البناية
... وأخيرا وطئت قدماه المنهكتان عتبة تلك الأرض الذائعة الصيت بين الناس، من أهل القرى والمدن، بفضل منشآت صناعية كبرى، أقيمت متجاورة عليها، ومؤسسات إدارية رحبة متقاربة، غرست أقدام أركانها الطويلة العريضة فيها، وعمارات شاهقة متحادية، قد أريد لها عنادا وتباهيا أن تتطاول في سباق محموم، وأرغمت قهرا على أن يتجاوز بعضها بعضا، حتى ليخيل للناظر خطأ أن الذي أصابها هو حتما ضرب من الجنون، وأن من حرصوا على تشييدها هم العقلاء حقا ورواد الفنون ...
وبعد وقفة قصيرة أمام دور باذخة، أراد لها أصحابها أن تسر الناظرين وتقر بها أعينهم، استأنف السير وسط زحام لا أول له ولا آخر، وهو قابض بيده اليمنى على بعض الأوراق، فما إن توغل قليلا داخل أحد الشوارع الطويلة، حتى أرهقه النظر إلى أكوام من الجدران المتلاصقة، وركام من الحديد المتواصل، وسيل من الواجهات الزجاجية المتلاحقة، وأتعبته قراءة الكثير مما أثبت على اللوحات الإشهارية، وما خطته اليد والآلة فوق أبواب المحلات والمؤسسات ...
وعندما صفا له وجه البناية، التي خرج مسافرا من القرية الصغيرة النائية يبحث عنها ويطلبها، وقف شاردا في تفاصيلها الخارجية، ومتهجيا حروفا علق رسمها بمدخلها الرئيس، فأوجس خيفة من عذوبة اسمها، ورونق شكلها، ونعومة حيطانها، وبريق أعمدتها، وزاد من خشيته اتساق ألوانها الزاهية، فإذا بالرعب يغزو فجأة فؤاده المرهف، وإذا برجليه قد عجزتا عن حمله، فكاد يسقط مغشيا عليه ...

د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي

aghanime@hotmail.com