الفصل العاشر
ظل رنين الجوال يتردد في المسجد الساكن، حتى بدأ بعض المصلين بالتنحنح عندما طال وصدهم عن الخشوع، فامتدت يد حمد المرتبكة وأغلقته.
" هل هذا أبي؟ لا... ربما أمي؟ لا... لا إن شاء الله، يمكن أحد الشباب، أو يمكن واحد غلطان، طيب... لو صار أبوي، مصيبة... يمكن يطلب مني الحضور إلى المنزل لسبب ما، يمكن يكون جدي جاء للرياض مثلا ً، ويبي يشوفني ويسلم علي قبل رحيله المتعجل كعادته، سبحان الله... هكذا بلا موعد ولا ترتيبات، يأتي ومطلوب منا أن نأتي لو من آخر الدنيا عشانه، ولكن لا... لا... مستحيل جدي يجي في مثل هذا الوقت من السنة، أكيد أمي، ولكن ماذا تريد؟ هي لا تتصل عندما أكون في البر، ربما هي هيلة، نعم... نعم... هيلة، هي التي دأبت مؤخرا ً على الاتصال بي من وقت إلى آخر وخصوصا ً بعدما شاهدت برنامجا ً سخيفا ً عن العلاقات بين الإخوان وتقويتها، أف... هذا وقت علاقات، الله يصبرنا على تقليعات البنات بس، يوم يوجعن رؤوسنا بطلباتهن ومشاويرهن، ويوم ثاني يقرأن مجلة وإلا يشوفن برنامج وينزل عليهن الحنان من السماء السابعة، ويبدأن بالتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، أف... طيب... آآآآ... المفروض ما أستعجل يمكن واحد غلطان، يمكن العجوز اللي تتصل علي من فترة تسأل عن ( أم فالح).... "
( السلام عليكم و رحمة الله... السلام عليكم ورحمة الله) قطع الإمام عليه هواجسه، فقام ليكمل ما فاته ثم تنبه عندما استوى واقفا ً إلى أنه لم يفته شيء، وأنه الوحيد القائم في الصف الأول، فعاد للجلوس وسلم وقد احمر وجهه من الحرج.
التفت إليه سعد مستغربا ً وعلى شفتيه ضحكة خبيثة يداريها، فهب حمد حتى من دون أن يأتي بالأوراد، وخرج من المسجد مسرعا ً، وسحب الجوال من جيبه، كانت شاشة الجوال فارغة، هذا معناه أنه قطع المكالمة في وجه المتصل، ارتجفت أصابعه وهو يقصد ( سجل المكالمات) ثم ( المكالمات المستلمة)، وانتظر ثانية قبل أن يظهر اسم مروان كآخر متصل.
انفجر حمد حنقا ً " الله يغث هالعلة... وش يبي هالدب؟" ثم ضغط على زر الاتصال، وعندما جاءه صوت مروان على خلفية هواء وضحك، قال حمد بغل ومن بين أسنانه:
- نعم؟
- السلام عليكم... هلا حمد.
- وعليكم السلام... نعم؟ وش تبي؟
- آلو... ما أسمعك... أرفع صوتك.
زعق حمد بشكل جذب انتباه بعض الذين خرجوا من المسجد:
- وعليكم السلام... وش تبي؟
- ايه... اسمعك الحين، كيف الحال؟
جذب حمد نفسا ً عميقا ً ليهدأ أعصابه المفلتة، ثم قال ببطء وهو يسيطر على توتره:
- هلا مروان... بخير، الحمد لله.
- أقول... ما أبي أزعجك، بس اليوم أنت تركتنا متعجل وكنت على غير طبيعتك، فقلت أتصل أتطمن عليك.
- الله يجزاك خير... لا الحمد لله الأمور تمام، وبجي لكم الليلة إن شاء الله.
- ننتظرك على العشاء؟
- لا... لا... بتأخر عليكم، تعشوا أنتم، بالعافية.
- الله يعافيك، أجل ما أطول عليك، مع السلامة.
- مع السلامة.
والتفت حمد ليجد عيون سعد المتسائلة خلفه، وخصوصا ً بعد خروجه المتعجل، وتصرفاته الغريبة، فقال وهو يبتسم بارتباك:
- اتصال غريب، وفي غير موعده.
- ههههههه، وش هالإتصال اللي يخليك تخبط في صلاتك، وتطلع من المسجد ركض.
ضحك حمد بحرج ولم يحر جوابا ً، فتجاوز سعد الموقف وعادا إلى المنزل.
* * *
خرجا إلى البحر عندما خفت الشمس، كان الشاطئ ممتلئ بالناس، أوقف سعد سيارته ونزلا وجعلا يمشيان والهواء يعابث ثيابهم، كان العد التنازلي للرحيل قد بدأت دقاته داخل عقل حمد، والطريق إلى الرياض يرتسم الآن في مخيلته، وسعد يحدثه في أمور شتى، ولكن حمد الآن بعدما رأى سعد وجلس معه، لم يعد يرغب سوى بالعودة قبل اكتشاف أمره.
جذبه سعد إلى مكان خال ٍ على الشاطئ، واقتربا من الموج الهادر حتى كاد يقتحم أرجلهما، ووقفا هناك يتأملان الأفق والمراكب الصغيرة المنتشرة أمامهم، قال سعد وهو يعب من الهواء:
- لا أجمل من البحر عند أهل السواحل، له تأثير يماثل تأثير البر لدى أهل نجد.
- صحيح... البر بحر نجد.
* * *
كان العصر قد انتصف عندما أوقف سعد سيارته بجانب سيارة حمد، ونزل يودعه، وضع يده في يده واحتفظ بها قليلا ً وهو يقول وقد وضع عينيه في عيني حمد:
- تشرفت بمعرفتك، وأشكر لك هذه الزيارة الجميلة، رغم قصرها، وسأزورك في الرياض قريبا ً إن شاء الله.
- أهلا ً وسهلا ً بك في أي وقت، وهذي الساعة المباركة.
- في أمان الله وتوصل بالسلامة.
- الله يسلمك.
وانطلق حمد، وكما قطع الطريق إلى الخبر وهو غارق في الهواجس، عاد أيضا ً وهو يطفح فيها، ولكنها كانت هواجس من نوع آخر، كان سعد يحتل تفكيره، لقد رآه، جالسه، تحدث معه، ولكنه لم يتعرف عليه حتى الآن، يريد أن يعرف أكثر، كل ما عرفه عن سعد مجرد مجموعة آراء أدبية، وشذرات غير ذات أهمية من حياته، يريد أن يعرف الأهم، مثل ما الذي صاغ تفكيره بهذه الطريقة؟ كيف وصل إلى ما وصل إليه وهو في هذه السن؟ وغير هذا كثير من الأسئلة، ولكن لم العجلة ستأتي الأيام بعجاجها.
انتقل تفكيره بعد هذا إلى روايته ذات الفصل اليتيم، هل يفعل ما قاله سعد؟ هل يعجل بقتل أحد أفراد العصابة؟ أم يثبت على قراره ويرجئ ذلك إلى الفصل القادم؟ أدرا الفكرة في رأسه ثم قر قراره على العمل باقتراح سعد، سيدع جهز يموت في الفصل القادم.
وهكذا مضى ينقل أفكاره ويكد عقله، حتى وصل إلى المكان الذي يترك منه الطريق المعبد ويخوض في الأرض المبثوثة حصى ونباتات برية ليصل إلى المخيم، ضيق عينيه وخفف سرعته ومضى تكلله سحابة من الغبار يخترق الطريق الذي اعتاده، حتى وصل المخيم والساعة قد أوفت على العاشرة مساءا ً.
تسلل إلى أذنيه صرير الحشرات الليلية مخلوطا ً بضحكات أصدقائه عندما نزل، تنفس بعمق ووقف بجانب السيارة في الظلام، ومرت في ذهنه لمحات من كل ما فعله خلال هذا اليوم العجيب، فكر في رحلته كلها، لقاءه بسعد، وطفت في ذاكرته وبلا سبب صورة للكرسيين الذين رآهما في حديقة بيت سعد.
طرد الأفكار من ذهنه ومشى إلى حيث يقوده وهج النار التي التف حولها صحبه، وعندما لاح لهم جاءه صوت مروان:
- هلا... هلا والله.
- السلام عليكم.
جاءه الرد بأصوات مختلطة، صافح الجميع وجلس مستدبرا ً النار، استل ناصر من دلو ملئ بالماء والبيالات (بيالة) صب فيها شايا ً وناولها له وهو يقول:
- والله وفقدناك اليوم يا أبو علي.
- الله يسلمك.
مروان: أبو سعود اليوم ضاق صدره عشانك مشيت، حتى أنه بغى ما يتعشى من ضيقة الصدر.
ناصر: هههه، أشوى أنه يأكل بيديه الثنتين.
ضحك حمد، فيما تململ عبدالعزيز وقال وهو يحدج ناصر بنظره:
- والله ما خلص العشاء إلا أنتم يا راعين الكروش، وخصوصا ً هالدب.
وأشار برأسه إلى مروان، الذي أشار بإصبعه إلى فم عبدالعزيز وقال وهو يتصنع الجدية:
- أبو سعود... فيه مايونيز على فمك.
مسح عبدالعزيز فمه، فأنفجر مروان وناصر ضحكا ً:
مروان: شفت أنك مشفوح، الله لا يبلانا بس.
ناصر: ههههه، ترى أبو سعود ضايق صدره أن الأكل باليمين بس.
* * *
عندما انفرد حمد بمروان حول النار، كان الليل قد انتصف والبقية قد أووا إلى فرشهم، قال مروان وهو يحرك النار الخابية بعود طويل:
- قرأت الفصل اللي أعطيتني إياه.
- وش رأيك؟
- بصراحة حلو.
- وش اللي عجبك فيه؟
- شف أنا ما عندي هرج واجد... ما راح أقولك مثل باقي الناس ( فضاء الرواية ينقلنا إلى عوالم أرحب، والتواجد الزمكاني للبطل يحاول التضافر مع عوامل السرد لنحصل على مزيج من الرتمية والحس الواعي) إلى آخر هالكلام الفاضي، أنا ما عندي إلا كلمتين حلوة أو مهيب حلوة، بس.
مرت في ذهن حمد صورة سعد وهو يستفيض في نقد فصله والكلام يتدفق من فمه، وقارنها مع صورة مروان الذي قال هذه الكلمات اللا مبالية وهو يمد رجليه في اتجاه النار وقد اتكئ على وسادة خلفه مفسحا ً المجال لكرشه لتتمدد للأمام، طرد المقارنة من ذهنه سريعا ً، وقال ليتجاوز الموضوع:
- وروايتك... متى بتنزلها؟
- قريبا ً... لا تستعجلها بتأكل الجو عليك أنت والكتاب بالمنتدى.
- ههههههه، يصير خير.
- إلا على فكرة، اليوم وش السالفة؟ ما كنت طبيعي الصباح، كنت ضايق صدرك وكان فيه شيء مثقل عليك، والآن مبسوط كأنه هم وزال عنك، عسى ما كان فيه مشكلة وإلا شيء؟
صمت حمد قليلا ً، ثم لم يدري لم انطلق لسانه لينهي إلى مروان بخبر سفره كاملا ً، ذكر كل شيء من بداية تعرفه على سعد إلى لقائه اليوم معه، أغفل فقط حكاية الروائية الجماعية لأنه لم يحن وقتها.
صمت مروان وتلقى الحكاية كاملة وهو يحرك الرماد والجمر، وعندما انتهى حمد قال:
- والله إنك مهبول... وشلون تسافر لواحد ما تدري من هو؟ ولا تعرف أي شيء عنه، وبدون ما تبلغ أهلك، أو حتى تبلغ أي أحد بمكانك، يعني لو لا سمح الله صارت لك مشكلة وشلون بندري عنك؟ المفروض بلغتني أنا على الأقل.
- والله إنك صادق... لكن ما جاء على بالي... كنت مستعجل فتصرفت بهالشكل.
- وبعدين هذي خاتمتها يالردي... تخلي ربعك وأخوياك كذا، وتسافر عشان واحد يكتب بمنتدى... يا خسارة تربيتي فيك.
- ههههههه، أقول ضف وجهك، أنت ما تربي ولا عنز.
- المهم... نصيحة لوجه الله، لا تصير مطفوق، مهوب كل واحد يعجبك كلامه و إلا كتابته تروح تركض له، ترى الواحد ممكن يكون أسلوبه في الكتابة ملاك، لكن لما تقابله تكتشف أنه شيطان في صورة إنسان.
- فعلا ً... يعني أنت مثلا ً يا مروان لما الواحد يقرأ لك يحس أنك فاهم، لكن لما يقعد معك يكتشف أنك ما عندك ما عند جدتي.
- الشرهة مهيب عليك الشرهة علي اللي أضيع وقتي معك... أقوم أنام أصرف لي.
ونهض فلحقه حمد وأطفأ النار، وعندما استوى حمد على فراشه، بدا له اليوم الذي مضى طويلا ً جدا ً وحافلا ً، و تواردت إلى ذهنه عندما تدلى في جب النوم صور كثيرة، مروان وعبدالعزيز يصنعان القهوة صباحا ً، جذع شجرة محروق طرفه وعلى الطرف الآخر نقشت ذكريات مجهولة، عامل بنغالي ذو سن مكسور في بقالة مغبرة، شواخص الطريق وهي تمر به أو هو يمر بها، مواقف الراشد، سعد، غمازات سعد، المسجد الشامي، حديقة، نخلة، كرسي في الحديقة، دجاج وسمك، جوال، بحر... بحر... بح... وسحبه الموج إلى الأعماق فنام.
* * *
مضى يوم الجمعة سريعا ً، وصارت السفرة الخاطفة مجرد ذكرى، وبدأت ملامح سعد تذوب، حتى أن حمد تساءل " هل حقا ً كنت بالأمس في الخبر؟"، عاد إلى المنزل بتساؤلاته وذكرياته.
وعندما انتهى من السلام على أهله، وقبل رأسي أمه وأبيه، قصد دورة المياه وألقى بنفسه في البانيو الذي ملأه ماءا ً دافئا ً، أسند رأسه إلى الطرف وأغمض عينيه، أحس بالماء يجلو تعبه، اضطرابه، يرتب ذاته المتناثرة.
أمضى قرابة الساعة وهو مسترخ ٍ، والأفكار تتجول بهدوء في طرقات عقله، فكر في روايته، لقد قرر أن يفعل ما قاله سعد، سيدع جهز يموت في هذا الفصل، وسيكون هذا الموت بعبارات حاسمة وقوية وبدون ابتذال للمشاعر، وسيرى كيف يتلقى القراء النص.
خرج من الحوض، جفف جسده، وتناول عشاءا ً خفيفا ً ثم جلس أمام الجهاز، ألقى برأسه للخلف وجعل يدير الكلمات في ذهنه، سيبدأ بداية صاعقة، هو يحب مثل هذه البدايات، عندما تحاصر القارئ بمجموعة من الأحداث المتوالية، ثم تنسحب بهدوء وتبدأ من البداية لتفسر ما حدث.
فتح صفحة بيضاء على معالج النصوص ( الوورد)، كتب في أعلاها ( الفصل الثاني) ثم بدأ يكتب سطرا ً ثم يمسحه وهو شارد والكلمات تتداول في عقله، ثم جاءت الكلمة وتلتها أخرى، وتتابعت الكلمات، واستحالت صفحة ثم صفحات، حتى مضت ساعة وهو منطلق وعندما توقف عن الكتابة كان بين يديه فصل وليد.
* * *