إن أصحاب السفينة سيعتبرونخرق سفينتهم مصيبة جاءتهم، بينما هي نعمة تتخفى في زي المصيبة.. نعمة لن تكشفالنقاب عن وجهها إلا بعد أن تنشب الحرب ويصادر الملك كل السفن الموجودة غصبا، ثميفلت هذه السفينة التالفة المعيبة.. وبذلك يبقى مصدر رزق الأسرة عندهم كما هو، فلايموتون جوعا.
أيضا سيعتبر والد الطفلالمقتول وأمه أن كارثة قد دهمتهما لقتل وحيدهما الصغير البريء.. غير أن موته يمثلبالنسبة لهما رحمة عظمى، فإن الله سيعطيهما بدلا منه غلاما يرعاهما في شيخوختهماولا يرهقهما طغيانا وكفرا كالغلام المقتول.
وهكذا تختفي النعمة فيثياب المحنة، وترتدي الرحمة قناع الكارثة، ويختلف ظاهر الأشياء عن باطنها حتى ليحتجنبي الله موسى إلى تصرف يجري أمامه، ثم يستلفته عبد من عباد الله إلى حكمة التصرفومغزاه ورحمة الله الكلية التي تخفي نفسها وراء أقنعة عديدة.
أما الجدار الذي أتعب نفسهبإقامته، من غير أن يطلب أجرا من أهل القرية، كان يخبئ تحته كنزا لغلامين يتيمينضعيفين في المدينة. ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أنيدفعا عنه.. ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما،فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته.
ثم ينفض الرجل يده منالأمر. فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف. وهو أمر الله لا أمره. فقد أطلعه علىالغيب في هذه المسألة وفيما قبلها، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه منغيبه.
واختفى هذا العبد الصالح.. لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول.. إلا أن موسى تعلم من صحبته درسينمهمين:
تعلم ألا يغتر بعلمه فيالشريعة، فهناك علم الحقيقة.
وتعلم ألا يتجهم قلبهلمصائب البشر، فربما تكون يد الرحمة الخالقة تخفي سرها من اللطف والإنقاذ، والإيناسوراء أقنعة الحزن والآلام والموت.
هذه هي الدروس التي تعلمهاموسى كليم الله عز وجل ورسوله من هذا العبد المدثر بالخفاء.
والآن من يكون صاحب هذا العلم إذن..؟ أهو ولي أم نبي..؟
يرى كثير من الصوفية أنهذا العبد الرباني ولي من أولياء الله تعالى، أطلعه الله على جزء من علمه اللدنيبغير أسباب انتقال العلم المعروفة.. ويرى بعض العلماء أن هذا العبد الصالح كاننبيا.. ويحتج أصحاب هذا الرأي بأن سياق القصة يدل على نبوته من وجوه:
1. أحدها قولهتعالى:
فَوَجَدَاعَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنلَّدُنَّا عِلْمًا(65) (الكهف)
2. والثاني قول موسىله:
قَالَلَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا(66)قَالَ إِنَّكَ لَنتَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا(67)وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا(68)قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُصَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا(69)قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىأُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا(70) (الكهف)
فلو كان وليا ولم يكن نبي،لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة، ولم يرد على موسى هذا الرد. ولو أنه كان غير نبي،لكان هذا معناه أنه ليس معصوما، ولم يكن هناك دافع لموسى، وهو النبي العظيم، وصاحبالعصمة، أن يلتمس علما من ولي غير واجب العصمة.
3. والثالث أن الخضر أقدمعلى قتل ذلك الغلام بوحي من الله وأمر منه.. وهذا دليل مستقل على نبوته، وبرهانظاهر على عصمته، لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى فيخلده، لأن خاطره ليس بواجب العصمة.. إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق.. وإذن ففي إقدامالخضر على قتل الغلام دليل نبوته.
4. والرابع قول الخضرلموسى:
رَحْمَةًمِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
يعني أن ما فعلته لم أفعلهمن تلقاء نفسي، بل أمر أمرت به من الله وأوحي إلي فيه.
فرأى العلماء أن الخضرنبيا، أما العباد والصوفية رأوا أنه وليا من أولياء الله.
ومن كلماتالخضر التي أوردها الصوفية عنه.. قول وهب بن منبه: قال الخضر: يا موسى إن الناسمعذبون في الدنيا على قدر همومهم بها. وقول بشر بن الحارث الحافي.. قال موسى للخضر: أوصني.. قال الخضر: يسر الله عليك طاعته.
ونحننميل إلى اعتباره نبيا لعلمه اللدني، غير أننا لانجد نصا في سياق القرآن على نبوته، ولا نجد نصا مانعا من اعتباره وليا آتاه اللهبعض علمه اللدني.. ولعل هذا الغموض حول شخصه الكريم جاء متعمدا، ليخدم الهدف الأصليللقصة.. ولسوف نلزم مكاننا فلا نتعداه ونختصم حول نبوته أو ولايته.. وإن أوردناه فيسياق أنبياء الله، لكونه معلما لموسى.. وأستاذا له فترة منالزمن.