منظر عجيب لا يمكن ان يتقبله أحد، امرأة عجوز تقبع في السجن، هل هذا يعقل؟ امرأة يشع وجهها بالنور والصفاء، ماذا فعلت؟ وأي جريمة ارتكبت لتستحق الدخول إلى هذا المكان البائس؟ لا يمكن لمن يراها ان يكتم فضوله ويمنع نفسه من التوجه اليها بذلك السؤال الكبير، كيف دخلت السجن؟ ماذا فعلت؟ ذلك المظهر الطيب لا يمكن ان يخفي وراءه الشر، لقد تعودت المرأة على ذلك، فالكل يتوجه اليها بنفس السؤال، تدمع عيناها وتزفر انفاسا محترقة وهي تقول: دخلت السجن بسبب ابني، فلذة كبدي، ادخلني السجن ليتخلص من وجودي في حياته·
في الحقيقة هي لم تفعل شيئاً يغضب الله والناس، كل ما فعلته هو انها ضحت من أجل ولدها الوحيد، ترى هل اخطأت عندما لم تتركه وهو صغير وضعيف وبأمس الحاجة اليها؟ لقد فعلت ذلك لانها كانت تعتقد بانه سيكون عونها وذخرها عندما تضعف قواها وتكون بأمس الحاجة اليه، لمَ كل هذا الجحود والعقوق؟ كانت تنتظر منه ان يصبح ملجأها وسندها في سنين عمرها الآخيرة، تتساءل باستمرار قائلة: هل استحق من ابني ما فعله بي؟ هل هذا العاق هو نفسه ذلك الصغير اللطيف الذي نما على صدري؟ ثم تأخذ بالبكاء والنحيب لوقت طويل تتقطع معها قلوب المحيطين بها وهم لا يدرون كيف يواسونها فلا احد يصدق ما فعله ذلك الولد العاق بأمه·
تحكي تلك المرأة حكايتها الغريبة قائلة: اصبحت ارملة وانا في السنة الاولى من الزواج، كان عمري وقتها سبعة عشر عاماً فقط وكنت حاملا به في شهري السابع، لا استطيع ان اقول بانني احببت زوجي، فانا لم أره طوال تلك السنة الا اياماً معدودات فقد كان يخرج مسافراً في تجارته إلى اماكن كثيرة، حتى انني لا اتذكر ملامحه جيداً··· المهم: بقيت عند اهله حتى اتممت ايام العدة وولدت طفلي، وكان ذكراً حملته بعد ولادتي عائدة إلى منزل أهلي·
طلب مني أخي - وهو المعيل لأمي واخوتي بعد وفاة والدي - ان اعيد ابني إلى أهل زوجي ليربونه بانفسهم فهو ابنهم أولا وأخيرا·· قال ذلك وهو يعتذر عن تحمل مسؤوليته ويحاول اقناعي بانني لا زلت صغيرة ويجب ان افكر بالزواج مرة أخرى·
رفضت ذلك بشدة فطردني من بيت ابي وقال لي: عودي لاهل المرحوم ولينفقوا عليك وعلى ابنك! عدت إلى أهل زوجي فرحبوا بي وتكفلوا بنا أنا وابني·
طلبات لاتنتهي
كرست نفسي لرعاية هذا الطفل اليتيم وصرت اعمل مثل الخادمة لديهم من أجل ان اوفر كل ما يحتاجه·
بعد مدة حاول أخي ان يعيد العلاقة بيننا، ولكنه عاد فتركني بعد ان رفضت خاطباً قد جاءني به وقد بذل جهداً لاقناعي بترك ابني بعد ان بلغ الثالثة من عمره وانني لازلت شابة في مقتبل العمر، وكان ان رفضت ذلك رفضاً شديدا، فقاطعني أخي أقسم أنه لن يدعني ادخل بيتهم ما دام حياً·
لم اكترث له كثيرا ورضيت التضحية بكل شيء من أجل أن يبقى ولدي في حضني وان لا اعرضه لاية ظروف تؤذيه، ادخلته المدرسة وصرت اتابعه بعناية واهتمام، ثم بعد ان كبر قليلاً وازدادت مصاريفه اضطررت للبحث عن عمل يكفيني ويكفيه، عملت كبائعة في أحد المحال وكان هو إلى جانبي يذاكر دروسه ويلعب بداخل المحل، عندما كبر واصبح ''يفهم'' قال لي بانه لا يريدني ان اعمل لان في ذلك احراجا له امام زملائه في المدرسة فيما لو عرفوا بان امه تعمل بائعة··! تركت العمل من أجله وصرت ابحث عن عمل جديد يرضيه فلم أجد، كان يلح عليّ في طلباته فاضطررت للاستدانة من هنا وهناك، فأنا لا اريد له أن يحس بانه اقل من باقي زملائه، تفاقمت عليّ الديون فحاولت اللجوء إلى اخي ليساعدني بعد ان اصبح ميسور الحال، ولكنه رفض ان يلقاني وقد رفض مساعدتي·
عدت مرة اخرى للبحث عن عمل جديد فكانت فرصتي مناسبة ووجدت وظيفة في مصنع كبير، كان العمل مناسبا، ولكنه يقتضي وجودي بعيداً عن ابني ساعات طويلة، مما جعله يتأخر في دراسته ،إذ يقضي وقته كله في اللعب واللهو بلا رقيب، ضغطت على نفسي وجمعت مبلغاً طيباً من عملي وقمت بفتح دكان بسيط لبيع الملابس· صار هذا العمل مناسباً لانني كنت اقضي معظم الوقت مع ابني في المحل وصار هو يستفيد من تعلم التجارة وطرق التعامل مع الزبائن، بعد فترة تحسن وضعنا الاقتصادي فطلبت من ابني ان يتفرغ لدراسته خصوصاً وانه قد اصبح في الثانوية، ولكنه رفض ذلك واخبرني بانه يريد ان يترك دراسته ويتفرغ للعمل لانه يعشق التجارة وهو شاطر جداً فيها وأكد لي بانه يستطيع ان يطور المحل وان يزيد من دخله، وطلب مني ان اترك العمل كله له من أجل ان يريحني، رفضت ذلك واصررت على البقاء معه ووافقت بان يترك الدراسة ويتفرغ للعمل وأنا غير مقتنعة تماماً لاصراره وعناده·
بعد مدة تحسن الحال كثيراً وصار لدينا المال الكافي لشراء منزل وسيارة جديدة، وهنا طرأت على ابني بعض التغيرات الواضحة التي لفتت انتباهي فاستدرجته بالكلام اللين حتى عرفت بانه يحب فتاة ما ويريد ان يتزوجها، فرحت وباركت الامر مثل اي أم وذهبت لكي اخطب له البنت، كنت اتوقع ان الموضوع سهل لأن البنت تحبه ايضا وانها بالتأكيد تستطيع اقناع اهلها بالموافقة على هذا الزواج، ولكن الامر لم يكن كما توقعت، فقد اعتذر أهل البنت عن عدم الموافقة لانهم من العائلات التي لا تزوج بناتها الا لاشخاص من العائلة نفسها·· تفهمت وجهة نظرهم وعدت لاقنع ابني بان هذه الفتاة ليست من نصيبه·
الاخطاء تتوالى
لم يكن ولدي مستوعباً لهذا الامر وراح يضع احتمالات أخرى لرفض اهل البنت، اولها: انني اعمل في المحل وفي هذا عيب كبير· وصار يلومني لانني أنا السبب في تعاسته· تجاهلت اسلوبه الجارح واقنعت نفسي بان هذا كله بسبب شعوره بالاحباط لانه لم يتزوج الفتاة التي احبها·
بعد مدة طلب مني الجلوس في المنزل وترك مسؤولية العمل له وحده ففعلت ما أراد شرط ان يوافق على الارتباط بفتاة اخترتها له بنفسي كنت افكر بان زواجه سيجعله ينسى ازمته السابقة ويجعله يحس بالاستقرار اكثر، وافق على رأيي فقمت بتزويجه بسرعة قبل ان يغير رأيه·
بعد الليلة الاولى من الزواج رفض ان ينام بنفس الغرفة مع عروسه وصار يتهرب منها بلا مبرر، حاولت أن اؤثر عليه واقنعه بان ما يقوم به هو خطأ كبير بحق الفتاة التي لا ذنب لها فصار يحملني مسؤولية ذلك الخطأ لانني انا التي ارغمته على الارتباط بها بلا قناعة كاملة منه·
هجر البنت لشهر كامل فعادت لمنزل اهلها وطالبت بالطلاق وهي في أسوأ حالة نفسية لانها ارتبطت برجل لا يريدها·
اسرع ولدي الى تطليقها، فأصبحت في موقف محرج مع أهلها ومع الناس، هذا بالاضافة للديون التي تحملتها بسبب انفاقي على عرسه باقتراضي من البنك·
لم يكترث بشيء ولم يستوعب الموقف الذي وضعني فيه، فعانيت وحدي لمواجهة تلك الأمور· بل انه بعد اقل من سنة جاء ليخبرني بانه قد احب فتاة وأنه يريد ان يتزوجها، فلما قلت له بان وضعنا المادي لا يساعد على اقامة عرس جديد ·قال: إن ذلك الزواج لن يحتاج إلى مصاريف كثيرة···!
ختامها··''مسك''!
استغربت وطلبت منه التعرف على تلك البنت فاحضرها لي، صدمت صدمة كبيرة عندما رأيتها··إذ ان منظرها الدال على الابتذال والاستهتار بعيد جدا عن النقاء والبراءة ثم انها ليست من مجتمعنا ولابيئتنا ولا تصلح ابداً ان تكون أماً لاحفادي· رفضت ذلك الزواج وصرت اتوسل اليه وأنا ابكي من أجل ان يتراجع عن تلك الفكرة·
تظاهر بانه تراجع ولكن الحقيقة كانت غير ذلك، فقد اخذ يخطط هو وتلك المرأة المبتذلة للتخلص مني والحصول على المال بأي طريقة، ولا اعرف إلى الآن كيف اقنعني بعمل توكيل له فقام ببيع البيت والمحل واخذ المال وسافر مع تلك المرأة إلى بلدها·
فعل ذلك ولم يفكر لحظة واحدة بان عليّ ديونا بنكية مستحقة عن القرض الذي اخذته لتزويجه وانني لا املك مصدرا آخر للرزق سوى ذلك المحل الذي قام ببيعه، لم يفكر بانني سأدخل السجن عند عجزي عن دفع الاقساط وانني ساطرد في الشارع بعد ان أُخرَج من بيتي، لقد دمرني تدميراً كاملاً دون لحظة تفكير واحدة بما سيؤول له امري·
فجأة وجدت نفسي امام مأساة ضخمة لا استطيع ان اتحملها لوحدي ابداً، حاولت ان استنجد بأهلي ومعارفي ولكنهم لم يستطيعوا فعل شيء سوى دفع بعض الاقساط لشهر أو شهرين، بعدها كان لزاماً عليّ دخول السجن·· اخذتني الشرطة بعد ان بلّغ عني البنك وأنا في حالة صعبة للغاية، حاولت ان اشرح للضابط المسؤول حقيقة وضعي ولكنه اخبرني بان ''القانون لا يحمي المغفلين''· نعم لقد كنت مغفلة فعلاً عندما وثقت بابني قُرة عيني واعطيته توكيلاً ليتصرف بحرية بكل ما أملك·
إنه وحيدي الذي بعت من أجله كل ايام عمري وشبابي وسعادتي، حرمت نفسي من كل شيء واعطيته ما يريد، وها هو يجازيني عن تضحيتي هذا الجزاء المر·· أدخلني السجن وأنا في الستين من عمري مثقلةً بامراض كثيرة، انه يعرف جيداً ان صحتي لا تحتمل كل ذلك·· وا أسفي عليك يا ولدي·
الشيء العجيب هو انني بعد ان قضيت مدة في السجن تعاطف معي الكثيرون وصاروا يجمعون المال من هنا وهناك ليسددوا عني القرض واخراجي من هنا، الى ان سمع اخي بما حدث لي وجاءني لائماً معاتباً لانني وصلت إلى هذا المكان وهو لا يدري عني شيئا، وأخيراً وعدني بانه سيدفع ديوني كلها وسيخرجني من السجن خلال ايام قليلة بإذن الله·· الحقيقة انني لم اكن اتوقع بأن أخي الذي قاطعني كل تلك السنين سيكون هو حبل نجاتي الذي سينتشلني من هذا المأزق المظلم الذي أوصلني اليه ولدي
·





:icon6: الكووول :icon6:


وين مشاركاتكم؟؟؟؟؟