تعتبر الهررة من ألطف المخلوقات بين الحيوانات التي يقنيها الإنسان في منزله ، لجمالها وخفتها ومداعبتها لمن حولها بحركاتها الجميلة . وغالباً ماتقنيها العائلة نزولاً عند رغبة الصغار من أطفالها التي تجد فيها رفيقاً للتسلية واللعب في المنزل .
وقد يولع بها البعض فيكثر منها ، بل ويأذن لها بالجلوس في حضنه . وقد يبالغ الطفل في التعلق بها إلى حد غض النظر من التسلل إلى فراشه والنوم إلى جانبه ، بحيث تستحوذ على قلبه وقلوب من حولها أينما حلت لرقتها .
رغم هذه الرقة التي تتسربل بها الهررة في علاقاتها مع الإنسان ، فإن لها وجهاً آخر يتميز بالشراسة والمقاتلة بالترصد والترقب والمخادعة بالتظاهر بالنوم وإغلاق العينين مع إنتصاب الأذنين عند الحاجة مع شدة الإنتباه لأقل حركة ، حتى للهمس الخافت الضعيف .
وهذه الميزات الفيزيائة التي تتمتع بها الهررة أعطتها القدرة على المناورة والإفلات من عدو أكثر شراسة منها إن حاول التعدي عليها . ولكنها في الوقت نفسه وضعت في خدمة البشر ، بمنة ربانية ، لحماية مصالحهم في بيوتهم وأرزاقهم . فالإنسان يقتنيها عادة للزينة دون أن يدرك أهميتها في حماية منزله من عبث القوارض والهوام والحشرات الضارة ، خاصة لمن يقيم في طابق أرضي ، بحيث يتعذر الإستغناء عنها لضرورتها .
ولا ندرك أهمية الهر ، إلا عندما تعيينا الحيل في إستعمال المبيدات والمصائد والمكائن وكل ماوصل إليه العلم للتخلص من الفأر المتوطن في البيت أو مكان العمل دون طائل . وعندها فلا سبيل إلا باقتناء الهر للتخلص منه ، لينعم أهل البيت بعدها بالراحة والإطمئنان .
ولنا في البيت الأبيض أكبر مثال ، إذ غالباً ماتنشر الصحف الأمريكية الكثير من الطرائف عن تواجد الفئران بأعداد كبيرة في غرفه وبين أروقته ، بما لم ينفع معها أي طرق من طرق المكافحة ، إلى حد استسلام سادة البيت إلى قدرهم بحرية تنقل الفأر فيما بينهم ، والذي تزداد تحركاته مع وجود الضيوف بحيث أنه لم يعد يجد حرجاً في التنقل بين أرجلهم ، كما ولم يعد قادة البيت الأبيض يجدون حرجاً بتواجده عند كل اجتماع رسمي بعد أن أضحى السر معلوماً . ومع ذلك فقد سهوا عن إتباع الوسائل الطبيعية التي خلقها الله لحماية الإنسان من هذه القوارض وهو إقتناء عدد من القطط في القصر الرئاسي لتضع حداً لعربدة هذه الفئران المكتنزة فيه وتوطنها وكانها في أحدى المعابد الوثنية التي تقدسها ، فلا يجوز مناكفتها أو التعرض لها .
أما كيف يحمي الهر غذاء الإنسان فإليكم تلك الرواية الواقعية لتعلموا منها وتتعلموا عن أهميته القصوى في السهر على مصالح الإنسان وغذائه ومدى ضرورته .
لقد علم عبدالله بأن أحد أصدقائه من التجار قد إشترى مستودعاً ضخماً "هنغاراً" في ضاحية المدينة لتجارة المواد الغذائية بالجملة على كافة أصنافها . فتوجه إليه في أحد الأيام ليبارك له في موقعه الجديد ، فوجده مستاء جداً ولما يمر عليه في عمله أكثر من خمسة أشهر ، إلى حد أنه يفكر في إغلاق عمله نهائياً والتخلي عنه رغم رواج تجارته في السوق . ولما استوضحه عن أسباب سخطه ، طلب منه القيام معه في جولة ليشاهد بأم العين أسباب إستيائه .
لقد كان هناك آلآف الأطنان من البضائع المكدسة من كافة أنواع المواد الغذائية من الحبوب والسكر والبن والدقيق والبسكويت وأكياس الحليب والمعلبات .. الخ . إلا أن ماشاهده عبدالله كان مفاجئاً بما لم يخطر على بال ويدعو للألم بحيث أن عشرات " الرصات " من الأكياس لكافة الأنواع المتراكمة فوق بعضها البعض لكل صنف على حدة ، كانت ممزقة من أطرافها وأكوام الحبوب المتأتية منها مكومة على الأرض ، وابشع مافي الأمر كان تمزق أكياس الحليب والسكر والدقيق وعبث الفئران بها بما يبعث على الحزن والأسى . ثم تابع عبدالله الجولة مع صديقه حول المخزن ليرى حديقة واسعة فارغة إلا من الحجارة والأعشاب بما ينبئك عن مصدر الفئران بتلك الغزارة وكثرة الأذى والضرر .
كما لفت نظره غرفة جانبية فإذا بها خمسة كلاب بينها كلب أكبر حجماً من الكر الصغير . فتعجب عبدالله عن الهدف من إقتناء هذه الكلاب المخيفة في مظهرها ، مع وجود حراس لديه ، فأجابه صاحبه بأنها من أجل إبعاد الفئران والقضاء عليها !. إلا انها لم تنفعه وفقاً لقوله إذ لازالت الفئران تسرح وتمرح بحرية وأمان غير عابئة لأحد ، لقدرتها على الإختباء في أضيق الأمكنة بين أكداس البضاعة .
بعد أن استكملا جولتهما جلسا ليرتشفا الشاي ، والتاجر حائر بكيفية التخلص من هذا المأزق الذي بدأ يتحول إلى ضرر بالغ وكابوس مقلق قد يجبره على إغلاق موقع عمله مع فشل كل المساعي ، وإلا تحولت تجارته إلى خسارة محققة إن استمر الأمر على هذا المنوال .
هون عبدالله على صاحبه الأمر ناصحاً إياه باقتناء هرين يؤتى بهما من الشارع لشراستهما ويغلق عليهما باب المستودع مساءً شرط ألا يطعمهما إلا كل صباح كل يوم عند الساعة الثامنة ، ولمرة واحدة ، كأساً من الحليب لكل منهما حتى يجوعا خلال النهار ويعملا ليلاً على تأمين طعامهما من الفئران التي إن شحت مع توالي الأيام يخرجان إلى الحديقة ليؤمنا طعامهما من جحورها .
إستغرب صاحبه هذا الإقتراح على بساطته لعدم إدراكه أهميته ، إلا أنه وافق على مضض كمحاولة أخيره لامناص منها ولابديل ، مع إستنفاذه كل الوسائل "العلمية" الأخرى وهو يتمتم " أنا الغريق فما خوفي من البلل ". ثم ودعه عبدالله ليعود إليه بعد أسابيع ليستطلع الأمر ويطمئن على أحواله . فاستقبله صاحبه ببشاشة وقال له ، هيا معي لترى بعينيك نتيجة نصيحتك . فدخلا ليقول لعبدالله أنظر إلى الأكياس كيف أنها سليمة اليوم ، مقارنة بما كانت عليه في الماضي . إن رأيك كان صواباً وأشكرك على تلك النصيحة إذ لم يخطر ببالي أن الهرر على هذا المستوى من الأهمية والفعالية ، خاصة وأنه من بعد إسبوع من تواجد الهرين لم نعد نجد أي أثر للفئران التي يبدو أنها قد غادرت إلى غير رجعة أو أكلت .
وأشار بإصبعه إلى حيث الهرين على رأس تلة من اكياس الحبوب كفارسان يستريحان من بعد معركة طويلة طوال الليل ، بأنفة وشموخ من موقعهما العالي وقد طاب لهما المكان بما فيه من رزق واسع . فسبحان من سخر لنا هذا.