آخر قطرات الندى
الفصل الأول
هي لا تدري..
لقد بلغ بها الفقر أن سقطت طريحة الفراش مرضا، كـانت تتمنى الموت أحيــانا، ثم ترتد عن رأيها في بكــاء، عندما تلمح صغيرتها (رحـاء) و قد ملأت عيناها الدموع.. المسكينة، أمّ أرملة يُعْوِزها كل ما في هذه الدنيا عن الحيـاة، قبل أيـام، كانت قد باعت آخر ديك تملكه، ورغم جُهدها في أن تتقشّف عن ما لديها من الدريهمـات، إلا أنها لم تستطع التقشف عن الخبز، فهو لقمتها الوحيدة هاهنا...
قرية منعزلة بالريف، سكـانها القليلون أنهكهم الجفاف و الجوع فسارعوا بالهجرة نحو أقرب مدينة يعلوها دخّـان المصــانع، لم يبق غير الأرملة و ابنتها وعجوز تسكن كوخا على حافة القرية، ما كانت لتبقى هي الأخرى لولا أن ليس لديها ما يكفي من المال للارتحال بعيدا عن هذا اليابس الأصفر..
خرجت (رحاء)، وهي ابنة الثالثة عشر من عمرها، هذا الصباح قبل بُزوغ الفجر، و كانت تمشي بدون أن تهتدي لأي سبيل، الأبواب أمامها مسدودة بإحكــام، خطرت لها فكرة أن تجمع بعض الحطب، لعل أحدا يُشفق عليها غدا بالسوق فيبتاعه منها، و هكذا صارت الأمور.. و هي تعود أدراجها نحو القرية كانت تعلوها البسمة، تبدو زاهية جدا كوردة بيضاء وسط صحراء قاحلة، هي مسرورة بقطعة الخبز المحشو سمنا و الذي تنوي أن تحمله لأمها المريضة، فكرت في أن تعطيها إياه بأكمله و تصبر هي على الجوع، آخذة بعذر أنها صلبة و شابة صبور لا تُقهر، و هي الأخرى صغيرة رقيقة لا تحتمل المزيد... آه منك يا دُنيانا و آه منك أيها القدر، أتدرون على أي حــال وجدت أمها ؟.. كلا لم تكن تحتضر، و لم تكن قد وافتها المنية.. لأنها مُزّقت إربا إربا.. كانت الدماء تُغطي جسدها الذي لم يبقى منه غير العظام المتناثرة.. أ أكلتها الذئــاب ؟ يا ليت، بل أكلتها كلاب القرية الجائعة، من تذكرهم و من فكر فيهم.. إنه الانتقام.. إنه الجوع الشديد.. إنه القدر..
خرّت على رُكبتيها و قد تصلبت يداها على قطعة الخبز المر، حملقت بعيناها الواسعتين كثـيرا ولم تذرف دمعة واحدة.. وكيف لها ذلك ؟.. آخر ما يقع في الحُسبان.. حقا إن المصائب لا تأتي فُرادى.. بلعت ريقها واستجمعت قواها، و الحسرة تنهش قلبها، و الظلام يُخيم على عينيها، مشت بخطوات مترنحة و نسيم الغروب يُداعب شعرها النــاعم و فجأة... انفجرت باكية و قد ارتمت على كومة من القش... ابكي، أرجوك ابكي، لا تتوقفي، لا تخجلي، لا تكتمي الحزن، لا تتركي اليأس يخدش بعمق قلبك الأحمر الصادق.. دعيه يخفق نبضا.. هكذا فقط ترتاحين، و تزحزحين ثقل جبل من أعلى رقبتك..
ليلة من ليالي المقابر..
هاهو ذا الليل قد ألقى بظلاله الموحشة على أطراف القرية، و المكان لم يعد آمنا لفتاة في عُمر (رحاء)، لم تستطع العودة إلى الكوخ و هو المدنس بدم أمها.. فكرت في أن تبيت ضيفة عند العجوز، إلا أنها تخاف مُجابهة العجائز ليلا.. لذا قررت المبيت في إحدى دور القرية المهجورة.. دفعت ببطء أحد أبوابها، حذرة، تُخالجها مخاوف الظلام الدامس، اقتربت من سرير في آخر البيت، و فجأة قفزت على صوت الباب يُقفل بقوة وراءها، سرت في جسدها قُشعريرة وشعور بالوحدة الموحشة، بادرت بالجلوس متربصة مهاول أكثر.. إلا أن الرياح الباردة كانت تهب على وجنتيها و كأنها تحضنها و تواعدها بالأمــان، فاستسلمت للنوم بعد أسود يوم في حياتها على الإطلاق..
بعد منتصف الليل، وهذا الوقت يعني للقرويين الشيء الكثير، تنسج حوله دائما القصص و الأساطير و خرافات الأشباح، إلا أن (رحاء) لم تكن تؤمن بها.. رغم أني أظنها ستغير رأيها قريبا.. إذ وهي على تلك الحال، تنام و كأنها لم تنم ممن قبل، تسمع قرع الباب، تنط في لمح البصر من الفراش، ترتعش من هول الموقف، أتفتح الباب ؟.. لا لا، و إن كـان غريبا، ماذا ستفعل ؟.. أو ربما هم أصحاب البيت، و في هذه الحالة هي التي ستكون غريبة.. يُقرع الباب مرة أخرى.. يتوقف قلبها عن النبض.. ثم تقرر على حين غرة أن تفتح الباب، و يا ليتها لم تفعل.. لقد كانت أمها تنتظرها على الباب و ابتسامة خبيثة تعلو محياها.. تجمدت (رحاء) في مكانها من الهول الذي امتزج بالهلع..
تنط (رحاء) فجأة من الفراش.. يا له من كابوس مرعب.. إنها تتصبب عرقا، و أسنانها تصطك خوفا من القادم... تسمع قرع الباب مرة أخرى !.. ألم يكن ذلك حُلما ؟.. ألن ينتهي هذا الأمر ؟.. هكذا كانت تصيح في أعماق نفسها.. الجميل هذه المرة أن صممت على أن لا تفتح الباب.. ويستمر القرع، ثم تسمع مُناديا يُنادي..
( يا رحاء.. افتحي الباب.. أنا العجوز.. افتحي الباب ولا تخافي.. )
إلا أن (رحاء) لا تستجيب، يكفيها ما لاقته اليوم.. لذا قضت الليلة منكمشة قرفصاء إلى أن حل الصباح، لكم يوحي النور بالطمأنينة و السلام.. طبعا لم تمكث (رحاء) بالقرية أكثر، لذا فهي متوجهة صوب محطة سيارات الأجرة.. وهي تُفكر من أين لها بثمن الأجرة ؟..
محطة على ما يبدو..
هاهي ذي سيارات الأجرة تصطف بشكل مريع.. وجوه عابسة، غُبار متطاير، الفوضى والضجيج يَعُمّان المكان..
تمشي (رحاء) في حيرة من أمرها، و العيون تحدق بهذه الغريبة، براءة عينيها أيقظت روح الطمع في أولئك الذين يتخذون من سرايا المحطة مُتكأً لهم.
اقتربت من عجوز - واضح أنه أعمى - يجلس غير بعيد عن المكان، تجلس قربه و تُسند ظهرها متنهدة بعمق، و تهمس في أسف:
( لماذا يتجهم لي وجه السماء ؟.. )..
يُردف العجوز و كأنه المعني بالسؤال: ( لعلها ستُمطر.. ) فيبتسم ساخرا من نفسه و يتمتم:
( كم هي سليطة الحياة.. هذا الهرم الذي يجلس جنبك يا ابنتي، كان أشهر طبيب و جراح للعيون في البلاد.. وها أنذا أعمى ). ويواصل في ضحك يفيض حزنا..
تلتفت نحوه و تُحدق فيه طويلا ثم تُردف: ( إن المرء ليبلغ مرتبة الكمال الإنساني عندما يضحك أول ضحكة من نفسه.. ).
العجوز مُبتسما: ( لقد بلغت من الحكمة و أنت صغيرة، ما لم يبلغه الشيوخ و هم قياد و سادة.. ).
(رحاء): ( أما أنا، فلا أراها حكمة.. كنت دائما بمجرد انتهائي من قراءة أحد كتب أبي العتيقة.. أشعر بأني نلت نصيبا نادرا من المعرفة.. إلا أنني و كما ترى بعيون عقلك.. لا مقدرة لدي على مواجهة الصّعاب.. ).
العجوز: ( الاعتراف، القوة.. على كل، على ما تنوين ؟.. أتراك ذاهبة أنت الأخرى إلى المدينة ؟.. لا تقولي نعم.. ).
(رحاء): ( نعم.. للأسف.. )
العجوز: ( كنت أتمنى غير ذلك.. شعرك الناعم و الذي لم تنتبهي له وهو يُداعب وُجنتاي، سيكون دافعا للكثيرين من سُكان المدينة ليُفسدوا عليك راحتك.. و أنت.. ).
تُقاطعه: ( أنا مُضطرة.. ما كنت لأُفكر في هجرة قريتنا لولا أن.. ).
العجوز: ( لولا ماذا ؟.. بصراحة هيا.. ).
و يتواصل الحديث إلى نهايته.. ثم يُصر العجوز على دفع ثمن الأجرة، فترفض بإصرار و حزم و عناد نادر الوجود.. فيستحلفها العجوز بروح أمها و أبيها، لتجد نفسها قد استسلمت.. يتوادعان، و يوصيها بالحرص على نفسها.. تستقل سيارة الأجرة و هي تُجاهد نفسها على أن تصبر لهذا الاكتضاض، خاصة و أنه يُجالسها أحد بُلداء القُرى، أما هي فزيادة على الازدحام الشديد فقد احمرّت خجلا، فهي ليست مُعتادة على أن يُشاركها أحدهم نفس المكان... ولن أُحدّثكم عن الآخر، فهو يبتسم بشكل مُخيف و ينظر إليها و كأنه ينوي إحداث ثغر بعينيها..
المدينة..
و أخيرا يقرر محرك السيارة أن يكف عن إصدار هذا الصوت الشنيع.. ينتشر الجمع المُسافر في كل اتجاه، وتبقى هي واقفة متسمرة في مكانها.. هي لا تدري ما هي وجهتها التالية، تعود لمشيتها المميزة، الحائرة، ما زالت تحتفظ ببعض المال، لقد كان العجوز مبالغا في الكرم معها، و هي تُفكر في استئجار غرفة على الأقل لمدة شهر واحد، هذا ما يسعها أن تفعل بالدريهمات الباقية، لكن كيف لها أن تجد مُرادها في مدينة كهذه ؟.. في مدينة الكل فيها يبدو متأخرا، الكل يبدو في عجلة من أمره، ما بالهم يتسارعون بين الأزقة و الشوارع المكتظة، هذا لا يُحتمل من فتاة لها طبيعة (رحاء).
مرّ اليوم بسرعة البرق بين البحث و المساومة و الأخذ و الرد، إلى أن عثرت على موقع ممتاز للسكن، قرب جامعة العلوم و التقنيات، سيكون من الممتع أن تُحدق في كل هذا العدد الهائل من الطلبة و الطالبات، وهم يمشون فُرادى و أزواجا، مرتدين حللا باهية، و البعض منهم يضع نظارات، و البعض الآخر غير مبال و لا مكترث، يمشي شارد الذهن، و المزيد المزيد..
لكن الأهم هو إيجاد عمل في أقرب مناسبة، وهذا شبه مستحيل، لأن ميادين العمل بالمدينة منحطة جدا، خاصة للفتيات اللواتي يفكرن في الحفاظ على عرضهن، خمنت (رحاء) طويلا، و لم تجد حلا سوى.. أن تتجول كبائعة ورود..
وكم كانت الفكرة ناجحة، رغم المصاعب و المُعاكسات و المشاحنات التي تتعرض لها يوميا، فالكل يطمح إلى اقتطاف زهرة بجمال (رحاء) والكل لا يشعر و هو يشتري باقة ورود حمراء، ثم يُلقيها في أقرب صندوق قمامة منه بمجرد أن تَهُم (رحاء) بالابتعاد..
القدر مرة أخرى..
استيقظت صبيحة أحد جميل، كان الجو باردا نوعا ما، و السماء مُلبّدة بغيوم بيضاء، لا تبخل على المارة ببعض النسمات و قطرات المطر الباردة و هي كعادتها تمشي، وتُنادي بصوت عذب و رقيق.. ''ورود''.. ''ورود''..
( أنت الوردة يا حلوة.. ) يُردف أحد المتسكّعين بالشارع.. لا تكترث له و تستمر في المسير..
تمر بزقاق ضيق لعلها تنعم ببعض الدفء.. يبدو على مرأى العين شاب طويل القامة يرتدي معطفا أسودا و يضع نظارتيه على مُؤخرة أنفه، وهو مُنكب في قراءة كتيب فرنسي يحمله بيده اليُسرى وقد وضع اليُمنى في جيبه.. يقترب و حيدا و لم يرفع رأسه ليرى ما سيُنسيه أنه تعلم الأبجدية الفرنسية.. تُحدق فيه بنظرة غريبة عليها هي الأخرى، يقترب.. تشعر بالخفقان... يمر أمامها وهو غارق في عالمه.. لا يزال يُسمع قرع حذائه اللامع على الرصيف.. تلقي نظرة خفيفة عليه من الخلف وتستمر في المشي.. ''ورود''.. ''ورود''..
يُلفت اهتمامه هذا الصوت الناعم.. يستيقظ فجأة، يلتفت وراءه، يلمح، غير بعيد، فتاة تمشي بلباقة عالية، وشعرها يتطاير سابحا في الهواء.. تبدو بعض الورود الحمراء خجولة أمام ذلك الموقف.. تهب الرياح فتحمل أوراق الأشجار اليابسة معلنتا نهاية المشهد..
حل الليل، كعادته لا يتأخر و لا ينسى له موعدا.. تجلس (رحاء) أمام مكتب متواضع، تأخذ القلم و تُباشر في كتابة يومياتها..
(.. قد انتهيت قبل قليل من قراءة آخر كتاب ل ''مصطفى لُطفي المنفلوطي''.. تذكرت أمي، أشعر بحزن و غبطة شديدين.. ماتت و كأنها لم تمت، ليس على وجهها أثر واحد من آثار الآلام التي قاستها، يحسبها الرائي نائمة نوما لذيذا، و يُخيّل إليه أنه يسمع صوت أنفاسها المتردد و يرى هبوط صدرها و ارتفاعه.
أين صفرة الموت وتحوله ؟.. وأين آلام النزاع و مضاضته ؟.. وأين العلامة التي تخلقها الأوجاع فوق الجبين ؟.. وأين الدوائر الزرقاء التي ترسمها يد الموت حول الجفون ؟.. أريد أن أنسى.. هل هذا كثير ؟..
آه.. تذكرت.. من تُراه ذلك الفتى الذي اهتزت له جوانبي ؟.. لا يبدو جذابا لهذه الدرجة.. إلا أنني انجذبت نحو حبه للثقافة وولعه بالروايات الفرنسية، كانت كذلك طبيعة والدي رحمه الله.. رغم أنه كان فلاحا فقيرا.. أتراهُ القدر ؟.. ).
وسرعان ما تستسلم للنوم عميقا...
تتبع