ماهو المقصود من الإرادة في آية التطهير؟
ماهو المقصود من الإرادة في آية التطهير في قوله تعالى: {إنّما يريد الله . . .}
في هذا الموضوع سنتناول دراسة معنى «الإرادة» والمقصود منها في الآية الشريفة ، وسنعرض في البداية لتوضيح معنى الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية، ثمّ نبحث هل جاء في القرآن الكريم نوعا الإرادة هذان أم لا؟
الإرادة التكوينية
الإرادة التكوينية ـ كما هو ظاهر من اسمها ـ عبارة عن حقيقة الإرادة والحمل الشائع لها(1)، بمعنى أنّ ذات الباري سبحانه وتعالى أو الفاعل المريد من البشر له إرادة واقعية على إنجاز عمل ما.
فالشخص له إرادة لتناول الطعام، ومنشأ هذه الإرادة هو تصوّر الشيء المراد والتصديق بالفائدة والنتيجة، ووجود الميل والرغبة ثمّ النيّة والعزم، وبعد ذلك الاندفاع وإرادة الشيء. فهو عندما تخطر في ذهنه فكرة تناول الطعام يستحضر فائدة هذا العمل، من شبع أو لذّة أو غرض صحيّ وطبّي، ثمّ يصدّق على صحّة ذلك أي يتحقّق من سلامة الفكرة، وتأتي النيّة والعزم على إثر هذه الرغبة النفسية، وحينما تبلغ الرغبة قمّتها ويصل الشوق(2) مداه فهو «يريد» الأكل. فـ «الإرادة» أمر يظهر بعد المقدّمات الخمسة المذكورة التي بعضها جزء من المبادئ التصوّرية، والبعض الآخر هو جزء الغايات.
وحقيقة هذه الإرادة التكوينية أمر ممكن على الباري تعالى(3)، ومن صفات تلك الذات المقدّسة. ونقول: إنّ الله مريد، ولكن لا على تلك المقدّمات التي ابتنت عليها إرادة البشر، إذ يلزم ترتّب الإرادة الإلهية على تلك المقدّمات إنفعال ذاته المقدّسة وتأثّرها، وهو ممّا مردّه إلى النقص تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، ولكن حقيقة الإرادة التي هي عين العلم وعين الذات ـ على حدّ تعبير المحقّقين ـ فهي من صفات ذاته المقدّسة.
وفي الإرادة التكوينية تتعلّق الإرادة بفعل المريد والطالب نفسه لا الغير، فالله يريد خلق العالم، أو إحداث زلزال، أو إفاضة الوجود على إنسان. والشخص يريد أن يأكل، أو يمشي، أو يتعلّم أو... ولكن هناك تفاوت بين إرادة الله وإرادة الإنسان، ففي الإرادة الأزليّة للبارئ تعالى لا يتخلّف المُراد عن الإرادة، ولابدّ من تحقّق كلّ ما أراده المريد، أمّا في الإنسان فالإرادة والمراد قابلة للتفكيك، وقد يتخلّف المراد عن الإرادة ولا يتحقّق لعلّة ما.
الإرادة التشريعية
الإرادة التشريعيّة هي إرادة شخص إنجاز عمل ما وفقاً لرضاه واختياره، كأن يريد الأب من ابنه أن يدرس، وحتّى يبلغ هذا الأمر مرحلة التطبيق والتنفيذ، فإنّه يطوي مقدّمات، فالأب تحكمه رغبة وشوق مؤكّد لأن ينشغل ابنه بالدرس، أو يعيش هاجس المحافظة على ابنه من التسكع واللهو وبالتالي الفساد، وصنع مستقلّ جيّد له، هذه الرغبة تدفعه لإصدار أمر الانشغال بالدراسة والنهي عن التسكع واللهو المنجرّ إلى الفساد.
هذه الرغبة الملحّة وهذا الشوق المؤكَّد الذي يستتبعه الأمر والنهي هو الإرادة التشريعية، وفي ضوء الدراسة التي تمّت حول الإرادة التكوينية للباري تعالى نقول: إنّ الإرادة التشريعية لله سبحانه هي الأوامر والنواهي الشرعية.
الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية في القرآن الكريم
نلمح في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تضمّنت الإرادتين، نستعرض بعضها باختصار، ونذكر أوّلاً بعض التي تشير إلى الإرادة التكوينية:
1 ـ {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(سورة الحج الآية: 14). والإرادة في لفظة «يريد» في الآية الكريمة من قبيل الإرادة التكوينية، والمعنى أنّ إرادة الباري غير قابلة للتخلّف، وأنّ كلّ ما يريده الله سبحانه وتعالى متحقّق لا محالة.
2 ـ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}( سورة يس الآية: 82). وهذه الآية في غاية الوضوح على الإرادة التكوينية، وكيف أنّ الشيء يرتدي حلّة الوجود، والمراد يكتسب نور التحقّق بمجرّد توجّه العناية والرغبة الربّانية إليه.
3 ـ {... إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}(سورة هود الآية: 107)، {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ* فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}(سورة البروج الآية: 15 ـ 16). وجملة «فعّال لما يريد» من مصاديق الإشارة إلى الإرادة الربانية التكوينية، إذ بمجرّد انبعاثها يتحقّق المراد، وما يريده الباري فهو ما سيقع ويتحقّق.
كانت هذه نماذج من آيات مستفيضة تشير إلى وجود إرادة لله سبحانه، وأنّ هذه الإرادة مُنجزّة ومُتحقّقة قطعاً.
ومن الآيات التي تتضمّن وجود إرادة تكوينية للإنسان وإمكان تخلّف المراد عن الإرادة في هذه الحالة، نذكر جملة منها:
1 ـ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(سورة الصف الآية: 8).
2 ـ {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}(سورة المائدة الآية: 37).
وفي هذه الآيات يتّضح معنى أنّ الإرادة التكوينية للبشر ورغبتهم لا تتحقّق دائماً، وبطبيعة الحال فهي ليست نافذة بالضرورة، ويستفاد كذلك من هذه الآيات أنّ هذه الإرادة البشرية محكومة ومقهورة بالإرادة الأزلية للباري تعالى، وعندما تصطدم وتتعارض الإرادتان، فإنّ ما يريده الله هو ما سيجري ويتحقّق لا ما يريده الناس.
أمّا الآيات التي تشير إلى الإرادة التشريعية، فمنها:
1 ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(سورة المائدة الآية: 6). من المسلّم أنّ الإرادة في هذه الآية الشريفة {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} إرادة تشريعية، أي أنّ الهدف الإلهي من جعل هذه الأحكام هو تطهير الناس، إذن فالإرادة التشريعية هنا هي وضع أحكام الطهارة من غسل ووضوء وتيمّم، والهدف هو طهارة الناس من الحدث والخبث، وبديهي أنّ البعض سيمتثل لهذه الأحكام ويعمل بها، بينما سيعرض عنها آخرون ولا ينفذونها، أمّا لو كانت إرادة إلهية على نحو التكوين لما أمكن لأحد أن يتخلّف عن تطهير نفسه.
وقد ذكرنا في معنى الإرادة التشريعية أنّها تتعلّق بفعل الغير ـ على ضوء إرادته واختياره ـ وفي هذه الآية اُضيفت إرادة الله سبحانه وتعالى إلى أفعال الناس، وغايتها أن يقوم المؤمنون وفق اختيارهم بالوضوء والغسل والتيمّم، وكون الإرادة هنا تعلّقت بفعل الإنسان، إذن لا ترديد أنّ الإرادة في هذه الآية {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} إرادة تشريعية لا تكوينية.
2 ـ {... فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُم الْعُسْرَ...}(سورة البقرة الآية: 185). وممّا سبق بيانه في الآية السابقة يتّضح أنّ «الإرادة» في هذه الآية من قبيل سابقتها تشريعية أيضاً، وأنّها بصدد وضع قانون الصيام وضوابطه المختلفة المتعلّقة بالسفر والحضر أو الصحّة والمرض، بما يخفّف على المضطرّين، ولا يوقعهم في العُسر والمشقّة، ويجعل الصيام مفروضاً على الجميع دون مراعاة للحالات الخاصّة، إذن الإرادة في الآية تتعلّق بتشريع الأحكام والفروض، وليست هذه إلاّ الإرادة التشريعيّة بعينها.
الإرادة في آية التطهير
بعد بيان نوعيّ الإرادة ، لننظر في آية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} من أيّ القسمين هي؟
ذهب بعض مفسِّري العامّة وكبار علمائهم إلى أنّ الإرادة في آية التطهير هي من قبيل الإرادة التشريعية، ويرجع هذا الرأي إلى ما افترضوه في أنّ مخاطب الآية هو زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله)، أو ما هو أعمّ من الزوجات وأهل البيت، وذلك لوقوعها في سياق الآيات التي كانت تحثّ الزوجات وترغبهنّ بأعمال معيّنة وتحدّد لهنّ تكاليفهنّ تجاه الرسول (صلى الله عليه وآله)، فافترضوا أنّ التطهير المشار إليه في الآية هو محصلة امتثالهنّ وقيامهنّ بما اُمرن به، وعلى هذا يكون الغرض من هذا التشريع (في الآية) تطهير زوجات النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) وتنزيههنّ عن الذنب وعصيان الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأنّه تطهير تشريعي يعقّب العمل الذي يقوم به المكلّف وفق اختياره ورغبته، لا تكويني سيتحقّق بإرادة الباري عزّوجلّ وبصرف النظر عن فعل ورغبة المكلّف.
ماذا يقول سيّد قطب في ظلاله؟
يقول في ذيل آية التطهير: «في العبارة تلطّف ببيان علّة التكليف وغايته، تلطّف يشي بأنّ الله سبحانه ـ يشعرهم بأنّه بذاته العلّية ـ يتولّى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم; وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت، وحين نتصوّر من هو القائل ـ سبحانه وتعالى ـ ربّ هذا الكون، الذي قال للكون: كن فكان. الله ذو الجلال والإكرام، المهيمن العزيز الجبّار المتكبِّر. وأخيراً فإنّه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت، فالتطهير من التطهّر، وإذهاب الرجس يتمّ بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ويحقّقونها في واقع الحياة العملي»(4).
على هذا المبنى الذي يفرضه سيّد قطب في آية التطهير فلا سبيل أمامه إلاّ اعتبار الإرادة هنا تشريعية، إذ هو يفرض العلّة في التكليف إزالة الرجس والتحلّي بالطهارة، وعليه فإنّ الأوامر والنواهي التي جاءت بها الآيات السابقة للنساء كانت لتحقّق هذه الحالة، الحالة التي لن توجد وتتحقّق إلاّ من خلال العمل بتلك التكاليف، ومن ثمّ ليست إرادة الباري سوى تشريع الأحكام لهنّ، وهذا التشريع جاء لمجرّد إزالة الرجس وإيجاد الطهارة. ومع أنّ سيّد قطب يصرّح في بعض عباراته بأنّ الله سبحانه وتعالى باشر بذاته المقدّسة تطهير أهل البيت وتولّى إذهاب الرجس عنهم، (الله الذي يخلع الوجود على مخاطبيه بمجرّد «كن» فيكونون، وهذه العبارات لا تليق ولا تناسب إلاّ شأن الإرادة التكوينية، فالخطاب بـ «كن» من أبرز مصاديق الحالة التكوينية) لكن الرجل في بداية حديثه ونهايته جعل آية التطهير علّة وغاية لفرض واجبات وإلقاء تكاليف إلهية على نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأنّ الامتثال لهذه التكاليف هو السبيل الوحيد للخلاص من الأرجاس والتحلّي بالطهارة، وهذا التركيب لا ينطبق إلاّ مع الإرادة التشريعية التي تبيّن لنا أنّها متعلّقة بفعل المكلّف. على هذا يمكننا القول: إنّ سيّد قطب يذهب إلى أنّ الإرادة الإلهية في آية التطهير تشريعية لكنّه لم يصرّح بهذا المعنى، كما أنّه جاء ببعض خصائص ومميّزات الإرادة التكوينية وطبّقها على الآية.
هل الإرادة في آية التطهير تشريعيّة؟
بعدما اتّضح أنّ كلتا الإرادتين ـ التكوينية والتشريعية ـ مذكورتان في القرآن الكريم، نقول: إنّ الإرادة في آية التطهير تكوينية بعدّة أدلّة:
1 ـ ينبغي في تحديد معنى «إرادة» وغيرها من الكلمات ملاحظة الظهور النوعي لها، والمعنى الذي يشكّل الغلبة ويحقّق لنفسه حالة الأصل، بحيث يفتقر صرفه لمعنى آخر إلى القرينة، وعند خلوّ الذكر والإطلاق عن القرائن تُحمل الكلمة على معناها الظاهر. وممّا لا شكّ فيه أنّ ظهور «الإرادة» وشيوع استعمال هذا اللفظ في القرآن الكريم هو في المعنى التكويني، بحيث يمكننا القول: إنّ المعنى المقابل، أي التشريعي (أي نفس التكاليف الشرعية من أوامر ونواه) لم يكن في القرآن إلاّ نزراً يسيراً، ووفق ما تحرّيناه فإنّه من 138 مورداً ذكرت
فيه «الإرادة» فقد استعملت في 135 مورداً في المعنى التكويني (ونقصد ـ بطبيعة الحال ـ الإلهي منه والإنساني)، واستعملت في 3 موارد فقط في المعنى التشريعي(5).
من هنا نخلص إلى أنّه عند الشكّ في إحدى معنيي اللفظ، فإنّه يُحمل على ظاهره ما لم تكن هناك قرينة صارفة، وهكذا عند الشكّ في مدلول «الإرادة» في آية التطهير، وهل المراد منها التكوينية أم التشريعية، فإنّها تُحمل على التكوينية لأنّه مقتضى الأصل، لما ثبت من غلبة استعماله في هذا المعنى وبالتالي ظهوره فيه، اللهمّ إلاّ أن يُؤتى بقرينة تصرفه عن هذا الظاهر والأصل، ولا قرينة.
2 ـ وهاك دليل آخر أكثر وضوحاً يحدّد معنى «الإرادة» في الآية الشريفة، وهو مبتن على الأساس الذي ذكرناه في التفريق بين نوعي الإرادة، والفصل المميّز لقسمي الإرادة ـ التكوينية والتشريعية ـ أي تعلّق الفعل في الإرادة التكوينية بالمريد نفسه لا بغيره، على عكس التشريعية التي تتعلّق فيها الإرادة بفعل الغير. وفي آية التطهير فإنّ المريد هو الله جلّ وعلا، والمُراد هو إذهاب الرجس والتطهير، والإذهاب والتطهير في الآية متعلّقان بالله، وهما من فعله وعمله، إذ يرجع الضمير في «ليُذهب» وفي «يطهِّركم» إلى الله سبحانه، وهو فاعل هذين الفعلين، وبناءً على هذا الأساس لابدّ أن يقال: عند تعلّق الإرادة على فعل المريد فهي تكوينية، والمريد هنا هو الله جلّ جلاله، فالإرادة إرادة إلهيّة تكوينية وليست تشريعية، إذ تتعلّق التشريعية بفعل الغير لا بفعل المريد.
تساؤل
يُثار هنا تساؤل حول ما قلناه في آية الوضوء والغسل والتيمّم {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}(سورة المائدة الآية: 6) من أنّ «الإرادة» فيها إرادة تشريعية، مع أنّها على نفس شاكلة «الإرادة» التي جاءت في آية التطهير، وقلنا: بأنّها إرادة تكوينية، فكما «الإذهاب والتطهير» هنا ـ في آية التطهير ـ من فعل الله (المريد) فهي هناك كذلك من فعل الله سبحانه، وفاعل «ليطهركم» ضمير يعود للباري تعالى(6).
ردّ وتوضيح
المسلّم في آية الوضوء والغسل والتيمّم أنّ الله سبحانه وتعالى في مقام تشريع ووضع قوانين الطهارات الثلاث واشتراطها في الصلاة. ويقتضي التناسب في الوضع والتقنين أنّ المقصود من التطهير هو رفع وإزالة القذارات العالقة أو الخارجة من جسم الإنسان، وما يتبعها من بلوغ الطهارة الواقعية والمعنوية، وبديهيّ أنّ إزالة هذه القذارات ورفع تلك النجاسات هو فعل الإنسان المكلّف لا فعل الله تعالى!
ومن قرينة صدر الآية يتّضح أنّ غرض الباري تعالى هو سنّ ووضع «قانون الطهارة»، حتّى يتمكّن الناس ويعرفوا كيفيّة تطهير أجسامهم وإزالة القذارات عن أبدانهم، وبهذا نعلم أنّ «إرادته» تعالى ليست سوى تشريع هذا القانون، إذن الإرادة هنا تشريعية.
3 ـ وردت كلمة «إرادة» واستُعملت في الآيات التي خاطبت زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) في موضعين آخرين أيضاً: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}(سورة الأحزاب الآية: 28)، {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ}(سورة الأحزاب: الآية 29)، والمسلّم أنّ الإرادة في هذين الموضعين تكوينيّة (بشرية)، وهذه قرينة اُخرى خاصّة تؤكّد مسألة ظهور المعنى في التكوينية، وكونه الأصل في آية التطهير التي تلي هذه الآيات، فالإرادة هي من النوع نفسه في جميع هذه الآيات (تكوينية) وتدور حول هذا المحور، بفارق أنّ المريد في الآيتين السابقتين هو نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وفي آية التطهير هو الله سبحانه وتعالى.
4 ـ من المسلّم لدى الجميع (عند من قال: بأنّ الإرادة في آية التطهير تشريعيّة ومن قال: بأنّها تكوينيّة) أنّ هذه الآية الشريفة تشكِّل امتيازاً وخصوصيّة وتُعتبر تشريفاً ونوعاً من التفوّق والفضل لأهل البيت (عليهم السلام). فإذا قلنا: إنّ «الإرادة» في آية التطهير تشريعية فعلينا أن نحدّد موقع التشريع فيها، وبعبارة اُخرى: ما هي القوانين التي وضعها الشارع المقدّس في هذه الآية؟ هل تراها شيئاً آخر غير الحثّ على طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) والتوجّه للآخرة والاهتمام بها، والإعراض عن الدنيا وعدم ارتكاب الفواحش والمعاصي؟ وهل هذه التكاليف تشكّل برنامجاً لأهل البيت (عليهم السلام) ونساء النبيّ (صلى الله عليه وآله)خاصّة أم أنّها أحكام وتشريعات تشمل جميع المسلمين والمسلمات، فأين التكريم والتشريف إذن؟ وأين التفوّق والفضل؟! فمن يقول: بأنّ الإرادة هنا في هذه الآية تشريعية لابدّ له من مخالفة إجماع المفسِّرين، واتّفاق العلماء على أنّ في الآية خصوصيّة وفضيلة ما لأهل البيت (عليهم السلام)! إذ إنّ حمل الإرادة على التشريعية يلغي أيّة مزيّة وخصوصيّة لأهل البيت (عليهم السلام)، إذ يعود شأنهم كشأن غيرهم من التكليف بالأحكام السابقة التي ثبت وجوبها على الجميع(7). من هنا لا محيص ـ لمجاراة المفاد المتّفق عليه من وجود خصوصيّة وفضيلة في الآية ـ من الإذعان بأنّ الإرادة في آية التطهير ليست تشريعية بل تكوينية.
5 ـ ذكرنا آنفاً أنّ الآيات قسّمت عائلة النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى فريقين:
الأوّل: مجموعة زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وقد فرض عليهنّ برنامج تربوي معيّن، وبيّنت الآيات أنّ العمل بهذا البرنامج هو السبيل لبقاء انتسابهنّ لرسول الله(صلى الله عليه وآله) وارتباطهنّ به، وإلاّ فمصيرهنّ الطرد والانفصال عنه.
الثاني: هو أهل البيت(عليهم السلام) الذين تُعدّ العدّة لهم ليتبوّؤا زعامة المسلمين وقيادة خط الهدى والدين، وأنّ الله سبحانه هو الذي يتولّى هذا الإعداد وينهض باصطفائهم وهو يطهّرهم عن الرجس وينزّههم عن المعصية، وعلى هذا فإنّ آية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ...} جملة اعتراضية ـ كما أسلفنا ـ جاءت في وسط آيات النساء انصبت رسالتها، ودار محورها على تسجيل ظاهرة معنويّة وحقيقيّة هي إرادة إذهاب الرجس عن هذا الفريق وتنزيهه.
إذن فالإرادة هنا لا علاقة لها بأيّ نحو بالأحكام التي سبق تشريعها في سائر الآيات، ولا يمكن للآيات التي خاطبت زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) أن تكون قرينة على الإرادة التشريعيّة في آية التطهير، بل هي باقية على معناها التكويني، وتُحمل على أصلها وظاهرها الذي كانت عليه.
نعم، قد يسأل سائل: كيف صنّفتم هذا التصنيف وعلى أيّ أساس جعلتم «أهل البيت» فريقاً خاصّاً منحصراً بالسادة الخمسة صلوات الله عليهم؟ ... وفضلاً عمّا سبق بيانه، فإنّ جواب هذا السؤال سيأتيك مفصّلاً.
حديث مع الآلوسي
مع أنّ شهاب الدين محمود الآلوسي ـ مفتي بغداد المتوفّى سنة 1270 ـ ذهب إلى أنّ «الإرادة» في آية التطهير إرادة تكوينية، لكنّه في الوقت نفسه طرح إشكالاً على ذلك وتعاجز عن ردّه مكتفياً بالإثارة! إذ يقول:
«... وقد يُستدلّ على كون الإرادة هاهنا بالمعنى المذكور (التشريعية) لا المشهور (التكوينية)، الذي يتحقّق عنده الفعل بأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال حين أدخل عليّاً وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» فإنّه أيّ حاجة للدعاء لو كان ذلك مراداً بالإرادة بالمعنى المشهور (التكوينية)، وهل هو إلاّ دعاء بحصول واجب الحصول؟»(8).
وحتّى لا نكون مثل الآلوسي الذي ترك سؤاله معلّقاً دون إجابة! نقول:
سبق أن أثبتنا أنّ سياق الحديث وتركيب الكلام يُظهر أنّ عبارة «اللّهم هؤلاء...» في دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله) جاءت لتحديد وبيان من هم المقصودون من «أهل البيت» (عليهم السلام)، فهو (صلى الله عليه وآله) يخاطب ربّه ويحدّد في خطابه أنّ «هؤلاء هم أهل بيتي» حتّى يعرف الناس من هم أهل البيت، ومن هم الذين أراد الله تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم(9)؟ وإلاّ فإنّ الإشكال (سؤال الآلوسي) نفسه، بل ما هو أكبر منه سيرد على الدعاء إذا ما افترضنا أنّ الإرادة الإلهية في الآية تشريعيّة وليست تكوينيّة! فما معنى أن يقول النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويدعو (ويكون معنى دعائه على فرض الإرادة التشريعيّة): «اللّهم اجعل أهل بيتي مشمولين بأمرك ونهيك، وأبعدهم عن الآثار السلبية للنواهي بتشريع النهي وفرضه عليهم!؟» أوليست الآيات متوجّهة بالأصل بالخطاب والتكليف إليهم؟ حتّى يأتي النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويتوجّه بالدعاء لله سبحانه أن: إلهي أشمل أهل البيت بهذه التكاليف! أليس هذا هو الفرض (على القول بالإرادة التشريعيّة)؟
حديث آخر مع الآلوسي
مع ما يُلاحظ على صاحب تفسير «روح المعاني» من مستوى علمي لا بأس به وما يُسجل له ـ عند مقارنته بعلماء العامة ـ من حظّ ونصيب في العلم والتحقيق، لكن يظهر أنّ التعصّب يعمي الإنسان ويشطط به في متاهات غريبة! فالرجل يذهب إلى أنّ «الإرادة» في الآية تكوينية، وأنّ عبارة «أهل البيت»(عليهم السلام) تعني وتشمل الخمسة أصحاب الكساء صلوات الله عليهم، وعندما يقف على مدلول الآية ومفادها، وأنّ الثمرة والنتيجة العلمية التي تخلّص منها هي عصمة عليّ وبنيه(عليهم السلام)وطهارتهم وفضلهم، فإنّ هذه الحقيقة الناصعة والآية الناطقة تهزّ الآلوسي وأضرابه بشدّة وتربكهم وتوقعهم في اضطراب! ومن هنا نجد كيف يورد التعصّب صاحبه المهالك، وكيف يقع الآلوسي هنا فيما يفقده توازنه ورصانته ويخرجه عن طوره! فيسعى سعي العاجز ويتعسف في توجيه الآية ليصرف هذه الفضيلة عن أهل البيت(عليهم السلام)ويخرجهم عن غطائها!
خلاصة محاولته، وموجز كلامه: «... لأنّ المعنى حسب ما ينساق إليه الذهن ويقتضيه وقوع الجملة موقع التعليل للنهي والأمر نهاكم الله تعالى وأمركم; لأنّه عزّوجلّ يريد بنهيكم وأمركم إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم وفي ذلك غاية المصلحة لكم، ولا يريد بذلك امتحانكم وتكليفكم بلا منفعة تعود إليكم، وهو على معنى الشرط، أي يريد بنهيكم وأمركم ليذهب عنكم الرجس ويطهّركم أن انتهيتم وائتمرتم، ضرورة أنّ اسلوب الآية نحو اسلوب قول القائل لجماعة علم أنّهم إذا شربوا الماء أذهب عنهم عطشهم لا محالة، يريد الله سبحانه بالماء ليذهب عنكم العطش، فإنّه على معنى يريد سبحانه بالماء إذهاب العطش عنكم إن شربتموه، فيكون المراد إذهاب العطش بشرط شرب المخاطبين الماء لا الإذهاب مطلقاً. فمفاد التركيب في المثال تحقّق إذهاب العطش بعد شرب الماء، وفيما نحن فيه إذهاب الرجس والتطهير بعد الانتهاء والائتمار; لأنّ المراد الإذهاب المذكور بشرطهما، فهو متحقّق الوقوع بعد تحقّق الشرط وتحقّقه غير معلوم، إذ هو أمر اختياري وليس متعلّق الإرادة»(10).
جواب موجز :
1 ـ إنّ الاعتراف بكون «الإرادة» من القسم التكويني، ثمّ تعليق ذلك على شرط الطاعة في الأوامر والنواهي هو تراجع وعدول عن هذا الإقرار والاعتراف، وبعبارة اُخرى: فإنّ فرض تلازم بين الإرادة التكوينية والطاعة هو بمثابة تحايل على القول بالإرادة التكوينية، ويُعدّ تقريراً وإمضاءً ضمنياً بأنّ الإرادة في الآية هي إرادة تشريعية، إذ إنّ المعنى ـ بلحاظ ذلك الشرط ـ يغدو: إنّ الله كلّفكم بأوامر ونواه وتعلّقت إرادته في تطهيركم على عملكم بتلك التكاليف تماماً، كما تتعلّق إرادة الله في سمو الإنسان وتكامله الروحي على أداء الصلاة، فـ «الصلاة معراج المؤمن»(11). إذن فالباري تعالى أراد «لأهل البيت»(عليهم السلام) الامتثال لأوامره ونواهيه حتّى يطهّرهم، كما أراد للإنسان أن يصلّي حتّى يعرج إليه، ولعمري هل تعني الإرادة التشريعيّة غير هذا؟! بناءً على ذلك فإنّ لازم تلك الملازمة عدول الآلوسي عن القول بأنّ «الإرادة» في آية التطهير تكوينيّة.
2 ـ تكرّر القول بأنّ آية التطهير جاءت بين الآيات على نحو الجملة الاعتراضية، ومعنى ذلك أنّها أجنبية وغريبة عمّا سبقها ولحقها من الآيات، وأثبتنا أنّ هذا من الصور البلاغية التي لها عدّة أمثلة في القرآن الكريم، على هذا فإنّ الجملة الخارجية لا يمكنها أن تكون تعليلاً وشرطاً للآيات التي تكفّلت الأوامر والنواهي. وقد أجبنا بالتفصيل آنفاً على ما قد يثيره الآلوسي وأضرابه هنا من شُبهة مناسبة التدوين وإقحام آية التطهير في هذا الموضع، ولا داعي لتكرار القول بأنّ الآيات قسّمت عائلة النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى فريقين ولم يكن أنسب من هذا الموضع لبيان الفرق واستثناء «أهل البيت» (عليهم السلام) من مظانّ الانحراف والعصيان، وما اُثير من احتمالاته بحقّ زوجات النبيّ (صلى الله عليه وآله) لقطع الطريق على المغرضين من خلال دفع هذا الوهم، فأهل البيت (عليهم السلام) ليسوا كزوجات النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ولا تنبغي ولا تصحّ المقارنة بينهما، ولم يكن أفضل من هذا الموضع لهذه الآية حتّى تؤدّي ذلك الدور.
3 ـ إذا افترضنا الملازمة وقلنا: إنّما تتحقّق إرادة الباري في تطهير «أهل البيت» (عليهم السلام) عند امتثالهم لأوامر الله ونواهيه، فإنّ ذلك ينفي ويلغي أيّ امتياز وفضيلة تقرّرها الآية لهم (ومن المتّفق عليه بين الجميع أنّ الآية تشكّل فضيلة ومنقبة خاصّة «لأهل البيت» (عليهم السلام); لأنّ القاعدة سارية على جميع المسلمين، فإذا ما أطاعوا الله فإنّ النتيجة ستشملهم. وهل من الممكن أن يلازم التقوى مسلم ويطيع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويتجنّب القبائح ثمّ لا يكون محلاًّ لعناية الله تعالى، ولا يتطهّر ويبقى ملوّثاً بالأرجاس؟! هل يصحّ حصر نتيجة تلك المقدّمة في «أهل البيت»(عليهم السلام)فقط بحيث لو كانوا كذلك لأصبحوا هكذا؟! ألا يشكِّل هذا حالة من التفرقة وعدم المساواة؟ ألا يخلّ بالموضوعية والعدالة التي تفترض انطلاق الجميع في طريق السلوك والرقي الروحي من نقطة بدء واحدة، وتتاح لهم الفرصة على السواء بما يمكنهم نيل الأجر والرحمة واللطف الإلهي على قدر السعي والإخلاص؟ ألا يعني هذا أنّ الإسلام لا يفسح مجال التكامل وأسباب نيل السعادة وكسب الرضوان الإلهي أمام الجميع على السواء؟!
وإذا قال الآلوسي: إنّ الوجه الذي تميّز به «أهل البيت» (عليهم السلام)هو أنّ الله سبحانه اختصّهم بالمزيد من العناية والاهتمام في قبول أعمالهم، وأنّ آية التطهير تزيدهم أملاً وتفاؤلاً في قبول صالح أعمالهم، ممّا لا يخدش بالمساواة ولا يثير الإشكال السابق.
فنقول في الردّ عليه: ما هو الدليل على هذا المدّعى ومن أيّ مواضع الآية الشريفة انتُزع هذا المعنى؟ ولعمري هل علينا أن نختلق ونتعسّف إلى هذا الحدّ لنبرّر أوهام ومدّعيات ما أنزل الله بها من سلطان؟ فأين الأمل والمزيد من التفاؤل في قبول الأعمال من التطهير وإذهاب الرجس؟! هل الآلوسي بصدد تفسير الآية واستخراج مدلولها أم أنّه يريد تلفيق وتركيب معنى ينطبق على رأيه ويتوافق مع ما توهمته مخيّلته؟!
إنّ البحث العلمي، وخصوصاً في تفسير الآية القرآنية يقتضي الموضوعية والحياد، بحيث يدخل المفسِّر البحث وهو خالي الذهن من قرار مسبق وعقيدة مُتبنّاة، فينظر في الآيات إلى ما يؤيّد رأيه ويحمّلها المعنى الذي يريد، وإذا ما اعترضته آية لا توافقه راح يحتال بكلّ حيلة ويتعسّف في تأويلها وتفنيد مدلولها حتّى يتحقّق مطلوبه! إنّ لهذه المسألة أهمّية كبيرة في فهم الأهداف القرآنية السامية، وعلى المفسِّر أن ينصاع ويتوافق مع المقاصد القرآنية لا أن يتلاعب في المعاني ويقلبها حتّى يبلغ مراده هو.
وعلى كلّ حال وبالنظر لما سبق، يظهر بما لا يقبل الشكّ أنّ الإرادة في آية التطهير ـ بناءً على الظهور النوعي ـ هي إرادة تكوينية، وهي لطف إلهي خصّ به فريق «أهل البيت» (عليهم السلام) من عائلة النبيّ (صلى الله عليه وآله)بهدف إعداد هذه الثلّة لدور حفظ الدين وقيادة المسلمين، وما يشكّل امتداد خطّ الهدى بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وهذا المعنى والرأي موافق لظاهر الآية ولا يستلزم أيّ تأويل وتعسّف.
الإرادة التكوينية والجبر
ظنّ جماعة أنّ القول بالإرادة التكوينية يثير شبهة الجبر ولا يسمح بمعالجة مُقنعة لها، فعندما تتعلّق إرادة الباري الأزلية بطهارة «أهل البيت» (عليهم السلام)، فإنّ عصمتهم حتميّة ووقوع الذنب منهم محال عقلاً; لأنّ المراد لا يمكنه أن يتخلّف عن المريد (الله)، إذن صدور المعاصي عن «أهل البيت» (عليهم السلام) غير ممكن بل ممتنع، وهم مجبورون على الامتناع عن الذنب، مسيّرون على الطاعة فلا فضل ولا فخر لهم!(12).
خروج من موضع الشبهة
لقد سلك العلماء وطوى المحقّقون طرقاً شتّى لمعالجة شبهة الجبر والتخلّص من هذا الإشكال العويص(13)، ونحن يمكننا هنا اللجوء إلى اتجاه آخر في البحث هو إخراج الآية من مورد الشبهة أصلاً، وهو ما يغنينا عن ولوج مسألة الجبر وتخريجاتها، وبشيء من التدقيق في مفاد الآية الشريفة نرى أن لا وجود للشبهة حتّى نبحث عن مخرج لها!
بماذا تتعلّق إرادة الحقّ تعالى في الآية الكريمة؟ إذا كان متعلّق الإرادة هو «إبعاد» الرجس والذنب عن «أهل البيت» (عليهم السلام) لا منعهم عن ارتكابه والوقوع فيه هل يبقى لشبهة الجبر محلّ؟ إذا كان مفاد الآية هو أنّ الباري أراد إضفاء الحصانة من الذنوب على «أهل البيت» (عليهم السلام)وأنّه تعالى متولّي هذا الأمر والقائم على تحقيقه لكان للشبهة محلّ، ولكن بشيء من التأمّل في الآية نرى أنّ القرآن الكريم يقول: {يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ}.
إنّ إعراب كلمة «ليُذهب» هو مفعول به، وهي ذاتها التي جاءت في آيات اُخرى تارةً محلاّة بـ «اللام» وتارةً بـ «أنْ»، على سبيل المثال، فقد جاءت في سورة التوبة: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}(سورة التوبة الآية: 55)، وفي السورة نفسها: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا}(سورةالتوبة الآية: 85)، وبملاحظة الآيتين يتبيّن أنّ «اللام» في الآية الاُولى ليست للغاية بل هي بمعنى «أنْ»، التي جاءت في الآية الثانية، ولا ترديد في أنّ {أنْ يُعذّبهم} في الآية الثانية هي مفعول به للفعل «يريد» (على التأويل بالمصدر، أي: يريد عذابهم).
وهكذا في مواضع اُخرى من القرآن الكريم: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}(سورة الصف الآية: 8)، ومن هذا القبيل الآية: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}(سورة التوبة الآية: 32)، ونستنبط من هذا التفاوت في التعبير اتحاد المعنى بين «اللام» و«أن» في مثل هذه الموارد، وبالنتيجة هو مفعول به للفعل «يريد الله».
وبهذا البيان اتّضح أنّ متعلّق الإرادة في آية التطهير هو الإذهاب المراد به الإبعاد، أي أنّ الله أراد إبعاد الرجس عن «أهل البيت» (عليهم السلام)، بمعنى إيجاد فاصل بينهم وبين المعاصي والأرجاس، إذن التدخّل الإلهي كان من هذه الزاوية فقط، تدخّل يوجد مسافة تفصل بين المعاصي و«أهل البيت» (عليهم السلام)، فلا تدنو منهم المعاصي ولا تقربهم الأرجاس. على هذا فإنّ إرادة الباري لم تنعقد على عدم فعلهم الذنوب بل على إيجاد المسافة الفاصلة التي تنزّههم وتبعِّدهم عن الذنوب.
والوضع المقابل لهذه الحالة هو وجود قرب بين بعض الأشخاص وبين المعاصي والذنوب، هناك اُناس يقفون دائماً على أعتاب المعاصي والأرجاس، وهذا الموقف وهذه الحالة هي مدخل التعاسة ومبعث الشقاء، من هنا فإنّ القرآن ينهى عن الاقتراب من الذنوب حيث لا يعود ثمّة فاصل بين الاقتراب من الذنب واقترافه! وذلك في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}(سورة الانعام الآية: 151).
إذن فمفاد آية التطهير هو إبعاد الرجس عن «أهل البيت»(عليهم السلام)(وسيأتي معنى الرجس)، ولا يخلو ـ بطبيعة الحال ـ هذا «الإبعاد» من عناية ولطف إلهي اختصّ به هؤلاء صلوات الله عليهم، ولكنّه لا يعني بأيّ حال من الأحوال سلبهم الإرادة والاختيار وعدم صدور المعصية عنهم جبراً، إنّ الفصل بين الإنسان والذنب ليس جبراً بل هو توفيق، ولم يشمل الباري تعالى الجميع بخاصّة عنايته ومخصوص لطفه، إنّه توفيق وفضل إلهي لا يؤتيه الله إلاّ من يشاء ولا يلقّاه إلاّ ذو حظّ عظيم.
لقد مضت البُنية والحركة الاجتماعية لبعض الأفراد على نحو جعل حياتهم أقرب ما تكون لأجواء المعصية وفي معرض الفساد ومتناوله، فيعيشون إلى جوار الخمارات وفي أوساط تعجّ بدور اللهو والرذيلة، حقّاً إنّه لسوء توفيق وتعاسة تلازم عالم ومجتمعات اليوم حيث يعيش الناس في بيئة فاسدة ومحيط يغطّ بالفسق والفجور، ولكنّنا نجد أنّ في وسط هذا العالم المضطرب العاصف بالفساد مَنْ منَّ الله عليه ولطف به ففصل بينه وبين هذا الخضم المتلاطم ونجّاه من الوقوع في المعاصي، لاشكّ في أنّ هؤلاء مشمولون بلطف وعناية إلهية خاصّة، وهكذا «أهل البيت»(عليهم السلام) الذين شملتهم بلطف الرحمن ـ جلّ وعلا ـ أعظم عناية بظهور فاصل أبدي بينهم وبين مطلق الرجس، فانصرفوا عن توافه الأمور وأصبح بينهم وبين المعاصي بون شاسع لا تطويه ملايين الفراسخ، فلا يتلوّثون بالذنوب ولا تنالهم المعاصي، ولكن هذه الطهارة عن الذنب ليست أمراً قهرياً اُجبر عليه «أهل البيت»(عليهم السلام)، بل لما كانت أرواحهم السامية تسبح في بحر الفضيلة والطاعة بعيداً عن المعاصي والذنوب، فإنّ المعاصي والذنوب ـ المُبعدة والمنفية ـ لا تجد سبيلاً ولا تعثر على منفذ وملمز يمكنها من اختراق الحُجب الفاصلة بينها وبين تلك الأرواح الطاهرة، فلا يعتري ضمائرهم شيء من شوائب الأرجاس وكدر المعاصي!
على هذا فإنّ دور الإرادة الإلهية كان مجرّد إيجاد الفاصل بين «أهل البيت» (عليهم السلام) والرجس(14) لا تحصينهم من الذنوب على نحو يسلبهم الاختيار ويُدخل الأمر في الجبر، والفصل ـ بطبيعة الحال ـ هو من قبيل اللطف الخاصّ والعناية، وهو ما يُعبّر عنه بـ «التوفيق»، ولا يصحّ بحال أن يوسم هذا التوفيق بالجبر.
الهوامش:
1- الشائع الصناعي: أي المتعارف في المحاورات والعلوم والصناعات، مثل «الإنسان كاتب» ويكون عند اتحاد الموضوع والمحمول في المصداق وتغايرهما من جهة المفهوم، ويقابله الحمل الذاتي الأوّلي: فالاتحاد بين الموضوع والمحمول في المفهوم، لكن المغايرة اعتبارية كالإجمال والتفصيل ونحوه، مثل «الإنسان حيوان ناطق»...
2- وقد يتعلّق الشوق بنتيجة الفعل لا به، كما في تناول الدواء المرّ جدّاً أو في تحمّل عملية جراحية خطرة.
3- ذكر العلاّمة الطباطبائي في نهاية الحكمة ص361 : «وقد تحقّق أنّ كلّ كمال وجودي في الوجود فإنّه موجود للواجب تعالى في حدّ ذاته، فهو (تعالى) عين القدرة الواجبية، لكن لا سبيل لتطرّق الشوق عليه، لكونه كيفية نفسانية تلازم الفقد، والفقد يلازم النقص، وهو تعالى منزّه عن كلّ نقص وعدم. (ثمّ يقول): وكذلك الإرادة التي هي كيفية نفسانية غير العلم والشوق، فإنّها ماهية ممكنة والواجب تعالى منزّه عن الماهية والإمكان».
4- في ظلال القرآن / سيّد قطب 5 : 2862 .
5- أي بنسبة 2 % فقط، وقد قمت بإحصاء الموارد التي ذكرت فيها «الإرادة» ومشتقّاتها في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن فوجدتها 138 كما ذكر المؤلف.
6- ممّن أثار هذه الشبهة الآلوسي صاحب تفسير روح المعاني، وزاد وأمعن حين قال: بل لعلّ هذا أفيد (للعصمة) لما فيه من قوله {وَلِيُتمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُم} فإنّ وقوع هذا الإتمام لا يتصوّر بدون الحفظ عن المعاصي! (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم 22 : 18).
7- قد تكون في بعض التشريعات خصوصيّة وامتياز وما ينتزع منه الفضيلة والتفوّق للمكلّفين بها، من قبيل وجوب قيام الليل على النبيّ(صلى الله عليه وآله) وإباحة زواج أكثر من أربعة نساء له، وزيادة التكبيرات في صلاة الميّت على بعض الشهداء كحمزة بن عبد المطّلب(عليه السلام)، وحرمة الصدقة على ذريّة رسول الله(صلى الله عليه وآله).
ولكن الملاحظ في الآيات محلّ البحث أنّ التشريعات التي جاءت بها لا تشكّل أيّة مزيّة وفضيلة للمخاطبين بها، ومجرّد الخطاب لا يعني أكثر من شأن النزول، وهي سيرة القرآن في بيان أكثر الأحكام والتشريعات السماوية، فإذا ما شُرع على سبيل المثال وجوب التوجّه إلى القبلة في جميع الصلوات وحيثما كان الإنسان إثر حادثة معيّنة (روى جابر قال: بعث رسول الله(صلى الله عليه وآله)سرية كنت فيها، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منّا: قد عرفنا القبلة هي هاهنا قبل الشمال وخطوا خطوطاً، فلمّا أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلمّا قفلنا من سفرنا سألنا النبيّ(صلى الله عليه وآله) عن ذلك فسكت فأنزل الله تعالى: (وَللهِِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)(سورة البقرة 2 : 115، مجمع البيان 1 : 320، بحار الأنوار 84 : 31) فهل يعني أن لهؤلاء النفر فضيلة أو مزيّة اكتسبوها بكونهم سبباً لبيان الحكم وشأناً لنزول الآية؟ كلاّ بطبيعة الحال.
نعم، قد يقال: إنّ مضاعفة الأجر عند الإحسان ومضاعفة العقاب عند الإساءة ممّا ورد في الآيات يمكن عدّه نوعاً من التميّز لنساء النبيّ، ولكن لا يخفى أنّ هذا التميّز خارج عن نطاق التشريع ولا يمس الوضع القانوني، وأنّه يتعلّق ببعد آخر هو نتيجة العمل، لا العمل (التكليف المتعلّق بالتشريع) نفسه ممّا لا يُعالج الثغرة والإشكال على القائلين بالإرادة التشريعية هنا.
8- روح المعاني في تفسير القرآن 22 : 18 .
9- هذا هو غرض النبيّ (صلى الله عليه وآله) من هذا الدعاء، وإلاّ فنتيجته وثمرته من حيث التحقّق تحصيل حاصل (وقد اُوفيَ المطلب حقّه في مواضع اُخرى من البحث، فراجع الصفحات السابقة)، وقد يكون هناك وجه آخر لمثل هذه الأدعية (المضمونة النتيجة) هو الإقرار بالفقر والحاجة لاستمرار الفيض ومواصلته ودوام العطاء الإلهي، فالداعي يعلم أنّ الله خلع عليه الوجود وأفاض عليه الجوارح ووهبه النعم تكويناً، ولكنّه يسأل الله ويدعوه استمرارها ومواصلة الإنعام بها وعدم زوالها، وقد يُنزّل الدعاء في مثل هذه المواضع منزلة الشكر والحمد على النعمة.
10- روح المعاني في تفسير القرآن 22 : 19 .
11- بحار الأنوار 82 : 248 ح1 و ص 303 ح2 .
12- الإشكال لا يختصّ بهذا المورد (آية التطهير) فقط، وإنّما يشمل جميع القضايا الأزليّة كاختيار الأنبياء ومنح الاستعدادات الأوّلية والكمالات الخلقية من جمال الهيئة وسلامة الحواس والفطنة والذكاء، بل وصفاء الروح واعتدالها.
13- نشير باختصار إلى بعض الردود والحلول التي يطرحها علماؤنا لهذه الشبهة:
منها: أنّ الله اطّلع في علمه فرأى عبادتهم وخلوصهم وكمالهم، ووقف بعلمه على ما سيبلغونه من مراتب القرب فخلع عليهم العصمة، فهي إذن عن جدارة واستحقاق، ولمقابل قاموا بأدائه (في علم الله).
ومنها: أنّ الأمر منوط الظرف والوعاء، من حيث إنّ مبدأ الحقّ فيّاض والخير متدفّق منه غير منقطع، وإنّما يغترف كلٌّ على قدر إنائه ووعائه، وما يحصّلون عليه من عصمة وعلم وكرامة و... إنّما اغترفوه من بحر جود الباري عزّوجلّ، واستحوذوا عليه لسموّهم وعلوّ هممهم ولم يكن الخالق ليبخل على أحد، فقد وهب الله العصمة للجميع ولكن من تلقاها هم الأئمّة والأنبياء(عليهم السلام)فقط، إذن هو نتيجة سعي ووفق أساس لا يخدش العدالة الإلهية ولا يناله الجبر.
ومن الآراء في هذا الباب، أنّهم صلوات الله عليهم كانوا قبل قانون العمل والمجازاة، حيث كانوا ولم يكن شيء، وقد تواترت الروايات في هذا المعنى (من قبيل ما جاء في الزيارة الرجبية والزيارة الجامعة الكبيرة)، وما قام عليه الدليل الفلسفي من أنّهم العقل والفيض الأوّل حيث الفضل للمقام لا العمل، فكمالات العصمة والعلم والولاية من مستلزمات ذلك المقام ومقتضياته، فهم التجلّي التام لله ولابدّ للمرآة التي يتجلّى الله فيها أن تكون صفاءً تامّاً وطهراً كاملاً خالية من أيّ كدر للمعصية، وإلاّ لفقدت صلاحيتها كمجال للتجلّي الإلهي، وهناك وجوه ومعالجات اُخرى.
14- وهذه الحالة ليست ضرباً من الإبهام والوضع الغريب، بل هي حالة معهودة ومعروفة عند سائر المؤمنين، وتشكِّل أملاً وأمنية دائمة يرجونها، فيكرّرون في أدعيتهم ويسألون الله سبحانه إبعاد الأرجاس والذنوب عنهم، ويدأبون على الاستعاذة من «إبليس» مصدر الأرجاس والذنوب «نعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، والرجيم أي: المطرود والمنفي المُبعد.