إنَّ الأزمة الشديدة والندرة الظاهرة في القيادة على مر تاريخ هذه الأمة يدفعنا دائماً للتساؤل وبقوة لماذا لا يكون عندنا أمثال القادة العظام ؟
لماذا لا يكون عندنا مرة أخرى عمر بن عبد العزيز أو نور الدين محمود أو عثمان الأول أو صلاح الدين ؟ ثم يأتي بعده التساؤل الحتمي للاستفادة من هذه الدراسة وهو كيف يكون عندنا هذا القائد ؟

فحري بنا أن نستعرض البناء التربوي لأحد القادة الربَّانيين العظام
وسوف نتجاوز في دراستنا مرحلة القرون الثلاثة الفاضلة حتى لا يتحجج البعض بخيرية الزمان وسهولة الإعداد وقتها وأنَّه كلام لا يناسب واقعنا المرير .


في ميادين الجهاد.وقائدنا موضوع الدراسة هو السلطان محمد الفاتح .
هو السلطان محمد خان الثاني بن مراد الثاني العثماني فهو السلطان السابع في سلسلة آل عثمان المُلقب بالفاتح وأبي الخيرات وُلِد سنة 833هـ وكان ترتيبه الثاني في إخوته حيث كان يسبقه أخ له اسمه علاء الدين استشهد

تَرَبَّى محمد الثاني منذ نعومة أظفاره على معاني البطولة والجهاد والقيادة والصلاح فقد كان أبو السلطان مراد الثاني يُربِّي أبنائه ليكونوا قادة عظاماً يحملون الراية من بعده , لذلك فإنَّ أباه عَهِدَ به لعدد من المُربِّين والعلماء الأفاضل لتربيته على القيم الإسلامية والمعاني الجهادية ولقد لاحظ أبوه أنَّ محمداً به ميل للترف واللهو وأنَّه لا يستجيب لمعلميه فسأل مراد الثاني عن مُعَلِّم ومربٍّ يستطيع أن يُسيطر على الفتى محمد فقيل له العالم الربَّاني المولى 'أحمد بن إسماعيل الكوراني' فأحضره مراد الثاني وأعطاه قَضِيبَاً ليضرب به محمداً إذا لَمْ يَتَعلَّم مِنه فذهب الكوراني لمحمد ودخل عليه والقضيب بيده فقال له 'أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري , فضحك محمد مِنْ ذلك الكلام فضربه الكوراني في ذلك المجلس ضرباً شديداً حتى خاف منه وختم القرآن في مدة يسيرة ثم عَلَّمه العلوم الإسلامية وقرأ عليه كتب التاريخ وظهر نبوغ محمد على سائر الأمراء واستطاع أن يتقن ثلاث لغات هي التركية والفارسية والعربية.


حرص السلطان مراد الثاني على الدفع بولده الصغير منذ أن كان في الثانية عشرة من عمره للمراكز القيادية ولمَّا رأى مراد من ولده كفاءة وحُسن قيادة رَقَّاه إلى مكانة سامية فتنازل عن السلطنة بأسرها ومحمد في الرابعة عشرة ودخل مراد في خلوة للتعبد والتأمل ولكن لم يترك مشروعه لإعداد قائد عظيم يتعرض لتيارات الأعداء والمعارضين داخلياً وخارجياً بل ظلَّ يُرَاقب مشروعه عن كَثَب ليتدخل في الوقت المناسب وبالفعل تدخل مرتين مرة عندما أعلنت أوروبا الصليبية الحرب على العثمانيين لصغر سن سلطانهم فخرج مراد مِنْ عزلته وقاد المسلمين لانتصار ساحق على الصليبيين في موقعة فارنا في 28 رجب 852 هـ ثم عاد مرة أخرى لِخَلْوَتِه وترك ولده محمداً سلطانًا على البلاد ثم خرج مرة أخرى عندما حدثت اضطرابات داخلية على يد الجنود الانكشارية الذين اسْتَضْعَفُوا سلطانهم وخرج لهم مراد وأدَّبَهُم.

- إنَّ إعداد القائد ليست مسألةً عَفَوية تُتْرَك لأقدار الله دُونَما تخطيط وأخذ بالأسباب أو إنَّها مسألة نبوغ فردي شخصي لفرد يقتحم الصفوف وحده حتى يَصِلَ إلى سُدَّةِ الحكم والقيادة بل هي عملية شاقة وطويلة تبدأ منذ نعومة الأظافر لتنمية الملكات واكتشاف المهارات وصَقَْل القدرات في عملية متتابعة لتنشئة القائد المرجو .

- إنَّ هذا الإعداد لا يقتصر على الجانب الديني والوازع الإيماني فقط بل هي عملية بناء متكامل لقائد سوف يسوس أمة تعيش حياتها وتحتاج من يصلح لها حياتها كما يحفظ لها الدنيا المليئة بالكثير من المتغيرات والمستجدات التي تحتاج للجمع بين الأصالة والحداثة .

- إنَّ التدريب العملي لوظيفة القائد هي التي سوف تُظْهِر مدى سلامة وجدية المشروع القيادي ومدى صحة النموذج المطروح لذلك فإنَّ البعض إذا كان خارج الولاية لم يَبدْ مِنه أي شائبة أو ناقصة ولكنَّه إذا دفع به الأرض الواقع وميادان التجربة تظهر عيوبه وخروقه لذلك فلقد حرص الوالد مراد على اختبار الابن محمد فدفع به أولاً لمنصب الولاية على مقاطعة صغيرة ثم دفع به بعد ذلك لأعلى درجة 'السلطنة' ثم لم يتركه وحده يعاني مرارة التجربة وقسوة الاختبار بل ظل يسانده حتى اشتد عوده.

العالم أحمد بن اسماعيل الكوراني :

الذي تولى تحفيظ محمد القرآن وقراءة الكتب الشرعية وربَّى محمداً على تعظيم أوامر الله والتزام حدود الشريعة والتقوى والصلاح وكان هذا المُربِّي الفاضل يُمزِّق الأمر السلطاني إذا وجد به مخالفة للشرع ولا ينحني للسلطان ويخاطبه باسمه مباشرة ويصافحه ولا يُقبِّل يده لذلك فإنَّا نجد أَثَر هذه التربية الصحيحة على محمد فنجده عند ولايته يُعظِّم الشرع وعلماء الدين وأهل الورع والتقى حتى كاد أن يقتل أحد أتباعه لأنَّه قد قام بضرب أحد القضاة ورفض تنفيذ حكم الشرع الذي قضى به هذا القاضي , ونجد أن محمد الفاتح يجعل حاشيته وبطانته وخواصه من العلماء والصالحين وكان لا يسمع عن عالم في مكان أصابه عوز أو إملاق إلا بادر بمساعدته وكان من عادته في شهر رمضان أن يعقد مجلساً بعد صلاة الظهر يحضره العلماء المُتبحرين في التفسير فيقوم كل مرة واحد منهم بتفسير آيات من القرآن الكريم ويناقشه باقي العلماء وكان الفاتح يشاركهم في ذلك , ويُذْكر عنه أنّه لما انتصر على زعيم التركمان حسن الطويل وكان هذا الرجل دائم العدوان والغدر والتحالف مع أي ملة ضد العثمانيين أمر الفاتح بقتل الأسرى إلاَّ مَنْ كان مِنْ أهل العلم والمعرفة مثل القاضي محمد الشريحي الذي خرج مُكْرَها مع الطويل وكان هذا العالم مِنْ فُضَلاء زمانه فأكرمه الفاتح لعلمه رغم عدوانه .

أما المُعلِّم الثاني هو الشيخ محمد بن حمزة الروحي الملقب بأق شمس الدين :


وكان لهذا الشيخ أعظم الأثر في حياة القائد محمد الفاتح حيث ربَّاه على أمرين عظيمين :

1- مضاعفة حركة الجهاد العثمانية .

2- الإيحاء دوماً لمحمد منذ صغره بأنَّه الأمير المقصود بالحديث النبوي( لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش ) حتى تَشبَّع فِكْر محمد على أنَّه المعنيُّ بهذا الحديث وكان أول ما فعله بعد ولايته الإعداد لفتح القسطنطينية وقد كان.

حتى أن أهل التاريخ يقولون إن الشيخ أق شمس الدين هو الفاتح المعنوي للقسطنطينية وهذا الشيخ هو الذي عَلَّم الفاتح العلوم العلمية من الرياضيات والفلك والتاريخ وأساليب الحرب وأعطى للفاتح درساً في صغره لم ينساه أبداً يَدُلُّ على مدى فهم هذا الشيخ لمعنى تخريج وتربية قائد رباني فلقد استدعى الفاتح يوماً ثم قام بضربه ضرباً شديداً بلا سبب وبكى الفاتح بشدة وظل يتذكر تلك الواقعة حتى لمَّا تولى السلطنة أيام أبيه مراد استدعى شيخه أق شمس الدين وسأله بغضب شديد 'لما ضربتني يوم كذا ولم أكن قد فعلت ما أستحق عليه الضرب؟' فقال له شيخه : 'أردت أن أُعلِّمك كيف يكون طعم الظلم وكيف ينام المظلوم حتى إذا وُلِّيْت الأمر لا تظلم أحداً' فما كان من الفاتح إلا أن اعتذر لشيخه وقَبَّل رأسه ويده.

وعندما أراد الفاتح بعد فتح القسطنطينية أن يعتزل ويتفرغ للعبادة سأل الشيخ أق فقال له الشيخ 'إنك إذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها وما أنت فيه أفضل من دخولك للخلوة والتعبد' وهذا فهم عظيم من هذا المربي الصالح.

وهكذا ربى هذا العالم الرباني تلميذه النجيب ليتولى القيادة على معاني عظيمة وربطه بهدف أسمى يسعى إليه ويوجه إليه كل طاقاته وذلك بالقطع في صالح الأمة بأسرها.
منقووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووول