علينا تجاوز البلاغة وفهم الاسلام بعيدا عن اطار اسود وابيض و اخيار و اشرار
الاعلام العابر للقارات والانترنت اسهم بتعزيز فكرة الامة الاسلامية الواحدة
عرض وتقديم: ابراهيم درويش
هذا كتاب يمكن وضعه في ضوء الدراسات الاكاديمية التي بدأت تظهر علي خلفية ما حدث في ايلول (سبتمبر) الماضي، وهو قراءة هادئة لصعود الاسلام الجهادي، ومحاولة لربطه بفكرة العودة للنبع الاصلي. والكاتب، باحث امريكي معروف ، متخصص بفكر الحركات الاسلامية المعاصرة، جون ازبوزيتو، ويقوم فيه بقراءة تطور الفكر الاسلامي في القرن العشرين، والمنابع التي اسهمت بولادة المعارض السعودي اسامة بن لادن. ويري ازبوزيتو ان ما دفع بن لادن لثورته الحالية، له جذوره في فكرة البحث عن الذات في العالم الاسلامي، وبالهجمة الغربية علي عالم الاسلام، وله اساسه في البحث عن فكرة الامة التي صارت حلما بعد انهيارها علي يد الدولة القومية.




جون ازبوزيتو باحث امريكي متخصص بالدراسات الاسلامية، واصدر منذ السبعينيات من القرن الماضي عددا من الكتب والدراسات عن الاسلام، اسسه الاعتقادية والشرعية، وكتب في قضايا الفكر الاسلامي الحديث، وقضايا الاحياء الاسلامي والحركات الاسلامية بما فيها ما صار يدعي بالاسلام السياسي والاسلام الجهادي. واشتهر من كتابات ازبوزيتو كتابه الاسلام الصراط المستقيم ، و الخطر الاسلامي: خرافة ام حقيقية .
وحرر ازبوزيتو الذي يعمل في معهد الدراسات الاسلامية المسيحية في جامعة جورج تاون عددا من الكتب والدراسات المتخصصة بالاسلام، وينتمي لجيل من الباحثين الغربيين الذين تجاوزوا الكتابات الاستشراقية عن عالم الاسلام والغرب، واخذوا يكتبون عنه بنوع من الحيادية ، وحس يريد فهم الامور علي حقيقتها، ولهذا كان ازبوزيتو من دعاة تفهم مطالب الحركات الاسلامية وفتح حوار معها، خاصة الحركة الاسلامية الجزائرية. ويحظي ازبوزيتو وكتاباته بنوع من التقبل ان لم تكن الشعبية في اوساط الاسلاميين وغير الاسلاميين. وقد حضر الاكاديمي في عقد التسعينات في عدد كبير من الملتقيات الفكرية العربية والاسلامية، حيث كان من المعلقين علي اشكالية العلاقة بين الاسلام والغرب.
ولهذا السبب يمكن اعتبار كتابه الحالي حرب غير مقدسة: ارهاب باسم الاسلام تواصلا مع قراءاته عن الحالة الاسلامية المعاصرة، ويبدأ كتابه الجديد هذا والصادر عن دار جامعة اوكسفورد في بريطانيا بمحاولة لفهم الاحداث التي قادت الي الهجمات علي امريكا في ايلول (سبتمبر) الماضي، ولهذا يمكن اعتبار المحاولة الجديدة بمثابة الاستجابة للموجة التي نشأت بعد ايلول الماضي، وادت لازدهار الكتابة السريعة، وغير الناضجة عن الاسلام وافغانستان واسامة بن لادن، ويستوي في هذا الامر الكتابات الصادرة باللغة العربية او باية لغة اوروبية، اذ ان هناك معلومات جاهزة وتقارير صحافية، وافكارا مجتزأة، ومع ذلك فلا نفي ازبوزيتو حقه ان وضعنا محاولته في سياق العرض والطلب التجاريين في سوق الكتب، فهو مفكر وباحث جاد، وله رؤيته واجندته البحثية، وعليه فحينما كتب هذا الكتاب كان يستجيب لداع تحليلي في داخله، او محاولة لفهم منظور الجهاد الذي يدعو اليه اسامة بن لادن والناشطون الاسلاميون المنضوون حوله.
ومن هنا، يريد ان يضع الجهاد الحالي او النزعة الجهادية في موضعها الحقيقي من الفقه والعقيدة الاسلامية، طبعا ضمن المعايير الفكرية التي ينظر من خلالها للاسلام. وفي ثنايا هذه المحاولة تساؤل عن امكانية قيام بن لادن ومجموعته باختطاف الاسلام او الفكر الجهادي عامة، وهو ما توصل اليه الصحافي او لنقل ما اقام عليه مثلا احمد رشيد وغيره من الصحافيين والاكاديميين الغربيين قراءتهم لتصاعد الحركة الاسلامية في اسيا الوسطي.

دعوة لبناء الجسور والحوار

ازبوزيتو اذن يكتب مدفوعا بمحاولة الرد علي مجتمعه، وتعريفه بالاسلام، تماما كما كتب قبل اكثر من عقد من الزمان كتابه الاخر عن الخطر الاسلامي، وهو الذي كتب بعد نهاية حرب الخليج، وجاء ذلك الكتاب كرد علي ما صار يعرف بأطروحة صدام الحضارات، وهي المقولة التي ادت لنشوء فكرة الخطر الاسلامي او امبراطورية الشر الجديدة التي قامت علي حطام الامبراطورية السوفييتية المنهارة، وصارت المقولة تعبيرا سائدا في اروقة صناعة القرار والمؤسسات البحثية التابعة لها في امريكا.
يقول ازبوزيتو عن محاولته الجديدة انها كتبت للرد علي المقولات التي اشتعلت بعد الهجمات، حيث بدأ الامريكيون يسألون اسئلة تتعلق بأسباب كراهية العالم الاسلامي لهم، ولماذا يخرج الاسلام متطرفين اكثر من اي دين اخر، وهل يشجع القرآن علي هذه الاعمال؟ وغير ذلك من الاسئلة. ولان الكاتب معني ببناء جسور التعايش بين الثقافات فهو يستبعد هذه المقولات الوقتية والتي تأثرت بالضرورة بصدمة اللحظة، وتخفي في النهاية جهلا متعمدا او اصليا بالاسلام والعالم اجمع. يتعامل ازبوزيتو بدلا من ذلك مع ظاهرة اسامة بن لادن كونها نتاجا للثقافة والحياة والعالم الذي نشأ فيه، ولكنه يضيف بعدا اخر، علي هذه الظاهرة، وهي انها تقوم باستغلال المرجعية الدينية، السنة والقرآن وتقوم باستخدامها لاضفاء شرعية دينية علي جهادها ضد الحكومات العربية والاسلامية والعالم اجمع الذي لا يتفق مع وجهة نظرها. الجديد في فكرة الجهاد التي يدعو اليها اسامة بن لادن الان انها عالمية او معولمة، فتنظيم القاعدة يشير في النهاية الي الجهاد العالمي ، ويعتبر هذا تحولا في سياق الفعل الاسلامي السياسي الذي كان يركز علي العالم المحلي المحيط به.
وفي ضوء هذ الفهم يري ازبوزيتو ان القرن الحالي، الحادي والعشرين، الصراع العالمي فيه ستتسيده المواجهة بين الدينين الاكبر في العالم، الاسلام والمسيحية والقوي التي تمثلها قوي العولمة ولكن هذا الصراع لا يتساوق ابدا مع مقولة صدام الحضارات.
ان الطريقة التي نفهم بها الاسلام والعالم الاسلامي ضرورية لفهمنا لاسباب العنف والارهاب، ولكيفية الحفاظ علي القيم الامريكية كما يقول الكاتب، ولهذا السبب يدعونا للتحرك ابعد من البلاغة العاطفية، والاطار الذي يتعامل مع الاشياء ضمن مقولة ابيض واسود ، او الاخيار مقابل الاشرار . ولهذا السبب فمحاولته ليست موجهة فقط للعقل الشعبي الغربي بل والاسلامي علي حد سواء، لان العالمين الاسلامي وغير الاسلامي صارا في بداية هذا القرن متداخلين، فالاسلام لم يعد كما يقول الباحث هنا ذلك الاخر الذي يعيش هناك ولكن المسلمين اليوم يعيشون بيننا، فهم جيراننا، وزملاؤنا واخواننا المواطنون ودينهم مثل اليهودية والمسيحية يرفض الارهاب .

عن بن لادن وصناعة مجاهد

البداية التي يبدأ بها ازبوزيتو مقاربته الفكرية هذه واعدة، فهي تحاول الفهم وتدعي انها تريد البحث حلف الاشياء. ولهذا السبب يقوم بتكريس الفصل الاول للحديث عن اسامة بن لادن، الذي لا يزيد في المعلومات كثيرا عنه، وهي المعلومات المتوفرة والمتناقضة في الكثير من الاحيان، عن نشأة بن لادن وحياته وحاجته الدائمة لمرشد روحي. ولكن ازبوزيتو يموضع سيرة بن لادن في سياق الاحياء الاسلامي العام الذي شهده العالم الاسلامي في السبعينيات، ويحدد الكاتب ثلاثة ملامح او اربعة ملامح اسهمت في تشكيل وعيه الاسلام الجهادي، الاول هو الفكر المحافظ الذي قامت عليه تربيته العائلية، فهو وان انتمي لاغني عائلة في العالم العربي، التي اسسها المهاجر العدني محمد بن لادن في منتصف القرن الماضي، الا ان كبير العائلة كان يحمل في داخله حسا محافظا، دينيا، وفيه الكثير من الحمية والحماس لقضايا العالم الاسلامي. وهناك بعض الحكايات او الاساطير التي ترددت عن بن لادن الاب التي قالت انه اراد مرة المساهمة في تحرير فلسطين، فأمر العاملين لديه بتحويل الشاحنات لدبابات، وحينما قيل له وهو الامي ان تحويلها امر صعب، قرر انتاج الاولاد ليكون كل واحد منهم مقاتلا، ولكن لم يخرج من العائلة مقاتل غير اسامة، هذه القصة كما تشير وقائعها غير صحيحة، ولكنها تحاول نزع نوع من الحس الميثولوجي علي المقاتل اسامة بن لادن. الاهم من هذه القصة ان اسامة وجد الهامه من التراث الديني في السعودية والذي تمثل باستناده علي السلفية التي دعا اليها المصلح الاسلامي المعروف محمد بن عبد الوهاب. كذلك تأثر بن لادن الشاب بالوعي الاسلامي الاخواني الذي مثله سيد قطب، واتباعه الذين وجدوا مكانا لهم في المؤسسات التعليمية السعودية، في الفترة التي تزايد فيها الصراع بين التيار القومي الذي مثله جمال عبد الناصر، والاسلامي المحافظ الذي مثله العاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز. ومن ثم جاءت تأثيرات الشقيق الاصغر لسيد قطب، الكاتب والمفكر الاسلامي المعروف محمد قطب علي الشاب بن لادن، وبنفس السياق تأثر ايضا بالناشطين الاسلاميين الاخوانيين، امثال عبدالله عزام، الداعية الفلسطيني المعروف الذي يعرف في ادبيات الجهاد الافغاني بأمير المجاهدين. وكانت رسالة الشيخ عزام قائمة علي شعار الجهاد والبندقية، لا صلح، لا مفاوضات، لا مؤتمرات لا حوارات . وكانت رسالة عزام واضحة في تأكيدها علي تواصل الخط الجهادي الذي لن ينتهي بأفغانستان لان الجهاد من اهم فروض الاعيان وسيظل كذلك حتي تتم استعادة كل الاراضي التي كانت اسلامية، ولم يفقد الشيخ الراحل الامل باستعادة الاندلس، وبخاري، وتحرير جنوب اليمن من الحكم الماركسي، فقد كان عزام يتحدث بلغة الصراع التي تسيدت الحرب الباردة. ويمكن اضافة عامل الثورة الاسلامية في ايران والهزيمة العربية قبلها في تشكيل وعي الشاب.
يشي تحليل ازبوزيتو ان بن لادن كان نتاجا لظاهرة الاحياء الاسلامي في السبعينات، فقد شهد هذا العقد تزايدا في سلطة وقوة الاسلاميين وحضورهم في الشارعين العربي والاسلامي، وظهرت في هذه الفترة الجماعة الاسلامية التي كانت تضم مزيجا من الجماعات والحركات الاسلامية الاصلاحية والجهادية والتي ظهرت بعد خروج الاسلاميين من سجون عبد الناصر. وفي نهاية هذا العقد جاءت الثورة الاسلامية التي وان كانت تمثل التيار الشيعي في الاسلام الا انها حملت اسم الاسلامية بشكل عام وصارت والحالة هذه مثالا عن قوة الاسلام وقدرته علي تحقيق ذاته في هذا العالم الذي كانت تتسيده قوتان رأسمالية وشيوعية، وصارت الثورة الاسلامية للعديد من الناشطين المسلمين صرخة الحشد في معظم انحاء العالم الاسلامي، ويمكن اعتبار ان احتلال الحرم من قبل جماعة في داخل التيار السلفي السعودي جماعة جهيمان كان واحدا من تمظهرات واثر الثورة الاسلامية علي النشاط الاسلامي عامة. كل هذه التطورات لم تكن غريبة علي الشاب اسامة بن لادن، الذي عايش وتأثر، ولكن تجنيد بن لادن للقضايا الاسلامية جاء في مكان اخر، وفي ظروف اخري لها علاقة بالاجتياح السوفييتي لافغانستان، ومن هنا، اي من هذا المكان تبدأ السيرة الذاتية الجهادية لبن لادن، فأفغانستان كانت بمثابة ارض التكوين، جاءها بكرا، شابا حييا وخجولا مدفوعا بحب الخير والتعرف علي احوال المسلمين في المخيمات ومن ثم تقديم المساعدة في شكلها الاغاثي والخيري، وفي الفترة الاولي من مراحل الجهاد في افغانستان لم يكن بن لادن معروفا الا للمحيطين به. مع انه استطاع ان يثبت نفسه فدائيا مكرسا للجهاد والكفاح من اجل القضايا الاسلامية العادلة. ولكن بن لادن كان طوال الفترة ناجحا في النشاط والعمل ولم يكن منظرا كبيرا او مهتما بقضايا الايديولوجيا والفكر، وركز كل اهتمامه علي الجهاد في افغانستان فقط ولم تكن له طموحات للمشاركة في الاسلام العالمي. وفي هذا السياق يتبني الاكاديمي ازبوزيتو، الرأي الذي برز في الأدبيات الغربية عن بن لادن وكونه بحاجة دائمة لمرشد ومن هنا يظهر علاقته الروحية مع الناشط والمجاهد الفلسطيني الشيخ عبدالله عزام الذي عرف عنه عدم انشغاله بقضايا التكفير، والخلافات التي تميز دوائر العمل الاسلامي، ويعتقد ان العلاقة مع عزام اعطت بن لادن الاطار الفكري، فعزام مع انه ينتمي الي التيار الاخواني الا انه لم يكن معاديا للتيار السلفي الوهابي. وبعد اغتيال عزام في عام 1988 في حادث اغتيال لم تفكك اسراره بعد، وبدأت التحولات تظهر علي بن لادن، جاءت بعد مغادرته افغانستان وانتهاء الجهاد برحيل السوفييت، وذهابه للسودان حيث التقي مع المنظر الجهادي المصري ايمن الظواهري والاخير كان وراء اقناع بن لادن بالجهاد العالمي وضرورته، وبعد عام 1996 التي كانت ذورة التطور الذي حدث لبن لادن، بعد طلاقه مع المؤسسة الحاكمة في السعودية التي رحبت به في البداية واعتبرته بطلا ومجاهدا ثم اراد تقنين هذا الحماس القادم معه وجيش من الافغان العرب ، والتضييق عليه، وتجربته المرة في السودان واخيرا التحالف مع طالبان وظهور الدكتور ايمن الظواهري كمنظر يقف علي يمين بن لادن. ويعتقد ان الظواهري الذي ينتمي الي عائلة لها جذور في العالمية ومشيخة الازهر، يمتلك منظورا عميقا عن قضايا الصراع الدولي وحركة الافكار اكثر من بن لادن. ويعتقد العديد من الذين قابلوا بن لادن وبالضرورة الظواهري ان الاخير كان وراء التخطيط لعمليات ايلول (سبمبتر) الماضي، وفي هذا السياق فان بن لادن بدأ ينتج بعد عام 1996 وهو العام الذي عاد فيه ثانية لافغانستان خطــــابا جهادا له نزعة لعولمة الجهاد، ودولنة الجهاد، اي اختراقه للحدود القومية، وفي قلب خـــــطابه برزت ثنائية العلاقة بين الخير والشر والتحالفات الدولية والخيانات، وركز بن لادن كثيرا علي التحالف الصليبي بين امريكا والصهيونية.
ويري ازبوزيتو الذي قام بتحليل بعض من ملامح هذا الخطاب ان بن لادن قام باستخدام التقاليد السابقة عليه والتي حاولت التصدي للهجمة الاستعمارية الغربية علي عالم الاسلام. ولكن بن لادن كان يدعو باستخدامه لهذا الخطاب الذي يعود الي فكرة الحركة السلفية السعودية والحركة السلفية المصرية التي كانت نخبوية في طابعها، كان يدعو المسلمين للدفاع عن الاسلام، فالجهاد هنا هو الوسيلة الوحيدة للدفاع امام الهجمة الغربية، وهنا يتساءل الكاتب ان دعوة بن لادن للجهاد والدفاع عن النفس فيها صدي لما تدعو اليه الغالبية المسلمة وما تحمله وتنظر اليه الجماعات الجهادية المتشددة . هذه الازدواجية الظاهرة في الخطاب، تستدعي الباحث ازبوزيتو للبحث في الخطاب التاريخي الاسلامي عن معني الجهاد.

الجهاد والأمة

وقبل ذلك يقول ان الباحث المعاصر في فكر الجماعات الاسلامية وحركات الجهاد في العالم الاسلامي يعثر علي كم كبير من المصطلحات الجهادية، فكلمة الجهاد صارت عملة رائجة تستخدمها حركات التحرر الوطني، والدول وجماعات المقاومة والجماعات التي صارت في الخطاب الجديد الذي تمثله امريكا ارهابية ، وكل هذه الحركات علي تنوعها استخدمت الجهاد لاضفاء شرعية علي فعلها العسكري او المقاوم، فطالبان مثلا كانت تقاتل المجاهدين الافغان الذين صاروا التحالف الشمالي، والجهاد في كشمير ضد الاحتلال الهندي، والحركة الاسلامية في داغستان ضد النظام القائم والشيشانية ضد الروس، وفي العالم العربي صار الفعل العسكري الذي تقوم به الحركات الاسلامية ضد الانظمة جهادا تماما مثل الفعل الذي تمارسه حركات مقاومة فلسطينية جهادا ايضا.
لصياغة رؤية عن هذا الوضع الذي يبدو اشكاليا يحاول ازبوزيتو البحث عن معني للجهاد في النصوص الاسلامية الرئيسية القرآن والسنة ، فالجهاد، في معناه اللغوي والاصطلاحي يحتوي علي عدد من الملامح والاتجاهات ويشير الي عدد من السلوكيات والافعال، ومع ذلك يمكن الحديث عن نمطين جهاديين، الجهاد الداخلي جهاد النفس الجهاد الاكبر ، والجهاد الخارجي، جهاد الاعداء ، الجهاد الاصغر . ومع ذلك فما يلفت الانتباه ان جميع الجهاديين الذين يمثلون طيفا من التنوعات الاسلامية يحاولون موضعة انفسهم ضمن التجربة الاولي، النموذج الاول، العصر الذهبي للاسلام ومثال النبي محمد صلي الله عليه وسلم. لكن ما يشير اليه الباحث هنا ضروري للتفريق بين مصادر الالهام والفعل الجهادي الموجه نحو العدو الخارجي والداخلي وان حاول التموضع في المعني الاول الصادر عن تجربة المدينة، ومثال النبي صلي الله عليه وسلم، الا ان التفسيرات للجهاد ومعانيه تنتمي الي مصادر معاصرة ووسيطية، ومن هنا يمكن رسم خط تواصل بين ابن تيمية ممثل السلفية الحديثة، وسيد قطب الذي مثل الاتجاه الجديد في الفكر الاخــــواني، ومنه وربما اعترض الكثيرون ان سيد قطب حمل كثيرا اكثر مما يحتمل، ولكن الرأي الغالب، علي الاقل في الدوائر البحثية ان سيد قطب يعتبر الاب الروحي للاسلام السياسي او الاسلاـــــم المتشـــدد، والذي برز في اواخر الستينات علي صورة جماعات التكفير والهجرة. لكن هذا لا يمنع ان النموذج الاسلامي الاول، له آثاره العميقة في النفسية الاسلامية المعاصرة، ذلك ان فكرة العودة للاصول والنبع الصافي تظل ملمحا هاما من ملامح الفكر الاسلامي المعاصر، ويظهر هذا الهم، هم العودة للنبع الصافي في كتابات سيد قطب الذي تحدث عن الجيل القرآني الفريد، واعادته علي شكل طليعة التغيير.
هذه الفكرة تقود ازبوزيتو للبحث عن اشكال الجهاد في الاسلام، الجهاد للدفاع عن النفس ولنشر الاسلام، وفكرة الشهادة التي يحلها الاسلام في موقع عظيم. رغم الحيادية الظاهرة في كتابات ازبوزيتو الا انه يقع احيانا في اسر التعميمات، خاصة حينما يتحدث عن ظهور الفقه الاسلامي والتشريع. والكاتب هنا مشغول بالبحث عن الجهاد وعلاقته بصعود الاسلام وبداياته، حيث يتحدث عن الخلاف الذي قاد لانقسام المجتمع الاسلامي لسني وشيعي، وهو الخلاف الذي بدأ حول الخليفة او الامام الذي يقود المجتمع بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم. وينعي الكاتب هنا علي الغرب جهله بالاسلام، مع ان الاسلام يعتبر من اكبر الديانات في العالم. ولم يعرف العالم عن الاسلام كما يقول الباحث هنا الا بعد الثورة الاسلامية في الايرانية التي ادخلت الاسلام في وعي العالم. مع ملاحظة الكاتب ان الاسلام الشيعي لا يشكل الا نسبة قليلة من مجموع المسلمين في العالم (15 في المئة). ويعتقد الكاتب ان النظرة الامريكية عن الاسلام والمسلمين سواء في ايران او خارجها، والتي تربط بين عداء ايران والخطاب الاسلامي فيها لـ الشيطان الاكبر ، وقد غطت هذه النظرة علي غني التشيع والفكر العرفاني فيه ، كما ان للتشيع في الاسلام تاريخاً طويلاً، فقد كان العقيدة الرسمية للعديد من الدول الاسلامية عبر التاريخ. ويقدم الباحث هنا الشيعة بصفتهم جماعة منسجمة مع نفسها، حيث يتحدث عن الاغا خان ممثل الطائفة الاسماعيلية والامام الخميني ممثل الشيعة الامامية في ايران علي انهما ممثلان لتيار واحد في الفكر الاسلامي، مع ان الاسماعيلية وان ارتبطت بالتشيع الا انها اختطت لنفسها طريقا مختلفا عن الشيعة الامامية بعد وفاة الامام السادس عند الشيعة.
ولكن الكاتب يلاحظ انه لا توجد فروق عملية في التفكيرين السني والشيعي حول مركزية الجهاد في الحياة الاسلامية باعتباره الوسيلة لحفظ الامة ورعاية وحدتها، فالجهاد بالنسبة للسنة والشيعة هو الوسيلة الوحيدة لبناء الامة الاسلامية العالمية الواحدة، ولهذا السبب يقول الباحث ان العديد من المفكرين الاسلاميين السنيين لم يعارضوا الفكر الجهادي لدي الامام الخميني الذي تحدث عن ثورة اسلامية وليست ثورة شيعية.
ومثلت الامبراطوريات والدول الاسلامية المتلاحقة من القرن السابع الميلادي حتي بداية القرن العشرين صورة عن الامة الواحدة، ولكن الهجمة الاستعمارية وتصاعد الرأسمالية وظهور الدولة القومية وحركات التحديث جعلت من فكرة الامة، حلما من الماضي. ومن هنا كان علي الناشطين الاسلاميين تعزيز فكرة الجهاد والامة عالميا واعادتها للوعي الاسلامي، وهذا ما تحدثت عنه الادبيات الاسلامية المعاصرة من حسن البنا والمودودي الي سيد قطب واخيرا اسامة بن لادن وما تعبر عنه ثقافته. ويري ازبوزيتو، ان فكرة الامة الواحدة، والجهاد العالمي، لها جذورها في الجهاد في افغانستان، وفي الاعلام العربي والاسلامي العابر للحدود الوطنية، وفي المحطات الفضائية التي بدأت تنقل للبيت المسلم في العالم معاناة المسلمين في بقاع مختلفة من العالم، تمتد من الصين الي المغرب ومن المغرب الي البوسنة وكوسوفو في قلب اوروبا، ويعتقد الباحث ان دخول شبكة الانباء الامريكية (سي ان ان)، وهيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي وظهور الانترنت، عزز فكرة الامة الواحدة، اضافة لذلك فان نشوء الجمعيات والمنظمات الاسلامية الدولية اكد هذا الحس الذي يربط الامة علي تنوعاتها الثقافية والفكرية والحضارية فيما بينها.

ايديولوجيو الاسلام الجهادي

ازبوزيتو مشغول بالضرورة باعادة تعريف فكرة الجهاد ودورها في القرن العشرين الماضي وقرننا الحالي، الحادي والعشرين. ويعتقد ان جذور فكرة الامة والتصاقها بـ الجهاد موجودة في الماضي، فهو يري ان هناك استمرارية لفكرة الجهاد او الخروج والمعارضة المسلحة الموجودة الان في عدد من مناطق العالم الاسلامي وحركات متطرفة، متشددة ظهرت علي حواف الجسد الاسلامي ورافقته منذ بداياته، ويظهر هذا واضحا في حركة الخوارج، والحشاشين، فالعالم الفكري الذي ينهض منه الفكر السلفي في السعودية والحركات الجهادية المصرية وتنظيم القاعدة لبن لادن له صلة وارتباطات بعالم الخوارج، لانه عالم قائم علي التفريق بين ما هو داخل الصف وخارجه، المسلم والكافر. وعلي الرغم من بقاء الخوارج علي هامش التاريخ الاسلامي تماما مثل الحشاشين، الا ان فكرهما اثر كثيرا علي الفكر الاسلامي المعاصر. وعلي الرغم من عمومية هذا الفهم الا ان الكاتب ينقلنا بعد ذلك الي الحديث عن فكرة التجديد في الاسلام، واثر ايديولوجيين محددين في مستقبل ومصير الاسلام السياسي المعاصر، فالفكر الجهادي والسلفي الان مدين اكثر لتجديد وتجربة ابن تيمية الفكرية اكثر منه للخوارج، وقد التزم الفكر الخارج عن التيار الرئيس في الاسلام السني، ان افترضنا وجود مثل هذا التيار، فابن تيمية هو اول من رسم خطا بين الكفر والايمان، والاسلام والخروج عنه، في الفتوي المعروفة التي افتاها ضد المغول الذين اعلنوا عن اسلامهم الا انهم واصلوا ممارساتهم غير الاسلامية واحتكامهم لقانون الياسا الذي رسمه لهم قائدهم جنكيز خان، فحسب ابن تيمية فان المغول مشركون، وكفار، وقد استخدم الاسلاميون القادمون هذه الفكرة وطبقوها بحسب ازبوزيتو علي الانظمة الحاكمة في مصر الان والشعائر الخارجة عن الاسلام او البدعية في السعودية . ومن هنا فحركة محمد بن عبد الوهاب لها اصولها التاريخية والفكرية في تفكير وتجديد بن تيمية، وهو ما نجده في فكر سيد قطب. وبناء علي هذا الفهم يقدم لنا الباحث عرضا لتطور الفكر السلفي منذ عبد الوهاب الي اليوم ودور العائلة السعودية في تمتين جذور هذا الفهم حيث يشير الي ان السعودية الدولة قامت بنشر الفهم السلفي للاسلام عالميا، عبر المراكز، والمساجد، والجماعات والمنظمات الخيرية، كما ساهمت شخصيات خيرية وفردية في نشر النموذج الوهابي او السلفي في العالم.
التيار السلفي وان قدم ارضية لظهور حركات الفعل الاسلامي الا انه واصل مشروعه في اطار وتصورات خاصة، حيث استفاد اسلاميون واسلاميون تجديديون من المشروع واضافوا اليه فهما يربط بين الاسلام والسياسة كرد علي فكرة الفصل بين الدين والدولة. وهذا الخط يمثله، كل من مؤسس جماعة الاخوان المسلمين حسن البنا، ومؤسس الجماعة الاسلامية في الباكستان، ابو الاعلي المودودي. وفي هذا السياق يستعرض باحثنا مجمل الافكار التي دعا اليها كل من البنا والمودودي، فهو يري ان كلاهما نقلا الفعل الاسلامي لداخل المجتمع الاسلامي، فالدعوة التي ارتبطت بنشر الاسلام بين غير المسلمين، صارت اصلاحا للمجتمع المسلم، مع ان فكرة اصلاح المسلمين لها جذورها في جماعة الدعوة والتبليغ التي انشأها محمد الياس الكاندهلوي. بعيدا عن هذا السياق، يري الباحث ان القمع الذي مارسته الدولة القومية علي المعارضة الاسلامية، اثر بولادة جيل راديكالي يمثله سيد قطب، وهو المفكر الذي ربط، بوعي وبدون وعي بظهور الفكر الجهادي، والمتطرف في الاسلام المعاصر، وهنا يقول ازبوزيتو ان سيد قطب اراد ودعا لاحياء التجربة الماضية ودعا للعودة للاصول، ولكنه نظر للعالم من منظور الاسود والابيض ولم يسمح باية ظلال رمادية او مساحة بين هذين اللونين. وجمع سيد قطب، بين فكر ابن تيمية، والفكر الذي مثله البنا والمودودي، والذي جاء اساسا كرد علي الهجمة الغربية وتفكك العالم الاسلامي.

http://www.alquds.co.uk/alquds/artic.../05-21/g13.htm