إذا كان عمداً كسلاً ، فإنّه يحبس حتّى يصوم ، وقيل : يضرب في حبسه ، ولا يقتل إلاّ إذا جحد الصّوم أو الصّلاة ، أو استخفّ بأحدهما .
ونقل ابن عابدين عن الشرنبلالي ، أنّه لو تعمّد من لا عذر له الأكل جهاراً يقتل ، لأنّه مستهزئ بالدّين ، أو منكر لما ثبت منه بالضّرورة ، ولا خلاف في حلّ قتله ، والأمر به . وأطلق ابن جزيّ من المالكيّة في العقوبة قوله : هي للمنتهك لصوم رمضان .
وقال خليل : أدّب المفطر عمداً .
وكتب عليه الشّرّاح : أنّ من أفطر في أداء رمضان عمداً اختياراً بلا تأويل قريب ، يؤدّب بما يراه الحاكم : من ضرب أو سجن أو بهما معاً ، ثمّ إن كان فطره بما يوجب الحدّ ، كزنىً وشرب خمر ، حدّ مع الأدب ، وقدّم الأدب .
وإن كان فطره يوجب رجماً ، قدّم الأدب ، واستظهر المسناويّ سقوط الأدب بالرّجم ، لإتيان القتل على الجميع .
ومفهومه : أنّه إن كان الحدّ جلداً ، فإنّه يقدّم على الأدب - كما قال الدّسوقيّ - فإن جاء المفطر عمداً ، قبل الاطّلاع عليه ، حال كونه تائباً ، قبل الظّهور عليه ، فلا يؤدّب . والشّافعيّة نصّوا - بتفصيل - على أنّ من ترك صوم رمضان ، غير جاحد ، من غير عذر كمرض وسفر ، كأن قال : الصّوم واجب عليّ ، ولكن لا أصوم حبس ، ومنع من الطّعام والشّراب نهاراً ، ليحصل له صورة الصّوم بذلك .
قالوا : وأمّا من جحد وجوبه فهو كافر ، لأنّ وجوب صوم رمضان معلوم من أدلّة الدّين بالضّرورة : أي علماً صار كالضّروريّ في عدم خفائه على أحد ، وكونه ظاهراً بين المسلمين .
سادساً : قطع التّتابع :
93 - التّتابع هو : الموالاة بين أيّام الصّيام ، بحيث لا يفطر فيها ولا يصوم عن غير الكفّارة .
تتأثّر مدّة الصّوم الّتي يشترط فيها التّتابع نصّاً ، بالفطر المتعمّد ، وهي - بعدّ الكاسانيّ - : صوم رمضان ، وصوم كفّارة القتل ، وكفّارة الظّهار ، والإفطار العامد في رمضان ، وصوم كفّارة اليمين - عند الحنفيّة .
صوم المحبوس إذا اشتبه عليه شهر رمضان :
94 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من اشتبهت عليه الشّهور لا يسقط عنه صوم رمضان ، بل يجب لبقاء التّكليف وتوجّه الخطاب .
فإذا أخبره الثّقات بدخول شهر الصّوم عن مشاهدة أو علم وجب عليه العمل بخبرهم ، وإن أخبروه عن اجتهاد منهم فلا يجب عليه العمل بذلك ، بل يجتهد بنفسه في معرفة الشّهر بما يغلب على ظنّه ، ويصوم مع النّيّة ولا يقلّد مجتهداً مثله .
فإن صام المحبوس المشتبه عليه بغير تحرّ ولا اجتهاد ووافق الوقت لم يجزئه ، وتلزمه إعادة الصّوم لتقصيره وتركه الاجتهاد الواجب باتّفاق الفقهاء ، وإن اجتهد وصام فلا يخلو الأمر من خمسة أحوال :
الحال الأولى : استمرار الإشكال وعدم انكشافه له ، بحيث لا يعلم أنّ صومه صادف رمضان أو تقدّم أو تأخّر ، فهذا يجزئه صومه ولا إعادة عليه في قول الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، والمعتمد عند المالكيّة ، لأنّه بذل وسعه ولا يكلّف بغير ذلك ، كما لو صلّى في يوم الغيم بالاجتهاد ، وقال ابن القاسم من المالكيّة : لا يجزيه الصّوم ، لاحتمال وقوعه قبل وقت رمضان .
الحال الثّانية : أن يوافق صوم المحبوس شهر رمضان فيجزيه ذلك عند جمهور الفقهاء ، قياساً على من اجتهد في القبلة ، ووافقها ، وقال بعض المالكيّة : لا يجزيه لقيامه على الشّكّ ، لكن المعتمد الأوّل .
الحال الثّالثة : إذا وافق صوم المحبوس ما بعد رمضان فيجزيه عند جماهير الفقهاء ، إلاّ بعض المالكيّة كما تقدّم آنفاً ، واختلف القائلون بالإجزاء : هل يكون صومه أداءً أو قضاءً ؟ وجهان ، وقالوا : إن وافق بعض صومه أيّاماً يحرم صومها كالعيدين والتّشريق يقضيها . الحال الرّابعة : وهي وجهان :
الوجه الأوّل : إذا وافق صومه ما قبل رمضان وتبيّن له ذلك ولمّا يأت رمضان لزمه صومه إذا جاء بلا خلاف ، لتمكّنه منه في وقته .
الوجه الثّاني : إذا وافق صومه ما قبل رمضان ولم يتبيّن له ذلك إلاّ بعد انقضائه ففي إجزائه قولان :
القول الأوّل : لا يجزيه عن رمضان بل يجب عليه قضاؤه ، وهذا مذهب المالكيّة والحنابلة ، والمعتمد عند الشّافعيّة .
القول الثّاني : يجزئه عن رمضان ، كما لو اشتبه على الحجّاج يوم عرفة فوقفوا قبله ، وهو قول بعض الشّافعيّة .
الحال الخامسة : أن يوافق صوم المحبوس بعض رمضان دون بعض ، فما وافق رمضان أو بعده أجزأه ، وما وافق قبله لم يجزئه ، ويراعى في ذلك أقوال الفقهاء المتقدّمة . والمحبوس إذا صام تطوّعاً أو نذراً فوافق رمضان لم يسقط عنه صومه في تلك السّنة ، لانعدام نيّة صوم الفريضة ، وهو مذهب الحنابلة والشّافعيّة والمالكيّة .
وقال الحنفيّة : إنّ ذلك يجزيه ويسقط عنه الصّوم في تلك السّنة ، لأنّ شهر رمضان ظرف لا يسع غير صوم فريضة رمضان ، فلا يزاحمها التّطوّع والنّذر .
صوم المحبوس إذا اشتبه عليه نهار رمضان بليله :
95 - إذا لم يعرف الأسير أو المحبوس في رمضان النّهار من اللّيل ، واستمرّت عليه الظّلمة ، فقد قال النّوويّ : هذه مسألة مهمّة قلّ من ذكرها ، وفيها ثلاثة أوجه للصّواب : أحدها : يصوم ويقضي لأنّه عذر نادر .
الثّاني : لا يصوم ، لأنّ الجزم بالنّيّة لا يتحقّق مع جهالة الوقت .
الثّالث : يتحرّى ويصوم ولا يقضي إذا لم يظهر خطؤه فيما بعد ، وهذا هو الرّاجح .
ونقل النّوويّ وجوب القضاء على المحبوس الصّائم بالاجتهاد إذا صادف صومه اللّيل ثمّ عرف ذلك فيما بعد ، وقال : إنّ هذا ليس موضع خلاف بين العلماء ، لأنّ اللّيل ليس وقتاً للصّوم كيوم العيد .
صَوْمُ التَّطوّع *
التّعريف :
1 - الصّوم لغةً : مطلق الإمساك .
واصطلاحاً : إمساك عن المفطرات حقيقةً أو حكماً في وقت مخصوص من شخص مخصوص مع النّيّة .
والتّطوّع اصطلاحاً : التّقرّب إلى اللّه تعالى بما ليس بفرض من العبادات .
وصوم التّطوّع : التّقرّب إلى اللّه تعالى بما ليس بفرض من الصّوم .
فضل صوم التّطوّع :
2 - ورد في فضل صوم التّطوّع أحاديث كثيرة ، منها :
حديث سهل رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » إنّ في الجنّة باباً يقال له : الرّيّان ، يدخل منه الصّائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم . فيقال : أين الصّائمون ؟ فيقومون ، لا يدخل منه أحد غيرهم . فإذا دخلوا أغلق ، فلم يدخل منه أحد «
ومنها ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : » من صام يوماً في سبيل اللّه باعد اللّه تعالى وجهه عن النّار سبعين خريفاً « .
أنواع صوم التّطوّع :
3 - قسّم الحنفيّة صوم التّطوّع إلى مسنون ، ومندوب ، ونفل .
فالمسنون : عاشوراء مع تاسوعاء .
والمندوب : صوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر ، وصوم يوم الاثنين والخميس ، وصوم ستّ من شوّال ، وكلّ صوم ثبت طلبه والوعد عليه : كصوم داود عليه الصلاة والسلام ، ونحوه . والنّفل : ما سوى ذلك ممّا لم تثبت كراهته .
وقسّم المالكيّة - أيضاً - صوم التّطوّع إلى ثلاثة أقسام :
سنّة ، ومستحبّ ، ونافلة .
فالسّنّة : صيام يوم عاشوراء .
والمستحبّ : صيام الأشهر الحرم ، وشعبان ، والعشر الأول من ذي الحجّة ، ويوم عرفة ، وستّة أيّام من شوّال ، وثلاثة أيّام من كلّ شهر ، ويوم الاثنين والخميس .
والنّافلة : كلّ صوم لغير وقت ولا سبب ، في غير الأيّام الّتي يجب صومها أو يمنع .
وعند الشّافعيّة والحنابلة : صوم التّطوّع والصّوم المسنون بمرتبة واحدة .
أحكام النّيّة في صوم التّطوّع :
أ - وقت النّيّة :
4 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه لا يشترط تبييت النّيّة في صوم التّطوّع ، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : » دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : هل عندكم شيء ؟ فقلنا :لا ، فقال : فإنّي إذاً صائم « وذهب المالكيّة إلى أنّه يشترط في نيّة صوم التّطوّع التّبييت كالفرض .
لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » من لم يبيّت الصّيام من اللّيل فلا صيام له « فلا تكفي النّيّة بعد الفجر ، لأنّ النّيّة : القصد ، وقصد الماضي محال عقلاً .
5- واختلف جمهور الفقهاء في آخر وقت نيّة التّطوّع :
فذهب الحنفيّة : إلى أنّ آخر وقت نيّة صوم التّطوّع الضّحوة الكبرى . والمراد بها : نصف النّهار الشّرعيّ ، والنّهار الشّرعيّ : من استطارة الضّوء في أفق المشرق إلى غروب الشّمس ، ونصّوا على أنّه لا بدّ من وقوع النّيّة قبل الضّحوة الكبرى ، فلا تجزئ النّيّة عند الضّحوة الكبرى اعتباراً لأكثر اليوم كما قال الحصكفيّ .
وذهب الشّافعيّة : إلى أنّ آخر وقت نيّة صوم التّطوّع قبل الزّوال ، واختصّ بما قبل الزّوال لما روي :» أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة يوماً : هل عندكم شيء ؟ قالت: لا . قال : فإنّي إذن صائم « . إذ الغداء اسم لما يؤكل قبل الزّوال ، والعشاء اسم لما يؤكل بعده ، ولأنّه مضبوط بيّن ، ولإدراك معظم النّهار به كما في ركعة المسبوق .
قال الشّربينيّ الخطيب : وهذا جرى على الغالب ممّن يريد صوم النّفل وإلاّ فلو نوى قبل الزّوال - وقد مضى معظم النّهار - صحّ صومه .
وذهب الحنابلة - والشّافعيّة في قول مرجوح - إلى امتداد وقت النّيّة إلى ما بعد الزّوال ، قالوا : إنّه قول معاذ وابن مسعود وحذيفة ، ولم ينقل عن أحد من الصّحابة - رضي الله عنهم - ما يخالفه صريحاً ، ولأنّ النّيّة وجدت في جزء النّهار ، فأشبه وجودها قبل الزّوال بلحظة .
ويشترط لصحّة نيّة النّفل في النّهار : أن لا يكون فعل ما يفطره قبل النّيّة ، فإن فعل فلا يجزئه الصّوم حينئذ .
ب - تعيين النّيّة :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يشترط في نيّة صوم التّطوّع التّعيين ، فيصحّ صوم التّطوّع بمطلق النّيّة ، وقال النّوويّ : وينبغي أن يشترط التّعيين في الصّوم المرتّب ، كصوم عرفة ، وعاشوراء ، والأيّام البيض ، والسّتّة من شوّال ، ونحوها ، كما يشترط ذلك في الرّواتب من نوافل الصّلاة .
والمعتمد عند الشّافعيّة خلاف ما صرّح به النّوويّ ، قال المحلّيّ : ويجاب بأنّ الصّوم في الأيّام المذكورة منصرف إليها ، بل لو نوى به غيرها حصلت أيضاً - كتحيّة المسجد - لأنّ المقصود وجود الصّوم فيها ، قال القليوبيّ : هذا الجواب معتمد من حيث الصّحّة ، وإن كان التّعيين أولى مطلقاً .
ما يستحبّ صيامه من الأيّام :
أ - صوم يوم وإفطار يوم :
7 - من صيام التّطوّع صوم يوم وإفطار يوم ، وهو أفضل صيام التّطوّع ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » أحبّ الصّلاة إلى اللّه صلاة داود عليه السلام ، وأحبّ الصّيام إلى اللّه صيام داود : وكان ينام نصف اللّيل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، ويصوم يوماً ويفطر يوماً« .
ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما : » صم يوماً وأفطر يوماً ، فذلك صيام داود عليه السلام ، وهو أفضل الصّيام ، فقلت : إنّي أطيق أفضل من ذلك. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : لا أفضل من ذلك « .
قال البهوتيّ : لكنّه مشروط بأن لا يضعف البدن حتّى يعجز عمّا هو أفضل من الصّيام ، كالقيام بحقوق اللّه تعالى وحقوق عباده اللازمة ، وإلاّ فتركه أفضل .
ب - صوم عاشوراء وتاسوعاء :
8 - اتّفق الفقهاء على سنّيّة صوم عاشوراء وتاسوعاء - وهما : اليوم العاشر ، والتّاسع من المحرّم - لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في صوم عاشوراء : » أحتسب على اللّه أن يكفّر السّنة الّتي قبله « .
ولحديث معاوية رضي الله عنه قال : سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : » هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب اللّه عليكم صيامه ، وأنا صائم ، فمن شاء فليصم ، ومن شاء فليفطر« .
وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التّاسع « .
وقد كان صوم يوم عاشوراء فرضاً في الإسلام ، ثمّ نسخت فرضيّته بصوم رمضان ، فخيّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين في صومه ، وهو اختيار كثيرين واختيار الشّيخ تقيّ الدّين من الحنابلة ، وهو الّذي قاله الأصوليّون .
وصوم يوم عاشوراء - كما سبق في الحديث الشّريف - يكفّر ذنوب سنة ماضية . والمراد بالذّنوب : الصّغائر ، قال الدّسوقيّ : فإن لم يكن صغائر ، حتّت من كبائر سنة ، وذلك التّحتيت موكول لفضل اللّه ، فإن لم يكن كبائر رفع له درجات .
وقال البهوتيّ : قال النّوويّ في شرح مسلم عن العلماء : المراد كفّارة الصّغائر ، فإن لم تكن له صغائر رجي التّخفيف من الكبائر ، فإن لم تكن له كبائر رفع له درجات .
وصرّح الحنفيّة : بكراهة صوم يوم عاشوراء منفرداً عن التّاسع ، أو عن الحادي عشر . كما صرّح الحنابلة : بأنّه لا يكره إفراد عاشوراء بالصّوم ، وهذا ما يفهم من مذهب المالكيّة.
قال الحطّاب : قال الشّيخ زرّوق في شرح القرطبيّة : واستحبّ بعض العلماء صوم يوم قبله ويوم بعده ، وهذا الّذي ذكره عن بعض العلماء غريب لم أقف عليه .