>>>>>>الرومانسي <<<<<< حكاية صامتة

---------------------------------

كنا قد تشاجرنا هذا الصباح ، على أمر سخيف .
أعترف أني كنت البادئ بالاستفزاز .

قلت لها : - لماذا لا أسمع منك كلمة حالمة ، شيئا من تلك الرومانسيات ، التي تملأ حياة بعض الناس ، فتجعلها وردا وقوس قزح ..؟

صوبت نحوي نظرة باهتة ،

ثم قالت بسرعة : - "الشاهي ناقصة حلا" .

قلت ، وقد بدأت وتيرة صوتي تعلو : - "حياتنا كلها ناقصها حلا" .

أخذت ترتب أطباق الطعام أمامي ، دون أن تتكلم ، فبلغ الغيظ مني أقصاه ، فأهويت بقبضة يدى على معصمها ، وأطبقت عليها بشدة وأنا أهزها ،

والكلمات تنطلق كالضجيج من فمي : - لمـاذا لا تسمعيني كلمـة حـب واحدة ، لماذا تقتلين حياتي ومشاعري المتأججة ، بهذا البرود .. ؟ لماذا .. لماذا ..؟

وأنطلقت أعدد عليها ما تحتاجه صحراء قلبي المجدبة . حدثتها عن العطش ، عن الجوع ، عن أحلام قتلها الصقيع ... عن الحب ، يموت ظامئا .. جائعا .. تائها ، لا عينين يأوي إليهما . كانت يدى تطبق على يدها ، ولم أشعر أني قد آذيت معصمها في غمرة إنفعالي ، مما أراه سكونا بلـيدا ، مميتا ، في مشاعرها تجاهي .

لم أدرك ذلك ، إلا حينما رأيت وجهها ينطق بكل معاني الألم ، وهي تقول لي بصوت متهدج : "يدي .. يدي .. أرجوك ، لقد أوجعتني" .

أطلقت يدها ، وسيطر على شعور بالندم ، وأخذت أتأملها ، وهي تغالب الدمع ، وتمسح يدها بيدها الأخرى .

قلت في نفسي : - (كيف يؤذي من يطلب الحب) ؟ كان واضحا أن يدها تؤلمها ، إذ لم تستطع أن تستخدمها في إكمال إفطارها . ولاحظت أيضا ، أنها على وشك أن تبدأ معي معركة ، فقد كانت متوترة ، وملامحها توحي بالرغبة في الرد على إتهاماتي وعدواني . في دخيلة نفسي كنت أريد معركة من هذا النوع ، لأدينها ، ولأؤكد لها ، أنني (أنا) الإنسان المعطاء ، وهي تمثال من الشمع ، بلا مشاعر . سادت لحظة من الصمت ، خشيت خلالها أن تنطفئ جذوة انفعالها ،

فقلت مستفزا :

- يا ضيعة احلامي . أنت تتحسسين يدك ، ومرهم كفيل بأن يحل المشكلة ، أما أنا فكيف أداوي قلبي الذي تيبس من الجفاف ..؟ رمقتني بنظرة عميقة ، لم أعتدها منها ،

ثم قالت ، وقد أختفت كل معالم التوتر من وجهها : - هل تظن أني لو لم أكن أحبك ، سأبقى معك دقيقة واحدة ..؟

نزلت عبارتها كالصخرة على صدري : "إذن هي التي تقرر أن تبقى معي أولا تبقى ، وليس أنا . وبالتالي ، فمفهومها للحب هو الذي يحدد استمرار العلاقة بيننا" .. هكذا خاطبت نفسي . لماذا لا تفهم أنـي أنـا لي رؤيتي الخاصة ، في أن نبقى معا أو لا نبقى ؟ لماذا لا تدرك أني أنا أيضا بحاجة لأن أحبها ، لكي أبقى معها ؟ إذا كانت تحبني وفق تصورها الخاص ، لماذا لا تمنحني الحق في أن أحبها بالشكل الذي أريد كذلك ؟ ألست في النهاية سأحبها هي ، وليـس شخصـا آخـر ..؟

أليس مؤذيا أن تقول لإنسان : ساعدني كي أحبك ، فيكون الجواب : لا عليك أنا أحبك ؟ ها هو يوم جديد ، وجولة من الإحباط جديدة ، وفشل يتراكم . في الظهر ، أثناء رجوعنا إلى البيت من مقر عملها ، حيث تعمل معلمة في مدرسة في حي فقير ، رأيت على جانب الطريق إمراة تمشي ، مسرعة الخطا ، حافية القدمين . كان يوما لاهبا ، أشعر فيه أن السيارة تئز تحتي من شدة الحرارة . كان منظر المرأة ، وهي تسير حافية على القار ، الذي سال بعضه ، وتشقق البعض الآخر ، من هول الحرارة ، التي تصبها الشمس على الأرض ، يثير الألم .

إلتفتت إلى حيث كنت أنظر ، فأبصرت المرأة ، وقالت بأسى : - لحظة .. لحظة قف قليلا . حينما أوقفت السيارة ، فتحت الباب ونزلت باتجاه المرأة . مر بعض الوقت ، وأنا لا أدري لماذا نزلت ، ولا بماذا تتحدث مع المرأة ، وفجأة ، رأيتها تنزع حليها من يديها وتعطيها المرأة ، ثم أتجهت إلى السيارة ، وقالت لي : - معك نقود ؟ - كم تريدين .. قلت لها ؟ - الذي معك .. أجابت .

أخرجت من محفظتي الف وسبعمائه ريال ، هي كل ما معي ، وناولتها إياها ، فاتجهت إلى المرأة ووضعتها في يدها ، وتبادلتا بضع كلمات ، لم أسمعها ، وعادت إلى السيارة .

قبل أن تركب ، استدارت فجأة نحو المرأة ، وقالت : - خاله .. حين ألتفتت المرأة ، خلعت حذاءها ورمته تجاهها . لم يصرفها عن النظر إلى يدي المرأة البائسة ، اللتين رفعتهما إلى السماء ، بعدما وضعـت الحذاء في قدميها ، اللتين أكلهما القار الحار ، إلا لهيب الرمضاء الذي أحرق قدميها ، وجعلها تتقافز ، كحمامة حطت على صفيح ساخن . ركبت ، وخيم الصمت بيننا . هي ، أظن أنه قد ألجمها الموقف ، وصدمة التأثر ، لتعاسة هذه المرأة البائسة .

أما أنا فقد خجلت من نفسي : "أهذا الكيان الشامخ بلا مشاعر ؟ كم كنت ساذجا ، حينما كنت أغمس يدي في هذا المحيط ، ثم أعيدها متأففا انه بلا محار ... وبلا لؤلو" . حينما وصلنا إلى البيت ، أستأذنتها لحظة بعدم النزول ، ودخلت البيت وأحضرت لها حذاء ، ولم أتكلم ، ولم نحتج إلى الكلام مرة أخرى .
-----------------------------------------