أطفال فلسطين .. معاناة مستمرة وطفولة ضائعة



تحقيق : وائل بنات - غزة: بابا ··· طخ ··· يهود .. بابا "بدي" بارود .. و"بدي" لبس جيش .. علشان أضرب وأقتل اليهود .. وبدي كمان سكين ·
بابا ··· خلصت الإنتفاضة ؟ بابا ··· أنا حاسس أنني راح أموت ·
عبارات كثيرة يرددها أطفال فلسطين بشكل عفوي وهي تعكس أزمات نفسية وصدمات عصبية خلفتها المشاهد اليومية القاسية لانتفاضة الأقصى والقصف المدفعي والصاروخي الذي يمارسه الاحتلال ليلا ونهاراً ضد المنازل والأحياء السكنية.

ألعاب
أطفال العالم يلعبون تحت الشمس الدافئة وسط الحدائق والجنان يلهون بألعابهم الجميلة وأطفال فلسطين يلهون بنوع آخر من اللعب ، إنهم يلعبون لعبة العرب واليهود ، فيقسمون أنفسهم فريقين فريق عربي وفريق يهودي ، يتنازعون من سيكون في الفريق العربي ويرفضون أن يكونون في الفريق اليهودي وبعد أن يتفقون يبدأون لعبتهم بحمل الأسلحة الخشبية التي صنعوها بأيديهم ويختبئون خلف المتاريس في الشارع ويبدأون إطلاق النار الوهمي.
ويقول بعضهم لبعض "موت" لقد أصابتك رصاصة فيصيح الآخر لم تصيبني، وأحيانا كثيرة يتبادلون في لعبتهم هذه رشق الحجارة لتنتهي اللعبة وقد شج رأس أحدهم.
بل إنهم يصنعون بنادق من نوع مختلف حيث يحضرون ماسورة بلاستيكية بطول 30 سم تقريبا ويربطون بطرفها الخلفي بالونا ويضعون في الطرف الأمامي حجراً صغيراً يسقط في البالون ثم يسحبون البالون بقوة ويرسلونه ليخرج الحجر كالرصاصة، ويتبادلون إطلاق الحجارة على بعضهم بهذه الطريقة ·
وذاك عمر ابن الخمس سنوات تطلب منه معلمته أن يرسم صورا طبيعية جميلة فيرسم وحشاً ويرفض أن يرسم أي شيء آخر. ويقول الوحش أقوى ·· إنه يعمل كل شيء ·
وعمر 12 سنة يرفض أن يرسم حديقة ويرسم سمكة رأسها على شكل صاروخ ، ويرسم سيارة على زجاجها الأمامي شبك على هيئة سيارات الاحتلال العسكرية ·

أزمات نفسية
ويعاني الكثير من أطفال فلسطين أوضاعا نفسية صعبة حيث يشاهدون صور الشهداء وجنازاتهم على شاشات التليفزيون التي لا تتوقف عن بث المشاهد المؤلمة والفظيعة وبخاصة تلفزيون فلسطين الذي يعرض على مدار الساعة المواجهات والشهداء والجرحى والجنازات بل والأشلاء التي لا يحتمل مشاهدتها الكبار ·
وتشير الأخصائية النفسية باسمة الأسطة من جمعية الدفاع عن الأسرة بنابلس أن هناك أعراضاً عديدة ظهرت على الأطفال جراء مشاهدتهم وسماعهم أصوات إطلاق النار وقذائف المدفعية والصاروخية التي تقصف منازلهم ليلا إضافة إلى مشاهدتهم لنعوش الشهداء والدماء، وبث محطات التلفزة للأحداث الدامية والطائرات التي تحلق ليلا وتقصف البيوت بالصواريخ ··· إلخ من مشاهد الرعب التي يعيشها الأطفال ·
وتضيف الأخصائية أن هذه الأعراض تتمثل في خوف ورعب وآلام في البطن والرأس وصراخ في يالليل وتعلق بالوالدين والتبول اللا إرادي وعادات سيئة لم تكن موجودة من قبل وعدوانية واضطرابات في الأكل والنوم . كما أن الأمهات يواجهن صعوبة في التعامل مع أطفالهن بسبب عدم معرفتهن بكيفية مساعدتهم لتخطي الأزمة التي يمرون بها وبسبب شعور الأمهات أنفسهن بالخوف وعدم الإستقرار والتوتر والقلق ·

إصابة وأزمة
يقول جمال أبو الفحم من مخيم جباليا بقطاع غزة وهو والد الطفل طارق الذي يبلغ من العمر 11 سنة: إن ابنه أصيب بعيار ناري مضاعف هو وثلاثة آخرين من نفس سنه أدى إلى قطع الأوتار والشرايين والأوردة وهشم عظم المفصل مع عظم الساعد إضافة إلى فتحتين كبيرتين بعرض اليد من المدخل والمخرج. وقام الأطباء باجراء عملية جراحية مؤقتة تم فيها اعادة ربط الشرايين وتوصيل حركة اليد بثلاث أسلاك بلاتين كي تحفظ حجم الساعد، إلا أن حركة الأصابع الأربع في يده أصيبت بعجز بنسبة 100% ·
وبعد يومين من إصابته أصيب بحالة نفسيه ناتجة عن الخوف حيث أصبح لا يتكلم إلا قليلا جدا ، بل يكاد لا يتكلم طوال اليوم ، ولا يتبول في الحمام إلا بعد فتح صنبور الماء أمامه، ويستذكر أصدقاءه الذين كانوا معه ، وتحدث ذات مرة مع من عادوه في المستشفى عن قصص حدثت معه قديماً لا صلة لها بالموضوع ·
كما أنه لا ينام بالليل إلا عن طريق المسكنات، وكلما سمع صوت الإسعاف يصرخ ويقول : الغاز ··· الغاز - إشارة إلى الغاز المسيل للدموع الذي يلقيه جنود الإحتلال في المواجهات - ، واذا شم رائحة دخان السجائر يبدأ بالصراخ ، وقبل أن يفقد قدرته على الكلام قال طارق لأبيه أريد دبابة وبندقية لآخذ بثأري وأقتل اليهود ·
وقد لاحظنا أثناء زيارتنا له في المستشفى أنه يقوم بحركات غريبة بحيث ينكمش حول نفسه ويدور وهو على سريره وهو في حالة ذهول ، وإذا خرج والده من الغرفة يبدأ بالصراخ ·
أما أخيه عمر عشر سنوات الذي كان بجواره عند إصابته فكما تقول والدته بأن كل شيء فيه تغير سواء أكله أو لعبه أو نومه أو حركته وينتفض أثناء نومه ، ودائما يقول: أنا خائف لأنني رأيت أخي وهو يصاب، وأصبح يخاف من العتمة ·

كل السحرات "بيموتوا"
أما سحر بنت التاسعة والتي تسكن في مخيم بلاطة بنابلس أثارت الأحداث الأخيرة مخاوفها ودب الرعب والذعر في قلبها ، وهي متعلقة جدا بأبيها الذي تحبه كثيرا وتعتبره الحامي الوحيد لها في هذه الدنيا ، خصوصا بأن والدها يعمل في الجهاز الأمني وهو معرض للشهادة ويخرج دائما حين يكون هناك إطلاق نار. كما أنه يحمل السلاح بشكل دائم ·
تشعر سحر بالخوف دائما وتريد النوم إلى جانب أبيها وتشعر بألم في قدميها وخاصة اليسرى ، ولا تستطيع الوقوف عليهما، وهذا الخوف دائما يجعلها مرعوبة متألمة، حيث يخرج أبوها للمواجهة وربما لن يعود ·
وتقول سحر إن كل السحرات " بيموتوا وبيستشهدوا " لأن عمة لها اسمها سحر قد استشهدت سابقا فيعاملونها كأنها العمة التي ماتت ·
وبملاحظة سحر تجد عيناها تدور اتجاه في كل تبحث عن الأمان والراحة وتريد التكلم والتعبير بشجاعة ·
اختناق
أما غادة ابنة السنوات العشر من سكان مخيم بيت عين الماء وحيدة أبويها التي انتظروها سنوات ، قلبت الأحداث الأخيرة حياتها وحياة أهلها رأسا على عقب ، فهي تشعر بالخوف والرعب الشديد والذعر ، وتشعر برعشة تسري في جميع أنحاء جسدها ، ولا تستطيع أن تمسك أقلامها إلا وهي تحس بالرعشة والإضطراب ، وعند ذهابها إلى الحمام ترى صور الشهداء والدماء والجرحى على جدران الحمام ، وبالتالي لا تستطع التنفس إلا بصعوبة حيث يختنق وجهها ليصبح نيلي اللون يتبعها ألم في البطن كأن هناك تكتلات يتبعها عرق وسخونة واضطراب في الأكل إضافة للصراخ في الليل لدرجة أن الأم والأب يشعران بدقات قلبها المتسارعة والمؤلمة جدا ·
تملك غادة لعبة محببة إلى نفسها وعندما تسألها والدتها عنها تقول غادة إن اللعبة نائمة لأنها خائفة لأنها سوف تموت ، ولن يبق عندها أحد ·
شعرنا بأن غادة تملك الجرأة ولكن جلوسها مضطرب بحيث تشبك أصابعها بشدة وتفركهم ببعض وتتراجع إلى الوراء ، وقدماها تتحركان بحركات مضطربة ، وتشعر بأن عيناها ترتفعان من فوق إلى أسفل والعكس كذلك ، وتضغط على شفتيها بأسنانها بقوة وبشكل غريب ·
وأخر شئ سألته غادة للأخصائية النفسية التي تتابع حالتها ، هل سأموت حقا ؟ إنني لا أريد الألم والحزن لأبي وأمي ·

وقاية
وتقع المسؤولية مباشرة على الأب والأم في حماية أبنائهم من التعرض للأزمات النفسية. ولذلك تقول الأخصائية الإجتماعية والنفسية سعاد اشتيوي: إن على الآباء أن يبعدوا أبناءهم عن مشاهدة الأحداث وبخاصة الدم والجرحى والجنازات ، وعليهم ممارسة الحياة بشكل عادي مع تعزيز الإحساس الوطني ، إضافة للعمل على الترويح عن النفس والخروج من البيت إذا توفر الأمن والأمان ، ومشاركة الأبناء في الأنشطة العائلية والخارجية التي يمكن أن يقوم بها الأفراد.
ومن الممكن أن يتحدث الآباء إلى بعضهم عن شعورهم بالقلق ولكن بعيدا عن مسمع أطفالهم ، وعليهم الإقتراب من الأولاد أكبر قدر ممكن ، وإذا لاحظ أي من الآباء أعراضاً على الأبناء فعليه الإسراع بالعلاج تفاديا لحدوث أزمات صعبة في المستقبل. كما يجب أن يكون أسلوب التعامل الأسري وبخاصة مع الأبناء بطريقة صحيحة ·
علاج
وتضيف اشتيوي أن على الطفل أن يشعر بالأمن والأمان ، فالإقتراب الجمساني لوالديه يساعده على الشعور بالأمان ، إضافة للتحدث عن الأحداث مع الأبناء كأزمة مؤقتة وستنتهي ، وعليهم أن يبلغوهم أن كل إنسان يشعر بالخوف ولكن الخوف لا يعني أن نجمد نشاطاتنا وحياتنا ، وذلك بهدف أن يشعر الطفل بأن أمه تشعر معه وأنه غير منعزل بشعور خاص ، وعلى الآباء إخفاء مظاهر خوفهم حتى لا تنعكس على الأطفال.كما أن أسلوب التسلية ومشاهدة برامج الأطفال ، وابعادهم عن مشاهدة الأحداث وممارسة الحياة بشكل اعتيادي سواء الذهاب للمدرسة أو اللعب أو الدراسة ، وحبذا إشراك الأطفال ببعض المسؤوليات ، إضافة إلى مشاركة الآباء لأبنائهم باللعب وإشعارهم بالأمان والتقرب منهم عند النوم ، وحكاية القصص وإشراكهم في روايتها، واتباع أسلوب التعزيز للطفل فإذا نام مثلا على الأم أن تشجعه بكلامها الذي يقويه ويرفع معنوياته ووصفه بالبطل وما إلى ذلك ، إضافة إلى توصيل الآباء أبناءهم إلى المدرسة وإعادتهم عند انتهاء الدوام ما أمكن ذلك الأمر الذي من شأنه إضفاء الشعور بالأمان ·
وتؤكد اشتيوي على دور المرشدين التربويين والمعلمين في المدارس وعليهم أن يحاولوا بأسلوب بسيط أن يوصلوا الأمان إلى الأطفال ومشاركتهم بالأنشطة المدرسية وعدم الحديث عن الوضع بشكل مستمر حتى لا يبقى الطفل يعيش بنفس الدوامة ·