الابتلاء
وقد جاء للوليد بن عبد الملك شيخ من عبس كفيف البصر، ولما جلس عنده في عشية أحد أيام، سأله الوليد عن حاله؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لقد بت في ليلة من الليالي، وما في عبس رجل أكثر مني مالاً، وخيلاً وإبلاً، وولداً، ولا أعزهم نفراً، وأكثرهم جاهاً.
فطرقنا سيل ذهب بالأهل والولد والمال، ولم يبق من ظعننا إلا: غلام ولد حديثاً، وبكر شرود وهو ولد الناقة الصغير, فاتجهت للصبي وحملته، ثم لحقت بالبكر الذي ند، ولما عجزت عن اللحاق به، وضعت الصبي في الأرض، وسرت وراء البكر، فسمعت صراخ الصبي، ولما رجعت إليه وجدت الذئب قد أكله، فلحقت بالبعير، ولما أمسكت به، رمحني برجله على وجهي، فذهب بصري، وألقاني على قفاي, ولما أفقت إذا بي في المساء من أصحاب الثروة والمال والحلال، والولد والجاه، والمكانة بين القبائل، قد أصبحت في الغداة، صفر اليدين: لا بصر في عينيّ، ولا ولد ولا أهل ولا مال، فحمدت الله على ذلك، فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة بن الزبير، ليعلم أن في الدنيا من هو أكثر منه بلاء، وأشد تحملا وصبراً.
فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها **** صـبر الكـريم فإن ذلـك أحكم
وإذا ابتليت بكربة فالبس لها **** ثوب السـكوت فإن ذلك أسـلم
لا تشكونّ إلى العبـاد فإنما **** تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحـم
وكم من بلاء يكون نعمة على صاحبه، فرب عبد تكون الخيرة له في الفقر والمرض، ولو صح بدنه وكثر ماله لبطر وبغى (( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض )) [ الشورى: 27] 0
كن عن همومك معرضا **** وكل الأمور إلى القضى
وابشر بخير عاجـــل **** تنسى به ما قد مضـــى
فلرب أمر مسخـــط **** لك في عواقبه رضـــى
ولربما ضاق المضيــق **** ولربما اتسع الفضــــا
الله يفعل ما يشـــاء **** فلا تكن معترضــــا
الله عودك الجميـــل **** فقس على ما قد مضــى