تجليات الاسراء والمعراج
رؤية من الداخل

ذكرى اعز من الحياة واعظم الدين من اعماقها يتكلم

ليس الزمان بها مطارف سعده وسما بمطلعها المقام وزمزم

تهب ذكرى الاسراء والمعراج فتفجر يمامات الذكريات في قارب مطاطي يثير زوابع الشجون ويكسر حصار الواقع المادي المتقعر في النفس تشفط تسربات اوجاع الامة فتغيرها حقيقة ماثلة تجدد في صباحات البشرية ومساءاتها ليست تشنجا عابرا او يدا ساحرة تمط لثام سنوات الغربة عن الدين او معولا شاخصا يفكك بؤر الردة والرجعية لكن ذكريات رسول الله قصائد تأخذ الامة الى ذاكرة التوحد مع السماء في خطوها الاول لتقطف شموعا تضئ المساحات المستقبلية وتكشف محارات الواقع اضاءات تختزل الكثير الكثير من العظمة والسمو. من حقه صلى الله عليه وسلم ان نتذكره ونتذاكره شموعا تضئ ليل القلوب العطاش العطشى الى لطافة روحه لتنبث خيزط التواصل بينها وبينه ومنه الى ربها يقول الله تعالىقل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ديدن الصحابة ادمان ذاكره واحتراف تقليده ولا تقليد لغيره كانوا يعصرون سيرته لأطفالهم لتخرج شرابا حلوا ينبت في قلوبهم وهجا من الحب لله ولرسوله ولدينه نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء يقول سعد بن ابي وقاص كنا نحفظ ابناءنا سيرة الرسول ومغازيه كما نحفظهم السورة من القرآن ليس تطرفا ولا افراطا بل انتزعا للحق قرن بين سيرته صلى الله عليه وسلم و بين القرآن لأن القرآن هو الاسلام النظري وسيرته صلى الله عليه وسلم هي الاسلام العملي وما احلى شرابا جمع الصحة والحلاوة.

واليوم الاسلام غريب عن عشه تسجنه اقفاص المادة وتشل روحه برودة ابنائه كم نحن بحاجة الى نسمات ذكرياته وهبات نفحاته الزاكية.

والاسراء والمعراج زهرة من كمائم ازاهيره المباركة فهيا نفتقها نبحث فيها عن فكرة وموعظة ولعلنا نتوحد معها ونندمج مع لطائفها ونتماهي مع قامتها نتحسس الفائدة والجمال في طبخة نأمل ان تمارس لياقتها التأملية فحسب.

مراحل الرحلة
كانت رحلة الاسراء شوكة ثقبت ليل السكون بزخمها لها طعم الزيتون ورائحة الريحان ملايين القلوب تميس في ذكراها عند مدائنها الارضية مكة والقدس وعند مدائنها السماوية والملأ الاعلى التي انفتحت على فجاءة فأطلت نورانية شفافة بسقت بتاجات و دلالات لا تصمت عندها الافكار ولا تكف في وهجها الخواطر ممتدة كأمتداد الكون نفسه يحار العقل من قعقعاتها الطارقة كل حين تتجدد وتتعدد وتتبعثر دلالات الحدث حتى تشتد اهتزازاتها على اقبية الرحلة التي مرت بثلاث مراحل:

الاولى ارضية من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى وهو رحلة الاسراء والثانية سماوية دونية من المسجد الاقصى الى السماوات والثالثة سماوية علوية من السموات الى الملأ الاعلى.

وفي كل مرحلة حكان اندلاق مفاجأة وانفتاح مدهشة صلى بالانبياء زارهم في السماوات وعاد بالصلاة هدية من الله.

مهرجان حافل لمن اراد التأمل تنحت جوانبه مزخرفة يد الفكر وحركات العقل في خصوبة خيال وحرم جمال محتشدة هنا افتح بعض فدلتاها من مندوس هائل مذهل,

القدرة الالهيةمن يفتح دولاب الرحلة ويقلب اوراقها وهو قابع في زنزانه العقل وسذاجة المادة ووهم الواقع المعاش وسكرة العلم المختبري البسيط سيقول مندفعا : ان الرحلة قصة خيالية طريفة او حلم عابر ظريف او لاهوت عميق ووهم كاذب او على الاقل مهرجان من التزيف والاكاذيب سكبت في قالب ديني مشبوه.

يقول ذلك وحقائق الاسراء والمعراج تطحن عقله وتشتت ذهنه فينفر متسائلا الرسول يترك مكة الى القدس في بعض جزء من ليلة بل ويعرج للسماوات في سرعة هي اعلى من سرعة الضوء 300 كم في الثانية خاصة وان الانسان بحاجة الى 24000 سنة ليخرج من السماء الدنيا وحدها لكن الرسول يقطعها ووصل للسماوات العلا والملا الاعلى في بعض ليله مسكين هذا المأفوة بالعلم المادي والفكر المختبري البسيط متناسيا قول الله وما اوتيتم من العلم الا قليلا ) مسكين حين ينسى ان علم الغيب والعلم غير المرئي اكبر واعظم مما يتصوره ويحده وعلم الغيب هو علم الوحي الذي لا يدخله شك مطلقا.

كان من قبل قرون لا يتصور الانسان ان يكلم بالهاتف انسانا اخر اقطار الارض في زمن اقل من القصير وحدث ذلك المستحيل وما عاد مستحيلا.

والمعلوم انه كلما كثرت القدرة قل الزمن اللازم للمهمة فهنا تجلت قدرة الله الزمن اللازم للمهمة.

هنا يتجلى الايمان بالله فهذا ابو بكر يضع في هيكل الوجود دروسا للمؤمن الحق حين يحمل اليه الخبر بعض اشقياء قريش ظنا منهم انه سيضطرب ويتبدى غضبه وتنخفض ثقة بنبيه لكنه قال : ( انه قال محمد فقد صدق)

أي طيوب هذه التي تعطر انفاسهم أي حب لرسول الله تجعلهم يستمد قوته دون نقاش او جدال او توضيح!!

كم نحن اليوم بحاجة الى ثقة كهذه بديننا حتى لا تتزعزعنهحتى لا تشكك فيه برسولنا حتى نتبع خطاه دون شك الخير كل الخير في فتح كنوزه.

قدرة الله ان تشربها القلب انبثق نوره وسطع وهجه فتوحد مع ربه منذهلا عن البشر متغافلا عن كل قوة في الارض مهما عظمت لن تقيده قيود اذا ما كان الله يمده بقدرته.

فمن يقف امامه ومن سيقيد كلمة الحق لا احد اذن فليكن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مدويا في اصقاع الارض ليصفق العدل وتنهمر نهور السلام والوئام وتتهامس به اوراق الدنيا في كل جذور الارض.

اعداد ومرحلة جديدة
كانت رحلة الاسراء والمعراج معرضا حافلا بعجيب آيات الله وغرائب قدرته قال الله تعالى ولقد رأى من آيات ربه الكبرى ) وقال لنريه من آياتنا ).

لقد كان رسول الله في هذه المرحلة بالذات بحاجة الى رؤية هذه الايات لانها اعداد لمرحلة جديدة بعد ان فقد ابا طالب وزوجه خديجة وتراكمت الاحزان عليه ورده اهل الطائف وحيد احزينا بدأ الرسول في مرحلة مواجهة مباشرة مع قوى الشر ورموز الدنيا ومن كل عشيرته واهله وهي مرحلة تحتاج الى قوة قلب وشدة ارادة وصلب عود وهذا ما وفره له ربه بعد رؤيته قدرة الله تعالى في صور عدة ليس اقلها البراق الدابة العجيبة التي حملته وليس اهونها رؤيته للانبياء وللاقصى الشريف وليس اوهنها رؤيته للملائكة ولجبريل في صورته الحقيقية ( ولقد رآه نزلة اخرى عند سدرة المنتهى ) وليس ضعفها رؤيته لاناس يعذبون اما لكسلهم عن الصلاة او لممارستهم المعاصي كالربا وغير ذلك وليس اخفها رؤيته للجنة والنار كل تلك الغيبيات التي فتحت سجلها له وله وحده من الخلق كانت بعض آيات الله الكثيرة المثيرة والمثيرة كانت رحلة عجيبة مدهشة عبر عن ذلك الله بقوله سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى )

أي تنزه وتفرد من صنع تلك الرحلة التي دلت على قدرة صاحبها كل تلك العجائب والغرائب لتقوي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله معك في المرحلة القادمة فلا يأس ولا خوف.

سياحة وتسلية
وتلمح في الرحلة بعدا اخر هو تعزيز الرسول معنويا وترويحه والتسلية عنه لقد كانت سياحة من الله لرسوله ولكنها كانت اعظم رحلة سياحية عرفها الوجود.

كان الرسول بحاجة الى تلك الرحلة بحاجة الى حنان ودفء واطمئنان بعد عودته من الطائف مشتوما وقد أدميت قدماه المباركتان كانت الرحلة عوضا عن رحلته الارضية التي ظاهرها الفشل هذه الرحلة السماوية العلوية فإن كذبه اهل الارض صدقه اهل السماء والانبياء.

كانت اظهارا لرضا الله عنه ولك ان تتصورحين يرضى عنك من تحبه ويكرمك ما شعورك مع فارق التمثيل طبعا.

مكانة الرسول وامته
وفي الاسراء والمعراج اظهار لمكانة رسول الله في عدة مقامات اهمها تقدمه للصلاةة بالانبياء اماما ولو لم يكن افضلهم لما قدمه جبريل بأمر الله ولما عرج به الى السماء وجد كل نبي في سماء وهو يصعد ويصعد حتى تخلف عنه جبريل لانه لكل مقام معلوم صعد الى الملأ الاعلى علوا لم يعله غيره من الخلق فدل على انه افضل الخلق لان العلو الحسي دليل العلو المعنوي في مثل هذا المقام.

فلم لا نكون خير امة وقد اكرمنا الله بخير الانبياء وبذا تثبيت منزلته السامقة وقد لبى الانبياء دعوته قال تعالى واذ اخذنا ميثاق النبين لما اتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم واخذتم على ذلكم اصرى قالوا اقررنا قال فاشهدوا وانا معكم من الشاهدين).

فلما لا نعتز بدين هكذا حالة وهكذا ريادته فالامة الاسلامية لها الريادة بدليل تقديم رسول الله ولها القيادة والسيادة ومتى تخلت عن ذلك خرب الكون في قيمه ودينه ونواميسه وما شاهدناه اليوم من تلوث اخلاقي وقيمي وبيئي واجتماعي دليل ذلك وبرهان.

وحين ربط الاسراء بين اقدس الاماكن دليل ان الاسلام ورث كل الاديان في الارض بل وفي معراجه رمز ان الاسلام هو دين اهل السماء والارض انه بأبسط تعبير دليل عالمية هذا الدين للناس كافة رحمة للعالمين وعليه فالمسلمون مسؤولون عن تبليغه لكل الناس اعلاميا وسلوكيا ودعويا وخلقيا وما احوجنا الى الدعوة الصامتة في زمان هكذا يرفس في انحلال وتفسخ خلقي!

ما احوجنا الى قدوة ونموذج يعمر الكون فيحتذى به.

الصلاة .. المعراج المتاح
وفي الرحلة كان فرض الصلاة دليل على ريادتها على العبادات جميعا فكل الفرائض فرضت عن طريق الوحي بواسطة جبريل الا الصلاة فانها فرضت مباشرة من الله.

كانت امرا جللا حين استدعى الله سفيره للناس محمدا صلى الله عليه وسلم الى السماء ليخبره بها عرج الرسول بروحه وجده الى السماء لتكون الصلاة التي هي معراج المسلم بروحه الى ربه هذا ليس وهما فكم سمعنا من اخبار السلف ممن كان يمرض فتبتر ساقه او تقطع يده وهو يصلي دون ان يحس لانه في لذة اللقاء بربه منتعشا خاليا من الدنيا.

نعم الصلاة التي هي رأس الاسلام وعموده وهي الصلة بين العبد وربه وهي آية محبة العبد لربه او هي اعلى منحة للرسول واحلاها فالمعراج ليلة الوصل بين الخالق ورسوله وفيها فرض الصلاة التي هي خيط الوصل بين الخالق واي عبد من عباده.

وهي العبادة الوحيدة التي لا يعذر المسلم عن ادائها فأن لم يستطع قائما صلى جالسا او قاعدا او مضجعا او حتى اشارة او رمشة عين المهم على قدر استطاعته.

(ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)

ونبه الله على اهمية صلاة الجماعة حين صلى الرسول بالانبياء في الاقصى جماعة ومن المسجد محل صلوات الجماعة كانت بداية الرحلة ومعبرها فالمسجد احب بقاع الله اليه.

كل المنطلقات كانت المساجد كانت اقرب الاماكن الارضية من السماء ولذا كان المعراج منها والمسجد في التاريخ الاسلامي دار العبادة ورمز امة ومدرسة علم وثكنة عسكرية وقبة شورى وخيمة قضاء له الريادة والقيادة في كل مكان وزمان وما الذل الذي نعيشه اليوم الا افراز واحد من افرازات ابعاد المسجد عن هذه المكانة التي مكنه الله فيها فهل من عودة للمسجد ولمكانته!

روابط وحبال
وكانت الرحلة رباط وصل للبشرية من آدم حتى محمد على مدى تاريخها وصل الاديان لتكون جميعا لتكون معا تصب جميعها في الدين الخاتم دين الاسلام لانها في حقيقتها دين واحد تنادى بالتوحيد دعوة للتواصل والتسامح والالتقاء.

ولن تلتقي الديانات الا اذا كانت النوايا سليمة متجهة لله وحده في مسجده كما التقى الانبياء في المسجد رمز الاسلام فكان الرسول اماما وهكذا فالاسلام يرفض التحاور مع الاديان اذا نظرت اليه نظرة دنيوية بل يصر على تميزه وعزته وهويته دون تنازلات ومهادنات وملاينات.

وفي الحادثة ربط السماء بالارض فخالقها واحد وفي معراجه صلى الله عليه وسلم دليل على سمو المسلم ومكانته وارتفاعه بروحه فوق الاهواء ليحلق بعيدا فوق شهواته لاننا امة التوجه والدعوة.

كما استنبط العلماء من الرحلة دليلا على امكانية ارتياد الفضاء معتبرين رسول الله اول رائد فضاء سبح في الكون وارتفع لم ولن يبلغه غيره من البشر.

الاقصى وفلسطين
وكانت رحلة الاسراء والمعراج ابرازا لمكانة الاقصى ( اولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى سيد الثقلين ) والله يقول: ( الذي باركنا حوله) ولم يقل باركنا فيه بيانا لقدسية فلسطين كلها ارض النبواءات ومدفن الانبياء ومعرض الشرائع ومبعث الديانات والمقدسات بيانا ان الاسلام ورث كل ذلك ولن يقبل غير الاسلام وريثا لها او محاميا ومدافعا عنها.

ومن الاقصى كان معراج الرسول وكأنها اقرب بقاع الارض الى السماء

يا قدس يا مدينة تفوح انبياء

يا اقرب الدروب بين الارض والسماء

وفي الرحلة ربط بين قضية المسلمين والنبوة الخاتمة وبين القدس فالرسول كان يمر بمرحلة حرجة من تكذيب وحزن فإذا الرحلة تحمله للاقصى ليشاركه الوجع والقضية.

وفي الرحلة تذكير دائم ما دامت السماوات والارض بالاقصى والقدس وفلسطين كل عام ترد الذكرى فتبعثنا ارواحا بأجنحة قرآنية تطير الى تلك الاعراض الطاهرة فكيف ننساها؟ تربطنا بهويتنا وعقيدتنا وديننا لتذكرنا على الدوام ان الاقصى جزء لا يتجزأ من دولتنا وحضارتنا وتاريخنا لا يمكن التنازل عنه بأي شكل من الاشكال.

لقد كان رسول الله الفاتح المعنوي لفلسطين اذا كان عمر الفاروق هو الفاتح السياسي وعليه ففلسطين وقف اسلامي لكل مسلم الى يوم القيامة لا يستطيع احد ان يتنازل عنه لأنه لا يملكه ولعنة الله على اتفاقية تخون امانة الله.

ختاما:
ان هذه الذكرى تدفع ملتقيها الى تذكر اشخاصها وشخوصها وامكنتها ووقائعها ليخرج بدلالات اوسع وارحب من هذه العجالة السريعة الخاطفة لأن الحدث متجدد في روحه ومعناه كلما جاءت سنة جاءت بأحاسيس ولطائف اخرى ولولا الوقت والمساحة المخصصة لأطلت ولكن عذرا اطلت ولا اختم لا بكلمات نهديها الى الاقصى القصي

يا اخا الكعبة والبيت المطهر

يا حبيبا

حبه في خافق الامة ازهر

حبه اوضح من ناحية الشمس واظهر

يا صدى ذاكرة التاريخ والماضي والمعطر

ايها الاقصى الذي ننعشه ( الله اكبر)

مقلة الاسراء ترنو

ويد المعراج تمتد وتدنو

وفم الامجاد يدعوكم بأصوات الاوائل

اكسروا هذي السلاسل