خفق قلبه في قوة وراح يرتجف في صدره كطير مبتل سقط لتوه وسط جبل من جليد .. كان ذلك حينما رأي اسمها يتلون بلون المتصل علي ماسنجره الخاص
وبكل لهفة الدنيا بدأها بالسلام
***
أحمد
ذاك هو اسمه
الشاب الأكبر في العائلة الصغيرة .. متدين ، مولع بالقراءة .. توفي والده وهو صغير السن .. تحمل المسئولية مبكرا فزادت من خبراته وعظَّمَت من نضجه .. الا أنها زادت في نفس الوقت من احساسه بالوحدة .. طالما أحس أنه مختلف عن أقرنائه وزملاء سنه
يري فيه أصدقائه الجدية ويري هو فيهم الطيش الأهوج والاندفاع
رغم كونه الوحيد من أصدقاء الجامعة من لم يتقرب من أي فتاة الا أن جميع الصبية أسرارهم يحتفظ بها ذلك الشاب
فكلهم يثق به وبرأيه وصحيح نصائحه
السبب في رأي زملائه عن عدم تقربه من الفتيات هو أنه أشد خجلا من الفتيات أنفسهن .. وأنه بخجله لن يستطع التعرف علي فتاة في حياته ، خاصة وأن الفتيات أصبحت برأيهم أشد جرأة وتحررا من الأميرات الساكنات المستكينات ممن علي استعداد لانتظار شاعر أو عاشق يحمل صفات أحمد
البنات الأن تحب الجرأة والتحرر وعدم التفرقة بين الفتي والفتاة في الجد واللعب
أما هو ومع ألمه وتشككه الدائم بنفسه مع اختلافه فهو موقن أن الجرأة أخطر ما يمكن أن يصيب الفتاة .. كذلك تدينه يحرم عليه الخوض في أي من علاقات زملائه التحررية .. فهو يعلم أنه ومع صغر سنه فأي علاقة يأمل بها محكوم عليها مسبقا بالفشل .. كيف لا ولازال أمامه طريق طويل من الصعاب سيقطعه بعد تخرجه؟
وبهذا فأي علاقة مع أي فتاة سيرتكب بها جرما وظلما للفتاة ولقلبه الصغير
مع قلة عدد أصدقائه وجد في الكتاب صديقا أخر.. كان ذلك حتي ابتاعت له والدته وبعد نجاحه في الثانوية العامة الحاسوب .. بدأ يشق طريقه عبر الانترنت .. سرقه الحاسوب والانترنت من صديقه الأخير فاحتلوا أغلب أوقاته
كان يعود من الجامعة فيجلس عليه بالساعات .. يطوف بين المواقع الاسلامية والمنتديات العربية والأدبية حتي فاجئه في أحد الأيام اتصال غير معروف علي الماسنجر الخاص به .. تعجب كثيرا كونه ليس من هواة الشات ولم يسبق له دخول حجراته
الاتصال يحمل اسما أقرب ما يكون لأنثي والكتابة بلون وردي لطيف
أجاب سلام المتصل فبدأت محدثته بتعريف نفسها معلنة عن رغبتها في التعرف عليه .. تفاجأ من جرأتها لكنه لم يكترث كثيرا .. كان يجيبها اجابات مقتضبة مع انشغاله ببحثه المستمر علي المتصفح .. كانت تكتب بلكنة شامية محببة.. ظن في أول الأمر أنها لن تتحمله أكثر من يوم وسرعان ما تذهب لأخر قد يظهر بعضا من الاهتمام
لكن ظنه سرعان ما خاب .. فهاهي تدخل مرارا وتكرارا وتحدثه عن نفسها وأهلها وما تحبه وما لا تحبه وقد مر شهر ونصف علي معرفته بها حتي الأن
أثناء حديثه الأخير معها أخبرته بغتة بحبها له .. غضب أحمد ووجد نفسه يهاجمها بعنف وعلي غير المألوف من خجله مع الفتيات
سألها كيف لها أن تحبه وهي لم تره .. وعلي أي أساس أحبته .. وكيف علمت أنها أحبته .. ومتي أحبته؟
كانت تحاول مجاراته في الاجابة علي أسئلته السريعة ونفيه لاجاباتها الواحدة تلو الأخري وشرحه لخطأها في الحكم علي الأمور حتي لاحظ ابتعادها من فترة عن الكتابة .. انتظر قليلا فلم تكتب شيئا .. نادي عليها فوجدها أغلقت الاتصال كله
همس لنفسه : هذا أفضل
***
بعد ثلاثة أيام من أخر اتصال وجد نفسه يكثر من الدخول دون عمل يذكر علي الشبكة وكأنه بانتظارها.. ربما أحس مؤخرا بصلفه وغلظته في حديثه الأخير معها
أو أنه بدأ بالاهتمام بها بحق .. كيف لا وقد أخبرته أنه الفتي الوحيد في قائمة الماسنجر الخاصة بها
اتفق مع نفسه علي أن أي تأثر يذكر ليس الا تسرع في الحكم قد لا تحمد عقباه
***
بعد يومان دخلت أخيرا .. سألها عن حالها .. اعتذرت له عن تسرعها فقبل اعتذارها وحاول شرح الأمر لها بلطف دون غلظة كما سبق
أخبرته أنها أكثرت من البكاء بعد كلماته الأخيرة لها
شعر بمرارة في حلقه وطلب منها أن يكونا أصدقاء .. وافقت علي ذلك
أزاحت الفراغ ووضعت صورتها الشخصية .. صورة لفتاة لم يري مثلها كثيرات في جمالها .. لها شعر أسود فاحم ينسدل في استرسال علي كتفيها وصدرها .. ذات بشرة نقية بيضاء وقد شُرِبَت شيئا من الحمرة علي الوجنتين .. وكأنها حمرة الخجل
لم تكن في مخيلته بذاك الجمال مهما بلغ تفائله
أبدي اعجابه بجمالها .. وشكرته علي ذلك
انتهت المحادثة بعد تبادل الصور الشخصية والتعارف من جديد بصورة أكبر من قبله وقبلها
***
أطفأ حاسوبه فنادت عليه والدته المسنة لمشاركة اخوته عشائهم .. اعتذر متعللا برغبته في النوم .. ظل لساعات يتقلب في فراشه وصورتها في مخيلته .. استعاذ بالله من الشيطان وقرأ بعضا من الآيات الكريمة وخلد في نومه
لكن ذلك لم ينجيه بصورة تامة فقد حلم بها
تكررت المقابلات الماسنجرية وتكررت أحلامه وهي كذلك حدثته مرارا عن أحلام لها تراه فيها
حدثته ذات مرة عن المطربيين والمطربات ممن تستمع اليهم .. لكنه أرسل اليها نشيد اسلامي لمنشد عذب صوته .. حدثها عن الدين وأهمية الفهم الصحيح له .. بدأ يغير بعضا من بسيط العادات التي يسهل عليه ملاحظتها علي الماسنجر منها.. كالسلام الاسلامي بدلا من تحية الغرب
دخلت عليه مرة وحدثته عن مفاجأة له .. لم يستطع التخمين وأمام لهفته أجابته أنها تحجبت .. سعد كثيرا بذلك فهو لم يحدثها عن الحجاب لكنها استشعرت أهميته عنده
صارت ترسل له الأناشيد الدينية هي الأخري دون الأغاني الشبابية
كان يكتب لها أبياتا من الشعر باسمها وتجيبه بأخري باسمه
كلاهما كان يحب القراءة وكلاهما كان يجيد الكتابة
أحبها بعمق
حتي جاء اختفائها طويلا
كان يمرض بطول غيابها .. كان متقلبا بالليل علي فراشه تائها بالنهار بين زملائه ومدرسيه
لاحظ الجميع شروده ولاحظت أمه حزنه وطول اكتئابه
صار يجلس علي الشبكة بمجرد عودته من الجامعة وحتي خلوده الي النوم منتظرا دخولها .. لا ينهض الا للغذاء قبل أن يعاود المكوث وطول الانتظار
كان حاله المرثي له يئول من أسوأ لأسوأ
حتي دخلت أخيرا .. تهللت أساريره وابتهج وفرح فرحا عارما .. سألها عن حالها فحدثته عن أباها الذي علم بحديثها معه وعن عقابه لها .. عن خُطابها والمتقدمون اليها .. عما استشعرته أختها من كيد أباها وأمها ورغبتهما في الموافقة علي أي متقدم لها
وكأن قبضة باردة كالجليد تعتصر قلبه دون رحمة .. ضاقت نفسه وشعر أن روحه ستفيض من جسده .. انهمرت الدموع من عيناه وهو يستفسر منها عن كل كبيرة وصغيرة
***
سافر أباها فأصبحت تكثر من المكوث معه .. تحدثا الي بعضهما البعض أحاديث الشوق واللهفة .. عادت شيئا من روحه الميتة اليه .. تحدثا عن ارتباطهما واستحالة انفصالهما .. اتفقا علي أن كلاهما لن يستطع أن يحيا دون الأخر .. حتي أخبرته أنها ستسافر اليه وترسل لخالها في كندا ليطمئن أهلها عليها فيما بعد .. حدثته عن شدة محبة خالها لها وعن غناه وعن تيقنها من دعمه لها ماليا اذا تطلب الأمر.. أخبرته أنها لن تكلفه أي شئ ، فقط تود التأكد من وقوفه بجانبها
رفض أحمد ذلك الأمر لحرمانيته علي نفسه وطلب منها التفكير في طريقة أخري .. فكرا سويا فلم يجدا أي طريقة .. حتي اذا استشعر اقتراب ضياعها منه وافقها علي ما أشارت به
وبعد عدة أيام طلبت منه مبلغ من المال يرسله لها كحوالة فقد تخلت احدي صديقاتها ممن كانت تعتمد عليها عنها .. ثم أخبرته أن والدها اقترب موعد حضوره
صار أحمد كالمجنون وهو يطيل التفكير في الأمر .. كيف له أن يجمع المبلغ .. لم يعد في حديثهم معا أي ذكر عن الأحلام أو الأشعار أو الأفكار .. فقط طريقة يمكن بها جمع المبلغ وتسوية الأمر
تشكك بها أحيانا لكنه كان يتمني لو كانت هواجسه دون صحة
حتي جاء يوما من الأيام وبعد آلام مر بها لمرض عرفه علي يداها من كثرة تعصبه وتوتره لقربها مرة أو لبعدها مرات
بكي علي فراشه وهو يدعو الله أن يريحه من آلامه ويهديه للصواب
فمهما كان الصواب هو راحة لنفسه المضطربة
***
صحي من نومه وخطي نحوه جهازه فأشعله وفتح ماسنجره
جائه اتصال من صديقه القديم محمد زميله في أحد المدونات العربية
قد مرت فترة طويلة علي أخر اتصال جمعه به .. فاذا بمحمد يسأله ان كانت صديقته اسمها كذا
تعجب أحمد من معرفة صديقه باسم محبوبته .. بل وليس كذلك فحسب .. بل وجده يضع صورتها أمامه .. وهي التي أخبرته أنها لا تعرف شابا ولم تضف شابا علي ماسنجرها سواه .. بدأ أحمد يشرح معرفته بها
وأمام حيرته وذهوله استطرد محمد وهو يطلب منه أن يثق به ويصدقه .. فالفتاة التي عرفها لم تكن شامية فهي اسرائيلية وهي ليست مسلمة بل هي يهودية وهي ليست بفتاة وانما أرملة لها طفلان .. سبق وأن نصبت شباكها علي قريب له بذات الاسلوب وسرقت منه أمواله وأنهما رفعا عليها قضية
اتسعتا عينا أحمد حتي بدتا كأنهما ستقفزا من محجريهما وهو لا يصدق ما يقرأه
سأل صديقه مشدوها أني له كل ذلك وكيف عرف بمعرفته بها؟
فما كان الا أن نسخ له أمامه محادثة جمعته بالأخيرة
تذكر أحمد أنه سبق وأن أعطاها رابط المدونات وعلم باشتراكها فيها
لم ينهار أو يبكي وانما وللعجب أخذ يضحك ويضحك
يعلو صدره ويهبط من كثرة الضحك حتي دمعت عيناه وهو يحمد الله جل علاه علي رحمته به
تخطي أحمد مرحلة الحزن والألم بعد عدة أيام حينما علم بالقبض عليها في مطار بن جوريون
لقد وعي الدرس
وعي الفرق بين خيالات الانترنت وأجساد الواقع