النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: ابن حزم-رحمه الله-

  1. #1
    التسجيل
    06-01-2001
    الدولة
    في بلاد الواق واق
    المشاركات
    2,394

    ابن حزم-رحمه الله-


    الإمام ابن حزم

    أديب الفقهاء



    لم يعرف تاريخ الفقه من قبله رجلا كتب في الحب وأحوال العشاق بمثل هذه الرقة والعذوبة والصراحة، وجادل الفقهاء في الوقت نفسه بكل تلك الحدة والعنف والصرامة..!

    اجتمعت فيه صفات متناقضة: لين الطبع وسعة الأفق وعذوبة النفس، مع التشدد والتضييق وسرعة الأنفعال، والتعصب لكل ما يعتقد أنه حق، ورفض ما عداه.. فهو يناقش كل وجوه النظر في المسائل، حتى إذا اطمأن الى رأي، أدان كل مخالفيه بلا رحمة، وسخر بهم، وكال لهم الاتهامات لا يراعي لهم فضلا ولا وقارا..!

    من أجل ذلك أحبه بعض الناس حتى تحدوا فيه كل حكام عصرهم، وكرهه آخرون حتى أهدروا فيه تعاليم الدين ومبادئ الأخلاق إذ أغروا به السلطان.!

    يشهد مجالس الأنس، ويسمع مع ظرفاء عصره، ويستمع للغناء حتى يؤذن للفجر فينصرف للصلاة، ثم يعتكف النهار والليل بعد ذلك بعيدا عن السمار والظرفاء، يقرأ ويتأمل ويكتب، ثم يخرج ليحضر مجالس العلم يتلقى، ويحاور الشيوخ، ويعلم الطلاب.

    ولد وعاش ومات في الأندلس ـ أجمل بلاد المسلمين وخيرها ـ في شر فترة من عصور التاريخ الإسلامي.. إذ كانت الدولة الإسلامية العظمى في الأندلس، قد تمزقت الى دويلات صغيرة، فذهب زمن الخلفاء أولي العزم العماليق العظام، ليجيء بدلا منه عصر الحكام الأقزام، ليتصارعوا فيما بينهم، وليكيد كل واحد منهم لأخيه، ويعربد على دويلته فينقصها من أطرافها، ويحالف الفرنجة الطامعين في أن يستعيدوا الأندلس بأسر.. ومن هؤلاء الحكام الأقزام من رضي الدنية في دينه ودنياه، فأغرى الفرنج بالأموال الطائلة ليعينوه على أطماعه في الدويلات الإسلامية المجاورة الأخرى..!

    وهكذا انطفأت منارات المعرفة في قرطبة، وهي التي تضيء لكل ما حولها وما يليها من بلاد أوربا، فأصبحت قرطبة عاصمة الدولة الكبرى في الأيام الزاهية الذاهبة، دويلة من الدويلات الإسلامية..! وانصرف أهل قرطبة من جد الأمور الى هزلها..

    ونهبت خزائن الكتب في قرطبة.. وهي خزائن لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل.. وانصرف أهل قرطبة عن اقتناء الكتب كما تعودوا، الى حيازة الجواري الحسان والغلمان!. وبعد أن كان الأثرياء يتنافسون على شراء الكتب الجديدة، حتى لقد كان المؤلفون في المشرق العربي ينشرون كتبهم في الأندلس، قبل أن تظهر في بلادهم، كما صنع صاحب الأغاني، بعد كل هذا أصبح الناس يتنافسون على شراء الجواري الشقراوات والغلمان من فرنسا وإيطاليا والجزر المجاورة في المحيط والبحر الأبيض المتوسط.

    وبدلا من التفنن في إقامة خزائن للكتب، تفننوا في بناء الأجنحة للجواري.

    وذوى فن النسخ وافتقر الناسخون، لتزدهر صناعة النخاسة ويثرى النخاسون!.

    وأصبحت أسواق الأدب في متنزهات قرطبة مغاني للعشاق وخمائل للمتعة!

    وإذ بالعقل العربي في الأندلس يهجر تقاليده الإسلامية في البحث والمغامرة واكتشاف المجهول وإناء الحياة بالإضافات، ليسقط في الجمود والتقليد.! وإذ بالناس يتخذون الشيوخ أولياء من دون الله، ويتشفعون بهم من دون العمل..!

    وخلال هذا التحول كانت الفضائل تتهاوى، وقيم الإسلام تترنح، والباطل يغشى وجه الحياة، والإنسان الصادق يغترب.. والحق كسير!

    وانطفأت الحميمة.. وخبت الغيرة، وتزايل قدر الكتاب والشعراء والمفكرين ومهرة الصناع وأهل الفنون المنتجة، ليعلو مقام الجواري والغلمان والمخنثين والشذاذ..!

    وخلال هذا كله يتناقل الناس قصة أمير في أشبيلية اشتهت إحدى نسائه ان تغوص بأقدامها في الطين، فأمر بأن تصنع لها بركة من المسك المعجون بالماء المعطر..! أنفق على هذه البكرة ما يكفي لتجهيز جيش، حتى إذا أحاطت جيوش الفرنجة بأشبيلية والأمير ونساؤه يعبثون عراة في طين المسك لم يجد الأمير في خزائنه مايتقوى به على الدفاع عن مدينته..!

    وهكذا سقطوا في الطين.. المعطر!

    وفي بعض نواحي الأندلس تقل المياه، وينقطع المطر فتجف الارض، ويعطش الأحياء، وبدلا من أن يؤدي المسلمون صلاة الاستسقاء، عسى أن يستجيب لهم الله فيعم الماء، ليسقوا الأحياء والأرض، كانوا يتجهون الى قلنسوة جلبها أسلافهم من الإمام مالك، ليستسقوا بها..!

    ثم يتناقل الناس قصة رجل فاضل من أهل العلم عشق جنديا حسن الطلعة من جيش الفرنجة الذي كان يحاصر إحدى المدن، فاستخلص الرجل الذي كان فضالا هذا الجندي لنفس، وأمره على قصره لينهي ويأمر فيه، وأباحه حريم القصر، لينال الرجل العالم من الجندي ما يريد..!

    وحين كانت خرائن الدويلات خالية مما تتطلبه مؤونة الجيش، بنى أحد الأمراء قصبرا ضخما وجلب له غرائب الأزهار والأشجار والطيور النادرة، وشق له نهرا صغيرا من قمة الجبل حيث تتراكم الثلوج في الشتاء لينحدر الماء إذا ذابت الثلوج ويصفي جداول تتخلل حدائق القصر، وتنتهي الى بحيرة صنع قاعها من الرخام الأزرق الفاخر الثمين، ورصعت شطآنها بالأحجار الكريمة! لتسبح فيها الجواري الشقراوات المجلوبات من جنوب فرنسا، على شعاع الشمس إذا كان النهار، وعلى ضوء القمر أو المصابيح الذهبية في ليالي الصيف..!

    وسط هذا الجو الزاخر بصورة رائعة من جمال الطبيعة، ومظاهر مؤسية من فساد المجتمع نشأ ابن حزم.

    عاش في هذا الجو المضطرب نحو اثنين وسبعين عاما.. اشتغل خلالها بالسياسة، والأدب، والفقه، والشعر، وكابد الحياة والناس، وعرف المتعة والعذاب، وحاول أن يتعاطى الفلسفة والمنطق وعلوم الاجتماع والفلك والرياضة وعلم النفس وسماه بهذا الإسم، واحتك بمجتمعه، فصوره ورسم أعماقه ومفاسده ومظالمه، وهب في انفعال يرفض مجتمع ذاك، ويحاول أن يهدم واقعه ليبنيه من جديد!

    وفي سبيل ذلك لم يكتف بالكتابة بل خاض غمرات الصراع السياسي واشترك في مغامرات عسكرية.. وعرف الحب والنعيم، وعرف الجوى، ولم يتحرج ـ وهو الفقيه الذي يتربص به أعداؤه ـ من التصريح بتجاربه ومشاهداته، في بيان مشرق عذب، لم يتكلف فيه تغطية العبارات والألفاظ..

    وترك مؤلفات كتبها بلغت عدتها أربعمائة بين كتب طوال ورسائل قصيرة كالمقالات.. ذلك أن ابن حزم كان حين يعكف على القراءة والكتابة لا يخرج عما أخذ يه، ولا يسمح لأي ظرف مهما يكن خطره بأن يعطله!

    وكثيرا ما كان يرفض الخروج من غرفة عمله، ويأمر برد زواره وقاصديه! ولقد أغضب بسلوكه ذاك كثيرا من أصدقائه والمقربين إليه، ولكنه كان يعتذر إليهم إذا خرج من عمله يستروح، فلولا أنه يأخذ نفسه بالشدة في العمل، لما أتيح له أن ينجز شيئا.. والعلم عنده عبادة، ولئن اعتكف العابد ليتعبد، فما ينبغي أن يصرفه عن شأنه أي طارق حتى يفرغ مما هو فيه!

    ***

    ولد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، في آخر شهر رمضان قبيل شروق يوم عيد الفطر عام 384، في قرطبة حاضرة ذلك الزمان.

    كان أبوه وزيرا للخليفة الأموي هشام المؤيد وهو من أواخر الخلفاء الأمويين في الأندلس.

    ولد ابن حزم في قصر فاخر فقد صاب أجداده وأبوه ثروة ضخمة، فترك أبوه منازل الآباء في غربي قرطبة حيث يسكن أواسط الناس، واتخذ لنفسه قصرا منيفا في حي السادة شرقي قرطبة، على مقربة من دار الخلافة

    تفتحت عينا الصبي على مجال الترف، ومسارح المتاع، ومغاني الجمال، في قصر أبيه الشامخ على مرتفع يشرف على كل قرطبة، محاطا بحدائق واسعة، ترتفع فيها الأشجار، ويضوع الزهر، ويغرد الطير. وتناسب الجداول الصغيرة، ويتفجر الماء في نافورات منمنمة الحواشي والجنبات بالفسيفساء..

    على مرائي الجمال ومغاني الحسن تلك تفتحت عيناه.. فما سمع في طفولته غير الشدو، والغناء، وما رأى غير الوجوه الصباح، وخضرة الحدائق، وروعة ألوان الطبيعة الفتانة، وما ملأ صدره إلا بشذى الزهر وعطر الفاتنات.. الجبال على البعد تجلل هاماتها الثلوج وتغمر الخضرة الريانة كل سفوحها.. وهمس الجداول، وخرير الأنهار، ورنين الضحكات الفضية، وعطور الأنسام وحلاوة الأنغام، واتساق القدود ونضارة الخدود، والتماع الأضواء على الملابس الزاهية تلف القامات المتأودة.. أشعة واهنة من الشمس تتسلل من وراء السحاب وتتخلل الأغصان اللفاء، فتوشي الظلال على الأديم ذي الأعشاب... منابر الذهب والفضة.. هذا هو كل ما عرفه ابن حزم منذ نشأ حتى وثب به الصبا على وافل الفتوة.. وبل أول سنوات الشباب..

    وهو في الخامسة عشرة، تمرد على الخليفة هشام المؤيد أقرب الأمراء اليه، فساقوا جيشا من العرب والبربر والفرنجة فأسقطوا الخليفة، وولوا مكانه رجلا آخر من بني أمية.. وعزل الحاكم الجديد والد ابن حزم من منصبه واعتقله، ثم أفرج عنه، بعد حين..

    قال ابن حزم: «شغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتحنا بالاعتقال والتغريب والإغرام الفادح.. وأرزمت الفتنة وخصتنا، الى أن توفي أبي الوزير رحمه الله ونحن في هذه الأحوال بعد العصر يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة عام اثنين وأربعمائة»..

    كان ابن حزم في الخامسة عشر حين سقط الخليفة هشام المؤيد، وعزل أبوه من منصب الوزراء، وصادرت الدولة الجديدة قصره في شرقي قرطبة وما وصلت إليه من أمواله.. وبقي للأسرة بعد ذلك شيء.. منازل قديمة في غربي قرطبة انتقلت الهيا، وضيع ودور متفرقة في أرجاء الأندلس.

    ولقد عاش أبوه معتزلا الناس أربع سنوات بعد النكبة، ثم مات حزينا محسورا، وتآمر الفرنجة والبربر وبعض بني أمية على الحاكم الجديد، فوثبوا عليه، وولجوا مكانه رجلا آخر، وعاثوا في قرطبة فسادا فنهبوا الأموال وانتهكوا الحرمات واغتصبوا النساء.

    وهاهو ذا الآن يصبح وحيدا بعد أن قتل أبوه الوزير صبرا وكمدا.

    ترك الفتى قرطبة باكيا، وكتب يصف حالته: «ضرب الدهر ضرباته، وأجلينا عن منازلنا، وتغب علينا جند البربر، خرجت عن قرطبة أول المحرم عام أربع وأربعمائة»..

    كان إذ ذاك في العشرين.. فتى مثقل القلب بالهموم، تضطرم أعماقه بالإصرار على أن يغير هذا العالم المثخن بالفوضى والمظالم والفساد.!

    لقد علمه أبوه الوزير وثقفه لكي يصبح وزيرا مثله، فقد كانت الوزارة في ذلك الزمان تورث كما يورث الملك! وقد علمه أبوه منذ بدأ يعي، أنه قرشي من بني أمية.. جاء أجداده مع الفتح الإسلامي. علمه أن جده الأعلى كان أخا بالولاية ليزيد بن ابي سفيان الذي بعثه أبو بكر الصديق في أول بعثة لفتح الشام..

    وإذن فمعاوية عمه، وأجداده هم الذين فتحوا الأندلس وأقاموا فيها الدولة العظمى.. فالوفاء لأسلافه يقضي عليه بأن ينتصر للأمويين، ويدافع عنهم، ويدعم دولتهم.. فإذا سقطت هذه الدولة فالوفاء يقتضيه ان يعمل من أجل إحيائها..!.. فإذا تصارع أمراؤها فليعتزل هو الصراع!.

    كان قبل، قد نال قسطا من التعليم. وما أرسله أبوه ليتعلم في حلقات الجامع، أو عهد به الى مدارس.. بل آثر أن يعلمه في القصر.

    ولأن أباه كان خبيرا بما آلت اليه الحياة من فساد وتسخ، لم يشأ أن يعهد بهذا الطفل الى معلمين من الرجال.. بل اختار له معلمات من النساء من قريباته من الجواري.. وكانت من نساء قرطبة فقيهات وروايات شعر ومقرئات ومحدثات وطبيبات وعالمات بالفلك والفلسفة.

    ربي ابن حزم في حجور النساء كما قال.. ولازمهن حتى بلغ مرحلة الشباب.. وأتاح له لزومهن معرفة كثير من أحوالهن وأسرارهن، ودراسة خلجات قلوبهن، والاطلاع على ما يملكن من فضائل ورذائل.!

    كتب عن هذه المرحلة من صباه فيما بعد، فأعلن عدم ثقته بالنساء، وحكم عليهن في ألفاظ مكشوفة أنهن لم يشغلن العلم أو العمل متفرغات البال للرجال:

    «قرأت في سير ملوك السودان أن الملك منهم، يوكل ثقة له بنسائه، يلقي عليهن ضريبة من غزل الصوف، يشتغلن بها أبد الدهر، فالمرأة بغير شغل إنما تشوق الى الرجال...». ثم يقول: «لقد شاهدت النساء، وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين ايديهن، ولم أعف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب». ثم يسترسل: «... وهن علمنني القرآن، وروينني كثيرا من الأشعار، ودربنني على الخط. ولم يكن وكدي (أي همي)، وإعمال ذهني منذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جدا إلا تعرف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن، وتحصيل ذلك. وأنا لا آنس شيئا مما أراه منهن. وأصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها، وسوء ظن في جهتهن فطرت به، أشرفت من أسبابهن على غير قليل.

    ويعترف أنه منذ الطفولة قد أطلع من أسرار النساء والرجال على أمر عظيم، و«أصل ذلك أني لم أحسن قط بأحد ظنا في هذا الشأن، مع غيرة شديدة ركبت في... إن رسول الله (صلى الله عليه) قال: «الغيرة من الإيمان» فلم أزل باحثا عن أسرارهن، وكن قد أنسن مني بكتمان، فكن يطلعنني على غوامض أمورهن.

    ولولا أن أكون منبها على عورات يستعاد بالله منها، لأوردت من تنبههن في السر ومكرهن فيه عجائب تذهب الألباب...». ثم يضيف: «... إني لأعرف هذا وأتقنه، ومع هذا يعلم اله وكفى به عليما أني بريء الساحة»..) وثم يقسم بأغلظ الإيمان على عفته، وأنه لم يقترف حراما قط.!

    وابن حزم يروي ذكريات طفولته عن النساء الاتي عهد إليهن أبوه بتربيته.. وهن كما قال من الجواري المهذبات ومن قرابته.

    وكان أبوه يزوره خلال الدرس ليطمئن عليه، وقد قام عليه رقباء ورقائب من الشيوخ والنساء العجائز.

    على أنه صبا الى شقراء منهن فامتنعت منه ولاحقها في شرفات القصر عسى أن تبادله ما يحسن، فيستوهبها أباه، ولكنها ظلت تتمنع فأباها عليه أبوه، ووهبه شقراء أخرى، ولكن الفتى لم يستطع السلو عنها سنوات... فزوجه أبوه من شقراء أجمل من تلك، ووهبه جارية شقراء أيضا، وعاش ابن حزم لا يستحسن غير الشقراوات كما قال...

    وكان قد حفظ القرآن وقدرا صالحا من الشعر وجود الخط.. وآن له أن يفارق مدرسة النساء الى حلقات الرجال.

    واختار له أبوه عالما زاهدا ناسكا فاضلا. وتحرى الأب أن يكون معلم ابنه حصورا..

    كتب ابن حزم: «وإني كنت وقد تأجج نار الصب وشرة الحداثة، وتمكن غرارة الفتوة مقصورا، محظورا علي بين رقباء، ورقائب (من النساء)، فلما ملكت نفسي وقلت صحبت أبا الحسن بن علي الفاسي. وكان عاقلا عالما ممن تقدم في الصلاح والنسك الصحيح، وفي الزهد في الدنيا، والاجتهاد للآخرة. وأحسبه كان حصورا لأنه لم تكن له امرأة قط. وما رأيت مثله علما وعملا ودينا وروعا، فنفعني الله به كثيرا، وعلمت مواضع الإساءة وقبح المعاصي. ومات أبو الحسن رحمه الله في طريق الحج..».

    صحب ابن حزم هذا الشيخ الذي اختاره له أبوه، فانتزعه الشيخ من كل دواعي الإغراء لمن هو في مثل سنه، فما كانت النساء تحجب عن الرجال، وكان هذا كما يقول ابن حزم هو جاري العادة في التربية ببلاد الأندلس.

    بدأ الجلوس الى شيخه وهو في نحو السادسة عشر وصحبه الى حلقات علماء التفسير والحديث واللغة.

    بهر الفتى أشياخه بسرعة استيعابه، وقوة حظه، ودقة فهمه.. وبعد أن استوعب ابن حزم ما في مجالس القرآن والتفسير، صحبه شيخه ومربيه الى حلقات الفقه.

    حتى إذا خرج مربيه الى الحج فمات في بعض الطريق، استقل ابن حزم بحضور الحلقات وقد علم من شيخه الراحل قدر كل واحد من أصحاب الحلقات.. فلزم الحلقات بالجامع الكبير بالجانب الغربي من قرطبة، حيث يعيش أواسط الناس وسوادهم، وأهل العلم والطلاب. وفي هذه الحلقات عني الى جانب علوم الدين بدراسة النحو وعلوم اللغة والفلك والفلسفة والمنطق وسائر المعارف الإنسانية الموجودة في عصره.

    ولقد اهتم بالنحو اهتماما خاصا، وأدرك أن إتقان النحو هو سبيله الى فهم النصوص. ذلك أنه كان قد شهد عجبا مما يؤدي اليه الجهل الشائع بالنحو. حتى لقد تفكه بحكايات عن ذلك فيما بعد.. فروى أن رجلا كان يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة، وكان عديم الورع قليل الصلاح. فخطبنا يوم الجمعة في جامعة قرطبة فتلا في خطبته: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) فقرأها بنونين (عننتم). فلما انتهت الصلاة جاءه بعض تلاميذه وكانوا يأخذون عنه رأي مالك، فذكروا له الآية صحيحة، فأنكرها وزعم أنه هكذا تعلمها وهكذا يعلمها. فلما احتكموا الى المصحف، دخل وعاد بالمصحف وقد حذف نقطة من على تاء عنتم، لتكون نونين!»..

    ويروي عن مقرئ آخر يعلم الناس القرآن، «وهو عربي بل قرشي، وأحد مقرئين ثلاثة كانوا يقرئون العامة في قرطبة، وكان لا يحسن النحو. فقرأ عليه قارئ يوما في سورة ق (ذلك سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) فرد عليه القرشي «تحيد بالتنوين»، فراجعه القارئ وكان يحسن النحو، فلج المقرئ وثبت على «التنوين». وانتشر الخبر، حتى وصل الى فقيه كان صديقا لذلك المقرئ، فذهب اليه وقال للمقرئ القرشي: انقطع عهدي بقراءة القرآن على مقرئ، وقد أردت تجديد ذلك عليك. فسارع الفقيه الى ذلك. فبدأ يقرأ من سورة (ق) حتى إذا بلغ إلى الآية المذكورة ردها عليه المقرئ بتنوين كلمة (تحيد). فقال الفقيه للمقرئ: لا تفعل. ما هي إلا غير منونة بلا شك. فلج المقرئ. فقال له الفقيه: يا أخي إنه لم يحملني على القراءة عليك إلا ردك الى الحق في لطف. وهذه عظيم أوقعك فيه قلة علمك بالنحو.. إن الأفعال لا يدخلها التنوين البتة. فتحير المقرئ ولم يقتنع حتى جاءوا بالمصحف وبعدد من مصاحف الجيران فوجدوها مشكولة بلا تنوين».

    ظل أبن حزم يرس العلوم الدينية واللغوية والعلوم الإنسانية، ودرس الكتب المترجمة في الادب والفلسفة والخطابة والفلك، ودرس الرياضيات، ودرس الشعر العربي وأخبار العرب والتاريخ.

    ولقد درس العلوم الدينية على مذهب الإمام مالك، وكان هو المذهب الرسمي للدولة، فقد رضه الأمويون، وما كانوا يعينون قضاة أو يسمحون لفقيه أو عالم، بالفتيا أو إلقاء الدروس، إن لم يكن من أتباع الإمام مالك.. ولم يسمحوا لمذهب غيره بالوجود في الأندلس، كما فرض العباسيون في المشرق مذهب الإمام أبي حنيفة.. ولهذا قال ابن حزم: «مذهبان أنتشرا بقوة السلطان، مذهب ابي حنيفة في المشرق ومذهب مالك في المغرب.»

    انكب ابن حزم على طلب العلم، حتى أصبحت قرطبة مسرحا للحرب بين الجماعات المتصارعة، وانتهبت منازل أسرته في غربي قرطبة، ووجد الفتى الأمراء الأمويين في صرعهم الداخلي يرمون قرطبة بجند البربر وعسكر الفرنجة على قرطبة الشماء، ليفسدوا يها، ويسفكوا فيها الدماء.. حتى لقد قتلوا نحو عشرين ألفا من أهلها من بينهم عدد كبير من العلماء والفقهاء والمقرئين والقراء وشيوخ المساجد!

    فرحل الشاب الى مرية بعيدا عن قرطبة ليقيم في ضيعة لأهله هناك، وفي أعماقه ينزف القلب المزق، ويحتدم في صدره الشوق الى أن ينقذ الإسلام، وأن ينشل الأندلس بأسره من كل هذا الهوان..!

    ولكن كيف؟! ما عساه أن يصنع هو وحده، وهو بعد طالب علم في الثانية والعشرين، بلا جيش ولا نصير!؟

    فليتفرغ هناك لدراسة كل ما بين يديه من آثار في الدين والفكر، وكل معطيات العقل الإنساني.. فليعمر عقله بالعلم وقلبه بالأمل حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا...

    وعندما يجيء الوقت، سيشرع قلمه ليواجه الفوضى، والعار، والفساد، بأقوى مما يستطيعه السيف البتار..!

    وفي المرية، وجد عددا كبيرا من الشيوخ ممن هاجروا في ارض الله الواسعة، نأيا بأنفسهم عن مضطرب الفتنة والدماء في قرطبة المنتهكة، التي غمرت أجواءها العطرة الطيبة، رائحة الموت، والحياة المتعفنة، ورائحة العار...!

    ولزم ابن حزم من وجد في «المرية» من شيوخ قرطبة واخذ عنهم، وقسم وقته بين حضور الدروس في المسجد، والقراءة في البيت... وظل على هذه الحال نحو ثلاث سنوات.

    ولكن الأمراء الأمويين في صرعهم على السلطة سقطوا جميعا فآل الأمر في قرطبة إلى آل حمود.. وهم علويون، وبين الأمويين والعلويين خصام متقد!

    استولى العلويون على قرطبة، وبسطوا سلطانهم على كثير من أقطار الأندلس، فتوجس ابن حزم في نفسه خيفة مما قد يقع له.. فهو ابن أسرة تنتمي للأمويين.

    وصحت مخاوف ابن حزم طالب العلم الذي أصبح في الخامسة والعشرين، إذ أوقع به والي «المرية»، واتهمه بالتآمر مع صاحب له ليعيدا ملك بني أمية.. فاعتقله هو وصاحبه شهرا ثم أمر بإبعادهما. فتطوع أحد أصحاب حاكم «المرية» باستضافة ابن حزم وصاحبه.. يقول ابن حزم: «فأقامنا عنده شورا في خير دار إقامة، وبين خير أهل وجيران، وعند أجل الناس همة، وأكملهم معروفا، وأتمهم سيادة، ثم ركبنا البحر قاصدين بنلسية عند ظهور أمير المؤمنين المرتضى عبد الرحمن بن محمد وساكناه بها».

    كان المرتضى عبد الرحمن بن محمد حفيد عبد الرحمن الناصر رجلا صالحا، هرب من قرطبة حين اشتعلت فيها الحروب الداخلية بين أبناء عمومته من الأمويين، واعتزل الفتنة، ثم ظهر بعد حين في «بلنسية»، ودعا لنفسه بالخلافة...

    بادر ابن حزم بتأييد المرتضى... فهاهو ذا رجل صالح من بني أمية، على نقيض المراء الأمويين الآخرين الذين أباحوا قرطبة جيوش البربر والفرنجة، وارتضوا أن يؤدوا الجزية للفرنجة ليستعينوا بهم في الصراع على الحكم!

    وكان المرتضى متفقها يعرف ابن حزم عنه التقوى وحسن الدين، ويتوسم فيه أن سيعيد مجد جده الأعلى عبدالرحمن الناصر، أيام نهض يوحد الأندلس ويستعيد فيه عظمة الإسلام، فسعى في عمارة الارض، وجعل من قرطبة حصنا حصينا للإسلام، ومشرقا لنور المعرفة، وجعل متنزهاتها ندوات للثقافة والجدل الفلسفي، يتمشى فيها المفكرون يجادلون ويعلمون، كما كانت أثينا في عصورها الزاهرة

    وكان المرتضى عبد الرحمن بن محمد نفسه يريد أن يعيد قرطبة والأندلس كله الى أيام جده حين كان ملوك أوربا وأمراؤها يسعون إليه أو يقدمون له الجزية، وحين كان العلماء والفقهاء والمفكرون والكتاب والشعراء هم قسمت الوجه المضيء لقرطبة، ودولة الإسلام في الأندلس!

    ولكن المرتضى عبد الرحمن بن محمد لم يكن يملك من مواهب رجل الدولة إلا الصلاح وحسن النية والرغبة الصادقة في الإصلاح.. ولا شيء بعدا!.. لا حزم، ولا قدرة، ولا حسن بصر بالرجال، ولا سائر الوسائل التي تكفل النجاح لمن يريد أن يتولى أمر الناس ويقود أو ينشئ دولة.!

    ولكن ابن حزم وجد نفسه مندفعا الى مبايعة الرجل الصالح، عسى أن يستطيعا معا هدم هذا العالم الفاسد وبناءه من جديد على البربر والتقوى والنجدة والعدل.

    اقام ابن حزم في بنلسية مع المرتضى عبد الرحمن بن محمد يدعو إليه، ويحشد له طلاب العلم ويخطب الناس ويطالبهم بأن يبايعوه بالخلافة.

    على أنه ظل خلال نشاطه السياسي العارم، يواظب على حلقات الدرس، فيتلقى عن شيوخها.

    وذات مرة سأل ابن حزم شيخ الحلقة عن مسألة من فقه مالك، فأجابه شيخه، ولكن ابن حزم لم يقتنع بالإجابة فاعترض، وضاق به الشيخ، فقال له أحد الطلاب المقربين الى شيخ الحلقة: «ليس هذا من منتحلاتك!» ذلك أنه كان حتى ذلك الوقت ينتحل كتابة الشعر والنثر افني فحسب، وكان زملاؤه يشهدون له بطلاوة الأسلوب ورشاقة العبارة، ولم يستطع ابن حزم أن يرد فما كان يعرف فقه مالك بعد، وضحك منه الشيخ والطلاب.

    غضب ابن حزم حتى قام لينصرف من الحلقة، ولكنه كظم غيظه وقعد الى نهاية الدرس. ثم اعتكف في اره يقرأ النهار والليل في فقه مالك، وفقه الأئمة الآخرين أصحاب المذاهب، وخرج بعد عدة أشهر الى الناس، فحضر الحلقة التي شهدت السخرية منه.. فناظر الشيخ والطلاب أحسن مناظرة، فأدهشهم، وقال وهو ينصرف أنا أتبع الحق وأجتهد، ولا أتقيد بمذهب.

    وأثناء انقطاعه لقراءة الفقه، أعجب بمذهب الشافعي، فمال إليه ولكنه لك لم يتقيد به... أعجبه في الشافعي تمسكه بالنصوص من القرآن واسنة، وعزوفه عن تقليد من سبقه، واستنباط الأحكام من النصوص، واعتباره الفقه هو النص أو الحمل على النص (أي استخراج الحكم من النص أي القياس عليه).

    غير أبن ابن حزم لم يلبث أن هجر القياس، ووجد أن ما قاله الشافعي في رفض الإستحسان، يصلح حجة لرفض القياس، وأنه لا حكم إلا فيما تضمنته نصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة إجماعا لا يختلف عليه واحد منهم رضي الله عنهم.

    وقد اهتدى الى هذا الرأي عندما كان يقرأ فقه الإمام الشافعي، وما كتبه الآخرون عنه، فوقع على كتاب داود الأصبهاني عن مناقب الشافعي.. وعجب الشاب بالأصبهاني وكتابته، وحاول أن يتتبعه ولكنه لم يجد في بلنسية ما يغنيه.. لو أنه يعود الى قرطبة أم المدائن في الأندلس! ففي قرطبة مهما يكن من أمر ما ليس في غيرها من المدائن!

    ولقد عاتبه بعض أصدقائه في موقفه من المذهب المالكي، فقال لهم أن الإخلاص للإسلام هو الذي دفعه الى أن يترك المذهب.. وما يبالي هو ما يكون من أمر، ما دام الإخلاص للإسلام هو رائده فيما يأخذ وما يدع من الأمور! وروى لهم أن عيسى عليه السلام سأله أحد الحواريين ما هو الإخلاص ومن لمخلص فقال عليه السلام: «المخلص من إذا عمل خيرا لا يهمه أن يحمده الناس».

    عاد ابن حزم يدعو الى المرتضى عبد الرحمن بن محمد، حتى اجتمع للمرتضى جيش يصلح للزحف، فقرر أن يزحف الى غرناطة فيستولي عليها، ويجيش من أهلها عسكرا كثيفا يستولي به على قرطبة التي امتنع فيها العلويون.

    وسار ابن حزم مع الجيش تحت راية المرتضى ولكن الجيش لم يصل الى غرناطة.

    فقد اغتيل المرتضى وهزم جيشه، ووقع ابن حزم في الأسر!

    وبعد حين أطلق من الأسر، فاختار أن يعود الى قرطبة ليتفرغ للعلم بعد أن غاب عنها نحو ستة أعوام.

    ها هوذا من جديد في قرطبة مدينته التي لم يحب ركنا آخر من الأرض كما أحبها، والتي عرف فيها عذوبة أيام الصبا، ثم قسوة الحياة منذ عزل أبوه، ومت، وشاهد طرقاتها الظليلة ومتنزهاتها الغناء يختلط فيها دم الإنسان بالمعرة والأوحال! ولكنها مهما يكن من أمر، خير المدائن عنده، ومهما يكن ما حدث يها للفكر والمعرفة، فما زالت هي هي أزخر بلاد الدنيا بالمعارف.. ومهما يكن ما حدث لخزائن الكتب فيها، وللفقهاء والعلماء، فإنه يستطيع أن يجد فيها من الكتب ومن البيئة الثقافية ما لم يجده وما لن يجده فيما عداها من أرض الله.

    منذ وقع ابن حزم وهو بنلسية على كتاب للفقيه داود بن علي الأصبهاني، وهو رحيص على أن يسترد من فقه الرجل.

    ووجد في قرطبة كل كتب داود الأصبهاني. التي تضمنت منهجه في الإعتماد على النصوص من القرآن والسنة وإجماع الصحابة في استنباط الأحكام.

    وداود الأصبهاني من مدينة أصبهان تعلم فيها ورحل الى بغداد وغيرها من حواضر الإسلام، ولد عام 202 هـ وعاش خمسين عاما تفقه فيها على مذهب الشافعي، ولكنه رفض وخالف الشافعي في الإجتهاد وهو الاعتماد على النص، أو القياس على النص. وقال: «إن الشريعة لا رأي فيها ولا اجتهاد، فهي نصوص فحسب، ولا علم في الإسلام إلا من النص». وقد سأله أحد الذين يعرفون إعجابه بالشافعي: «كيف تبطل القياس وقد أخذ به الشافعي؟!». فأجاب: «أخذت أدلة الشافعي في إبطال الاستحسان فوجدتها تبطل القياس...». وقيل عنه: «أنه أول من أظهر انتحال الظاهر، ونفى القياس في الأحكام قولا واضطر إليه فعلا وسماه الدليل»... والدليل الذي يعنيه داود مفهوم من ظاهر النص كأن يقول الحديث الشريف: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام». فهما مقدمتان دون ذكر النتيجة والنتيجة المحذوفة المفهومة من ظاهر النص: إن كل مسكر حرام. وهذا ليس قياسا، بل فهم لظاهر نص فيه إيجاز بالحذف. وكأن يقول اله تعالى: (قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر الله لهم ما قد سلف). فهذا شرط للمغفرة، وهو يعم كل من يعصي الله والرسول لا الكفرة وحدهم.

    قال عنه أحد معاصريه: «لو اقتصر على ما هو فيه من العلم لظننت أنه يكمد به أهل البدع مما عنده من البيان والادلة. ولكنه تعدى».

    وكان زاهدا عابدا. ولقد وجه إليه أحد المعجبين من الحكام يوما بألف درهم تعينه على العيش فردها قائلا لمن جاء بها: «قل لممن أرسلك بأي عين رأيتني، وما الذي بلغك من حاجتي وخلتي حتى وجهت الي بهذا؟».

    وقد وجد ابن حزم في قرطبة حين عاد اليها هذه المرة بعض الذين تأثروا بآراء داود، ووسعوا منهجه الظاهري، وتركوا كتبهم في خزاين الكتب بقرطبة، وفي صدور بعض أتباعهم، فدرس ابن حزم كتبهم وتتلمذ عليهم.. وخلال خمس سنوات وهب فيها نفسه للعلم، ودراسة الفهم الظاهري، لم يعد الشاب يفكر في السياسة. وأعلن الخلاف مع الشافعي متابعا فقه أهل الظاهر. وقيل له يفكر في السياسية. وأعلن الخلاف مع الشافعي متاعا فقه أهل الظاهر. وقيل له في خلافه مع الشافعي بعد أن أحبه وأعجب به، فاستشهد بما قاله الإمام الشافعي حين عوتب على خلافه مع الإمام مالك وهو شيخه: «أقول في هذا ما قاله أرسطو حين خالف أفلاطون: أفلاطون أستاذي وأنا أحبه ولكن الحقيقة أحب الي من أفلاطون».

    وتمر الأعوام وابن حزم لا يشغله إلا الدرس الجاد.

    ووجد بعض المتعصبين من اليهود والنصارى يطعنون في الإسلام مستغلين الضمور الفكري والفقهي، وشيوع التقليد، وتجمد العقل، فانبرى لهم ابن حزم يجادلهم، ويسفه آراءهم، في حدة وعنف، مؤكدة أن ما اعترى الحياة الإسلامية من فساد وبلادة، وما يشيع فيها من جمود فكري، وتقليد أعمى للسلف، ليس من الإسلام، ولكنه محنة للإسلام.

    ولهو يع نفسه لمعارك فكري أخرى يجلو فيها حقائق الإسلام كما هي في أصلها الثابت من ظاهر النصوص وإجماع الصحابة.. ولهو سعيد بتفرغه للعلم، يكتب النثر الفني والشعر، ويناقش آراء ارسطو في المنطق، وفتاوي الفقهاء المقلدين.. ولهو ينضح على نار التأملات، والقراءات الجادة المتصلة منهجه في الفقه... ولهو مستغرق مستوعب في العلم.. إذ بالسياسة تفرض نفسها عليه مرة أخرى، وتقتحم بابه في عنف، وتنتزعه انتزاعا من تأملاته وقراءاته وكتاباته ومناظراته..

    كان قد سئم السياسة فتركها، وظل يرقب بألم ما يضيق به صدره ولا ينطلق به لسان: تناحر الأمراء على السلطة، وفتك بعضهم ببعض وهم خلال هذا الصراع قد وطأوا أكناف قرطبة وهامتها لسنابك خيل الفرنجة «فلحق ببيوتات قرطبة معرة في نسائهم وأبنائهم.»

    إنه متعب من السياسة واهل السياسية.. متعب من الأصدقاء... متعب من الحياة.. متعب من كل شيء.. ولا راحة له إلا في العلم والكتابة...!

    فقد رأى فيما رأى: هشام المؤيد الأموي الذي استوزر أباه، يعزل، ثم يختفي، ثم يظهر، ثم يتولى الأمر..

    لكم فجع ابن حزم في هشام هذا بعد أن تعود احترامه وأشرب حبه منذ الصغر!.. ذلك أن المؤيد هذا، تولى الخلافة من جديد وأصبح أمير المؤمنين، فناوأه أمير آخر من بني عمومته، وزحف بجنده، فاستنصر هشام بالفرنجة وعرض أن ينزل لهم عن قشتالة.!.. ونصره الفرنجة بهذا الثمن، ولكن مناوئه غلبه على قرطبة وأسقطه، ثم قتله... واستعان هو الآخر بالفرنجة ليوطد أركان ملكه!

    لم هو مزري كل هذا..!

    غير أن السنوات تمر، والانقلابات تستمر، وتتوالى التغييرات فلا يستطيع العقل أن يلاحقها... وها هوذا يستقر في قرطبة من جديد، ولكن تحت حكم العلويين من آل حمود الذين اسقطوا حكم الأمويين.

    وتمضي الحياة وهو سعيد بنشاطه العلمي وهمومه الفكرية..

    هدأ أبن حزم عن السياسة، ولكن اهل قرطبة لم يهدأوا.. فثاروا على حاكمهم العلوي واختاروا واحدا من بني أمية ليولوه الخلافة مكان الخليفة العلوي.. وهو حفيد آخر للخليفة العظيم عبدالرحمن الناصر.. صاحب قرطبة في زمن البطولات والشموخ.!

    كان ابن حزم قد بلغ الثانية والثلاثين من العمر، وحين رأى إصرار أهل قرطبة على تولية حفيد آخر لرجل العصر الذهبي عبدالرحمن الناصر، انضم اليهم، فما كان بوسعه أن يسكت.!!

    مرة أخرى تغزو قلبه الأشواق الى بناء الإندلس من جديد واستعادة الأيام الرائعة الغابرة.. فترك تأملاته وكتبه ومناظراته وقلمه وانضم للثائرين!..

    وعزل أهل قرطبة الخليفة العلوي، وولوا مكانه عبد الرحمن بن هشام ابن عبد الجبار حفيد الناصر. ولم يكد يتولى حتى عين ابن حزم وزيرا له.

    ولكن الخليفة الجديد لم يكن يملك من المواهب شيئا ولم تكن له ميزة تؤهله لأن يكون أمير المؤمنين.. إلا أنه حفيد عبد الرحمن الناصر! كان شابا في نحو الثانية والعشرين، غريرا، ساقط الهمة، سيطرت عليه النساء وأهل الدسائس... وكان الى ذلك طائشا يأخذ بالظن، مزهوا بشبابه وثرائه، مفتونا بالسلطة.. فلم يكد يستقر على عرش قرطبة، حتى شك في جماعة من الذين حملوه الى العرش وهم من أهل المشورة والرأي والحكمة في الأندلس، وكافأهم على ما بذله من أجله بعزلهم وإقصائهم وإلقاء بعضهم في غيابات السجون، واتهمهم بالتآمر عليه ليولوا مكانه أمويا آخر وأظهر بدلا منهم عددا من الرقعاء وأهل الشذوذ وأصحاب السمعة السيئة!

    ولم ينتصح بنصيحة أحد، فقد أقنعته شكوكه وأقنعته بطانته أن كل من يعارضه يريد أن يسقطه، ويوالي عليه أحد أبناء عمومته من الأمويين. وثارت قرطبة من جديد وأخرجت قادتها من السجن عنوة، وزحف الثائرون على قصر الخليفة فانتزعوه منه وقتلوه.. ولم يكن قد مر على ولايته أكثر من شهرين..!

    وداست أقدام الثائرين ابن حزم وزير الخليفة المخلوع.. واتهموه بأنه سكت على المظالم، فألقوا به في السجن ولبث في السجن عدة أشهر.

    ثم راجع الثوار أنفسهم وفحصوا أعمال ابن حزم خال ولاي الخليفة المقتول، فلم ثبتوا على ابن حزم الموافقة على الفساد أو المظالم، وثبت لهم أنه كان عاجزا.. كان وزيرا لا يؤخذ برأيه، ولقد حاول أن يعتزل! ولكنه خاف طغيان الخليفة.. فقضى الشهرين وزيرا يتحمل الوزر بلا غنم..

    خرج ابن حزم من السجن وفي عزمه ألا يتعاطى السياسة أبدا وأن يهب عمره كله للكتابة.. وعاد الى العمل.. يقرأ ويكتب ويناظر.

    ولكنه لم يكد يتفرغ لعمله أربع سنوات حتى ظهر رجل آخر أموي أسمه هشام من أحفاد عبد الرحمن الناصر.

    هشام آخر!! وهو مرة أخرى من أحفاد الخليفة الذهبي!!.. وما أكثر ما تسخر الحياة بابن حزم اباحث عن الهدوء!

    مرة أخرى يترك القلم والورق والمناظرة وينضم الى الثوار!

    ونظر هشام المعتد بالله بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر فيمن حوله من الرجال، فاختار ابن حزم وزيرا.

    ولكن الخليفة الجديد كان هو الآخر مخيبا للظنون، فلم يحقق شيئا مما عقده الناس عليه من آمال، وشغله الصراع مع بني عمومته والأمراء الآخرين، وازدادت الدولة ضعفا، وصح فيها قول كبير الفرنجة أيام الفتحة الإسلامي: لا تقاوموا الفاتحين فهم يتحركون بروح الفداء ويزحفون بالحرص على الاستشهاد وطمعا في نعيم الآخرة، وبإيمان جائح يستطيع أن يقتحم كل الصعاب.. ولكن انتظروا حتى يشغلوا بالمال والسلطة، ويتنازعوا على الحكم، وحينئذ يستطيع الفرنجة أن يستردوا الأندلس.

    وفي الحق أن العرب حين نزلوا أرض الأندلس، بعزم، وجسارة قلب، وإرادة لا تقهر، اجتاحوا الأندلس بمثل طاقات المد، فهي لا تتوقف ولا يقاومها أحد بعد. وكانوا قد أحرقوا السفن من ورائهم، فما الى فرار من سبيل، ولا محيص.. فإما الشهادة أو النصر!

    ولكن نبوءة كبير الفرنجة تحققت، فتدهورت الأمور وتمزقت الدولة حتى أصبحت حراب الفرنجة تسند عرش أمير المؤمنين.!

    على أن قرطبة ثارت على أمير المؤمنين هشام المعتد بالله، واسقطته وأسقطت معه الدولة الأموية كلها، فلم تقم قائمة لها الى الأبد.. وتولى بدلا من الأمويين ملوك الطوائف.. وقسموا إمارات الأندلس فيما بينهم، واختفى الخليفة المخلوع في أحد الثور حتى مات بعد ست سنوات من خلعه.

    أما ابن حزم، فلم يبق وزيرا حتى سقوط الحكم الأموي، بل اعتزل المنصب حين تأكد له أنه لن يستطيع أن يحقق شيئا للدولة مما عاش يحلم به، إذ استيقن أن حفيد عبد الرحمن الناصر هزيل لا رجاء فيه.

    ما ضعف ابن حزم أمام السياسة، وما حقق من خلالها شيئا ينفع الناس!؟

    ولقد وجدها أداة فاسدة للعبير، فليبحث إذن عن أداة أصلح!

    ووجد في الكتابة التعبير عن اشواقه في إصلاح أمور الأمة، والنهوض بأحوال المسلمين، وعزاء للقلب المعذب. وأنه ليشعر في أغوار نفسه أن جهاده بالفكر والقلم كالجهاد في سبيل الله بالسيف والمال..

    ولكن في أي ارض يختار معركته..!..؟

    لم يشأ يحيا في قرطبة تحت ظلال حكم ملوك الطوائف..، فتركها وطاف بالأندلس، يجمع من حوله طلاب العلم فيلقي عليهم الدروس ويناظرهم، ويفرغ لنفسه يقرأ ويتأمل ويكتب.

    ****

    كانت له ضياع في أكثر من مكان في ريف الأندلس، فكان يقيم في المدن القريبة من هذه الضياع، ثم يطوف بالعاملين في الأرض يتأمل أحوالهم..

    وهاله ما هم يه من شقاء..! إنهم ليدفعون إيجارا باهظا للأرض، ولا يكادون يوفرون ما يكفيهم للعيش بعد أداء الأجرة للملاك!!.. والملاك يحصلون على هذه الأموال الطائلة ويبنون القصور ويقتنون الجواري الحسان ويعيشون حياة فارة من البطالة واللهو..!

    وفكر ابن حزم في القاعدة الشرعية التي يقوم عليها هذا النظام، وعاد يقرأ النصوص في القرآن والسنة من جديد، وتتبع الآثار وأخبار الصحابة، حتى انتهى به النظر الى أن نظام الإيجار في الأرض الزراعية حرام، فقد جرت السنة على المزراعة: يأخذ المالك نصف الإيراد أو ثلثيه أو ثلاثة أرباعه أو أقل من ذلك والباقي يحصل عليه الزارع.. هكذا فعل الرسول(صلى اله عليه) بأهل خيبر.. إذ زارعهم مناصفة.

    وعلن هذا الرأي فقامت عليه القيامة.. وأسرع كبار الملوك الى الفقهاء يلتمسون منهم دفع البلاء الذي سينجم عن رأي ابن حزم.

    واجمع الفقهاء على أن ابن حزم يحرف في الدين، فهو يبتدع رأيا يخالف به كل الأئمة أصحاب المذاهب: مالك بن أنس، وابو حنيفة النعمان، والشافعي، وأحمد بن حنبل، بل إنه ليخالف ما جرى عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.. ثم إنه يناقض حتى شيخه الفقيه الذي نقل عنه استنباط الأحكام من ظاهر النص أو الإجماع وهو داود الأصبهاني، إمام أهل الظاهر الذي أخذ عنه ابن حزم كل الأصول والفروع في الفقه.

    لقد أتى ابن حزم إذن بما لم يقل به الأوائل.. وإنها لكبيرة أراد بها إثارة الفتنة بين الزارع وأصحاب المزارع... فما ينبغي للحكام أن يتركوه يحدث من البدع أكثر مما أحدث..!

    واتهم ابن حزم مخالفيه بالجهل وقال أن فقيها عظيما هو إمام أهل مصر الليث بن سعد نادى بهذا الرأي منذ أكثر من قرنين، وكانت له ضياع كثيرة، لم يؤجرها منذ اهتدى الى هذا الرأي، بل كان ينتفع بها بالمزارعة، وكان يجعل معظم ما يحصل عليه في صرر ويجلس أيام الحصاد أمام باب اره في الفسطاط بجوار جامع عمرو، فيوزع الصرر على الفقراء والمساكين وذوي القربى كل واحد صرة أو أكثر من الصرر ويرسل بعضها خفية الى أصحاب الحاجات من أهل العلم.: معلمين وطلاب..!

    ولم يتهم أحد من الفقهاء الإمام الليث بأنه يثير الفتنة، وحين عارضه بعض فقهاء عصره ممن يعشون في ظروف اجتماعية مختلفة قال: «نحن أهل مصر والنوبة أدرى بأحوالنا من سوانا»!

    لم يشغب أحد على الإمام الليث لأنه رأى قصر استثمار الأرض الزراعية على المزارعة، ولذلك لم يتوقف كثيرا ليدافع عن رأيه وليطنب في تقليله وتسبيبه!... وكان كل ما لقيه الإمام الليث من خصومه فيما بعد، هو إهمال آثاره ومؤلفاته ثم طمسها بعد موته، حتى لقد تحسر الإمام الشافعي على ضياع هذه الآثار النفيسة، فوقف على قبر الليث وبكى.. ثم قال: «إنه أفقه من مالك، ولكن أهل مصر أضاعوه وتلاميذه لم يقوموا به»!.

    فما بال فقهاء عصر ابن حزم يتهمونه بالزيغ، وبالبدعة..؟! وكل بدعة ضلالة في النار..!

    إنه ليخرج على مذاهب الأئمة الأربعة الكبار، وبصفة خاصة مذهب الإمام مالك الذي جرى على أحكامه القضاء في المغرب والأندلس، ومذهب الإمام أبي حنيفة الذي جرى عليه القضاء في المشرق، فهما قطبان تدور عليهما الشريعة والفتيا،.. وهذه كبيرة عند المقلدين!!

    واستنر هذا الإتهام ابن حزم إلا أن من يخالف مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة مبتدع من أهل النار!؟

    ورد على متهمين بهجوم عنيف على متبعي المذهبين، قبل أن يبدأ في توضيح رأيه في المزارعة والإجارة...

    قال: إنه يفتي من السنة، فالمزارعة هي عمل رسول الله(صلى الله عليه)، فهو لم يؤجر ارض خيبر حين فتحها الله عليه، وإنما تركها مزارعة بالنصف لزراعها، وكانوا هم يهود خيبر، ثم مضى يقول: «فالمتبع هو القرآن واسنة لا قول أبي حنيفة ولا قول مالك لأنه لم يأمرنا قط باتباعهما فمتبعهما مخالف لله تعالى. وإن كانت فتياهما مخالفة للنص فلا يحل اتباع ما خالف نص القرآن والسنة. وهكذا نقول في كل مفت بعد رسول الله.. قال معاوية لابن عباس: «أنت على ملة ابن عمك علي، قال: لا. ولا على ملة عثمان. أنا على ملة النبي (صلى اله عليه)...

    وقالت الخوارج لعمر بن عبد العزيز «لا نريد أن تسير فينا بسيرة عمر ابن الخطاب. فقال عمر بن عبد العزيز: «قاتلهم الله، والله ما أردت دون رسول الله إماما»... فإن توهموا بكثرة أتباع حنيفة ومالك وولاية أصحابهم القضاء فالكثرة لا حجة فيها ويكفي من هذا قول الله تعالى: (وإن تطع أهل الأرض يضلوك عن سبيل الله). وقال: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وليل ما هم). وقال رسول الله(صلى الله عليه): «إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا. فطوبى للغرباء». وأنذر عليه السلام بدروس العلم (أي اضمحلاله) وظهور الجهل (اي تفوقه)....

    ثم يضيف ابن حزم ساخرا: «فلعمري لئن كان العلم ما هم عليه من حفظ رأي أبي حنيفة ومالك والشافعي فما كان العلم قط أكثر مما هو منه الآن، وهيهات!».

    ثم يستطرد ابن حزم: «... ولكن الحق والصدق هو ما أنذر به رسول الله. والذي درس هو اتباع القرآن والسنن فهذا هو الذي قل بلا شك وأصحابه هم الغرباء القليليون جعلنا الله منهم، ولا عدا بنا منهم... وأما ولايتهم القضاء فهذه أخزى واندم، وما عناية جورة الأمراء وظلمة الوزراء خلة محمودة، ولا خصلة مرغوب فيها في الآخرة. وأولئك القضاة وقد عرفناهم إنما ولاهم الطغاة العتاة من بني العباس (في الشرق) وبني مروان (في الغرب) بالعنايات والتزلف إليهم عند دروس الخير وانتشار البلاء، وعودة الخلافة ملكا عضوضا، وابتزازا للأمة.. فهؤلاء القضاة هم مثل من ولاهم من المبطلين سنن الإسلام المحيين لسن الجور والمكر وأنواع من الربا والرشوة، وأنواع الظلم وحل عرا الإسلام. وقد علمنا أحوال اولئك القضاة الذين يأخذون دينهم عنهم، وكيف كانوا في مشاهدة إظهار البدع من المحنة في القرآن بالسيف والسياط والسجن والقيد والنفي (يشير الى محنة خلق القرآن التي جلد وعذب فيها الإمام أحمد بن حنبل)... فمثل هؤلاء لا يكترث بهم، وإنما كان أصل ذلك تغلبي أبي يوسف (تلميذ أبي حنيفة) على هارون الرشيد (في بغداد) وتغلى يحيى (من أتباع مالك) على عبد الرحمن بن الحكم (في قرطبة) فلم يقلد القضاء شرقا وغربا إلا من أشار به هذان الرجلان. والناس حراص على الدنيا، فتتلمذ لهما الجمهور لا تدينا، ولكن طلبا للدنيا».

    ثم يمضي في دحضه آراء المتمسكين بالمذاهب فيقول: «ونحن في غنى فائض ولله الحمد عن هذا التكلف، وفي مناديح رحبة (جمع مندوحة) عن هذا التعسف، بنصوص القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله(صلى الله عليه)، فلا سبيل الى وجود شرع لم ينص على حكمه».

    وقال عن خصومه أهم أحد رجلين: إما رجل لا يعلم السنة فهو جاهل، أو رجل علمها، وتركها الى أقوال الأئمة أصحاب المذاهب فهو يخالف أوامر الله ورسوله. وكلا الرجلين فاسد الرأي ساقط الفتيا، ولا يحق له أصلا أن ينتحل العلم أو الفقه».

    ويسوق ابن حزم بعد هذا حجته الدامغة من السنة بأسانيدها الصحاح الثابتة:

    – قال رسول الله(صلى الله عليه): من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها، فإن ابى فليمسك ارضه.

    – عن نقل متواتر موجب للعلم المتيقن أن رسول الله (صلى الله عليه) نهى عن كراء الأرض. وعن نقل آخر متواتر أنهى نهى عن أن يؤخذ للأرض أجرة.

    – من النقل المتواتر: «أعطى النبي (صلى الله عليه) خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها. ولهم شطر ما يخرج منها» وشطر ما يخرج منها أي نصفه. ويروى عن رسول الله(صلى الله عليه) أنه دفع الى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها، على أن يعملوها من أموالهم ولرسول الله(صلى الله عليه) نصف ثمرها، ويروى أنه لما ظهر رسول الله(صلى الله عليه) على خيبر أراد إجلاء اليهود عنها فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف الثمرة فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه): «نقركم بها على ذلك ما شئنا». فقروا بها حتى أجلاهم عمر بن الخطاب..

    ولم يسكت مخالفوه من الفقهاء والعلماء ردوا عليه الإتهام بالجهل ومخالفة الله ورسوله، واتهموه بقصور الفهم، إذ لم يفهم أن رسول الله (صلى الله عليه)حرم إجارة الأرض بحكم خاص لا يجوز تعميمه، لأنه كان بشأن واقعة معينة، وهذا هو عين ما فهمه أصحاب المذاهب من الأئمة الكبار. فقد اقتتل رجلان على إجارة أرض زراعية فقال الرسول (صلى الله عليه): «إذا كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع» أي لا تؤجروها.. فهو لم ينه عن المبدأ نفسه، ولكنه نهى عن الإجارة إذا أفضت الى نزاع يتقاتل فيه مسلمان. فرد عليهم أن هذا يمكن أن ينطبق على المزارعة أيضا، فقد يؤدي النزاع فيها الى اقتتال مسلمين!.. ولكنهم أيدوا رأيهم في إباحة الإجارة بما قاله سعد بن أبي وقاص: «أرخص رسول الله (صلى الله عليه) في كراء الأرض بالذهب والورق».

    ولكن ابن حزم رد قولهم عليهم، بالطعن في قوة السند الذي روى الحديث الوارد في واقعة الإقتتال، والخبر المنقول عن سعد بن أبي وقاص، وذهب الى أنه حتى لو صح الأثران، فما يجوز العدول عن السنة الثابتة الى خبر يرويه صحابي واحد مهما يكن خطر شأنه! واتهمهم بأنهم بإباحة الأجر إنما يظلمون الزارع ويحابون الملاك لأن يؤدي التزامه ويسلم المالك الأجرة المتفق عليها كاملة، فهما يقل الإنتاج، أو حتى إن لم تنتج الأرض اصلا، وهذا هو الظلم بعينه: «وما ربك بظلام للعبيد»

    واستخلص النتيجة في حسم: «لا تجوز إجارة الأراضي أصلا لا للحرث فيها ولا للغرس فيها ولا للبناء فيها ولا شيء من الأشياء أصلا، لا لمدة مسماة قصيرة ولا طويلة، ولا بغير مدة مسماة، لا بدنانير ولا بدراهم، ولا بشيء أصلا، فمتى وقع فسخ أبدا، ولا يجوز في الأرض إلا المزارعة بجزء مسمى مما يخرج منها. أو الممارسة كذلك قط، فإن كان فيها بناء أقل أو أكثر جاز استئجار ذلك البناء وتكون الأرض تبعا لذلك البناء غير داخلة في الإجارة أصل.». ثم يكرر: «لا يجوز كراء الأرض بشيء اصلا لا بدنانير ولا بدراهم ولا بعرض ولا بطعام مسمى ولا بشيء أصلا»... فهو يعتبر إجارة الأرض بأي مقابل حراما.. ويضيف: «ولا يحل في زرع الأرض إلا أحد ثلاثة أوجه: إما أن يزرعها المرء بآلته وأعوانه وبذره وحيوانه، وإما أن يبيح لغيره زرعها ولا يأخذ منها شيئا، فإن اشتركا في الآلة والحيوان والأعوان دون أن يأخذ من الأرض كراء فحسن، وأما أن يعطي أرضه لمن يزرعها ببذره وحيوانه وأعوانه وآلته بجزء ويكون لصاحب الأرض مما يخرج الله تعالى مسمى إما النصف أو الثلث أو الربع، ونحو ذلك، أكثر أو أقل. ولا يشترط على صاحب الأرض شيء من كل ذلك. ويكون الباقي للزارع قل ما أصاب أو كثر. فإن لم يصب شيئا فلا شيء له ولا شيء عليه. فهذه الوجوه جائزة. فمن أبى فليمسك أرضه».. ثم يقول أن عقد المزارعة ليس له أجل «لأنه لم يوجبه نص ولا إجماع فهو شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل بحكم النبي (صلى الله عليه).... وليس لأحد أن يوجب ولا يحلل إلا بنص ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله تعالى وشرع من الدين ما لم يأذن به الله. قال الله تعالى: |(أم للإنسان ما تمنى...).

    أما إجازته التعاقد في المزارعة على ما دون النصف على خلاف فعل الرسول فهو ليس خروجا على اسنة أو قياسا عليها.. ويقول «إن حكم سائر الأجزاء كحكم النصف فإذا كان النصف حلالا، فسائر الأجزاء حلال، وهذا برهان ضروري متيقن لا يجوز خلافه.. فإن المتعاقدين على النصف قد تعاقدا على ما دون النصف بدخول ذلك النصف».

    وجرى في المساقاة على رأيه في المزارعة. فأفتى بأن إيجار الماء لسقي الزرع لا يجوز. ولا يجوز شراؤه للوضوء أو الشرب.

    لم يقتنع بهذه الآراء أحد من الفقهاء أو كبار ملاك الأرض الزراعية، ولكنها بهرت شباب العصر المخلصين، المتطلعين الى العدل، فالتفوا حوله أينما اتجه.

    وحماه تجمعهم حوله، من فتك بعض أعدائه به.. فقد كادوا له عند أمراء الولايات التي طاف أو يطوف بها، وحرضوا عليه كبار الملاك والفقهاء المخالفون، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينالوا منه، فقد وجد الحماية في حصن حصين من إعجاب الشباب والزراع وفلاحين به، والتفافهم من حوله في جولاته بريف الأندلس.. وخشي الأمراء أن يبطشوا به، فتنفجر الثورة عليهم.. ولكنهم ضايقوه وضيقوا عليه، فأخذوا يقتطعون من أملاكه، ويصادرون بعض اراضيه، حتى اضطر الى الرحيل عن الأندلس كله، بعد أن طاف بمعظم ريفه ومدنه والجزر التابعة له.

    الى حاضرة أخرى من حواضر الفقه والفكر يشد الرحال ويركب البحر..

    الى القيروان، حيث تسربت كتب نادرة من خزائن قرطبة بعد نهبها، وحيث يعيش عدد من فقهاء الأندلس من هاجروا في الأرض بعد فساد الأمراء في الأندلس، وبعد أن طفا الزبد وذهب ما ينفع الناس.!

    وفي القيروان التقى بكثير من العلماء والفقهاء والمفكرين من أهل المغرب، وبقصادها من علماء المشرق.

    وهناك استمع الى الفقهاء وناظرهم وناظروه وجلس اليه طلاب العلم

    ولكنه لم ينس قرطبة ولا الأندلس، في قلبه حنين متوقد! وإن نفسه لتتمزق حسرات..!

    كتب الى صديق له بالأندلس: «أنت تعلم أن ذهني منقلب، وبالي مضطرب بما نحن فيه من نبو الديار، والجلاء عن الأوطان، وتغير الزمان، ونكبات السلطان، وفساد الأحوال، وتبدل الأيام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد، واليأس من الرجوع الى موضع الأهل، ومدافعة الدهر، وانتظار الأقدار، لا جعلنا الله من الشاكين إلا إليه، وأعادنا الى أفضل ما عودنا. وأن الذي أبقى لاكثر مما أخذ، والذي ترك أعظم مما تحيف، ومواهبه المحيطة بنا، ونعمه التي غمرتنا لا تحد ولا يؤدى شكرها، والكل منحه وعطاياه، ولا حكم لنا في أنفسنا ونحن منه وإليه منقلبنا، وكل عارية راجعة الى معيرها وله الحمد أولا وآخرا».

    ولقد حاول أمير القيروان أن يصله ببعض الهدايا والمال، تقديرا له ولكن ابن حزم رفض، وكان يرفض عطايا الأمراء بعد بني أمية، ثم أنه على الرغم مما فقده لم يكن في حاجة، وأنه ليشعر بعد في أغوار نسه أنه فوق الأمراء والوزراء لانه كاتب وفقيه ومكر.

    ولم يكن ابن حزم يابى على غيره أن يقبل الهدايا من السلطان، وكان يعجب لمن يتعففون عنها بشبهة أن الحرام داخلها بغضب أو نحوه، وهم في ذات الوقت يسكتون عن المحرمات التي يقترفها الأمراء كالغصب والفساد والإفساد وما الى ذلك؟..

    كان يهزأ بهم ويزري عليهم إذ ينأون بأنفسهم عن الشبهات، وهم يستبيحون المحرمات ويرقون فيها الى الأذهان!.. وشبههم بالذين سألوا عبد الله بن عمر عن المحرم في الحج أو العمرة أمحل له أن يقتل حشرات الفراش؟ فسألهم ابن عمر: «من أين أنتم؟» فقالوا من «الكوفة»، فقال لهم: «قاتلكم الله. تسألون عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بن علي رضي الله عنهما؟».

    استقر ابن حزم في المغرب سنوات، لم ينقطع فيها عن القراءة والكتابة، على الرغم من أنه كان ينفق وقتا طويلا في مناظرة الفقهاء والجلوس في الحلقات ليتلقى عنه طلاب العلم في إعجاب به شديد في القيروان وغيرها من مدن المغرب.

    وعلى الرغم من بعده عن الأندلس لم يهدأ عنه مخالفوه من الفقهاء هناك، إذ استمر على منهجه من نبذ المذاهب الأربعة، ومهاجمة أتباعها ومقلدي الأئمة الكبار، وازداد عنفا على مخالفيه، واشتد في وجوب الأعتماد على النصوص وحدها، وهاجم الذين يعتمدون على الرأي إن لم يوجد نص.

    وقادته حماسته للمنهج الظاهري للقياس وللاجتهاد بالرأي الى الوقوع في التناقض.

    ذلك أنه كان يرى أن الحكم إذا لم يوجد في النص أو في إجماع الصحابة فهو على استصحاب الحال.. أي على الإباحة لأن الله تعالى قال: (وخلق لكم ما في الارض جميعا) فكل ما في الأرض مباح لبني آدم، إلا ما حرمه الله تعالى بنص في القرآن أو بالسنة النبوية. وتفهم النصوص بظاهرها ولكل إنسان حق فهمها..

    التزم ابن حزم هذا المنهج التزاما صارما شجع به غير أولي العلم على الفتيا، فتجاسر بعضهم على الشريعة، واشتطوا في ذلك، فخالفوا بسوء فهم نصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة، على نقيض ما أراد ابن حزم.

    ثم أن ابن حزم نفسه في رفضه القياس وأدوات الرأي الأخرى لاستنباط الأحكام فيما لم يرد به نص ولم ينعقد عليه إجماع.. ابن حزم في منهجه هذا وقع في غرائب.

    ذلك أن الفقهاء الآخرين عللوا الأحكام وفهموا أسبابها، فالحقوا الوقائع الجديدة في الحكم عليها، بما أوردته النصوص، إذا اتحدت العلة وتماثلت الحالات.. أما ابن حزم فهو يرى أن الشريعة غير معللة ولا مسببة إلا بنفسها، وإلا إذا وردت العلل والأسباب في نصوصها.

    ومن الغرائب التي وقع فيها:

    أجمع الفقهاء على نجاسة الخنزير ولعابه قياسا على نجاسة لعاب الكلب، ولكنه خالفهم جميعا لأن النص لم يرد على الخنزير، ولا حرام ولا حلال إلا بنص، فسؤر الخنزير إذن طاهر.

    وبول الإنسان ينجس الماء لأنه حكم بنص، وقياس الكلب والخنزير وسائر الحيوان خطأ.. فبولها لا ينجس الماء لأنه لا نص ولا إجماع!

    – وأباح لغير المتوضى بل وللجنب والحائض والنفساء مس المصحف والقراءة فيه. وهو في هذا كله يأخذ بآراء شيخ أهل الظاهر داود الأصبهاني الذي قال انه لا نص يمنع هؤلاء من القراءة في المصحف.

    – واعتبر العمرة فرضا كالحج، وركنا من أركان الإسلام لقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله).

    – وقال أن الزواج واجب وفرض شرعي على كل من هو قادر على النفقه والعدل مع زوجه، وذلك بنص الحديث الشريف: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج».

    وهو في كل ما يأخذ وما يدع من أمور الدين لا يقبل مخالفة ويقسو على معارضيه ويتهمهم بالجهل، وقلة الدين، وارتكاب الأخطاء الشنيعة.!

    وكان هذا الأسلوب في الجدل يوغر الصدور.

    وقد وصفه بعض أصدقائه: «أوتي العلم كله، ولكنه لم يؤت سياسة العلم».

    وبدأ الذين ناظرهم في القيروان والمغرب يضيقون به.. فلم تع الحفاوة كما ألفها في أول سنوات قدومه.!!

    ثم إنه لقي صديقا عزيزا قادما من الأندلس، ولبن حزم سبق فضل عليه، ولكن الصديق نسي الفضل السابق وتجافى لمودة ابن حزم. وحز هذا في نفس وأدرك أن الحملة عليه من فقهاء الأندلس مع تغير الحال به، وغضب أمراء الأندلس عليه، وكل ذلك أفسد بعض المودات والقلوب، حتى قلب مثل هذا الصديق.!

    ورأى ابن حزم أن يكشف للمسلمين حقيقة مهاجميه من فقهاء الأندلس عسى أن يبطل تأثيرهم على الآخرين فكتب.: «..... قد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه، ومن لا علم عنده، ومن غيره أعلم منه. وقد شهدنا نحن قوما فساقا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة ولا يجوز قبول شهادتهم. وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا وهو يتغطى بالديباج الذي هو الحرير المحض لحافا، ويتخذ في منزله الصور ذوات الأرواح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق، وعلى العدو فتيا ضدها، ولا يستحي من انحراف فتاويه على قدر ميله الى من أفتى وانحرافه عليه. شاهدنا هذا نحن منه عيانا، وعليه جمهور أهل البلد، الى قبائح مستفيضة، لا نستجيز ذكرها لأننا لم نشاهدها»...

    ثم يوجه حديثه الى الناس كافة فيطالبهم من جديد «بالاجتهاد لاستنباط الأحكام من النصوص، فهذا خير من التقليد. والمجتهد المخطئ خير من المقلد المصيب. فهو في تقليده عاص لله عز وجل لأنه فعل أمرا قد نهاه الله عنه وحرمه عليه.. وكل من عمل عملا بخلاف الله تعالى فهو باطل...

    والمجتهد المخطئ أعظم أجرا من المقلد المصيب وافضل، لأن المقلد المصيب آثم بتقليده غير مأجور بإصابته، والمجتهد المخطئ مأجور باجتهاده غير آثم بخطئه. فأجر متيقن وسلامة مضمونة أضمن من أجر محروم وإثم متيقن بلا شك».

    وبهذا أغضب فقهاء الأندلس جميعا فكلهم مقلد للإمام مالك، ثم إنه ليتهمهم بالفسق والجهل ومخالفة الشريعة في حياتهم الخاصة وباقتراف المنكر والتزوير في فتاويهم.

    وأغضب معهم فقهاء القيروان والمغرب كله لأنهم هم أيضا مقلدون للإمام مالك... وما منهم مجتهد واحد مخطىء أو مصيب!

    واستعرت الحملة عليه في الأندلس، واتهمه فقهاؤها بالقذف في المحصنين والمحصنات، وطالبوا أمراءهم بإقامة الحد عليه.

    ونبا به المغرب العربي، واضطربت تحته أرض القيروان التي اطمأن عيها سنوات. وزادت الجفوة بينه وبين فقهائها..

    ولكن كيف العودة؟ وهم هنالك يتربصون به ويترقبون عودته، وهنا في القيروان والمغرب أيضا أصبحوا من المتربصين!

    واعتزل الحياة والناس، والكتابة في الفقه، وانكب على قراءة اليونانيات والمعارف الأخرى وعاودته طبيعة التحدي فرفض منطق أرسطو!

    ولكن ابن حزم لم يحكم الحجة لاضطراب نفسه وقلقه مما يعاني.. وأتاح لمنافسيه أن يسخروا به لأنه يطاول أرسطو بغير دليل مقنع!

    وخلال قراءته المتنوعة في المعارف الإنسانية قرأ أن جالينوس يفضل اليونانية على غيرها من اللغات ويقول أن سائر اللغات إنما تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع.

    ووقف ابن حزم عند رأي آخر يذهب الى أن العربية هي «افضل اللغات لأنه نزل بها كلامه تعالى».

    كتب ابن حزم يناقش أصحاب هذه الآراء: «وقد توهم قوم في لغتهم أنها افضل اللغات وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل إنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) وقال تعالى: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون). فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك.. ثم قال عن دعوى جالينوس أن لغة اليونان أفضل اللغات: «وهذا جهل شديد لأن كل سامع لغة غير لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس».. أي إما نباح كلاب أو نقيق ضفادع.. ثم استطرد: «إن الله قد كلم موسى عليه السلام بالعبرانية (وهي لغة موسى وقومه) ونزل الصحف على إبراهيم عليه الصلاة بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا. أما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والإجماع ولا نص ولا إجماع في ذلك. إلا أنه لابد من لغة يتكلمون بها ضرورة... وقد ادعى البعض أن اللغة العربية هي لغة أهل الجنة، واحتج بقول الله عز وجل: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).. فقلت له: قل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيض). ولأنهم قالوا: (أن أفيضوا من اصحاب السعير). ثم يستطرد: (... وقد أدى هذا الوسواس الباطل باليهود الى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية وادعو أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية، فلا يكتبون عليهم غيرها.. وفي هذا من السخف ما ترى. وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه. عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل»

    وخلال اعتكافه في القيروان كتب رسالة في أسماء الله الحسنى، وخرج بها على فقهاء القيروان والمغرب، فابدوا إعجابهم بها، وعجب سائر العلماء لابن حزم هذا: لحدة طبعه وعنفه، ولعمق فكره، وجمال أسلوبه وانفجار علمه وتدفقه.. وكرر أحدهم ما قاله صديق لابن حزم من قبل: «هذا الرجل أوتي العلم كله، ولكنه لم يؤت سياسة العلم فهو يصك مخالفيه صك الجندل للوجه.»

    ورضي هو عن زوال الجفوة بينه وبين علماء القيروان والمغرب.

    واستبد به الإصرار على التفرغ للكتابة والفقه والأصول والأدب. ولهو يفكر في أي مسائل الفقه والأصول يبدأ، إذا برسالة تأتيه من صديق في الأندلس، وهو يطلب من ابن حزم أن يعكف عن الكتابة في الفقه والأصول حتى تهدأ الثورة عنه في الأندلس، وحتى يرتب له أمر عودة كريمة هادئة في المدينة التي سيصبح أميرها.. واقترح الصديق على ابن حزم أن يكتب رسالة عن النساء والرجال والحب..!

    فليكتب عن العشاق فهذا أروح لنفسه، وهو بلا ريب صارف عنه غضب الأمراء وتربص الفقهاء وكيد كبار الملاك في الأندلس.

    أخذ ينتقل بحرية في مدن المغرب العربي، ويستحضر ذكرياته وما مر به من تجارب، وما حفظ من أخبار.

    ثم عكف يكتب رسالته عن الرجال والنساء والحب وسماها «طوق الحمامة في الألفة والألاف». وهي، رسالة عن أحوال المحبين وعلامات الحب وما يعرض فيه من وصل وهجر، واقتراف للمعصية، وتعفف عنها..

    على أن ابن حزم لم ينس في أول كتابه «طوق الحمامة» ما يصنعه به مخالفوه من الفقهاء والعلماء فقال عنهم «وأساءوا العبث في وجهي، وقذفوني بأني أعضد الباطل بحجتي، عجزا منهم عن مقاومة ما أوردته من نصر الحق وأهله، وحسدا لي».

    ولقد حذر ابن حزم في صدر كتابه طوق الحمامة، أن يظن أحد بن ظن السوء، فيأثم بهذا الظن.. وبعض الظن إثم.. ثم يشكر لصديقه وده الصحيح «وأنا لك على أضعافه» ويحمد له مشاركته إياه في الحلو والمر والسر والجهر ويستشهد بأبيات له:

    وبعض مودات الرجال سراب
    أودك ودا ليس فيه غضاضة

    ولا في سواه لي إليك خطاب
    ومالي غير الود منك إرادة

    هباء، وسكان البلاد ذباب
    إذا حزته فالأرض جمعاء والورى


    ثم يقول: وكلفتني أعزك الله أن اصنف لك رسالة في صفة الحب، ومعانيه، وأسبابه وأعراضه، وما يقه فيه وله على سبيل الحقيقة، لا متزيدا ولا مفننا، ولكن موردا لما يحضرني على وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظي وسعة باعي فيما أذكره.... والأولى بنا مع قصر أعمارنا الا نصرفها إلا فيما نرجو به رحب المنقلب وحسن المآب غدا. ثم يستطرد كأنه يعتذر عما سيورد من أخبار العشاق فيذكر ما جاءت به الآثار: «أجموا النفوس بشيء من الباطل ليكون عونا لها على الحق» وأجموا النفوس أي احملوها على الإستجمام.

    و«من لم يحسن يتفتى لم يحسن بتقوى». ويتفتى يكون فتى في مرحه..

    و«أريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد».

    ثم مضى يقول: «إنه يكتب عما شاهده وعاينه وما حدثه به الثقات من أهل زمانه خلال تجربة طويلة عرف فيها الحياة وعرف الناس.

    وبكتابه «طوق الحمامة في الألفة والالاف» وأسلوبه الذي يعتبر من أرقى اساليب النثر الفني صح أن يطلق عليه «اديب الفقهاء».

    ومن عجب أن ابن حزم في كتابه عن خلجات النفس، لم يقف عند الظاهر كما ألزم نفسه في الفقه والأصول بظاهر النص، بل تعمق النفس البشرية، وزواج بين الإسلام والفلسفة اليونانية، وأدرك خفايا الصبوات والنزعات.

    ومن عجب أن ابن حزم أيضا أنه وهو الإمام الفقيه الذي يتربص به الفقهاء من مخالفيه، قد كتب عن الحب والمحبين بعبارات لم يتحرج فيها من شيء، ولم يتحر تغطية الألفاظ التي ينبغي أن تغطى.

    والأخبار التي رواها في «طوق الحمامة» مما شاهد وعاين أو سمع مع ثقات، تصور الحياة الإجتماعية في الأندلس، أصدق التصوير، وأعذبه أيضا.

    وكثير مما كتبه ابن حزم في طوق الحمامة لا يمكن إعادة نشره الآن بعباراته وألفاظه العارية، فقد ينبوبها ذوق العصر، وينكرها الحياء العام، وحسن الآداب في هذا الزمان!

    وفي طوق الحمامة فوق هذا رصد لبعض الوقائع الهامة في تاريخ الأندلس، وهي وقائع عاش في غمارها ابن حزم.. والكتاب ينتهي بمواعظ تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتبين فضل الطاعة وبح المعصية..

    غير أن ما يسترعي النظر في هذا الكتاب هو هذه الحياة الغريبة التي كان يحياها الأثرياء من أهل الأندلس.. حتى لتكتب نساء الملوك والأمراء أشعار غزل فيمن يعشقن ولا يجدن إليهن سبيلا، وويل يومئذ للمعشوق إن عرفها أهل العاشقة!!

    ومن عجائب الحب في ذلك العصر أن بعض قواد الجيوش بذلوا حياتهم لا في ميادين المعارك مستشهدين، ولكن في مخادع نساء فروا إليهن بعد الهزيمة، فاكتشفهم العدو المنتصر فقتلهم وسبا النساء!!

    وكتاب طوق الحمامة ظاهرة فريدة في تأريخ الأدب، فما كتب أحد من فقهاء أ» علماء الإسلام كتابا أو فصلا أو مقالا في الحب بمثل هذه الروعة أو الصراحة، ولا بمثل هذا العمق في تحليل النفس.

    وقد أراد ابن حزم أن يقول في هذا الكتاب أن علاقات الرجال بالنساء علاقات إنسانية، وضرورة من ضرورات الطبيعة، وفطرة، فما ينبغي أن يحجم العلماء والفقهاء عن تناولها، وإنما عليهم أن يبصروا بها الرجال والنساء، وما يحللهم أو يحرم عليهم من هذه العلاقة.. وهو يكرر القول أن الجد لا يصح إلا بشيء من المرح، فيجب ألا يعزف أحد عن المرح، فالمرح هو الذي يقوي النفس على مواجهة جد الأمور، وليس ثقل الظل من الدين في شيء، وقد كان الرسول يمزح، وكذلك الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

    وبدأ ابن حزم رسالته طوق الحمامة بالكلام في ماهية الحب بقوله: «الحب ـ أعزك الله ـ أوله هزل وأخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدكر حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا محضورا في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل، وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير». وذكر بعض أسماء الخلفاء العشاق في الأندلس...واستطرد: «ولولا أن حقوقهم على المسلمين واجبةـ وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين، وإنما هو شيء كانوا ينفردون به في قصورهم مع عيالهم، فلا ينبغي الإخبار به عنهم ـ لأوردت من أخبارهم في هذا الشأن غير قليل. ولكنه تحدث عن حب الصالحين، ومنهم أحد فقهاء المدينة السبعة. وذكر أن المحبة ضروب فافصلها المتحابين في الله عز وجل، ثم محبة القرابة، ومحبة الألفة، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر، ومحبة العشق الصحيح الممكن من النفس الذي لا فناء له إلابالموت: «وإنك لتجد الإنسان السالي برغمه وذا السن المتناهية، إذا ذكرته وارتاح وصبا، واعتاده الطرب واهتاج له الحنين»

    وعف محبة العشق بأنها «استحسان روحاني وامتزاج نساني... وإنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة، واتفاق في الصفات الطبيعية، وكلما كثرت الأشباه، زادت المجانسة وتأكدت المودة. وقول رسول الله(صلى الله عليه) يؤكده: «الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف». وقول مروي عن أحد الصالحين: «أرواح المؤمنين تتعارف». ولهذا اغتم بقراط حين وصف له رجل من أهل النقصان يحبه فقيل له في ذلك فقال: «ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه,. ويمضي في الحديث عن «العلة اتي توقع الحب» فيقول: «الظاهر أن النفس حسنة تولع بكل شيء حسن وتميل إليه، وتميل الى التصاوير المتقنة.. فإن ميزت وراءها شيئا اتصلت وصحت المحبة الحقيقية. وإن لم تميز وراءها شيئا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة وذلك هو الشهوة».

    ثم يمضي في راسلته فيرسم ظاهر المجتمع الأندلسي وأعماقه،ويعلل تعلق الإنسان بشكل معين فيروي عن نفسه أنه أحب شقراء في صباه فظل يحب الشقراوات وهكذا كان أبوه، وعلى هذا سار الخلفاء والكبراء في الأندلس.

    ويكتب عن حب الفقهاء، وما فيه من طرائف... ثم يصور ألوانا من الفحشاء يستعيذ بالله من شيوعها في قصور الكبراء والأثرياء، وفي الخمائل المتناثرة بالمدن والكبرى في الأندلس.

    وكأن شيئا لم يكن يشغل الفئة الإجتماعية التي تحرك في إطارها ابن حزم إلا العشق والعلاقات الشاذة!.

    وهو فيما يروي من أخبار يؤكد عدم ثقته بالنساء، يسوق خبرا عن امرأة «حجت خمس مرات وهي من المتعبدات المجتهدات.» قالت: «يا ابن أخي لا تحسن الظن بامرأة قط فإني اخبرك عن نفسي بما يعلم الله عز وجل: ركبت البحر منصرفة من الحج وقد رفضت الدنيا وأنا خامسة خمس نسوة، كلهن قد حججن، وصرنا في مركب في بحر القلزم (البحر الأحمر) وفي بعض ملاحي السفينة رجل مضمر الخلق، مديد القامة، واسع الأكتاف، حسن التركيب، فرأيته في أول ليلة أتى الى إحدى صواحبي فـ…. (وذكرت نوعا فاحشا من الغزل)…. فأمكنته في الوقت من نفسها.. ثم مر عليهن كلهن في ليال متتاليات.. فلم يبق له غيري، فقلت في نفسي: (لأنتقمن منك.) فأخذت موسى وأمسكتها بيدي فأتى في الليل على جاري عادته فرأى الموسى. فارتاع وقام لينهض… فأشفقت عليه وقلت له وقد أمسكته: (… أو آخذ نصيبي منك).. وتنهي المتعبدة المتجهدة خبرها باعتراف ثم بقولها «… وأستغفر الله»… والكلمات والعبارات المكشوفة التي روى بها ابن حزم الخبر، إذ لا يمكن نقلها!

    ويعلل ابن حزم مظاهر الفساد التي شت المجتمع الأندلسي، فاختلاط الرجال والنساء بلا قيود، وإظهار النساء زينتهن وهن يعرضن للرجال، وفراغ بال النساء، فلا شيء يشغل المرأة الغنية في الأندلس على الإطلاق.. حتى أعمال المنزل كن لا يقمن بها فلديهن الجواري أو الخصيان!

    ويحمل على خروج النساء وحدهن بلا زوج أو محرم، والتقاؤهن بالرجال في المنتزهات، وقال إن هذا الاختلاط بلا رقابة هو ذريعة الفساد وانتشار الفحشاء.. وساق خبرا عن فتاة حجازية حملت من أحد ذوي قرباها، فلما سئلت في ذلك قالت: «قرب الوساد وطول السواد.» أي طول الليل.

    وهو إذ يسوق أخبار الفحشاء في رسالته يستخلص منها العبرة، ويسوق النصيحة الى القوامين على النساء، أن يسدوا أمامهن ذرائع المعصية. من البطالة وحضور مجالس السمر والانفراد بالرجال. ويقول في ذلك أن المرأة الصالحة إذا سدت أمامها ذرائع الفساد ظلت على صلاحها، أما الفاسدة فإذا سدت أمامها الذرائع تحايلت عليها لتمارس الفساد.!

    وقد روى ابن حزم طرائف عن وسائل الإتصال بين المحبين، منها تبادل خصلات الشعر، واستعمال الحمام في نقل رسائل تحت الأجنحة!

    وعلى الرغم من صور الفساد التي رسمها، فقد صور مظاهر العفة أيضا: كيف تصون فتاة نفسها على الرغم من الإغراء، وكيف يعف فتى تراوده امرأة ذات جاه وجمال وسلطة ونفوذ، ستؤذيه إن لم يطاوعها فيما تريد منه..!

    وهو يروي ما شاهده من طرائف المحبين فقد شاهد فتاة في أحد المتنزهات تتبع فتى وتطارده وهو لا يكلمها... حتى إذا غاب عنها انكفأت تقبل مواقع قدميه، والأرض التي مشى عليها...!

    ويسوق غرائب عن صور الشذوذ! من ذلك أن رجلا كان صالحا فأضله الشيطان فمال الى فتى من طلاب العلم مليح الوجه، وترك الرجال المسجد الذي كان يعلم فيه الى المسجد الذي كان يتلقى فيه الفتى العلم. وكان الفتى يغضب ويضجر ويقوم إليه فيوجعه ضربا، ويلطم خديه وعينيه، فيسر الرجل بذلك ويقول: «هذا والله أقصى امنيتي والآن قرت عيني»

    ولم يكن ابن حزم قليل الثقة في السافرات المتبرجات المختلطات وحدهن، بل أعلن في رسالته سوء ظنه بالنساء كافة حتى المحجبات المصونات!! فيقول: وكم داهية دهت الحجب المصونة، والأستار الكثيفة والمقاصير المحروسة.. عن مغامرات بعض أمهات الخلفاء وما قال عشاقهن من شعر فيهن، وما أصاب عشاقهن من نكبات..!!

    وفي أكثر من موضع من رسالة «طوق الحمامة» يصف الأسمار، ومجالس الأنس في الأندلس، ومتنزهاتها، وما يحدث فيها.. فهذا فتى وفتاة «اجتمعا في مكان على طوب».. وآخران «يضطجعان أمام الناس، وبينهما المسند العظيم من المساند الموضوعة عند ظهور الرؤساء على الفرش، ويلتقي رأساهما وراء المسند يقبل كل واحد منهما صاحبه ولا يريان، وكأنهما يتمددان من الكلل». «وفتى وفتاة خرجا في نزهة مع الكبار من أهلهما، فأمطرت السماء فبللت الجميع، فألقى إليهما أحد الكبار بغطاء التفا به وجمعهما، ليتقيا المطر متلاصقين تحت الغطاء.»

    وكانت كل هذه المرائي وغيرها من ألوان المعاصي التي جهر بها الناس تثير سخط ابن حزم، وتستدعي همته لمقاومة الفساد بدءا بما شاهده في قصور العلية حيث كانت تضطرب حياته، الى المتنزهات العامة حيث يتعاطى سائر الناس فنون العشق الحرام!

    وأنهى ابن حزم رسالته بإعلان سخطه على صور الفساد التي ساقها، والتي ذكر أسماء بعض أبطالها وكتم البعض، وعلى صور أخرى أشار إليها ولم يكتب عنها لشدة فحشها كما يقول!

    وفي آخر الرسالة كتب فصلا عن جزاء أهل الفساد وما ينتظرهم في الآخرة، وما يجب أن يعاقبوا به في الدنيا من نفي وجلد ورجم حتى الموت وتحريق بيوتهم وأجسادهم. ودا الناس الى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وهذا هو واجب المسلم، فإن لم ينهض به أثم.!

    على أن هذا الوعظ كله لم يشفع لابن حزم، فقد هاجهم كثير من الفقهاء عندما ظهر كتابه«طوق الحمامة في الالفة والألاف» واتهموه أنه يحرض الشباب على المنكرات وعلى الفجور، وأنه بما ساق من أخبار يرسم لهم ويسهل عليهم اقتراف المنكرات! واتهموه بأنه يهدر هيبة الفقهاء بما ذكر عن صور فسق بعضهم.. وهم أفراد منبوذون لم يعد أحد يسلكهم في زمرة الفقهاء.

    لقد كتب عن فسق من كان عيه مدار الفتيا في قرطبة. أي مفتيا الأكبر.. وهو فقيه أسقطه فسقه وتبرأ منه الفقهاء والطلاب، وما ذكر ابن حزم ما كان من هذا الفقيه وأمثاله، إلا تشهيرا بالفقهاء كافة، وتحريضا للعامة على إهانتهم والازدراء بهم!!.

    لم يكن الفقهاء المنحدرون من أصول عربية هم وحدهم اذين سخطوا على كتابه طوق الحمامة، بل أنكره البربر أيضا.. ذلك أنه قال عنهم: «ي بلاد البربر التي تجاور أندلسنا يتعهد الفاسق على أنه إذا قضى وطره بمن اراد، أن يتوب الى اله، فلا يمنع من ذلك. وينكرون على من تعرض له بكلمة (ليمنعه من المعصية) ويقولون له: أتحرم رجلا مسلما من التوبة؟! لم يتقبل البربر هذه السخرية منهم وكانوا يحمون بعض إمارات الأندلس، ومعهم قواد لعسكر إمارات أخرى، فتوعدوا ابن حزم..

    ما باله وما بال قومه من عرب وبربر ممن يعيشون في الأندلس؟! إن هو كتب في الفقه كفروه، فإن كتب في الحب أرجفوا عليه وشهروا به وتوعدوه!! فيما عساه يكتب بعد؟ وإذن فليترك الحديث على الرجال والنساء، والحب والفقه، والأصول! ليكتب في السياسة، وفي التاريخ...

    ونشر رأيه في الخلافة بعيدا عن شبهات الكتابة في الحب وأحواله والفقه وأصوله.

    اشترط أن يكون الخليفة قرشيا، ورجلا، وعاقلا، وعالما بشؤون الحكم، وصالحا، لكي تصح له الخلافة أو الإمامة.. وقرر أن الخلافة ليست وراثية: «لا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه لايجوز التوارث فيها.. ولا في أنها لا تجوز لمن لم بل.. ولا خلاف بين أحد في أنها لا تجوز لامرأة»

    أما طريقة تولي الخلافة فهي أحد طرائق ثلاث: إما أن يعهد الإمام قبل وفته الى واحد يختاره إماما من بعده، كما فعل رسول الله(صلى الله عليه) وكما فعل أبو بكر.. فتم البيعة على الخليفة المختار.

    وأما أن يعهد الخليفة الحي لرجال ثقات، أن يختاروا من بينهم واحدا، ثم تتم عليه البيعة، كما فعل عمر، إذ عهد الى ستة من الصحابة، مات الرسول(صلى الله عليه) وهو راض عنهم، لينتخبوا من بينهم رجلا.

    وأما أن يتقدم رجل صالح كفؤ، يرى نفسه أهلا للخلافة، فيدعو الى نفسه، ويبايعه الناس، فيجب اتباعه ومن يخرج عليه فهو من أهل البغي.. كما قام علي بن أبي طالب فدعا لنفسه وبايعه الناس، فوجب اتباعه..

    وعلى اية حال فيجب ألا يبقى المسلمون أكثر من ليلتين بلا إمام. بهذا أمر رسول الله(صلى الله عليه)، ولا تصح الخلافة إلا بالبيعة الحرة.

    وتناول ابن حزم موقف علي ومعاوية... ثم أقدار الصحابة من الخلفاء الراشدين، والمفاضلة بينهم، وحسب رأيه كان يجب على معاوية اتباع علي، وعدم اتباعه بغي عليه، فمعاوية ومن معه إذن من أهل البغي..!

    ولكن ابن حزم لم يدن معاوية بالبغي على الإمام علي كما قضى بذلك الأئمة الذين تعرضوا لهذا الأمر من قبل، فأخذوا أحكام البغاة من سلوك علي مع معاوية وجنده، واعتبروا عليا بن أبي طالب، أول من ابتلي بأهل البغي، فما صنعه معهم أحكام يجب أتباعها شرعا... بهذا أفتى الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل ومن تابعهم.

    لم يدن ابن حزم معاوية! ذلك أنه أموي بالولاء كما قلنا، متعصب لهذا الإنتماء.. وهو مع ذلك لم يؤيده في الخروج ورفض البيعة للإمام علي

    وفي رأي ابن حزم أن واقعة الجمل التي حارب فيها معاوية عليا، لم تكن رحبا حقا، فلم يجتمع معاوية ومؤيدوه للحرب، بل اجتمعوا للتشاور. وكان الجند كثيفا في معسكر علي ومعسكر معاوية. وتجادل الجند، فاشتبكوا دون أن يريدوا اقتتالا..!

    أما أهل صفين فقد أرادوا القتال حقا. وابن حزم لايعفيهم من البغي، ولا يدينهم به، وإنما يترك أمرهم الى الله تعالى.!

    ويقوم ابن حزم مكانة علي بين الخلفاء الراشدين، فيجعله آخرهم مكانة.

    ويتحدث عن أهل البيت الذين وردت فيهم الآية فيستثني منهم عليا ابن أبي طالب، ويفسر الآية بأنها تعني نساء النبي، ويفضل عليهن عائشة.. يفضلها عن خديجة وفاطمة الزهراء رضي الله عنهن جميعا. ويذهب إلى أن عائشة هي سيدة نساء أهل الجنة..

    ولم يكد ابن حزم ينشر هذه الآراء حتى زلزلت الأرض من تحته زلزالا عنيفا.. ذلك أن ابناء فاطمة كانوا قد أسسوا دولة إسلامية ضخمة، لتعيد الإسلام الى عصوره الزاهرة، وهي دولة اسمها الدولة الفاطمية، أسسها الفاطميون في المغرب، ثم زحفوا الى مصر فملكوها، وأنشأوا مدينة القاهرة، والأزهر الذي عمر منذ إنشائه بالشيوخ والطلاب، وارتفعت منارات القاهرة تضيء لما حولها بعد أن خبت منائر بغداد وقرطبة.. وأصبح الأزهر بجهد علمائه وشيوخه وطلابه قلعة الإسلام في إحياء السنة، ومحاربة البدع، ونشر علوم الدين واللغة وآدابها، وسائر المعارف الإنسانية، وتفجر منه علم غزير عم الدنيا، وتوهجت فيه شعلة الفكر تحرق أسمال الهمود والتخلف، وتنوير أطباق الظلمات المتراكمات، وتملأ العقول بوهج خالد من الإيمان والثقافة، وأصبح حصنا للدين واللغة والمعرفة.

    إن الذين يحبون ويشايعون عليا بن أبي طالب وبنيه قد أصبحوا يقودون مصر والمغرب العربي والأندلس، وكثيرا من أقطار الإسلام! ثم أن الشيعة وأهل السنة على السواء لا يقبلون ما قاله ابن حزم عن الإمام والباغين عليه، وعن الطاهرة خديجة، وفاطمة الزهراء التي قامت دولة بأسرها تنتسب اليها.. والأندلسيون بصفة خاصة لم يعودوا يحملون للأمويين، ما حملوه من تقدير وحب، أيام الخلفاء العظام، بل لقد شيعوا الأمويين باللعنات، حين سقطت دولتهم، لكثرة ما عانوا من مظالم في نهايتها، وما عاينوا من فساد، ولأن الأمراء الأمويين في أواخر عهد الدولة الأموية، خرجوا عن تقاليد السلف الصالح بالأندلس وأهدروا الإسلام واسقطوا هيبة الخلافة، وانشغلوا بالترف، والصراع، واللهو.. ومنهم من أذل العلماء وأهل الفكر والفقه، ليسود الندامى والجواري والغلمان، ومنهم من نزل لأمراء الفرنجة عن بعض أرض المسلمين، ودفع لهم الجزية واستعانهم على بني عمومته.. وتركهم يجوسون خلال الديار ينتهكون ويغتصبون ويقتلون!!

    ولئن كان من الناس من سكت عن ابن حزم حين أفتى بما خالف كل أصحاب المذاهب من الأئمة السابقين، وحين شوه بعض الفقهاء والعلماء وأدانهم بالفسق وذكر عنهم أخبار معينة.. لئن كان من سكت عن ابن حزم وهو يصنع هذا كهل واكتفى بمجافاته والغضب منه، إن الناس الآن لا يستطيعون السكوت بعد، وهو يناصب عليا بن أبي طالب العداء.!

    ثار عليه الناس جميعا، واتهموه بأنه «ناصبي» قد ناصب عليا بن أبي طالب وفاطمة الزهراء العداء! فلا مقام له بينهم في القيروان والمغرب كله بعد، فما من أحد يستطيع أن يلقاه بغير الإنكار له.!!

    أما في الأندلس فهم ينتظرونه لينزلوا به العقاب.. عسى أن يشفي العقاب صدور قوم موغرين!.

    وهكذا وجد نسه قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فلا هو يستطيع البقاء في المغرب كله، ولا هو يجسر على العودة الى الأندلس.!!

    غيرأن صديقه الذي كان مرشحا لتولي إمارة إحدى الأمارات، قد أصبح اليوم أميرا على «ميورقة» إحدى جزر الأندلس.

    ودعا صديقه ليقيم في الجزيرة الجميلة الهادئة. وكان الأمير الجديد ذا مكانة في الدولة، فوعد ابن حزم بالحماية.. وشرط عليه ألا يشتغل بالسياسة، وألا يكتب ما يثير الناس.. وأن يتفرغ للكتابة في الدين... فهو مهما تكن مشاكل الكتابة فيه، أقل هما من الكتابة في السياسة

    إن هذا هو ما يريده ابن حزم على التحقيق: السكينة، والملجأ الأمين، في مكان هادئ جديد، بجوار صديق كريم، والعودة الى الكتابة في الفقه والأصول.

    لقد أنضجته التجارب والمحن والقراءات والتأملات.. وآن له أن يصوغ منهجه وآراءه الفقهية المتناثرة في مجلدات متكاملة.

    وسافر الى «ميورقة» ليقيم في أطيب حال، في ظل ظليل من حماية أميرها ومودته.. وكان الأمير قد أعد قصرا فاخرا لابن حزم، ووهب له بعض الجواري الشقراوات، فهو يعرف ذوقه. وخزانة كتب جمع فيها كل ما يطيب لفقيه أديب كابن حزم....

    لقد خرج ابن حزم من كل ما مر به بعبرة جعلها دستورا لما تبقى من حياته: «ليس في العالم منذ كان الى أن يتناهى، أحد يستحسن الهم، ولا يريد إلا طرحه عن نفسه، فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع، وانكشف لي ذلك السر العجيب وأنار الله لفكري هذا الكنز العظيم بحثت في سبيل موصلة على الحقيقة الى طرد الهم الذي هو المطلوب النفسي فلم أجدها إلا في التوجه الى الله عز وجل بالعمل للآخرة».

    علمته الأيام في تداولها بين الناس أن «لذة العالم بعمله، ولذة الحكيم بحكمته، ولذة لمجتهد لله عز وجل، اعظم من كل لذة في الحياة الدنيا»

    وإذن فليمنح هو ما بقي له من العمر للذت العليا: العلم والحكمة والاجتهاد لله.

    وإنه ليعرف فيما عرف من العجائب «أن الفضائل مستحسنة مستثقلة، والرذائل مستقبحة ومستحبة».. فليكن إذن من النفر القلائل الذين يناضلون من أجل الفضائل مهما تكن مستثقلة.

    لكم صقلته السنوات!

    فهاهو ذا ينصح من يلتمس عنده حسن النصيحة: «أحرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفظ من أن توصف بالدهاء، فيكثر المتحفظون منك حتى بما أضر ذلك بك، وربما قتلك». ويقدم نصيحة أخرى: «إياك ومخالفة الجليس، ومعارضة أهل زمانك يما لا يضرك في دنياك وأخرك وإن قل، فإنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة. وربما أدىء ذلك الى الضرر العظيم ون منفعة أصلا. وإن لم يكن لابد من إغضاب الناس أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن مندوحة عن منافرة الخلق أو منافرة الخالق، فغضب الناس ونافرهم ولا تغضب ربك ولا تنافر الحق».

    واعتذر للناس كافة عن حدته في الكتابة والجدل بمرض اصابه ولزمه، بدل خلقه من دعة الى عنف: «لقد أصابتني علة شديدة ولدت ربوا في الطحال شديدا، فولد ذلك علي من الضجر، وضيق الخلق، وقلة الصبر، والنزق.... واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي. وصح عندي أن الطحال موضع الفرح وإذا فسد تولد ضده». ولكنه مع ذلك لم ينكر أن مواصلة المخالفين هي التي حفزته الى كثرة القراءة وإمعان النظر، وقدحت ذهنه، فاندلعت منه الأفكار.

    ما أعجب ما مر به في حياته المضطربة من أحوال الناس!...

    وإنه في تلك الجزيرة الهادئة من جزر الأندلس، ليشعر بالطمأنينة، والسكينة، وبالراحة، والأمن، في ظل جسارة صديق يتحدى الخطر.. إنه في إعجابه العميق بمروءة صديقه هذا الذي يحميه ويكرمه متفضلا عليه لا ردا لجميل سابق أو لسالف عارفة.. إنه في مكانه هذا ليذكر صديقا آخر في الزمن البعيد، كان كاتبا، ونمت بينهما المودة والمحبة وهما في السنوات الخضر من أول العمر.. ما ابعد الفرق بين الصديقين..!

    كتب ابن حزم عن ذلك الصديق القديم: «كان متصلا بي ومنقطعا إلي أيام وزارة أبي رحمة الله عليه، فلما وقع بقرطبة ما وقع، وتغيرت أحوالي، خرج الى بعض النواحي، فاتصل بصاحبها وعرض جاهه. وحدثت له وجاهة وحالة حسنة. فحللت أنا تلك الناحية في بعض رحلتي، لم يوفني حقي، بل ثقل عليه مكاني، واساء معاملتي وصحبتي. وكلفته في خلال ذلك حاجة لم يقم فيها ولا قعد واشتغل عنها بما ليس مثل شغله... فما كلته حاجة بعدها..».

    مهما يكن من الصحاب التي مرت بها، فهاهو ذا الآن في لين من العيش لا ينقصه إلا أن يكتب، وينشغل بالعلم، والحكمة، والاجتهاد له عز وجل.. وكل ما حوله من راحة، ومتاع، ودعة، وطيب العيش، وجمال الطبيعة، وصباحة الوجوه، ودفء المودة... كل ما حوله يعينه على ما يري من تفرغ للكتابة..

    على أنه لم يلبث غير قليل في معتكفه الرائع ذاك، حتى أخرجه الناس منه، ليتلقوا عنه، وذهب اليه بعض العلماء ليناظروه.. لقد وجد في ميورقة تلاميذ وأتباعا معجبين به على الرغم من كل ما يثار حوله.... ولقد ناظره أحد الفقهاء يوما فلما ظهر عليه ابن حزم ال الفقيه: «تعذروا، فإن أكثر مطالعاتي كانت على سرج الحراس» (جمع سراج). فال ابن حزم «وتعذرني، فإن أكثر مطالعاتي كانت على منابر الذهب والفضة».

    وامتدت عليه حماية صديقه أمير ميورقة الى حيث أراد أن ينتقل من ارض الأندلس، فذهب الى بعض المدائن المجاورة يناظر ويعلم، ثم ذهب الى قرطبة نفسها، في موكب من الأتباع، والدواب تحمل كتبه حيثما انتقل.

    وعاد الى ميورقة ليعتكف من جديد.. ولقد لقي أحد الفقهاء في بعض رحلته، فتناظرا أمام الناس، وحين انتصر ابن حزم في المناظرة قال له الفقيه: «أنا اعظم منك همة في العلم،لأنك إنما طلبته وأنت معان عليه فتسهر بمشكاة اذهب، طلبته وأنا أسهر بقنديل السوق». فرد ابن حزم: «هذا الكلام عليك لا لك، لأنك إنما طلبت العلم وأنت في هذه الحال رجاء تديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حال ما تعلمه وما ذكرته فلم أرج به إلا علو القدر في الدنيا والآخرة.»

    وعني ابن حزم في تلك الفترة بصقل آرائه وأفكاره وصياغتها في الصورة التي سيتركها من بعده للتاريخ.

    واتخذ لنفسه منهجا عقليا خالصا تأثر فيه بالإمام جعفر الصادق على ارغم من انتمائه وولائه الأموي. فاعتمد كما اختط الإمام الصادق جعفر ابن محمد على الإستقراء والتجربة، وبصفة خاصة في درسته عن الأخلاق التي ضمنها رسالة صغيرة عرفت باسم حكم ابن حزم أو مداواة النفوس. ولا ريب أنه أفاد من تراث الفكر المصري القديم، والفكر الفارسي، والهندي، واليوناني، وكانت كل تلك الآثار قد ترجمت الى العربية من أجيال.. ولم يعتمد على إلمامه بالفكر الإنساني فحسب، بل على فهمه لأحوال المجتمعات التي عاش فيها، وعلى تجاربه وحسن معرفته بالناس والحياة.

    ومن هذه التجارب والدراسات والمعارف استقرأ آراءه في الأخلاق. فهو يرى أن هدف النشاط الإنساني هو دفع الهم والحصول على اللذة، وهي عنده لذة الروح.

    ويرى في الفضيلة رأي أرسطو ويقول: «الفضيلة وسط بين الإفراط والتفريط وكلا الطرفين مذموم، والفضيلة بينهما... حاشا العقل، فإنه لا إفراط فيه..

    وهو يرى رأيا قريبا من رأي أفلاطون في أصول الفضائل وأصول الرذائل: «أصول الفضائل أربعة، عنها تتركب كل فضيلة وهي العدل والفهم والنجدة والجود».

    وأصول الرذائل كلها أربعة، عنها تتركب كل رذيلة، وهي أضداد الذين ذكرنا، وهي الجور، والجهل، والجبن، والشح. والعفة والأمانة نوعان من أنواع العدل والجود.

    وابن حزم يدو العلماء والفقهاء الى التفقه في العلوم الإنسانية. تأثرا بالإمام الصادق الذي مارس الكيمياء، وأسس قواعدها، وربى تلميذه جابر ابن حيان على إتقان الكيمياء، وأنشأ له معملا، وظل يرعاه حتى ترك جابر ابن حيان في الكيمياء تراثا شارك في صنع التقدم الإنساني كله عبر العصور.

    قال ابن حزم: «كشف العلوم النافعة يزيد العقل جودة ويعفيه من كل آفة، ويهلك ذا العقل الضعيف»..

    وهو في رسالته عن الأخلاق يضع ضوابط للخير والشر، وينتهي الى أن الدين ضرورة لجماعات البشرية، فهو الذي يحميها وينشر فيها الثقة بين الأفراد ويعمها بالفضائل، ويجمعها على الحب والخير والحق.

    وهو لا يخص الإسلام وحده بذلك، بل كل دين سماوي. قال: «ثق بالمتدين ولو كان على غير دنيك. ولا تثق بالمستخف وإن أظهر أنه على دينك ومن استخف بحرمات الله تعالى فلا تأمنه على شيء تشفق عليه».

    فهذا الفقيه الذي كان يتعصب لآرائه حتى ليصف نفسه بالنزق، والذي اشتد على بعض اليهود والنصارى الذين هاجموا الإسلام، وأخرجهم من ذمة الله ورسوله لتهجمهم على ما أوحى به الله الى رسوله.. هذا الفقيه نفسه يطالب المسلمين ألا يثقوا بمسلم غير متدين، وألا يأتمنوه على شيء، ويدعوهم الى الثقة بالمتدينين من اليهود والمسيحيين، والى ائتمانهم على كل ما هو غال وعزيز عل المسلمين.!

    ذلك أنه يرى الدين أساس الفضيلة، كل الديانات السماوية دعوة الى الصدق والإخلاص، والمحبة، والكرم، والمروءة، وسائر الفضائل.. وأن كل دين سماوي إنما جاء مكملا لما قبله، حتى بعث اله خاتم النبيين محمد ابن عبد الله(صلى الله عليه) متمما لمكارم الأخلاق.. فالمتدين من اليهود والنصارى أدنى بها الى مبادئ الإسلام والى الله تعالى من المسلم غير المتدين..!

    ومكارم الأخلاق التي جاء بها القرآن، مصدقا لما بين أيديهم من التوراة والإنجيل، يمكن التعرف عليها بالعقل. والمسلمون مأموران بالتدبر، والتفكر، وإعمال العقول لمعرفة الخير والشر، والفضائل والرذائل... على هذا نص القرآن الكريم والسن الشريفة. فإذا أعمل الناس عقولهم اهتدوا الى سواء السبيل.. قال تعالى عن الضالين: (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير).

    وإذن فوظيفة العقل عنده هو هداية صاحبه الى الخير والفضائل. أما الذين يشحذون عقولهم لإجتلاب المنافع، غير مبالين بالفضيلة، فهؤلاء ليسوا هم أصحاب العقل، بل هم أصحاب الدهاء، فالعقل لا يقود إلا الى الحق، والخير...

    وهو نفسه قد آثر العلم على جميع اللذات، وترك جمع المال الى هموم العلم، وكان قادرا لو اهتم بجمع المال على أن يكون من أغنى أغنياء عصره. ولكن تصاريف الزمان علمته أن المال، واللذة الحسية، وكل فنون المتاع إنما هي عرض زائل، ولا يبقى إلا الحكمة والعلم. (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.) ويقول: «للعلم حصة في كل فضيلة، وللجهل حصة في كل رذيلة...»

    ورأى ابن حزم أهل زمانه يستخفون بمن يصرف جهده عن الاستزادة من المال، ليستزيد من العلم والحكمة فيقول في هذا: «ترك المبالاة بكلام الناس والمبالاة بكلام الخالق عز وجل هو العقل كله، والراحة كلها. من قرر أن يسلم من طعن الناس ويبهم فهو مجنون. ومن حقق النظر وراض نفسه على السكون الى الحقائق وإن آلمته في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه. لأن مدحهم إن كان بحق وبلغه سرى فيه العجب، فافسد بذلك فضائله، وإن كان بباطل فسره، فقد سار مسرورا بالكذب. وهذا نقص شديد.. وأما ذم الناس فإن كان بحق فربما كان سببا في تجنبه ما يعاب عيه، وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص، وإن كان بباطل فصبر، اكتسب فضلا زائدا بالحلم والصبر..»

    وهو يرى من حسن الأخلاق أن يثبت الإنسان على الفكرة والعمل، ما اقتنع بأنه على حق، فإذا اكتشف أنه على الباطل، فالثبات لجاج، وهو مذموم...

    ثم ينتهي ابن حزم في حديثه عن الأخلاق الى أن خير ما يفعله المسلم ليستقيم له الخلق الفاضل، هو التأسي برسول الله (صلى الله عليه)، وقد أمرنا الله بهذا: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخرة) ثم إن الله تعالى وصفه بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم).

    وقد قال علي السلام: «جئت لأتمم مكارم الأخلاق.. أو كما قال.»

    ويقول ابن حزم عن القواعد والضوابط التي وضعها للأخلاق، إنه أفاد فيها «مما منحني الله تعالى من العلم بتصاريف الزمان، والإشراف على أحواله، حتى أنفقت في ذلك أكثر عمري،وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له، والفكرة فيه على جميع اللذات التي تميل اليها أكثر النفوس، وعلى الازدياد من فضول المال.»

    يرى ابن حزم أن الإنسان عنده علم البديهة وهو علم النفس.... فالطفل يدرك بالبديهة أن الجزء أقل من الكل، وأن المكان الواحد لا يشغله جسمان في وقت واحد. فهو يتنازع على المكان الذي يريد أن يعقد فيه، علما منه بأن هذا المكان لا يسعه مع غيره، وهو يدرك أنه لا يجتمع الأمران، المتضادان، فأنت إذا وقفته بغير إرادته بكى، حتى إذا تخلص اد الى القعود. وإذا كبر الطفل أدرك أن الإخبار عما هو غائب لا يصح أن تتعارض، فإذا تعارضت شك في الجميع أو ألغاها.. وهكذا يعرف الإنسان أخبار الأنبياء ووقائع التاريخ، فإذا كبر عقله استطاع أن يعرف الصادق من المنقول عن الرسول(صلى الله عليه)، وبذلك يتحقق أن علم العقل أساس لعلم النقل.. وابتعاد الخبر مدعاة الخطأ، كالأعداد في الحساب كلما كثرت الأعداد زادت مظنة الخطأ في أجزاء العمليات والمعادلات الحسابية والجبرية عليها.

    ويضيف أن هذا ليس هو سبب الخطأ فقط، بل أن هناك عوامل أخرى تفسد النقل وهي الشهوة والانحياز. على أن العقل يظل قادرا على التمييز أبدا.

    وهو يؤمن بكل ما جاءت به النصوص، معملا العقل في تفسيرها بظاهرها. فإذا كانت النصوص قد أجمعت على أن الله هو خالق كل شيء، فلا أحد يخلق فعلا من الأفعال، وإلا كان شريكا لله تعالى في الخلق! ولكنه يناقش هذا النظر ويقول أن الأخذ به يسقط التكليف، فلا حيلة للإنسان إذن والله يخلق أعماله، ولا إرادة للإنسان ولا اختيار، ولكنه الجبر قطعا.

    ويصحح هذا الفهم بقوله أن الله خلق في العبد الاستطاعة والاختيار، فهو يختار ما يفعله وما يستطيعه. وبذلك يكلف الله العباد، ويحاسبهم على أعمالهم.

    ثم يتحدث عن الاجتهاد بالرأي فيذهب الى أنه ليس من الشريعة. لأن الله لو يفرط في الكتاب من شيء..

    فلا مجال للرأي إذن لأن كل الأحكام واردة في نصوص القرآن والسنة أو إجماع الصحابة، فإن لم يوجد فيها الحكم فقد نص القرآن على إباحة ما لم يحرمه الله، فيكون الحكم في كل واقعة حيث لا نص هو الإباحة أو استصحاب الحال بحكم النص القرآني: (وخلق لكم ما في الأرض جميعا).

    على هذه الأصول يستنبط كل الأحكام الخاصة بالعقيدة وبالمعاملات، أي بالدين وبالشريعة..

    وهو في القضايا الفكرية التي تتعلق بالعقيدة يمتحن النصوص والإجماع فيجد فيها إجابة عن كل سؤال.

    فقد زعم الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر مآله الى النار.

    وقالت المعتزلة أنه في منزلة بين المنزلتين فلا هو كافر ولا هو مؤمن.

    وذهب بعض أهل السنة الى أنه ليس مؤمنا، ولكنه مسلم لم يخرج عن الإسلام الى الكفر، بل خرج عن الإيمان الى الفسوق.. وبئس الإسم الفسوق بعد الإيمان.

    وذهب آخرون الى أن الحكم عليه يرجأ الى يوم القيامة، فإن شاء الله أخذه بالكبير وإن شاء عفا عنه، وهؤلاء هم المرجئة.

    أما ابن حزم فقد استنبط حكمه من النصوص، وأفتى في مرتكب الكبيرة بفتوى بعض أهل السنة: «فمن تاب بعد ارتكابه الكبيرة غفر الله له والله غفور رحيم». أما من قبل التوبة النصوح، فإن رجحت حسناته سقطت كبائره لأن للحسنة عشرة أمثالها الى سبعمائة ضعف والى أكثر من ذلك أضعافا مضاعفة.. هذا هو نص القرآن الكريم.. فإذا استوت حسناته مع سيئاته فهو على الأعراف ينتظر الجنة، (وعلى الأعراف رجال ينتظرون)، ثم يدخلون الجنة آخر الأمر. أما إن زادت سيئاته على كبائره فإلى النار. غير مخلد فيها أبدا، بل يخرج منها الى الجنة بقدر ما تؤهله الحسنات.».

    ويعرض ابن حزم لمشكلة أخرى كانت مثارة من قبل عصره، وهي وحدانية ذات الله تعالى.. أله صفا منفصلة عن الذات؟ أم أن أسماء الله الحسنى هي صفاته، وكلها هي الذات الإلهية.؟!

    قال ابن حزم: «وأما إطلاق لفظ الصفات لله عز وجل فمحال لا يجوز، لأن الله لم ينص في كلامه المنزل على لفظ الصفات وعلى لفظ الصفة. ولا حفظ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) صفة أو صفت. نعم ولا جاء ذلك قط عن أحد الصحابة رضي الله عنهم، ولا عن أحد من خيار التابعين.»

    فهو يعتبر الألفاظ التي تدل على صفات إنما هي من أسماء الله تعالى، مثل السميع البصير القادر القدير الحكيم العلمي الرحمن الرحيم الى غير ذلك من أسماء الله الحسنى. وهذا بنص الآية: (وله الأسماء الحسنى..).

    أما عن الألفاظ الموهمة للتشبيه مثل «وجه ربك» و«يد الله» فهو يطالب من يريد أن يفهمها أن يتدبر النص القرآني في لته، وأن يتعمق دراسة اللغة العربية، فقد نزل القرآن، بلسان عربي مبين.

    ومن يدرك أسرار اللغة، يفهم بالضرورة أن الله تعالى حين يتحدث عن وجهه ويده، لم يرد عضوا بعينه في الجسم المحسوس، بل أراد الذات نفسها. فعندما تقول العرب «ما ملكت يميني.. مثلا» فالمعنى «ما ملكت أنا» لا ما ملكت يدي اليمنى دون يدي اليسرى.

    وهكذا فسر قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). أي يبقى ربك سبحانه فهو وحده الذي لا يفنى. وفسر قوله تعالى: (يدالله فوق أيديهم) بقوله: «الله فوق أيديهم». وفسر: (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف شاء) بقوله: «الن ينفق كيف يشاء».

    ومن فهم غير ذلك فليعد دراسة أساليب العرب وآدابهم ليعرف أن للألفاظ في اللغة العربية دلالات مجازية، وهي من دلالات ظواهر الألفاظ.

    الى هذا انتهى ابن حزم في الخلاف الذي ظل مشتجرا حول الأسماء والصفات، وأتهم كل من لم يوافقه، بأنه لا يعرف أساليب العرب، ولا أسرار اللغة التي نزل بها القرآن، ونصحه بأن يصنع ما صنع الليث بن سعد والشافعي: أن يخرج الى بادية نجد أو الحجاز ليتقن اللغة، وأن يحفظ أشعار القدامى وبصفة خاصة شعر الهذليين.

    فأسماء الله ليس فيها ما أسماه القرآن بالمتشابه، أي لا يعرف معناه ولا حكمه. فلا متشابه في القرآن إلا الحروف التي بدت بها بعض السور مثل ألف لام ميم، (ألم)، وألف لام راء (ألر) وصاد (ص)، ونون(ن)، وقاف(ق) الى غير ذلك، وإلا ما أقسم به الله تعالى مثل «والذاريات»، و«الشمس وضحاها» و«الفجر». و«لا أقسم بهذا البلد». وليس لأحد الحق في أن يبحث في هذا المتشابه، فقد يقوده البحث الى الزيغ والضلال.

    بهذا أمرنا الرسول (صلى الله عليه) واتبعه الصحابة.

    وقد ضرب عمر بن الخطاب عندما تولى الخلافة، رجلا من الصحابة أسواطا، لأنه سأله عن معنى والذاريات، وأمر المسلمين ألا يسألوا عن شيء من متشابه القرآن لم يشرحه رسول الله(صلى الله عليه) عندما كان بين ظهرانيهم.

    فإنه لا رأي فيما لم يوضحه الرسول.. وقد أمر المسلمين ألا يسألوه فيما سكت عن، فما أهلك من قبلهم من الأمم الى الشغب على أنبياهم بكثرة السؤال.

    قال الله تعالى: (ما فرطنا في هذا الكتاب من شيء). فما مكان الرأي إذن، إلا إذا قلنا أن القرآن قد فرط في شيء!؟… وقال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر.). فلا حكم إلا بما قضى به الله ورسوله، ثم أولوا الأمر.. أي الإجماع.

    وقال رسول الله(صلى الله عليه): «لا ينزع العلم من صدور الرجال، ولكن ينزع العلم بموت العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فافتوا بالرأي فضلوا.. وأضلوا».

    ثم يستدل بأقوال الصحابة في النهي عن الأخذ بالرأي، ويرفض الأحاديث والأخبار التي تواترت عن الاجتهاد بالرأي، ويتهم رواتها بالضعف أو الكذب..

    ***

    يذهب ابن حزم الى أن القرآن وحده هو الأصل الوحيد للشريعة، وفيه أمر لنا باتباع الرسول. فالسنة حجة. قال تعالى مخاطبا رسوله: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم). فالرسول (ص) يبين القرآن، وأهل الذكر مسؤولون عن بيان ما في القرآن والسنة. لما تعلموه من الرسول.

    والبيان كما يقول ابن حزم «يختلف في الوضوح، فيكون بعضه جليا، وبعضه خفيا، فيختلف الناس في فهمه، فيفهمه بعضهم بفهمه، وبعضهم يتأخر عن فهمه. كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إلا أن يؤتى رجل فهما في دينه.»

    هاهو ذا يستشهد بقول الإمام علي كرم الله وجهه!

    وفي الحق أن ابن حزم ما ناصب الإمام عليا العداء..!

    فابن حزم قد اعتمد في بعض فقهه على أقضية للإمام علي، وفتياه، وعلى آراء لحفيده الإمام جعفر الصادق.

    ولقد ذكر ابن حزم أن عمر بن الخطاب كان يستفتي عليا بن أبي طالب فيما يغم عليه من الأحكام ويقول: «علي أقضانا». فإذا عرضت لعمر قضية ولم يجد عليا قال: «قضية ولا أبا الحسن لها»...

    وما اعتمد ابن حزم على آراء الإمام علي تكفيرا عما سلف منه، أو نفاقا للأمراء والعلماء ممن يفضلون عليا على سائر الصحابة، بل توقيرا للإمام علي، وعرفانا بمكانته من الرسول عليه الصلاة والسلام، وبمكانه في الإسلام، وفضله في إرساء قواعد الشريعة بعد الرسول(صلى الله عليه).

    ***

    هو إذن يرى أن الأحكام كلها في القرآن، والقرآن هو الذي نص على حجية السنة إذ أمرنا باتباع الرسول، ونص على حجية الإجماع بنصه على أهل الذكر وهم الصحابة، فإذا لم يمكن استنباط الحكم من القرآن أو السنة أو الإجماع. فلا سبيل إلا الاستصحاب وهو بقاء الحكم المبني على النص حتى يوجد دليل من نصوص تغيره. وقال تعالى: (وخلق لكم ما في الأرض جميعا). وقال تعالى: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع الى حين). وإذن فقد «باح اله تعالى الأشياء بقوله أنها متاع لنا ثم حظر ما شاء. وكل ذلك بشرع. أي بنص...».

    وقاده التزامه هذه الأصول التي خالف فيها جميع الأئمة والفقهاء الى مخالفتهم في كثير من الفروع. فاعتبر التزام أفعال رسول الله(صلى الله عليه) سنة يجب اتباعها، وإن لم يصحب فعله أمر. وعاب على أتباع مالك ترك هذه السنة فقال: «اختاروا الصوم في رمضان في السفر، ورغبوا عن فعله عليه السلام في الفطر. ورغبوا عن فعله عليه السلام في التقبيل وهو صائم، وقد غضب رسول الله(صلى الله عليه) على رغم من ذلك أو تنزه عنه وخب الناس ناهيا عن ذلك. وتركوا فعله عليه السلام في تطيبه في حجة الوداع وأخذوا بأمر له متقدم لو كان على ما ظنوه لكان منسوخا بفعله عليه السلام... ولا يجوز أن يقال عن شيء فعله رسول الله أنه خصوصي إلا بنص في ذلك، لأنه عليه السلام قد غضب على من قال ذلك، وكل شيء غضب رسول الله(صلى الله عليه) فهو حرام. وذلك مذكور في حديث الأنصاري الذي سأله عن قبلة الصائم فأخبره عليه السلام أنه يفعل ذلك. فقال الأنصاري «يا رسول الله إنك لست مثلنا. قد غفر الله لك ما تقدم من ذنب وما تأخر». فغضب عليه السلام وقال: «والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بما آتي وما أذر».... وقد روت عائشة: «انه عليه السلام كان يترك افعل وهو يحبه، خشية أن يفعله الناس فيفرض عليهم، كما فعل عليه لسلام في قيام الليل في رمضان، قام ثم تركه خوفا أن يفرض علينا. وإنما قلنا هذا لئلا يقول جاهل: أيجوز أن يترك عليه السلام الأفضل ويفعل الأقل فضلا؟ فأعلمناه أنه عليه السلام يفعل ذلك رفقا بنا... وكذلك الشيء إذا تركه عليه السلام ولم ينه عنه ولا امر به فهو مباح. وضرب مثلا لذلك «من استمع زمارة الراعي، فلو كان حراما لما أباحه عليه السلام لغيره، ولو كان مستحبا لفعله عليه السلام»... وكان ابن حزم يحضر مجالس الغناء في قرطبة اعتمادا على هذا.

    وروي عن عائشة أنها سألت زوج بنت أختها ـ وكانت من أجل فتيات عصرها ـ: ألا يداعبها ويقبلها؟ فتحرج الفتى، فقالت له: إن رسول الله(صلى الله عليه) يفعل ذلك وهو صائم في نهار رمضان.

    ***

    وعاد أتباع مالك يغلظون له ويحاولون الإيقاع به في كل فقهه وأصوله... وذهبوا الى أنه يخالف إجماع أهل المدينة، وإجماع أهل المدينة سنة، لأنهم نقلوا عن الرسول عليه الصلاة والسلام مئات عن مئات والافا عن آلاف، هي سنة أقوى من النقل عنه عليه السلام واحدا عن واحد.. وهذا هو رأي الإمام مالك نفسه.

    ولم يصبر ابن حزم على اتهامهم إياه بأنه يخالف السنة، فانقض يسفه من يقول بهذا، ويردد حجة الإمام الليث بن سعد في رده على الإمام مالك أن الصحابة وفي صدورهم علم الدين والشريعة، تفرقوا في الأمصار يعلمون الناس، وملأوا المدائن، فليس لأهل المدينة امتياز عن أهل الكوفة التي أقام بها الإمام علي وعبد الله بن مسعود، ولا عن أهل مصر التي أقام بها عبد الله ابن عمرو بن العاص. وغيره من الصحابة، ولا عن غيرها من أقطار الأرض التي عاش فيها صحابته.. وكان علم بعضهم أغزر من علم الذين بقوا في المدينة فضلا عن السابقة في الإسلام.

    وأضاف بعد ذلك أن أهل المدينة ساروا على خلاف سنة الرسول في كثير من أمورهم، فعدما تولى عمر بن الخطاب، أنكر على حسان بن ثابت إنشاده الشعر في المسجد، فلما قال له حسان: «قد أنشدت في وفيه من هو خير منك»، وذكر له رسول الله(صلى الله عليه)، سكت عمر ومضى.

    هذا يبين أنه لا حجة في قول أحد ولا عمل بعد النبي عليه الصلاة والسلام.

    ثم أن ابن حزم انقض على أهل المدينة انقضاضا: «فأي برهان على أن المدينة أفضل البلاد كما يقولون؟ إن مكة هي أفضل البلاد بنص القرآن. ومع ذلك ففضلها لا يوجب اتباع أهلها دون غيرهم. ولا يختلف مسلمان في أنه كان في المدينة منافقون، وفيها شر الخلق. قال تعالى: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون الى عذاب عظيم). وقال تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار). وكان فيها ساق كما في سائر البلاد وزناة وكذابون وشربة خمور وقذفة كما في سائر البلاد ولا فرق. وأهلها اليوم ـ وإنا لله وإنا إليه راجعون ـ غلاة الروافض الكفرة. أفترون لهؤلاء فضل يوجب اتباعهم من أجل سكناهم المدينة؟ فإن قالوا: «لا، ولكن إنما نوجب الحجة بالفضلاء من أهل المدينة، قلت لهم: «ومن أين خصصتم فضلاء المدينة دون فضلاء غيرها من البلاد وهذا ما لا سبيل الى وجود برهان على صحته أبدا. وأيضا فالمدينة فضلها باق كما كان لا يتغير ولن يتغير أبدا، وأهلها أفسق الناس. فقد بطل أن يكون للبقعة حكم في وجوب اتباع أهلها، وصح أن افاضل فاضل حيث كان، والفاسق فاسق حيث كان». واتهم القائلين بتفضيل أهل المدينة بأنهم «تابعوا خطأ مالك وقد ولد مالك بن أنس سنة ثلاث وتسعين من الهجرة بعد موت رسول الله(صلى الله عليه) بثلاث وثمانين سنة، فأخبروني عن أي مذهب كان الناس قبل مالك؟... فقد وليها من الفساق كالذين ولوا البصرة والكوفة كالحجاج وخالد القسريـ الذي ذبح في المسجد أحد الفقهاء من معارضيه يوم عيد الأضحى وقال عن ذبحه إنه أضحية! ـ الدماء والأموال والأحكام، وموضعهم من الفسق بالدين بحيث لا يخفى.... ولا فرق بين إجماع أهل المدنية وأهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الفسطاط هذا إن ارادوا من كان بها من الصحابة والتابعين». وتساءل: «أكان بالمدينة من هو أفضل من علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وقد أقاما بالكوفة؟».

    ورد على اتهامه بالكفر لأنه يخالف إجماع أهل المدينة فقال: «إن كان مخافة أهل المدينة كرا، فلتحكموا بالكفر على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي عنهما فقد خالفا إجماع أهل المدينة»!

    ولقد قاده لاقتصار في استنباط الأحكام على ظاهرة النص الى مخالفة إجماع الفقهاء وأئمة المذاهب من قبله.

    – فهو يرى أن المرأة تستطيع أن تحج وحدها دون اصطحاب الزوج أو أحد المحارم على الرغم مما ذكره في طوق الحمامة عن خمس حاجات عابدات مجتهدات زاهدات في الدنيا اقترفن الخطيئة مع أحد ملاحي السفينة وهن في طريق العودة في بحر القلزم (البحر الأحمر).

    – لا يجيز ابن حزم فسخ الزواج بحكم القاضي لعيب في الزواج ولا لعدم النفقة ولا للضر ولا لغياب الزواج لأن أمر الطلاق للزوج، وإذن فكل من فرق زوجين بغير قرآن أو سنة فقد دخل في صفة الذين ذمهم الله تعالى بقوله: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) ونعوذ بالله من هذا. على أنه يقرر أنه يجوز الحكم بالطلاق في حالة واحدة هي ظهور عيب بعد اشتراط السلامة من العيوب. وما عدا هذا الشرط فشروط الزواج باطلة: كأن تشرط الزوجة ألا يتزوج عليها أو أن تكون العصمة بيدها أو ألا يسافر ويتركها.

    – اليمين بالطلاق باطل، فلا يقع طلاق والحالف آثم لأنه لا يمين إلا بالله تعالى.

    – المفقود حكمه حكم الحي حتى تثبت وفاته ثبوتا قاطعا.

    – الزوجة عند عجز الزوج عن الإنفاق عليها لا تطلق، بل ينفق عليها ولي الأمر إن كانت فقيرة، من أموال الصدقات، فإن كانت غنية وجب عليها أن تنفق هي على نفسها وعيالها وعلى زوجها.

    – كل تصرفات المريض مرض الموت من وصية وهبة وطلاق وزواج صحيحة، لا قيد عليها لعدم ورود نص بمنعها أو تقييدها. وبعض الصحبة لا يعترف بطلاق المريض مرض الموت، ويعتبره فرارا من الميراث.. ويستشهد بفتيا للإمام علي بن أبي طالب، ففي عهد عثمان طلق أحد الأنصار الأغنياء زوجة أنصارية، وكانت زوجته الثانية بنت عم علي بن أبي طالب، فلما مات الزوج أرادت زوجته الثانية أن تختص وحدها بميراث الزوج لأنه طلق الأولى في مرض موته، فاستشار عثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا، فأتاه علي بن أبي طالب فاشار بأن المطلقة ترث لأن الزوج يفر من قواعد الميراث، فشرك عثمان بين الزوجتين. وإذ راجعته الزوجة الثانية قال لها: «هذا رأي ابن عمك».

    – إعتبار الوصية فرض لازم لقوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترح خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين.) ولا يوجد نص يفسخ هذا الحم. ولكنه يشترط الا تضر الوصي بالورثة ويقول في هذا: «فرض على كل مسلم أن يوصي لقرابته الذين لا يرثون، فإن لم يفعل نفذ من ماله ما كان يجب عليه أداؤه، وعلى ولي الأمر تنفيذه في حدود الثلث».

    وقد أخذ القانون المصري برأي ابن حزم في فروع الولد الذي يموت في حياة أبيه. ورأى أن تكون بمقدار نصيب الوالد المتوفى على ألا تزيد على الثلث.

    حقوق الله في التركة مقدمة على حقوق العباد، وأول حقوق الله هي الزكاة المتأخرة.. ويقول: «إن حقوق الله أحق بالقضاء من غير تخريج ويجب الأخذ بظاهر النص»... ويهاجم الأئمة الاربعة لقولهم بغير هذا. ويصف رأي مالك بأنه «أفحشها تناقضا وأوحشها شدة وفسادا»، لأن مالك قدم حقوق العباد، أما عن حق الله فالله غفور رحيم

    ويقول أستاذنا المغفور له الشيخ محمد أبو زهرة تعليقا على قول ابن حزم في مالك «وإنا لنستغفر الله تعالى لنا وله على نقده لقول مالك بهذه اللغة ونقلنا له»

    أوجب ابن حزم إعطاء الاقارب واليتامى عند قسمة التركة إذا حضروا عند القسمة. وذلك بما لا يجحف بحقوق الورثة. وولي الأمر ملزم بإجبار الورثة على إعطاء أولئك ما تطيب به نفوس الورثة.. وذلك أخذا بظاهر نص الآية: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا). ثم يضيف: «أمر الله تعالى فرض لا يحل خلافه.... وعن ابن عباس: يزعمون أن هذه الدية نسخت (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) فلا والله ما نسخت، ولكنها مم تهاون الناس بها... وهي واجبة، ويعمل بها، وقد أعطيت بها.

    ويرد ابن حزم على من فهموا أن الأمر في الآية الكريمة ليس أمر وجود بقوله: «.... لا يفهم أحد من (افعل) إن شئت فلا تفعل.. وليس وجود آيات قام البرهان على أنها منسوخة أو مخصوصة أو أنها ندب، بموجب أن يقال ـ فيها لا دليل بذلك فيه ـ هذا ندب أو هذا منسوخ أو هذا مخصوص، فيكون قولا باطلا.»

    ابن حزم لا يحدد قدر ما ينبغي أن ياخذ أولوا القربى واليتامى والمساكين أن حضروا قسمة التركة، بل يترك ذلك لما تطيب به نفوس الورثة، فإن لم يفعلوا، فرض ولي الأمر ما يراه مناسبا وعادلا...

    يجيز ابن حزم لولي الأمر أن يفرض على التركة حصة للفقراء والمساكين وإن لم يحضروا القسمة، على أن تنفق عليهم هذه الحصة. وأحق الفقراء والمساكين بهذه الحصة من كان ذا قربى.. وقد أخذ القانون المصري بهذا النظر مع تعديل يسير في رض ضريبة التركات ورسم الايلولة.

    الإشهاد على البيع واجب شرعي... قال في ذلك ابن حزم: «... وفرض على كل متبايعين لما قل أو كثر أن يشهد على تبايعهما رجلين أو رجلا وامرأتين من العدول، فإن لم يجد عدولا سقط رض الاشهاد، فإن لم يشهدا وهما قادران على الإشهاد فقد عصيا الله وابيع تام، فإن كان البيع بثمن الى أجل مسمى، فرض عليهما مع الاشهاد المذكور أن يكتباه، فإن لم يكتباه فقد عصيا الله عز وجل، والبيع تام. فإن لم يقدرا على الكتابة، فقد سقط عنهما فرض الكتابة». وابن حزم يستنبط هذا الحكم من ظاهر الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين الى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا ياب كاتب أن يكتب عما علمه الله فليكتب، وليملل الذي عليه الحق، وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا، فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل ولي بالعدل، واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء إن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الآخرى، ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا الى أجله، ذلك أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا، إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم، فليس عليكم جناح ألا تكتبوها، وأشهدوا إذا تبايعتم، ولا يضار كاتب ولا شهيد، وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم، واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم).

    ويقول ابن حزم عما جاء في نص الآية: «هذه أوامر مغلظة مؤكدة لا تحتمل تأويلا». ويشرح أحكام الآية: «أمر بالكتابة في المدينة الى أجل مسمى، وبالإشهاد في التجارة المدارة كما أمر الشهداء ألا يأتوا أمرا مستويا، ثم أكد تعالى أشد تأكيد، ونهانا عن أن نسأم في كتابة ما أمرنا بكتابته صغيرا كان أو كبيرا. وأخبر تعالى أن ذلك أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا نرتاب، وأسقط الجناح (الإثم) في ترك الكتابة خاصة ـ دون الإشهاد ـ في التجارة المدارة، ولم يسقط الجناح (الإثم) في ترك الكتابة فيما كان دينا الى أجل. فقد قال تعالى بعد ان فرض الكتابة: (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم).

    وجمهور الفقهاء يرون أن الإشهاد في البيع والكتابة في التدين، والكتابة في الثمن المؤجل ليست من الفروض الواجبة بحيث يأثم تاركها، لأن النبي (صلى الله عليه) لم يصنع ذلك، وقد اشترى فرسا من أعرابي، ولم يشهد ولم يكتب، فباع الأعرابي الفرس مرة ثانية لمشتر آخر بثمن أعلى...!

    ويرى ابن حزم أن خبر الأعرابي ضعيف السند، وهو إن صح دليل على وجوب الإشهاد والكتابة، ويجب أن تكون هذه القصة قد وقت قبل نزول الآية، ولعلها هي ومثيلاتها كانت من أسباب نزول الآية..

    – لا يجيز خيار الشرط وهو حق البائع أو المشتري في الفسخ خلال مدة معينة. ويقول ردا على جمهور الفقهاء اذين ذهبوا الى جواز هذا الخيار: «كل بيع وقع بشرط خيار للبائع، أو للمشتري أو لهما جميعا، أو لغيرهما، خيار ساعة أو يوم أو ثلاثة أيام، أو أكثر أو اقل، فهو باطل.»... ويضيف: «كل ذلك شرع لم يأذن الله تعالى به، ولا أوجبته سنة... وقد قال رسول الله(صلى الله عليه): (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط)..»

    وكان دليل جمهور الفقهاء على إجازة الشرط أن أحد الصحابة كان يغبن في البيع والشراء، فأمره الرسول(صلى الله عليه) ألا يعقد صفقة حتى يشترط لنفسه الخيار في إبرامها أو فسخها خلال ثلاثة ايام ليشير من هو أعرف منه بأمور التجارة.

    فرد ابن حزم بأن هذا حكم خاص بحالة ذلك الصحابي، ولايجوز اعتباره حكما عاما.

    – لا تحريم إلا بنص فما هو ذريعة الىحرام ليس حراما، وقد نهى الله عن تحريم ما لم يحرمه هو، وإلا كان هذا التحريم افتراء على الله... قال تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون).

    ولكن الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل ومن اعتنق مذهبيهما يقسمون الشرعية الى مقاصد وذرائع. المقاصد هي هدف الشريعة، وهي تحقق المصلحة ودرء المفسد. والذرائع هي الوسائل أو الوسائط المؤدية الى المقاصد. والذرائع ترتبط بالمقاصد تحليلا وتحريما. وعلى هذا فلا يجوز بيع السلاح في وقت الفتنة، ولا يصح البيع الذي يخفي ربا أو يؤدي اليه، ويبطل الزواج المؤقت الذي يكون وسيلة وذريعة لتحليل الزوجة المطلقة ثلاثا. فكل تصرف قصد به الحرام أو أدى الى مفسدة يعتبر باطلا، وقد أمر به النبي عليه الصلاة والسلام ألا تقطع يد السارق في الغزو حتى لا يفر الى العدو.

    ويرد ابن حزم على كل هذا بقوله: «إن النسة يجب أن تطبق لأنها سنة دون محاولة تخريج أو تعليل أو قياس عليها فهي نص واجب اتباعه بظاهره، أما من حكم، باحتياط أو بشيء خوف ذريعة الى ما لم يكن بعد، فقد حكم بالظن، وإذا حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل وهذا لا يحل، وهو حكم بالهوى وتجنب للحق، نعوذ بالله من كل مذهب أدى الى هذا. مع أن هذا المذهب في ذاته متخاذل متفاسد متناقض، لأنه ليس أحد أولى بالتهمة من أحد، وإذا حرم شيئا حلالا خوف تذرع الى حرام فليخص الرجال خوف أن يزنوا، وليقتل الناس خوف أن يكفروا، ولتقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر. وبالجملة فهذا المذهب أفسد مذهب في الأرض، لأنه يؤدي الى إبطال الحقائق كلها، وبالله تعالى التوفيق».

    وهكذا استنفر من جديد أتباع الإمام مالك، واستنفر أيضا أتباع الإمام أحمد بن حنبل، فاستنكروا الزعم بان مذهب كل من الإمامين هو أفسد مذهب في الأرض!... وغلظوا مع ابن حزم واشتدوا عليه.

    – تصح شهادة الأصول والفروع والأزواج ما داموا عدولا. وهاجم الفقهاء الأربعة أصحاب المذاهب الذين لم يجيزوا هذه الشهادة، حرصا على العدل ودفعا لشبهة الأنحياز، فقال عن الفقهاء أصحاب المذاهب: «لقد أداهم هذا الاصل الفاسد الى أن حكموا في الشيء بالتهمة التي تحل، فابطلوا شهادة العدول لآبائهم وأبنائهم ونسائهم وأصدقائهم، تهمة لهم بشهادة الزور والحيف. والحكم بالتهمة حرام لا يحل، لأنه حكم بالظن، وقد قال تعالى عائبا لقوم قطعوا بظنونهم: (وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) وقال تعالى عائبا قوما قالوا: (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) وقال تعالى: (وما لهم به من علم ان يتبعوا إلا الظن وإن الظن لا يغني عن الحق شيئا) وقال تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) وقال رسول الله(صلى الله عليه) (الظن أكذب الحديث).

    هاهو ذا من جديد يسرف في الهجوم على الأئمة الكبار أصحاب المذاهب، ويستشير أتباعهم ضده، ويجلب عليه سخط أهل الورع ممن يروعهم أن يتهم الأئمة مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد، بالتناقض والتخاذل والتفاسد.. وأنهم يتبعون هوى الأنفس.!

    ومم خاف فيه إجماع الفقهاء قوله أن العبد كالحر في حق الزواج بأربع. وقد أقترب من الإمام مالك في هذا النظر، ولكنه هاجمه حتى في اتفاقه معه..!

    واتهم الإمام مالك بن أنس بالتناقض، لأنه خالف في حكمه هذا أقوالا لبعض الصحابة لم يعرف لها مخالف. ومالك يعتبر هذا إجمالا يجب اتباعه فكيف يخالفه؟ وكان أحرى بمالك في رأي بن حزم ألا يعتبر إجمالا إلا ما تواترت الأخبار الصحاح على أن الصحابة أجمعوا عليه يقينا.

    وعلى أية حال فقد خالف ابن حزم آراء مالك وغيره من الأئمة أصحاب المذاهب فيم عدا هذا من أحكام العبد، فاعترف له بحق تملك الجواري والتسري بهن، وبكل حقوق الملكية. لأن حق الملكية يرتبط بالإنسانية لا بالحرية، ولا شأن له بما يطرأ على الإنسان من عبودية. فالعبد والحر متساويان، وقد وجه إليهما الله تعالى خطابه في القرآن الكريم بلا تفرقة فقال: (يا أيها المؤمنون)، أو (يا أيها الناس)، و يقول: (يا أيها الأحرار) ولا: ( يا أيها العبيد)، وعلى هذا جرت السنة، فللعبيد كل حقوق الأحرار، ولا فرق بينهما إلا فيما جرت به السنة في الحدود، فعلى العبد نصف ما على الحر من عقوبات، وليس لأحد أن يشرع مع الله ورسوله أو بعد القرآن والسنة. والقول بأن للعبد نصف ما للحر خروج على الشرع.

    عندما أثار ابن حزم حقوق العبيد، قامت عليه القيامة من جديد... فهاهو ذا يدعو الى المساواة بين العبيد والسادة بل يميز العبيد يفتي بان لهم كل حقوق السادة ونصف ما على السادة من عقوبات.!

    فهو إذن يثير العبيد على سادتهم!

    ومن قبل أثار العاملين في الأرض على املاك!.. والنظام في الأندلس يقوم على وضع أدنى للفلاحين، والعاملين في الأرض، والعبيد..!

    غير أن ابن حزم يرى ان هذا كله ليس من الإسلام في شيء، فهو خروج صرحي على نصوص القرآن الكريم وسنة الرسول(صلى الله عليه).

    واحتشد على ابن حزم كل خصومه من الأمراء والكبراء والوزراء الذين جهر بنقدهم، ومن العلماء والفقهاء الذين عنف عليهم في الذم، واحتشد معهم كل من استفزتهم حدته في الحديث عن الأئمة أصحاب المذاهب..

    تكاثر الخصوم على ابن حزم فدبروا له أمرا، وأغروا به الحكام لينزلوا به جزاء الخارج عن الدين، ومثير الفتنة!

    لم يعد له من أحد في الأندلس إلا بعض شباب العلم وطلابه، وإلا أمير ميورقة.

    أما هؤلاء الشباب فكانوا معجبين بجسارته، ونصاعة بيانه، وشدة تمسكه بالقرآن والسنة، وحرصه على ألا يستنبط الحكم أو يستخلص الفتيا إلا من ظاهر النص، في وقت شيوع البدعة والتقليد وتجمد العقل.

    وما كان الشباب يغصبون من عنفه على أئمة المذاهب، لأن سقم الفكر، وإفلاس الملكات، والضحالة، قادت البعض الى تقديس هؤلاء الفقهاء، فنسوا أنهم بشر يخطئون ويصيبون!! فكان لابد للناس من فقيه عالم، كابن حزم يصدم جمهورهم، ويحرك صمت الحياة الفكرية الرتيبة الآمنة من حولهم، وينبه الغافلين والمقلدين، ويعيدهم الى القرآن والسنة، ويلزمهم اتباع النصوص!

    ومهما يكن من عنف ابن حزم الذي وصل الى حد النزق كما عبر هو نفسه، فما كان هذا كله ليصرف عنه الشباب، بل كان يشاكل ما في أعماقهم من فورة الحمية والغيرة والحماسة..!!

    وأما النصير الآخر الذي كان لابن حزم مع هؤلاء الشباب، فهو صديقه أمير ميورقة. وما كان لأحد أن ينال من ابن حزم والأمير يبسط عليه كل حمايته ورعايته!.. وهو أمير شديد المروءة، عظيم النجدة، واسع النفوذ، قوي الشكيمة، يخطب وده سائر الأمراء والفقهاء والرؤساء.

    وكان ابن حزم يشعر بالطمأنينة والسكينة تحت رعايته، ويستجم من عناء العمل في مجلسه. وكان الأمير غزير العلم، ظريفا، طيب المعشر، حلو الأحاديث، وكان يسري عن ابن حزم برواية ما يحفظ من طرائف وأخبار عن منافسيه من الفقهاء، وقد روى لابن حزم قصة صوفي من أهل الأندلس، عرف بالعداء لابن حزم وبالصلاح وكثرة السياحة والتجوال. وقد سافر الصوفي الى مصر في بعض سياحاته وعندما عاد روى للأمير عجبا عن رحلته تلك: «كنت بمصر أيام سياحتي فتاقت نفسي الى النساء. فذكرت ذلك لبعض إخواني فقال لي: ها هنا امرأة صوفية لها بنت مثلها جميلة قد ناهزت البلوغ، فخطبتها وتزوجتها. فلما دخلت عليها وجدتها مستقبلة القبلة تصلي، فاستحييت أن تكون صبية في مثل سنها تصلي وأنا لا أصلي، فاستقبلت القبلة وصليت ما قدر لي، حتى غلبتني عيني، فنامت في مصلاها، ونمت في مصلاي. فلما كان في اليوم التالي، كان مثل ذلك أيضا، فلما طال الأمر علي، قلت: يا هذه ألا اجتمعنا معا؟ قالت: «أنا في خدمة مولاي، ومن له حق فلما أمنعه.» فاستحيت من كلامها، وتماديت على أمري نحو الشهر، ثم بدا لي السفر فقلت لها: «يا هذه» قالت: «لبيك»، قلت: «إني أردت السفر»، فقالت: «مصاحبا بالعافية». فقمت فلما صرت عند الباب قامت فقالت: «يا سيدي كان بيننا في الدنيا عهد لم يقض الله بتمامه، عسى في الجنة إن شاء الله يقضي بتمامه». فقلت لها: «عسى الله.. أستودعك الله خير مستودع». فتودعت منها وخرجت ثم أكملت سياحتي في بلاد الله وعدت الى مصر بعد سنتين فسألت عنها فقيل لي: «هي على أفضل ما تركتها من العبادة والاجتهاد». فلم أفكر في زيارتها!.»

    هكذا ان الأمير يسامر صديقه ابن حزم ويخف عنه برواية ما يعرف من الطرائف عن خصومه من الفقهاء والمتصوفين.

    كان الأمير يؤنسه، ويسري عنه، ويصونه من عاديت الخصوم، ومكائد الحساد، وبغي الشانئين.

    ولكن الأمير مات فجأة، وهو أنضر ما يكون عافية وأشد ما يكون قوة، وأعذب ما يكون ظرفا.!

    وأحس ابن حزم، كأنما يد باطشة تلوي عنقه، وتدق عظامه، وتقي به بغتة في عراء مخيف لا ظل فيه ولا ماء، ولا شيء غير جوارح الطير، والوحش، والهوام السامة.!!

    لقد أصبح الشيخ في ميورقة بعد طول الأنس والمتعة وحيدا بلا ولي ولا نصير: الأحزان تمزق منه القلب، والفكر مضطرب، يتوجس خيفة مما عسى أن يصنعه به الأعداء من الأمراء وصغار الفقهاء وكبار ملاك الأرض والنخاسين...!

    ولكنه استطاع على الرغم من كل شيء أن يجمع شتات نفسه التي توزعتها الأحزان، وأن يواجه العاديات بكل القوة التي يمنحها الإيمان بالله، فكفكف دمعه العصي الذي انهمر يخضل لحيته الشهباء حزنا والتياعا على صديقه الأمير.

    أذعن ابن حزم لقضاء الله فصبر وصابر، وعاد الى حلقة الدرس يعلم الشباب الذين التفوا حوله أكثر مما التفوا من قبل، لا يخشون فيما يؤمنون به لسومة لائم، ولا يبالون في حبهم لشيخهم بما قد ينزل به من بطش خصومه.!!

    وجد العزاء في العمل، وفي لقاء هؤلاء الفتية طلاب علمه من أهل الجسارة والمروءة.

    ما من شيء كان يستطيع أن يشرح صدره للحياة والمستقبل كهذا الحب في الله يعمر قلوب شباب مؤمنين تضطرم أعماقهم بالأشواق الطيبة الى بناء عالم من العدالة والخير والفضائل على دعائم من تعاليم الإسلام.

    وما من شيء كان قادرا على أن يضيء بالبهجة قلبه الحزين، ويعيد الثقة الى نفسه المضطربة، كاستغراقه المخلص في الكتابة مواجها ضلالات العصر، وعلى شباة قلمه يتناثر الشرر يحمل اللهب المتأجج في أطواء نفسه، وينير الطريق الى الحق أمامه وأمام الآخرين..!

    إنهم ليريدون أن يعرفوا الطريق، وإنهم ليحمدون الله أن قيضه لهم ليقودهم الى الحق وما كان عنفه ليغير عليه قلوب الشباب، بل كان على النقيض، فهو يوافق ما في أغوارهم من احتدام، ويشاكل ما في طبيعتهم الفتية من غيرة للحق وشدة على الباطل. وكان في هذا العنف رجع لحماسة أولئك الشباب.

    ما من إنسان في الأندلس يرتاح اليه بعد، كما يرتاح الى هؤلاء الشباب الذين يأنس فيهم الصفاء، والطهر، والغيرة، وصدق المودة، والشوق المحتدم الى الخلاص، والى بناء عالم من العدالة والحق والخير على دعائم من تعاليم الإسلام.

    وبالله كم ارتفع قدر ابن حزم في ميورقة وما حولها، حتى لقد توافد عليه الطلاب والباحثون عن الحقيقة من كل أقطار الأندلس، فأصبحت له الرئاسة على الناس..!

    ولكن خصومه يجدون منذ اليوم في الإيقاع به، والكيد له عند سائر الأمراء، بعد أن مات نصيره ووليه أمير ميورقة..

    وذات صباح فوجئ ابن حزم بأمر جليل من أمور الأندلس لم يستطع عليه صبرا.. وكانت أمور السياسية في الأندلس قد آلت الى فضائح كما قال أحد مؤرخي ذلك العصر: «صار الأمر الى الأخلوقة والفضيحة: فهناك أربعة حكام كلهم يسمى بأمير المؤمنين في رقعة من الارض مقدارها ثلاثون فرسخا في مثلها.. ومنهم من لا يصحب إلا كل ساقط رذل ولا يحجب عنهم حرمه (أي نساءه).»

    من بين هؤلاء الأربعة الذين يزعم كل واحد منهم أنه خليفة ويسمي نفسه امير المؤمنين، نهض أمير اشبيلية يحاول الوثوب على الإمارات الأخرى ليضمها الى ملكه، واستبد بالأمر وبطش باهل الشورى، وفتك بمن يعارضه، حتى لقد طارد أحد معارضيه الذين فروا منه الى الححاز وهو عالم كفيف فارسل الأمير من يدس السم للرجل، فمات...!

    قام حاكم أشبيلية يدعو اهل الأندلس الى مبايعته هو وحده خليفة على الأندلس كله وأمير المؤمنين. وادعى أنه هو الخليفة الأموي المقتول هشام ابن الحكم المؤيد!!

    وعندما بلغ ابن حزم ما يدعيه أمير أشبيلية أذاع الشيخ على الناس: «أخلوقة لم يقع مثلها في الدهر، فإنه ظهر رجل بعد اثنتين وعشرين سنة من موت هشام بن الحكم المؤيد، وادعى أنه هو، فبويع له، وخطب على جميع منابر الأندلس في أوقات شتى، وسفكت الدماء، وتصادمت الجيوش في أمره.»

    وجن أمير أشبيلية حنقا على ابن حزم، وأمر الشرطة أن تأتي به من ميورقة، ولكن أحدا لم يستطع أن يقتحم عليه أو يفضي إليه!

    لقد حماه الشباب الذين بهرهم علمه وإخلاصه، وجموع الفلاحين الذي يدافع عن حقهم في الأرض، فتحصن في قلعة منيعة من حب المعجبين به...

    وفكر أمير اشبيلية في أن يكيد له كيدا يسقطه أمام محبيه، فيسهل على الأمير بعد ذلك أن يفتك بالشي في معزل عن حصنه الحصين!

    وكان صار الفقهاء يغرون به، ويريدون التخلص منه، وخصومه وحساده يفتون بإهدار دمه..!

    واتفق أن أنبا الوليد الباجي الفقيه الأندلسي عاد الى الأندلس بعد رحلة طويلة في المشرق استغرقت نحو ثلاثة عشر عاما.. وكان الباجي فقيها غزير العلم، ولكنه كما قال عنه أحد معاصريه: «كان مشهورا بأنه يجالس الرؤساء ويمدحهم بشعره ويسترضيهم حتى ينال جوائزهم، وكانت عليه مطاعن في دينه».

    هاهو ذا إذن الرجل الذي يستطيع أن يقذفه الأمير على الشيخ ابن حزم: فقيه واسع العلم يقبل أن يوحه علمه الى ما يرضي الأمير!..

    ولاذ صار الفقهاء من أعداء ابن حزم بالفقيه الباجي، واجتمعوا كلهم عند أمير أشبيلية وأحكموا الخطة التي يسقطون بها ابن حزم أمام المعجبين به والملتفين حوله. فما هي إلا أن يناظره الباجي ويفحمه في المناظرة حتى تسقط هيبته ويتخلى عنه الجميع!!

    قدم الباجي الى ميورقة في موكب ضخم من أهل الوجاهة وصار الفقهاء أعداء أبن حزم، وعدد كبير من محترفي الشغب، وأهل الابتزاز ومحترفي الإرهاب ورجال الشرطة السرية!

    وذهب الباجي في موكبه ذاك الى حق ابن حزم في جامع الجزيرة، وأغرى عددا من الفقهاء الذين صحبوه ليجادلوا ابن حزم فينهكوه، ويستفزوه بالافتراءات والتهجم عليه حتى يفقد السيطرة على نسه قبل أن يبدأ الباجي مناظرته..! ولكن ألسن الفقهاء قصرت عن مجادلة ابن حزم وكلامه. فتقدم الباجي يناظره، فأفحمه ابن حزم، فأراد الباجي أن يمكر به وأن يحرض عليه فقراء الطلاب والفلاحين من رواد الحلقة فقال: «تعروني فأكثر مطالعاتي كانت على سرج الحراس». فرد ابن حزم: «وتعذرني فأكثر مطالعاتي كانت عل منابر الذهب والفضة.» وصفق أتباع ابن حزم طربا.

    وخرج الباجي في موكبه، وظل ليلته يعد مع أنصاره الشراك لابن حزم.

    وفي اليوم التالي اقبلوا الى الحلقة، وبدأت المناظرة، ولم يك الباجي ينتهي من كلامه حتى وثب أنصاره فصفقوا وتصايحوا إعجابا بما قال. وجاء دور ابن حزم ليرد ولكنهم قاطعوه بالصفير والزعيق والسخرية والضحكات والتهريج عليه، وغمر صخبهم المكان، ولم يمكنوا ابن حزم من الكلام إذ ضاع صوته وسط الشغب والتهريج، فعزف عن الاستمرار في المناظرة.

    وقام من المسجد آسفا، فأعلنوا انتصار الباجي، وانكسار ابن حزم..

    وظلوا يطردون ابن حزم بصيحهم وشغبهم: «أبو الوليد الباجي ناظر ابن حزم، فانكسر ابن حزم أمامه»

    آوى ابن حزم الى داره لا يبرحها مد يومين، وصدى أليم من سخرية المشاغبين تلح عليه، وأعداؤه يحتلون حلقته ويصرفون عنها مريديه.

    ثم جاءه من يخبره أن أمير المؤمنين (وهو أمير أشبيلية) أصدر أمره بمنع تداول مؤلفات ابن حزم، وجمعها كلها من خزائن الكتب العامة والخاصة في جميع بلاد الأندلس!!

    وما هي إلا أيام حتى أحرقت مؤلفات ابن حزم في جمع من أعدائه وحساده وشانئيه وضحكاتهم الشامتة تتعالى في جنون وحشي..!

    أية قارعة هذه التي نزلت بالرجل في شيخوخته.! إنها لقاصمة الظهر.!

    إنه الآن ليقرع أبواب الستين، وما من عزاء بعد، ولا عوض عما ضاع، ولا هو يستطيع أن يكتب من جديد بعض هذه الصفحات الطوال التي أودعها كل روعة حياته، والدمع، والضنى، والمعاناة، والأمل والبهجة، وحبات القلب..!

    ولكنه استطاع!..

    إزدرد الدم النازف من جراحاته، واستعلى على النكب، وواجههم من علياء صموده بشعره يتحدى:

    تضمنه القرطاس، بل هو في صدري
    فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي

    وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
    يسير معي حيث استقلت ركائبي


    واستقلت ركائبه.. ترك ميورقة الجزيرة التي عرف فيها حلاوة الأمن وطيب الالفة.

    ترك ميورقة بعد أن تحولت طرقات الجزيرة الى مرابض للمتربصين، وأصبحت حلقات العلم فيها فخاخا ومصائد..!

    ومضى في ركب حزين من أهله وجواريه وخزانة كتبه.. الى حيث لا يعلم أحد مكانه، ولا يلقى أحدا من الناس..!

    «وطفق الحكام يقصونه عن قربهم ويسيرونه عن بلادهم»، كما قال أحد مؤرخيه (أبو حيان) اختفى زمنا، ثم سار الى القرية التي ولد فيها آباؤه قبل أن يستوطنوا قرطبة، حيث تركوا له ضيعة يكفيه دخلها ويوفر له حياة ميسرة، وحيث ما زال يعيش اقرباؤه.

    وفي أحضان ذلك الركن الهادئ من ريف الأندلس، بين الفلاحين الذين أحبوه وعرفوا فيه ـ قبل أن يقلوه ـ مناضلا عن حقوقهم، قرر ابن حزم أن يعيش ما بقي له من العمر.

    لم تكن النار التي التهمت كتبه قد استطاعت أن تمس شموخه ولا إصراره.. فما زال قادرا على ان يبدأ من جديد على الرغم من كل شيء!

    لا بشط أمير أشبيلية، ولا بغي كل أعدائه، ولا المكر السيء، ولا شيء على الإطلاق يستطيع أن يمتد الى تلك البقعة الهادئة أو ينال منه.. فلا سلطان لأمير اشبيلية على هذا المكان الجميل من ريف الأندلس، ولا رأي لفقيه هنا إلا رأي بن حزم: ابن القرية وحامي العامين فيها..

    وعلى وهج النار التي التهمت مؤلفاته، أضاءت نفسه بالإصرار وإرادة لتغيير.

    وعاد يلتقي بشباب آخرين. فقد توافد عليه الشباب من القرية ومن كل أرجاء الأندلس، وقد زادهم صمود الشيخ في محنته إعجابه به. وفاضت عيناه العصيتان من الفرح حين أخرج اليه بعض هؤلاء الشباب مؤلفاته التي أخفوها فنجت من الحريق!.. وأخذوا ينسخونها بهمة عالية متحدية، ويوزعونها خفية في كل اقطار الأندلس، وخارجه. ونسخوا ووزعوا من هذه الكتب الناجية من الحريق أضعاف ما كان موجودا من قبل!

    وبد الشيخ يملي عليهم ما احترق من المؤلفات، ويؤلف كتبا جديدة.

    وفي قريته النائية حيث لا يصل إليه فحيح العداء، ولا صخب الحساد، ويحث تقصر عنه يد الحكام، وحيث حب الناس يمر نفسه بالصفاء، وحيث كل ما حوله من جمال الطبيعة وطيبة القلوب يعمر نفسه بالأمل، ويقنعه بأن الحياة جديرة بأن نحياها، وبأن نجعلها متاعا حلالا للآخرين، هناك في هذا الهدوء النابض بروعة المودة، استطاع ابن حزم أن يحكم مؤلفاته التي أعاد كتابتها بعد احتراقها والتي صنفها.. وكانت مناظراته مع مريديه في جو مترع بالمحبة سبيله الى الإتقان..

    لقد عاش كل حياته السابقة يستنبط الأحكام من ظاهر النص، فهاهو ذا الآن يستخلص الحكمة من باطن النفس!.

    إنه ليفهم ظاهر النصوص بكل معانيها الصريحة والمجازية،بلا نظر في الدلالات والإشارات الخفية، وهو في الوقت نفسه يستبطن خفايا النفوس وأسرار الدلالات ولطف الإشارات ليصوغ أفكاره في الأخلاق والفلسفة وسائر الإنسانيات.

    وتأسيسا على هذا النظر أحكم فقهه وأصوله، وسائر آرائه في الحياة والناس.

    وهكذا أتقن إيراد كثير من الأحكام والآراء التي خالف بها كل من سبقه، أو سبق هو بها كل من جاء بعده من أهل الفكر، من خلال أسلوب ناصع، بطريقة يجذب بها انتباه القارئ أو السامع، فهو يعرض الآراء التي يخالفها بما لديها من حجج وأدلة، ثم يناقشها ويرد على أدلتها، ثم يسوق أدلته هو ويرد على ما عسى أن يثار ضد هذه الأدلة والحجج، ثم يخلص الى النتيجة مؤيدة بالبراهين..

    وقد أوردنا فيما سبق كثيرا من هذه الأحكام والآراء..

    ولكنه صقل هذا كله في قريته وقدم بعض الإضافات.

    وكان من قبل قد كرر أنه لا يحسن الظن بالمرأة، وهو يعني المرأة التي لا شغل لها في الحياة العامة، ولا تنشغل حتى بمنزلها وتربية أولادها، فهي لابد أن تنزع في فراغها هذا الى دواعي الغزل، والى المعصية، ثم الى الفساد. والرجال والنساء في ذلك سواء.

    على أنه بأن المرأة شرعا تستطيع أن تتولى الوظائف العامة بلا استثناء إذا كانت صالحة قادرة مؤهلة لتولي هذه الوظائف...

    أما قول الرسول(صلى الله عليه): «لعن الله قوما ولو أمرهم امرأة» فهو إنما يعني الخلافة أو الإمامة فحسب، فالخليفة يجب أن يكون رجلا. أما فيما عدا الخلافة فالمرأة الصالحة لها حق ولاية أي أمر من أمور المسلمين.. وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته». وذكر الحديث أنواع الرعاة ومسؤولياتهم فذكر المرأة: «والمرأة راعية وهي مسؤولة عن رعيتها». فضلا عن أنه لم يرد نص في القرآن أو السنة، يحرم على المرأة تولي أمور المسلمين فيما عدا الخلافة.

    وذهب ابن حزم الى أن المرأة إذا تفقهت في الدين وجب على الرجال أن يأخذوا عنها وقال: «وهؤلاء أزواج النبي قد نقل عنهن أحكام الدين،وقامت الحجة بنقلهن، ولا خلاف في ذلك. فالمرأة تستطيع أن تتولى القضاء والإفتاء وأن ترأس الرجال في عملهم، وأن تدرس لهم».

    ونظر من جديد في وضع العبيد والجواري فأكد أنهم لا يختلفون عن الأحرار في صفة أو موهبة وان العبودية ليست ذنبهم، ولا هم الذين جروها عل أنفسهم، وبينهم من هو أتقى وأزكى وأصلح من الأحرار، وقد ولي أمور المسلمين في المشرق من أبناء الجواري خلفاء كانوا صالحين وبناة حضارة، وما ذلك إلا لأن أمهاتهم الجواري قد أحسن تربيتهم، وما ولي الأندلس من هو ابن حرة قط، فكل حكام الأندلس منذ الفتح من أولاد الإماء، ولقد كان منهم خلفاء عظام.

    فإذا تاق العبد الى الحرية فليس لمالكه أن يحرمه منها، وعلي ولي الأمر أن يحمل المالك على تحرير المملوك. وفي ذلك قال ابن حزم: «من كان له مملوك مسلم أو أمة مسلمة فدا أو دعت الى الكتابة، فرض على السيد الإجابة على ذلك. ويجبره السلطان على ذلك. وذلك بما يعرف بأن المملوك العبد أو الأم يطيقه «اي بالسعر الذي يطيقه من يطلب العتق أو التحرير».و هو سعر يراعى يه أمران: لا يجحف بمالك العبد أو الأمة، وأن يطيقه العبد وتطيقه الأمة، فإذا اختلف الطرفان تدخل السلطان ليجبر المالك على عتق المملوك أو المملوكة.

    ويجدد السلطان السعر العادل. وبرهان ابن حزم على هذا هو نص الآية الكريمة: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمت فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)

    ومالك الرقيق الذين يعجزون عن تحرير أنفسهم مأمورا شرعا بأن يعاملهم كما يعامل أبناءه وذوي قرباه في كل أمور المعاش..

    وكان ابن حزم قد نفض يديه من الحكام ليأخذ بيد المحكومين، ويئس من إصلاح الرعاة فتوجه الى الرعية يعرف الناس بحقوقهم على ولي الأمر، وأفتى بان السلطان مطالب شرعا بأن يوفر لرعيته حد الكفاية من المأكل والملبس والمسكن ودابة الركوب. وهذا هو رأي إمام مصر الليث بن سعد. وزاد ابن حزم أنه ما من شيء يضطر المسلم الى أن يأكل ما حرمه اله كالميتة والدم ولحم الخنزير. فالمسلم لا يضطر الى هذا أبدا إلا إن عضه الجوع وهو في خلاء ولم يجد غير هذا الطعام المحرم. أما المسلم في بلده فولي الأمر مسؤول عن إطعامه، فإذا لم يكن في بيت المال ما يكفي لإطعامه الجياع، فعلى السلطان أن يفرض في أموال الأغنياء ما يكفي لمواجهة حاجات الفقراء. فإذا لم يفعل السلطان أي ولي الأمر، فقد أثم، وجاز للجائع إن لم يجد طعاما، أن يقاتل على هذا الطعام من لديه طعام لا يحتاج اليه، فإن قتل الجائع فهو شهيد وعلى قاتله القصاص، وإن قتل مانع الطعام فهو في النار ولا قصاص!

    وأفتى بأن تعاون الجيران ليس من مكارم الأخلاق إن شاء الجاء أتاها أو تركها، بل هو تكليف شرعي بنص القرآن: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون). والماعون هو ما يقترضه الجار المحتاج من جاره كالأواني ودواب الركوب وأدوات الزرع والحرث ونحو ذلك.

    وأفتى في الماء: «لا يجوز بيع الماء بوجه من الوجوه لا من ساقية ولا من نهر أو من عين أو من بئر ولا في صهريج ولا مجموعا في قربة ولا في إناء. ولا يملك أحد الماء الجاري إلا ما دام في ساقيته ونهره، فإن فارقهما بطل ملكه عنه وصار لمن في ارضه، وهكذا ابدا. أما من حفر بئرا بعمله وماله فهو أحق بمائها ما دام محتاجا، فإن فضل عنه ما لا يحتاج اليه لم يحل له منعه عمن يحتاج اليه، وكذلك فضل النهر والساقية.. ومن استسقى قوما ولم يسقوه وهم يعلمون أنه لا ماء له البتة فهم قاتلوه عمدا، وعليهم القيود (القصاص) بأن يمنعوا الماء حتى يموتوا كثروا أو قلوا. وهكذا القول في الجائع والعاري، ولا فرق.

    وقد فرض ابن حزم كل صاحب إبل وبقر وغنم «أن يحلبها يوم ورودها على الماء ويتصدق من لبنها بما طابت به نفسه». فقد جاء في الحديث الشريف: «تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يعط حقها تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها. ومن حقها أن تحلب على الماء».

    في أموال القادرين حقوق غير الزكاة، وهذه الحقوق واجبة الأداء، وليس أداؤها من باب التطوع. قال: «وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقراءهم ويجبرهم السلطان على ذلك».

    أما ما سبق به المفكرين الذين جاءوا من بعده، فتلك أمور تمس بواطن النفوس وخصائص الاشياء ومظاهر الطبيعة:

    – من ذلك انه اهتدى الى نظرية في المعرفة تقوم على مزج بين الفطرة والتجربة، بين البديهة والحس.. ويشخص نظريته هذه بقوله: «إن العلم بالضرورة أو بالفعل راجع الى الحس» فالإنسان يعرف أشياء بالبديهة أو الفطرة ويصقل علمه بالحواس وهو ما يختزنه بإدراكه الحسي في زمن سابق، ويحكم هذا بالتجربة. فهذه هي المعرف.

    وهذه نظرية في المعرفة اكتملت بعد ذلك بقرون. وكان الأوروبيون في عصر ابن حزم يقرأون كتاباته وكان المتعلمون في جنوب فرنسا وإيطاليا وما يليها لا يعتبرون متعلمين حقا إلا أن يعرفوا العربية.

    ومن ذلك أنه أهتدى في وقت مبكر جدا الى أن الأرض كروية وقد وصل الى هذا الرأي من فهمه لظاهر آية في القرآن الكريم فكتب يقول: «إن أحدا من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من القرآن والسنة، قد جاءت بتكويرها، قال الله عز وجل: (ويكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل). وهذا أوضح بيان في تكوير الأرض...»

    – ومن ذلك رأيه في ان الجزيء قابل لأن يتجزأ. وعن الجزيء (أي الذرة) يقول ابن حزم: «ليس في العالم جزء لا يتجزأ، وإن كان جزء أنقسم الجسم إليه فهو جزء أيضا وإن رق أبدا... وإن كل شيء يحتمل أن يكون على أجزاء كثيرة فبالضرورة ندري أنه يحتمل أن يجزأ الى أقل منها...».

    ويرى الأستاذان عبد الحليم عويس وأحمد عبد الوهاب أنه سبق بهذه الآراء العلماء المفكرين حتى القرن العشرين.

    على أن ابن حزم لم يسلم من الهجوم على الرغم من أعتزاله الناس في قريته. فهاهو ذا يذيع كل الآراء التي ظن الناس أنها اختفت بعد أن أحرقت كتبه..! هاهو ذا يحكم أراءه لتصبح أكثر ذيوعا من قبل! وهاهو ذا يصنف مؤلفات جديدة، وأن الشباب ليلتفون حوله أكثر مما التفوا في أي وقت مضى.. لا يسمعون قول فقيه غيره.!!

    زادت الثورة عليه، واتهموه مرة أخرى بأنه يحرض الفقراء والجياع والعراة على الأغنياء! واتهموه بأنه يبيح الماء من لا حق لهم فيه، ويحرض العبيد على إكراه السادة لتحريرهم.. وهو بعد يهاجم بعض الفقهاء واذين يزعمون أن الارض تقف على قرن ثور ويتهمهم بأنهم يشيعون الخرافات التي تجعل الشباب يرفضونها فيتجهون الى الإلحاد فهؤلاء الفقهاء هم المسؤولون إذن عن إلحاد الآخرين! ثم إنه يقنع هؤلاء الشباب بأن الأرض كروية، ويسترضي الأبناء غير الشرعيين الذين أوجدتهم ظروف المجتمع الفاسد ويعتبرهم ضحايا فساد المجتمع، فيجب للهم حسن الرعاية، ويفتي بمساواتهم بالأبناء الشرعيين.

    واتهمه خصومه من جديد بالخروج على الدين وإثارة الفتنة... واتهمه بعضهم بالجمود لوقوفه عند ظاهر النص، فأغلظ في الرد عليهم جميعا، واتهمهم بأنه جهلاء مراءون منافقون يساندون الحكام ويمدحونهم بغير ما فيهم ويزينون لهم البغي والظلم والانحراف عن ال"سلام للحصول على الجوائز والأموال المناصب والإقطاعات!!

    وعلى الرغم من استعار الخصومة بينه وبين الفقهاء من متبعي المذاهب، فقد ظل مع ذلك يعمل ويعلم، حتى لقد كتب في قريته تلك ما يزن حمل بعير، منها كتاب «الإنعام في أصول الأحكام» وهو مصنف في اصول الفقه من ثمانية أجزاء وقد قال عنه ـ المغفور له ـ الشيخ أحمد شاكر أحد أعلام الشريعة في القرن الرابع عشر الهجري: هذا الكتاب النفيس الذي لم تر العين مثيله في علم الأصول.

    ولكنه إذ رأى ما يعانيه من أهل زمانه كتب وكأنه كان يعزي نفسه وسائر المخلصين من أهل العلم والفقه والفكر.

    «أزهد الناس في عالم أهله، وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: «لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده». وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي(صلى الله عليه) من قريش، وهم أوفر الناس أحلاما، وأصحهم عقولا، وأشدهم تثبيتا، مع ما خصوا به من سكناهم أفضل البقاع، وتغذيتهم بأطيب المياه (بئر زمزم) وحتى خص الله تعالى الأوس والخزرج بالفضيلة التي أبانهم بها عن جميع الناس، والله يؤتي فضله من يشاء ولا سيما أندلسنا فإنها خصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم، الماهر منهم، باستقلالهم كثيرا ما يأتي به، واستهجانهم حسناته وتتبعهم سقطاته وعثراته... إن أجاد قالوا: (سارق مغير). وإن توسط قالوا: (غث بارد وضعيف ساقط). وإن باكر لحيازة قصب السبق، قالوا: (متى كان هذا، ومتى تعلم وفي أي زمان قرأ؟! ولأمه الهبل!)... فإذا سلك غير السبيل التي عهدوها، حمي الوطيس على البائس وصار غرضا للأقوال، ونهبا للألسنة، وعرضه للتطرق الى عرضه... فإن لم يتعلق من السلطان بحظ لم يسلم من المتألف... وعظم يسير خطبه، واستشنع هين سقطه، واشتط عليه، وسترت فضائله، فتنكسر لذلك همته، وتكل نفسه، وتبرد حميته».

    لكم لقي ابن حزم حقا! وقد وصف أحد المنصفين من خصومه ما كان يلقاه: «أن ابن حزم اصابه ما اصابه من الحسد الذي لا دواء له، لأنه أزهد الناس في عالم أهله.»

    وفي شعبان سنة 456 هـ، كان ابن حزم قد جاوز السبعين بنحو عامين، وقد أنهكه العمل الدائب، والصراع المتصل، والجحود والاضطهاد، وهدته جراحات الغدر!

    قد آن للقلب المعذب أن يستريح!...

    وعندما شعر بدنو الأجل قال قصيدة جاء فيها:

    عن الأهل محمولا الى ضيق ملحد
    عفا الله عني يوم أرحل ظاعنا

    ويا نصبي إن كنت لم أتزود
    فواراحتي إن كان زادي مقدما


    ثم سكت قلبه الى الأبد ولكن أصداء من صوته عبرت أطباق التاريخ!

    ويمضي الزمن ليحكم الأندلس بعد قرنين من وفاة ابن حزم حاكم ينشر كتب الفقيه المضطهد، ويحمل الناس على الأخذ بما جاء فيها.. ثم يطارد ذلك الحاكم أتباع الأئمة الأربعة ويحرق كتب الاجتهاد بالرأي وكتب الإمام مالك بصفة خاصة، ويخير الناس بين الأخذ بمذهب ابن حزم واتباع ظاهر القرآن والسنة أو السيف.!

    وتعبر آراء ابن حزم جسور الزمن، لتؤثر في المشرق العربي على أفكار فقيهين من أصحاب المذاهب، ثار كلاهما على التقليد فحاول التجديد... واصطك كل منهما بعصره وكابده عصره... هما عز الدين بن عبد العزيز ابن عبد السلام الشافعي، وتقي الدين بن تيمية الحنبلي...

    المصدر: عبد الرحمن الشرقاوي ـ أئمة الفقه التسعة ـ العصر الحديث للنشر والتوزيع 1985


    مدري إذا انتبهتوا لكن الموضوع منقول

  2. #2
    التسجيل
    10-05-2002
    المشاركات
    56
    بارك الله فيك واكثر من أمثالك وجزاك الله خيراً

  3. #3
    التسجيل
    06-01-2001
    الدولة
    في بلاد الواق واق
    المشاركات
    2,394
    شكراً على الكلمات الجميلة

  4. #4
    التسجيل
    21-11-2001
    المشاركات
    1,000
    جزاك الله خير وبارك لك في عملك وعمرك........ آمين.

  5. #5
    التسجيل
    06-01-2001
    الدولة
    في بلاد الواق واق
    المشاركات
    2,394
    الشكر لك يا أخوي على دعوتك

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •