بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين
من شروط نهضة العرب

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أظن ان الزمن الذي وصلنا إليه الان كعرب ومسلمين بما يحويه من تحديات وإرهاصات وهموم ومشاكل أمنية وسياسية واقتصادية؛ يدفعنا إلى تلمّس سبل النهضة ومفاتيح التقدّم من جديد؛ إسوة بما فعل مشايخ وفقهاء الاصلاح وزعماؤه في القرن الماضي وما قبله بعقود من أمثال السيد جمال الافغاني والكواكبي ومحمد عبده والسيد رشيد رضا وخير الدين التونسي وابن باديس وابن عاشور وإحمد خان وعبد القادر الجزائري وعبد الكريم الخطابي والسّنوسي والمهدي وأحمد خان..وغيرهم كثير.

* خلاصة فكر النهضة في عصر الاصلاح

ويجمل بنا قبل تقديم رؤية معاصرة بنت هذا الوقت وتلكم التحديات التي نعيش، أن نلقي بنظرة ولو سريعة على خلاصة ما كتب هولاء المصلحين وما أسهموا به في سير الحياة اليومية لمجتمعاتهم، وهو ما يمكن إجماله في التالي:

على الصعيد النظري: قام هولاء بتأسيس نظري هائل في مجال ما أسماه بعض الكتّاب المعاصرين بفقه التحضّر الإسلامي([1]) أو فقه الاصلاح، وضمن ما يعرف أيضا بمصطلح عبد المجيد النجار "بالشهود الحضاري للأمة المسلمة".لقد ألف هؤلاء كتباً ورسائل عديدة في مجال الاصلاح الديني وشروط النهضة وشجون وشؤون التخلف والتقدم ومنها على سبيل المثال لا الحصر رسائل الامام محمد عبدو ورسائل ومقالات الامام الافغاني ومعظمها اشتهرت ضمن جريدة "العروة الوثقى" التي أسسّها الرجلان في باريس أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. وقد كتب قبلهما الوزير خير الدين التونسي خلاصة تجاربه الاصلاحية وجولاته بين المغرب والمشرق في كتابه " أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك". وأهم ما في كتابه هو "مقدمته التي تجاوز الاهتمام بها سائر الكتاب، وأصبحت الإشارة إلى كتاب "أقوم المسالك" تعني الإشارة إلى المقدمة وحدها، وهي تلخص تجربة "خير الدين" كلها التي تركز على مقاومة أوروبا عن طريق الاستعارة منها، والتمسّك بالجامعة الإسلامية لدعم هذه المقاومة، ومحاولة إصلاح الولايات الإسلامية المختلفة وبثّ روح اليقظة والنهوض فيها.

وتقوم الحركة الإصلاحية عند "خير الدين" على دعامتين رئيسيتين:

الأولى: ضرورة التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، بما يتلاءم مع ظروف العصر وأحوال المسلمين، ويتفق مع ثوابت الشريعة، ودعا علماء الأمة إلى توسيع مفهوم السياسة الشرعية، وعدم قصرها على ما ورد فيه نصٌّ من كتاب الله وسنة رسوله، وذكرهم بمناهج السلف في هذا المجال الذين جعلوا نطاق السياسية الشرعية يتسع ليشمل كل ما لا يخالف الكتاب والسنة وإن لم يرد نص فيه؛ لأن في ذلك تحقيقَ مقصد من مقاصد الشريعة.

والثانية: ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا؛ لأنها طريق المجتمع إلى النهوض، وإذا كان هذا الطريق يتطلب تأسيس الدولة على دعامتيْ الحرية والعدل، فإن هاتين الدعامتين تُعدان أصليتيْن في الشريعة الإسلامية، وليستا غريبتين عن المجتمعات التي ينادي بإصلاحها خير الدين."[2]

لقد كانت تجربة خير الدين ميدانية قاسية مليئة بمخاض وارهاصات النهضة في حينه ولكنّ كل ذلك أُجهض إلى غير رجعة بفعل قدوم الاستعمار الغربي الى اراضي العرب والمسلمين. ولقد "شملت الإصلاحات التي قام بها "خير الدين التونسي" ميادين الإدارة والتعليم والاقتصاد؛ فألغى الضرائب السابقة التي تراكمت على الناس وصارت ديونًا تُثقل كاهلهم، وشجع الناس على زراعة الزيتون والنخيل بإلغاء الضرائب على الأراضي الزراعية لمدة عشرين عامًا، وأعاد تنظيم الضرائب على الاستيراد والتصدير، فحدد ضريبة الاسيتيراد بـ (5%) فقط، وخفّف ضريبة التصدير، وألغى الحملات العسكرية التي كانت تتكلف أموالا باهظة لجمع الضرائب من القبائل الرُّحَّل التي اعتادت ألا تدفع الضرائب المفروضة عليها إلا عَنوة، وعمل على النهوض بالتعليم ونشر الوعي بين الناس؛ فأنشأ "المدرسة الصادقية" نسبة إلى "الباي محمد الصادق" الحاكم حينئذ بتونس، وقد شملت برامج التعليم بها العلوم الحديثة، واللغات الأجنبية إلى جانب اللغة العربية وعلوم الدين"[3] ويضاف لذلك أنه "استعان برجال من العلماء في إعادة تنظيم الدراسة والتعليم بجامع الزيتونة، وأنشأ مكتبة جديدة تحت اسم المكتبة "العبدلية" على نمط المكتبات الحديثة، وشجع الطباعة، واستقدم بعض المصريين واللبنانيين للعمل فيهما، وطوَّر الصحافة، وأدخل فنونًا جديدة بها".

ولم تقتصر تجربة خير الدين الفريدة في الاصلاح على موطن رأسه تونس بل تعدته إلى الآستانة بلد الخلافة العثمانية، حيث طلبه السلطان عبد الحميد للإستفادة من جهوده في الإصلاح، فسافر إلى إستانبول في (ذي القعدة 1295هـ= سبتمبر 1878م) ، وأُسندت إليه رئاسة لجنة تقوم بمراجعة الوضع المالي للدولة العثمانية، ثم لم يلبث أن عيَّنه السلطان عبد الحميد الثاني "صدراً أعظم" في (9 من ذي الحجة 1295هـ = 4 من ديسمبر 1878م)، ولم تكن الظروف مواتية للعمل المثمر بعد أن تكالب الأعداء على الدولة، وخرجت من حربها مع روسيا تَئِنُّ من جراحها وهزائمها القاسية، فعمل "خير الدين" في ظروف بالغة الحرج، ونجح في إجلاء الجيوش الروسية، وساهم في خلع الخديوي إسماعيل من ولاية مصر؛ لأن سياسته كانت تؤدّي إلى إضعاف ارتباط مصر بالدول العثمانية، وجعلها عرضة للمطامع الأوروبية، وكانت سياسة "خير الدين" التي آمن بها هي توطيد الروابط بين الدولة العثمانية وولاياتها، ولما أخفق "خير الدين" في إقناع السلطان عبد الحميد بإصلاح نظام الحكم قدم استقالته من منصبه في (8 من شعبان 1296هـ =28 من يوليو 1879م)، وبقي على اتصال ببلاط السلطان، وأصبح عضوًا في مجلس الأعيان حتى وافته منيته هناك في (8 من جمادى الآخرة 1307هـ = 30 من يناير 1890م) [4]

أما عبد الرحمن الكواكبي بحلب الشهباء فقد وجه عنايته لمقاومة الاستبداد و إصلاح التعليم. ويعتبر الكواكبي أحد أعلام الحركة الإصلاحية، فوجّه جهوده إلى العمل الأخلاقي، وكافح العادات السيئة والتقاليد البالية، ونقد المعتقدات الفاسدة، وبذل السعي المتواصل لنشر الفضائل والتمسك بها للنهوض بأخلاق المجتمع، فقام بتشكيل الجمعيات والنوادي في القرى والمدن لتقوم بدور التوعية والتثقيف للجمهور، كما رد فساد الأخلاق إلى انحلال الرابطة الدينية والاجتماعية وفقد التناصح وغياب الأخلاق (فلمثل هذا الحال لا غرو أن تسأم الأمة حياتها فيستولي عليها الفتور، وقد كرت القرون وتوالت البطون ونحن على ذلك عاكفون، فتأصّل فينا فقدُ الآمال وتركُ الأعمال والبعدُ عن الجد والارتياح إلى الكسل والهزل، والانغماس في اللهو تسكيناً لآلام أسر النفس والإخلاد إلى الخمول والتسفل طلباً لراحة الفكر المضغوط عليه من كل جانب... إلى أن صرنا ننفر من كل الماديات والجديات حتى لا نطيق مطالعة الكتب النافعة ولا الإصغاء إلى النصيحة الواضحة، لأن ذلك يذكرنا بمفقودنا العزيز، فتتألم أرواحنا، وتكاد تزهق روحنا إذا لم نلجأ إلى التناسي بالملهيات والخرافات المروحات، وهكذا ضعف إحساسنا وماتت غيرتنا، وصرنا نغضب ونحقد على من يذكرنا بالواجبات التي تقتضيها الحياة الطيبة، لعجزنا عن القيام بها عجزاً واقعياً لا طبيعياً). [5]

وبالاضافة لكتب الكواكبي التي مازالت تقرأ على نطاق واسع الى الان كأبرز ما ترك لنا التراث الحديث(الحديث= المائتي سنة الأخيرة) مثل "طبائع الاستبداد" و"أم القرى" تاتي كتب الشيخ السيد رشيد رضا ومقالاته على صفحات جريدة "المنار" الاشهر من نوعها في وقتها، و"جعلها منبراً لبث أفكاره في الإصلاح الديني والاجتماعي والإيقاظ العلمي والسياسي، وكان يحرص على عرض كل ما يكتبه من مقالات على الإمام محمد عبده، ويستمع إلى توجيهاته وإرشاده، وظل قلم رشيد رضا يصول في المنار ويجول مرشداً المسلمين إلى النظر في سوء حالهم، وتذكيرهم بما فقدوه من سيادة الدنيا وهداية الدين، وما أضاعوه من مجد آبائهم الأولين، فنادى بأن يعلموا أن قيمة الدين ليست في أسراره الروحانية أو قواه الخفية، بل في الحقيقة التي يعلمها للإنسانية، وهي أن سعادة المرء في هذه الحياة والحياة الأخرى تتوقف على معرفته بسنن الله التي تضبط هداية البشر أفراداً وجماعات، وعلى المسلمين أن يدرسوا هذه السنن ثم يسيروا عليها في يقين وإيمان.

ونادى رشيد رضا في "المنار" بإصلاح التربية والتعليم، وبإنشاء المدارس الإسلامية ونبذ المدارس التبشيرية التي أكثر المستعمر منها في البلاد الإسلامية، ودعا إلى وجوب إدخال علوم أساسية في ميدان التربية والتعليم، مثل علوم أصول الدين وعلوم تهذيب الأخلاق، وعلوم فقه الحلال والحرام، وعلوم الاجتماع، وعلم تقويم البلدان، وعلم التاريخ وعلم الاقتصاد، والتدبير المنزلي والحساب، وعلم حفظ الصحة، وعلم فن الخط وعلم لغة البلاد... لما في هذه العلوم من خير للناس في حياتهم العامة والخاصة"[6].

دخل رشيد رضا ميدان السياسة، وعمل على نقد الدولة العثمانية والاشتراك عملياً في محاولات إصلاح الأوضاع فيها، وترأس (جمعية الشورى العثمانية) المؤلفة من العثمانيين المنفيين إلى مصر، حيث كانت هذه الجمعية ترسل منشوراتها السرية إلى سائر أرجاء البلاد العثمانية حتى أقلقت مضاجع السلطان. كما أخذ رشيد رضا في مجلته "المنار" يهاجم استبداد الدولة، وكشف عن قدرة فريدة في فهم الأوضاع التي أحاطت بالدولة العثمانية والبلاد العربية.

أما الشيخ السنوسي في ليبيا فقد خاض تجربة الزوايا السنوسية التي حولها الى حكم إسلامي حقيقي على الاراضي التي بسطت عليها الحركة السنوسية نفوذهاز وقد استطاع خلال حركته الاصلاحية التي امتدت عقودا ثم اجهضت بفعل عوامل شتى أغلبها خارجية، ان يقاوم ويدحر الاحتلال الايطالي لفترة طويلة ومن زعماء الحركة الجهادية السنوسية المشاهير الشيخ عمر المختارن ثم ان ينظم الزوايا تنظيما اداريا واقتصاديا وسياسيا فريدا من نوعه في ذلاك الوقت وذلك قبل ان تغزوا العالم الاسلامي تقنينات الادارة الغربية بزمان. واستطاع السنوسي ان يدخل على الزوايا حركية زراعية وتصنيعية نشطة ( زراعة كل ما يتاح من زروع وثمار إضافة لتصنيع أدوات الزراعة والآلات الحربية)

و في العموم فقد ركّز فقهاء وزعماء الاصلاح على التالي -سبيلاً للاصلاح وتجديد أحوال الأمة-:

- الخطابة والوعظ والعمل الديني التقليدي(الدعوي).

- الصحافة والاعلام حيث خاض جميعهم تقريباً مجال الاعلام الاسلامي والإصلاحي في بواكيره الاولى في تونس ومصر مع منتصف القرن التاسع عشر وحتى الثلاثينات والاربعينات من القرن العشرين( يعنى مع ما كتبه الرافعي وزعماء الاخوان المسلمون في مصر ثم كتّاب "المجلة الزيتونية" في تونس وكتاب مجلة حركة جمعية العلماء المسلمين وابن باديس في الجزائر، وكتاب الإصلاح ومقاومة حركة الاستعمار الحديث في كل من المغرب والسودان وباكستان والهند وتركيا وغيرها كثير..).

- إصلاح التعليم الديني من خلال تنقية المقرّرات المدرسية من التقليد وشوائب الموروث الفقهي والمذهبي غير المنضبط لآليات اشتغال العقل الاسلامي الأصيل. وقد خاض أكثر من واحد منهم في هذه التجربة ومنهم خير الدين التونسي الذي أصلح الزيتونة في تونس ومثله كذلمك العلامة ابن عاشور الذي له باع طويل في ذلك[7] ومحمد عبدو الذي دفع إلى إصلاح الأزهر بمصر ورشيد رضا وأحمد خان وابن باديس وعلال الفاسي وبديع الزمان النورسي و زعماء اصلاح الحوزات العلمية بقم والنجف وزعماء الحركة الاسلامية المعاصرة.. وغيرهم كثير.

- الاستناد على مرجعيات العمل السياسي القائم ومحاولى الاصلاح من خلال الوضع القائم وليس من خلال الانقلاب عليه. ويمكن القول بان معظم هؤلاء اصلاحيون تقليديون في العمل السياسي وليسوا بثوريين ويستثنى منهم السيد احمد ما قام به الامامان محمد عبده والافغاني من معارضة صريحة للحكم في مصر واشتراكهما -على الارجح- في الثورة ضد حكام مصر مما اضطرهما الى المنفى بباريس حيث أسّسا "العروة الوثقى" لسان حال حركة الاصلاح لديهما. وكذلك عبد الرحمن الكواكبي الذي كافح بكل ما أوتي من قوة من أجل تفكيك الخلافة العثمانية ودحرها من بلاد المشرق باعتبارها استعماراً واحتلالاً كغيره من الاحتلال ولكن الافغاني نفسة اشترك في حكومة بلده بافغانستان واشتغل في منصب يعادل رئاسة الحكومة وتقلب في مناصب علياا في اكثر من مرحلة في حياته. أما البقية من أمثال خير الدين احمد خان بكل من تونس والهند فقد شاركا بقوة في الحكم وتولى مناصب هامة في الدولة، ومثلهما فعل الطهطاوي في مصر وابن عاشور في تونس. وأما غيرهما من أمثال المهدي في السودان والسّنوسي في ليبيا فقد أسّسا دولاً و حكماً حقيقياً طبّقا فيه نظريات الاصلاح لديهما. ومن الجدير بالذكر هنا ملا حظتين:

أولاهما أن هذا الانخراط في العمل السياسي من خلال الوضع القائم لم يصل إلى حد موالاة المستعمر الاجنبي، بل إنهم جميعهم اتفقوا على دحر الاحتلال بكل قوة وشكوا أيما شكوى من الهجمة الاستعمارية الشرسة على العالم الاسلامي آنذاك واعتبروها حلقة حديدية صدئة من سلسلة الاستلاء والسطو المنظّم على مقدرات وثروات المسلمين، وعاملاً مؤثّراً من العوامل التي تمنع تقدّم المسلمين. ويمكن أن يستثنى من ذلك أحمد خان في الهند الذي اشتغل ضمن الادارة الانجليزية نفسها وتقلّد معهم مناصب رفيعة ودافع عنهم وعن تقدمهم بكل ما أوتي من قوة.. واعتبر أن السبيل الوحيد للتطور والرقي هو تقليد الغرب(ببغاوياً!). ومثله فعل الطهطاوي في مصر ولكن من دون أن يشارك في إدارة حقيقية للاحتلال الانجليزي لمصر، بل اقتصر عمله على الدعوة لتقليد الغرب واقتباس سبل التقدم منه؛ وقد ورد ذلك خاصة في كتابه:"الابريز في وصف باريز".

- الدعوة للجامعة الاسلامية: وقد جاءت هذه الدعوة مبكراً قبل سقوط الخلافة العثمانية ووقوع معظم بلاد المسلمين فريسة للمحتل الاجنبي. وقد كان من رواد هذه الفكرة السيد جمال الدين الافغاني الذي ارتبط اسمه ونضاله بالجمامعة الاسلامية كردة فعل على الدولة العثمانية نفسها التي قصرت في حق أقاليمها وأطرافها المترامية في آخر عهدها. ولكن مفكرين ومصلحين آخرين مثل الامام محمد عبده وابن عاشور وشكيب ارسلان و الكواكبي وغيرهم نادوا بفكرة الجامعة الاسلامية بعد ذلك تباعا وبأشكال ومقترحات مختلفة منها ما هو تحت عباءة الدولة أو الخلافة العثمانية نفسها ومنها ما هو في شكل كونفدرالي (تنسيق عالي متطور بين الاقطار الاسلامية دون وحدة ترابية مندمجة حقيقية) ومنها ما هو مسوغ لمحاربة الدولة العثمانية والمستعمر الافرنجي معا وما هو أقرب في الحقيقة إلى فكرة الوحدة أو الجامعة العربية وقد لاقى هؤلاء في مشروع الثورة العربية الكبرى مبتغاهم إلى حين.

* شروط النهوض والاصلاح:

من المعلوم أن الخوض في شروط وسبيل الإصلاح والترقي الحضاري للأمة من جديد ليس من الامر السهل أو الالحديث الذي يمكن الحسم فيه بيسر وقطع، بل ان حديث الاصلاح أو "سؤال النهضة" لا يمكن حسمه ما بين عشية وضحاها وما يكتب فيه يبقى مجرد منارات على الطريق.

إن للاصلاح سبلاً شتى منها:

- المسلك الثقافي.

- المسلك السياسي.

- المسلك التنظيمي.

- والمسلك العلمي.

وهي لعمري أركان أساسية أربعة تختصر مسالك الاصلاح ومقتضياته.

1- المسلك الثقافي:

ونعني به متطلبات الوعي العام للامة وليس الوعي والثقفة المحصلة لدى فرد من افرادها. والوعي هو جملة الادراك بكنه الأشياء والماهيات على حقيقتها إضافة للمعلومات العامة الشاملة المحصلة حول تلك الماهيات أو المفاهيم أو القضايا. وفي قضية الحال ينبغي على الامة في مجموعها -متحدة لا متفرقة- أن تستشعر بكل قوّة مسألة النهضة وضرورة النهوض الحضاري من جديد واستئناف دورة حضارية جديدة. وزالحق ان الامة الآن مازالت لم تستشعر أو تعي خطورة الوضع وضرورة النهوض وطرق الترقي ؛ صحيح أن جماعات ومفكرين وواعين منها يدركون ذلك ومنهم أبناء الحركة الاسلامية وآخرين من أتباع الفكر العروبي ولفيف مفروق آخر من مفكرين ومصلحين وعلماء، ولكن الامة في سوادها الاعظم مازالت لاهية لاعبة غير مدركة لسؤال النهضة وطريق الإجابة عليه.

ان الاستجابة الطبيعية الواعية لمسالة النهضة لدى اية امة من الأمم لا ينبغي ان تقتصر على نخبة من العلماء والمصلحين والقادة السياسيين، بل ينبغي أن تتحول المسالة إلى ثقافة شعبية هي ثقافة الأغلبية داخل ذلك المجتمع أو تلك الامة. وحال أمتنا اليوم لا يبشر بذلك على الرغم من بعض التباشير الكاذبة التي لم ترتق بعد إلى درجة المبشّرات الحقيقية بنهضة الأمة من جديد. وإن من تباشير الوعي وسير الأمة الطبيعي نحو النهضة أن تقبل الأمة -مثلاً- على الانخراط في الاحزاب والجماعات السياسية التي تنتهض بعبء النهضة وإقبالها المكثّف على القراءة والجدل البنّاء في السياسة والفكر وإقبالها على العمل التطوعي والاكثار من الزكواة والصدقات والمبادرة الى نصرة قضايا المسلمين والمستضعفين في العالم بكل قوة إسوة أو مقارنة بما تفعل الشعوب الغربية نفسها حتى ولو كانت الحروب تهدد قطرا اسلاميا مثل العراق مثلاً. ومن تباشير النهضة كذلك اضمحلال درجة الامية والاقبال على النظافة العامة والخاصة والوعي بالمعطى الجمالي ومن ذلك نظافة وترتيب الشوارع والمدن والساحات العامة وهندستها الجميلة فقد كان كل ذلك من علامات النهوض لدينا في التاريخ الذهبي في أمصار بغداد ودمشق وقرطبة وغرناطة والقيروان وطشقند وبخارى وفاس قبل أن نرى ذلك عيانا الآن لدى الغربيين في مدنهم وشوارعهم، ونحن اولى منهم بذلك والله.ولمزيد القتراع بهذه المسالة احيط القارئ علما بان قرطبة من مدن الأندلس لوحدها كان فيها حوالى ألف حمّام عمومي في نفس الوقت الذي كانت فيه أوروبا العصور الوسيطة(القَرَوَسطية في تاريخهم) يحرم فيها الرهبان الحمام او يعتبروه خطيئة معينة ويقول احدهم في الاندلس مثلا رحم الله القديس فلان مات ولم يمسس ماءاً للاستحمام في حياته قط أما الآن فإن عامتنا أصبحوا يرتادون حمامات المسلمين! وحدث ولا حرج عن التعليم وانعدام نسبة الامية تقريبا لدى المسلمين فضلا عن الوراقيين والمكتبات التي تحوي ملايين الكتب وازدهار العلوم والمعرفة ومجالسة العلماء وتدوين العلوم الإكثار من التصانيف ..

ان الأمة الآن تعيش أتعس أوقاتها من حيث تقييم الناحية الثقافية ويكفي أن نتتبع ما ينشر ويكتب ويطالع في الاسواق لنعرف مدى حجم الكارثة الثقافية التي نعيشها وتعدادنا كعرب أكثر من مائتين وخمسين مليونا فما بالك ببقية المسلمين. إن مايُطبع ويُقرأ في الكيان الاسرائيلي لشهر أو شهرين (وضمنه ما يترجم من اللغات والثقافات الأخرى) يفوق ما يطبع في كل البلاد العربية لسنتين وعددنا ديمغرافيا يفوق اليهود بثلاث وثمانين مرة أو يزيد. وإن أشهر وأنجح كتاب يطبع( وعادة ما يكون حول مواضيع آنية سياسية أو تافهة مفرغة من أي محتوى علمي نهضوي حقيقي مثل كتب الابراج وتعلّم اللغات الأجنبية في ستّة أيام والطبخ والرياضة..) لا يتجاوز مبيعاته بضعة آلاف ومن بعض المعجزات التي لا تحدث الاّ كل عقد أو عقدين يكون بضعة عشرات من الآلاف[8].

والشيء نفسه يقال بالنسبة للجرائد والمجلات التي تباع نسخها بالآلاف وعشرات الآلاف وفي حالات محدودة تصل في بعض البلدان إلى مائتي ألف أو ثلاثمائة ألف ليس أكثر بينما في الدول الغربية تباع نسخ الجرائد اليومية بالملايين! . إن نسبة من يطالع الكتب والجرائد في بلادنا العربية الاسلامية لا يتجاوز قارئ من كل 20 ألف شخص تقريباً وهي نسبة مخيفة لا نجدها حتى في أشدّ المجتمعات بدائية وتخلفاً.

2-المسلك السياسي:

أما العامل الثاني لنهضة المسلمين فهو العامل السياسي الذي يعني امتلاك جهاز تنفيذي إداري يسمّى في العادة الدولة، التي تقود وتخطّط وتنظم عملية الشهود الحضاري وتقدر الامور حق قدرها في عظائم الأمور ودقائقها وفق ما يعرف بالسياسة الشرعية الحكيمة. ولكن المعضلة ان مثل هذه الدولة المرتبطة بعموم المسلمين وجدانيا وسياسيا وإداريا غير متوفرة الآن او بالأحرى هي ثمرة من ثمرات النهوض حسبما يبدو وليست شرطا من شروط تحقيقه. إني أظن ههنا ان الدولة- أو الخلافة الجامعة المانعة- ليست نهاية مطاف النهضة ولكنها مجرّد وسيلة مرحلية من مراحل تحقّق تلك النهضة.وهي تاليا تدخل في العامل السياسي لتحقق النهضة سواءا تأسست تلك الدولة الشرعية أم لا.

ومعضلة الفقه السياسي الاسلامي أو قل العقل السياسي الاسلامي كبيرة في هذا العصر؛ وكثيراً ما يبتلى الاسلاميون والمشتغلون بالسياسة في الحركات الاسلامية والجماعات الإصلاحية بنوع من أحادية الرؤية والتعسّف في فهم المستجّدات والأشياء والتّطوّرات حتى يتحول البعض الي الغلو والتكفير بما في ذلك تكفير المسلمين لبعضهم البعض. وهذا الأمر يتطلب وعياً سياسياً شرعياً عاماً يتوجّب أن يسري في الأمة كالنار في الهشيم ويتحول إلى ثقافة شعبية متاحة للجميع وليس حكراً على بعض الفطاحل والمشايخ والمفكّرين النوابغ..

ومن شروط هذا الوعي السياسي ومحدّداته:

- العلم بالأحكام الشرعية السياسية ومحاولة الاجتهاد في مستجّداتها أو تبنّي ما يجتهد فيه المعاصرون ومحاولة النقد والتمحيص لجميع تلك الاحكام الاجتهادية الظنية ان لم تثبت جدواها في الممارسة او بدا للعيان شديد عوارها او بدت للوهلة الاولى مخالفة للمقاصد العامة للشريعة..

- الوعي بالتطورات السياسية المحلية والاقليمية والدولية وذلك بالنسبة للفرد والمجموع ولا يتم ذلك الا بالمتابعة اليومية لشؤون العالم السياسية ولا سيّما أوضاع المسلمين اينما كانوا و"من لم يهتم بشؤون المسلمين فليس منهم" الحديث.

- العمل السياسي المنظم داخل الجماعات والاحزاب والجمعيات والمنظمات من أجل مقاصد النهضة والتقدم للامة قاطبة . والتنظيم من ضرورات الاجتماع البشري ولا يمكن أن يستقيم الشأن العام من دون تخطيط ورقابة وتنظيم وهذه من سنن الله في خلقه ومن هدي الرسل الكرام عليهم صلوات من الله اذ كانت دعواتهم وحركيتهم الرسالية ضمن تنظيم بشري من الاتباع والمؤمنين العاملين. ويقاس على ذلك جميع الديانات والأيديولوجيات في العالم قديماً وحديثاً.

- توزيع العمل النهضوي على كافة المجالات والقطاعاتبما في ذلك العمل التطوعي والوقفي والخيري والرياضي والنسائي وحماية البيئة و التوعية الأسرية ونحوها.. اذ يشترط في النهضة أن تكون شاملة تأخذ بتلابيب جميع شرايين الحياة في الأمة.

- حسن التحاور أو دقّة فقه التحالف مع بقية الاطراف السياسية التي تخالفنا في عقيدة النهضة وفلسفتها ولكنّها تسعى في المحصّلة إلى النهوض الحضاري لأن في التحالف والتعاون معها زيادة قوّة ومنعة للأمة وتراكم للعمل النهضوي العام.

- الاهتمام بالعمل الإعلامي صحافة وتلفزيونا ونحوهما من الاعلام المسموع والمرئي الذي يوجّه ويؤطر الجماهير، ولنا عودة الى هذا الموضوع المهم باذن الله.

- الاهتمام بالفنون والمهارات والابداعات وتشجيع المبدعين في كافة المجالات الشرعية(غير المحرم الاشتغال فيها مثل الرقص الماجن أو التصوير الاباحي أو نحت الاصنام..) فلا يمكن ان تنهض امة من دون مبدعين وفنانين بالآف المؤلفة ينتشرون هنا وهناك ليعبّروا عن حيويتها ونشاطها الداخلي وتوقها للجمال والنّظام والتّرقي..

3-المسلك التنظيمي:

ونعني به جملة الإجراءات التنظيمية والادارية داخل قطاعات الامة المختلفة وفي مناشط حياتها المتنوعة ومن دون تنظيم في كل ذلك لا أرى للأمة نهضة ولا من يحزنون. ويمكن ان تمتد التنظيمات الى القطاعات والناشط التلية:

-الأحزاب والمنظّمات والجمعيات أو ما بات يعرف بمؤسّسات المجتمع المدني أو الأهلي وهي جديرة بالتنظيم الفعّال والتخطيط والرقابة داخلها حتى تتمتّع بفعالية أكبر وطاقة على النشاط والتأثير أبلغ. ويجب ان تخضع هذة المنظمات والهيئات لمراجعات دائبة في مسألة التنظيم وتجديد أطرها الحزبية حتى تنأى بأصحابها عن الجمود والترهّل وبطء الفعالية؛ وهذا فضلاً عن الشورى داخل هذه الهيئات أو ما يعرف بديمقراطية الأحزاب السياسية. والحركة الاسلامية مطالبة اليوم بهذه المراجعات بأقصى ما يمكنها من سرعة وحزم.

- تنظيم الإدارات العامة وقطاعات الصناعة والتجارة والصحة ونحوها إسوة بما هو مشاهد لدى الغربيين.. ولا يخفى على خاف أن مسألة تنظيم هذه القطاعات هو ليس بمؤامرة خارجية وتخطيط استخبارات الأعداء بقدر ما هو فوضى داخلية مبثوثة فينا أو هو تواكل وافتقاد إلى حسّ المسؤولية وعدم الترفّق بالمال العام والمصلحة العامة.. مرضاً مستشرياً فينا كاستشراء النار في الهشيم.

-تنظيم الأولويات والواجبات والحقوق والأفكار وهو نوع من تنظيم الفكر وغصلاح المنهج وله حديث مسهب آخر في مقام لآخر بإذن الله تعالى.

تنظيم الأتباع والمحازبين والمناصرين والعمال.. ونحوهم، ضمن سلسلة متماسكة من الفعالية القصوى والإنتاج الأقصى والإدارة الفضلى.

4- المسلك العلمي:

وهو ما يشمل التخصّصات الشرعية وغير الشرعية بما في ذلك علوم الطب والفضاء والطاقة والاتصالات والمعلوماتية ونحوها من مكامن قوة الدول والشعوب المعهودة في عالم اليوم. ولا حياة لامة تاكل وتلبس وتدرس مما ينتجه الآخرون في مجالات الصناعة والزراعة والعلم.

ويتم تعهد النهضة العلمية بالتوازي مع المسالك السابقة في حسن التثقيف و تدابيرالسياسة ودقّة التنظيم وفعاليته، وعادة ما تترافق هذه المسالك صُعداً في اتّجاه التمكين الحضاري العام لامة من الامم او لشعب من الشعوب ولا يمكن ان يحصل التمكين والنهوض باخلال لجانب من هذه الجوانب والاّ كان النهوض مزيّفا أعرجاً لا ضمان لديمومته وتواصله الطبيعي في الترقّي الحضاري العام.

ويمكن أن يتمّ الإعداد العلمي بسياسات عامة مخطّطة لتوجيه الاختصاصات بحسب ما تحتاجه الأمة في مجالات معينّة ولمراحل محددة كما يمكن ان يتمّ تراكم الاختصاصات العلمية عفوياً، ومع الأيام ستتم تلقائياً عملية إعادة تشكيل الاحتياجات بحسب ما يلاحظه الأفراد وما يشعروا بجدواه وضرورته بتأثير من الوازع المصلحي الاجتماعي العام والوعي والثقافة المرتبطين بالمقاصد العامة للأمة والشرع.

ومن تدابير النهضة العلمية:

- تكثير الجمعيات العلمية التي ترتبط بعلم من العلوم مثل علم الفقه او الطب او الرياضيات أو السياسة.. وذلك لكي يقترب الزملاء من الوعي الجماعي بقضايا ذلك العلم وشؤونه وشجونه في اتجاه مراكمة التجارب والفروض العلميةو ومناقشة جماعية للمشاكل والتحديات فضلا عن فرصة الاجتهاد الجماعي في ذلك العلم إسوة بالاجتهاد الجماعي داخل المجمعات والملتقيات الفقهية المعروفة.

- تشجيع الطلبة على السفر لدول الغرب من أجل كسب ارقى العلوم والمعارف ولتكن تلك العملية مناطة بعهدة اوقاف إسلامية -أو جمعيات ومنظمات خاصة- ترعى هؤلاء الطلبة ماديا ومعنويا، وتختارهم ممن يوثق بؤهلاتهم العلمية وبدينهم وبمدى وفائهم لامتهم.

- تكثير الملتقيات العلمية والمؤتمرات والندوات التي تعالج مشاكل العلوم وتحدّياتها إذ فيها نفع عظيم لجهة تلاقح الأفكار وتبادل الخبرات وتسليط الأضواء على المستجّدات والتطورات في مجال تلك العلوم.

- تكثير المجلات ووسائل الاعلام المتخصصة في العلوم المختلفة وحسن إشاعتها بين الناس حتى يعم التثقيف ويشمل التوجيه كافة أفراد الأمة . وربّ حاجة ملحّة إلى علم من العلوم لم يدركها طالب محدد حتى يقرأ عنها أو يسمع بها في وسائل الإعلام والاعلام المتخصص.

- محاولة إشاعة ثقافة وسلوك توقير العلماء وتبجيلهم بين المسلمين إسوة بما يحدث لدى بعض مشايخ الشريعة أو ما كان معمولاُ به في تاريخنا الزاهر. ولا يجب أن يقتصر التوقير والتبجيل على علماء الدين، الذي هو نوع من الدعم المعنوي المطلوب لاستمرارية العمل وتراكمه ولتضاعف عطاء العلماء وشحذ هممهم..

والله أاعلم.


* طارق الشامخي : كاتب إسلامي تونسي


الهوامش :
[1] انظر الدكتور عبد المجيد النجار، فقه التحضّر الاسلامي: الشهود الحضاري للامة المسلمة(بيروت: دار الغرب الاسلامي، 1998) 3 اجزاء.
[2] من مقال منشِور ضمن موقع "النهضة. نت" لاحمد تمام عن خير الدين التونسي.
[3] المرجع السابق.
[4] المرجع السابق.
[5] انظر عن الكواكبي:محمد عمارة،عبد الرحمن الكواكبي شهيد الحرية ومجدد الإسلام( دار الشروق، القاهرة - بيروت، الطبعة الثانية 1988) وانظر كتاب عبد الرحمن الكواكبي ، طبائع الاستبداد( بيروت: دار النفائس ، الطبعة الأولى 1984).
وانظر ايضاً: محمد جمال الطحان.الأعمال الكاملة للكواكبي،( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ، الطبعة الأولى 1995). والتص الاخير مقتطف من كتابه" ام القرى".
[6] انظر لمزيد التوسع كتاب: إبراهيم العدوي، رشيد رضا الإمام المجاهد.
[7] لنا تحقيق سيصدر قريبا -باذن الله- لكتاب العلامة ابن عاشور " اليس الصبح بقريب" وفيه فوائد تكاد لا تحصى عن تجربة ابن عاشور المخضرمة في إصلاح جامعة الزيتونة.
[8] عادة ما تكون كتبا إسِلامية تراثية مثل رياض الصالحين للنووي أو كتب السنن وبعض كتب الفقه او بعض كتب المعاصرين مثل ظلال القران لسيد قطب ونحوه.
منقول
أخوكم Soe_Lover