صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 123456 الأخيرةالأخيرة
النتائج 16 إلى 30 من 77

الموضوع: &&[[ ... مكتبة سير أكثر من 40 صحابي رضوان الله عليهم ... ]]&&

  1. #16
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    13/ أسامة بن زيد :

    جلس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقسّم أموال بيت المال على المسلمين..

    وجاء دور عبدالله بن عمر، فأعطاه عمر نصيبه.

    ثم جاء دور أسامة بن زيد، فأعطاه عمر ضعف ما أعطى ولده عبدالله..

    وذا كان عمر يعطي الناس وفق فضلهم، وبلائهم في الاسلام، فقد خشي عبدالله بن عمر أن يكون مكانه في الاسلام آخرا، وهو الذي يرجو بطاعته، وبجهاده، وبزهده، وبورعه،أن يكون عند الله من السابقين..
    هنالك سأل أباه قائلا:" لقد فضّلت عليّ أسامة، وقد شهدت مع رسول الله ما لم يشهد"..؟

    فأجابه عمر:

    " ان أسامة كان أحبّ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك..

    وأبوه كان أحب الى رسول الله من أبيك"..!

    فمن هذا الذي بلغ هو وأبوه من قلب الرسول وحبه ما لم يبلغه ابن عمر، وما لم يبلغه عمر بذاته..؟؟

    انه أسامة بن زيد.

    كان لقبه بين الصحابة: الحبّ بن الحبّ..

    أبوه زيد بن حارثة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي آثر الرسول على أبيه وأمه وأهله، والذي وقف به النبي على جموع أصحابه يقول:

    " أشهدكم أن زيدا هذا ابني، يرثني وأرثه"..

    وظل اسمه بين المسلمين زيد بن محمد حتى أبطل القرآن الكريم عادة التبنّي..

    أسامة هذا ابنه..

    وأمه هي أم أيمن، مولاة رسول الله وحاضنته،

    لم يكن شكله الخارجي يؤهله لشيء.. أي شيء..

    فهو كما يصفه الرواة والمؤرخون: أسود، أفطس..

    أجل.. بهاتين الكلمتين، لا أكثر يلخص التاريخ حديثه عن شكل أسامة..!!

    ولكن، متى كان الاسلام يعبأ بالأشكال الظاهرة للناس..؟

    متى.. ورسوله هو الذي يقول:

    " ألا ربّ أشعث، أعبر، ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه"..

    فلندع الشكل الخارجي لأسامة اذن..

    لندع بشرته السوداء، وأنفه الأفطس، فما هذا كله في ميزان الاسلام مكان..

    ولننظر ماذا كان في ولائه..؟ ماذا كان في افتدائه..؟ في عظمة نفسه، وامتلاء حياته..؟!

    لقد بلغ من ذلك كله المدى الذي هيأه لهذا الفيض من حب رسول الله عليه الصلاة والسلام وتقديره:

    " ان أسامة بن زيد لمن أحبّ الناس اليّ، واني لأرجو أن يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيرا".




    **




    كان أسامة رضي الله عنه مالكا لكل الصفات العظيمة التي تجعله قريبا من قلب الرسول.. وكبيرا في عينيه..

    فهو ابن مسلمين كريمين من أوائل المسلمين سبقا الى الاسلام، ومن أكثرهم ولاء للرسول وقربا منه.

    وهو من أبناء الاسلام الحنفاء الذين ولدوا فيه، وتلقوا رضعاتهم الأولى من فطرته النقية، دون أن يدركهم من غبار الجاهلية المظلمة شيء..



    وهو رضي الله عنه على حداثة سنه، مؤمن، صلب، ومسلم قوي، يحمل كل تبعات ايمانه ودينه، في ولاء مكين، وعزيمة قاهرة..
    وهو مفرط في ذكائه، مفرط في تواضعه، ليس لتفانيه في سبيل الله ورسوله حدود..

    ثم هو بعد هذا، يمثل في الدين الجديد، ضحايا الألوان الذين جاء الاسلام ليضع عنهم أوزار التفرقة وأوضارها..

    فهذا الأسود الأفطس يأخذ في قلب النبي، وفي صفوف المسلمين مكانا عليّا، لأن الدين الذي ارتضاه الله لعباده قد صحح معايير الآدمية والأفضلية بين الناس فقال:

    ( ان أكرمكم عند الله أتقاكم)..

    وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل مكة يوم الفتح العظيم ورديفه هذا الأسود الأفطس أسامة بن زيد..

    ثم رأيناه يدخل الكعبة في أكثر ساعات الاسلام روعة، وفوزا، وعن يمينه ويساره بلال، وأسامة.. رجلان تكسوهما البشرة السوداء الداكنة، ولكن كلمة الله التي يحملانها في قلبيهما الكبيرين قد أسبغت عليهما كل الشرف وكل الرفعة..




    **




    وفي سن مبكرة، لم تجاوز العشرين، أمر رسول الله أسامة بن زيد على جيش، بين أفراده وجنوده أبو بكر وعمر..!!

    وسرت همهمة بين نفر من المسلمين تعاظمهم الأمر، واستكثروا على الفتى الشاب، أسامة بن زيد، امارة جيش فيه شيوخ الأنصار وكبار المهاجرين..

    وبلغ همسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

    " ان بعض الناس يطعنون في امارة أسامة بن زيد..

    ولقد طعنوا في امارة أبيه من قبل..

    وان كان أبوه لخليقا للامارة..

    وان أسامة لخليق لها..

    وانه لمن أحبّ الناس اليّ بعد أبيه..

    واني لأرجو أن يكون من صالحيكم..

    فاستوصوا به خيرا"..

    وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتحرّك الجيش الى غايته ولكنه كان قد ترك وصيته الحكيمة لأصحابه:

    " أنفذوا بعث أسامة..

    أنفذوا بعث أسامة.."





    وهكذا قدّس الخليفة أبو بكر هذه الوصاة، وعلى الرغم من الظروف الجديدة التي خلفتها وفاة الرسول، فان الصدّيق أصرّ على انجاز وصيته وأمره، فتحرّك جيش أسامة الى غايته، بعد أن استأذنه الخليفة في أن يدع عمر ليبقى الى جواره في المدينة.

    وبينما كان امبراطور الروم هرقل، يتلقى خبر وفاة الرسول، تلقى في نفس الوقت خبر الجيش الذي يغير على تخوم الشام بقيادة أسامة بن زيد، فحيّره أن يكون المسلمون من القوة بحيث لا يؤثر موت رسولهم في خططهم ومقدرتهم.

    وهكذا انكمش الروم، ولم يعودوا يتخذون من حدود الشام نقط وثوب على مهد الاسلام في الجزيرة العربية.

    وعاد الجيش بلا ضحايا.. وقال عنه المسلمون يومئذ:

    " ما رأينا جيشا أسلم من جيش أسامة"..!!




    **




    وذات يوم تلقى أسامة من رسول الله درس حياته.. درسا بليغا، عاشه أسامة، وعاشته حياته كلها منذ غادرهم الرسول الى الرفيق الأعلى الى أن لقي أسامة ربه في أواخر خلافة معاوية.



    قبل وفاة الرسول بعامين بعثه عليه السلام أميرا على سريّة خرجت للقاء بعض المشركين الذين يناوئون الاسلام والمسلمين.

    وكانت تلك أول امارة يتولاها أسامة..

    ولقد أحرز في مهمته النجاح والفوز، وسبقته أنباء فوزه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرح بها وسر.



    ولنستمع الى أسامة يروي لنا بقية النبأ:

    ".. فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اتاه البشير بالفتح، فاذا هو متهلل وجهه.. فأدناني منه ثم قال:

    حدّثني..

    فجعلت أحدّثه.. وذكرت أنه لما انهزم القوم أدركت رجلا وأهويت اليه بالرمح، فقال لا اله الا الله فطعنته وقتلته.

    فتغيّر وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:

    ويحك يا أسامة..!

    فكيف لك بلا اله الا الله..؟

    ويحك يا أسامة..

    فكيف لك بلا اله الا الله..؟

    فلم يزل يرددها عليّ حتى لوددت أني انسلخت من كل عمل عملته. واستقبلت الاسلام يومئذ من جديد.

    فلا والله لا أقاتل أحدا قال لا اله الا الله بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم".




    **




    هذا هو الدرس العظيم الذي وجّه جياة أسامة الحبيب بن الحبيب منذ سمعه من رسول الله الى أن رحل عن الدينا راضيا مرضيّا.

    وانه لدرس بليغ.

    درس يكشف عن انسانية الرسول، وعدله، وسموّ مبادئه، وعظمة دينه وخلقه..

    فهذا الرجل الذي أسف النبي لمقتله، وأنكر على أسامة قتله، كان مشركا ومحاربا..

    وهو حين قال: لا اله الا الله.. قالها والسيف في يمينه، تتعلق به مزغ اللحم التي نهشها من أجساد المسلمين.. قالها لينجو بها من ضربة قاتلة، أو ليهيء لنفسه فرصة يغير فيها اتجاهه ثم يعاود القتال من جديد..

    ومع هذا، فلأنه قالها، وتحرّك بها لسانه، يصير دمه حراما وحياته آمنة، في نفس اللحظة، ولنفس السبب..!

    ووعى أسامة الدرس الى منتهاه..



    وفي العام الرابع والخمسين من الهجرة.. اشتاق أسامة للقاء الله، وتلملمت روحه بين جوانحه، تريد أن ترجع الى وطنها الأول..

    وتفتحت أبواب الجنان، لتستقبل واحدا من الأبرار المتقين.

    </FONT>

  2. #17
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    14/ أسيد بن حضير :

    ورث المكارم كابرا عن كابر..

    فأبوه حضير الكتائب كان زعيم الأوس، وكان واحدا من كبار أشراف العرب في الجاهلية، ومقاتليهم الأشداء..

    وفيه يقول الشاعر:

    لو أن المنايا حدن عن ذي مهابة

    لهبن حضيرا يوم غلّق واقما

    يطوف به، حتى اذا الليل جنّه

    تبوأ منه مقعدا متناغما
    وورث أسيد عن أبيه مكانته، وشجاعته وجوده، فكان قبل أن يسلم، واحدا من زعماء المدينة وأشراف العرب، ورماتها الأفذاذ..

    فلما اصطفاه الاسلام، وهدي الى صراط العزيز الحميد، تناهى عزه.

    وتسامى شرفه، يوم أخذ مكانه، وأخذ واحدا من انصار الله وأنصار رسوله، ومن السابقين الى الاسلام العظيم..




    **




    ولقد كان اسلامه يوم أسلم سريعا، وحاسما وشريفا..

    فعندما أرسل الرسول عليه السلام مصعب بن عمير الى المدينة ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار الذين بايعوا النبي عليه السلام عل الاسلام بيعة العقبة الأولى، وليدعو غيرهم الى دين الله.

    يومئذ، جلس أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وكانا زعيمي قومهما، يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفّه دينهما، ويدعو اى دين جديد لا يعرفونه..

    وقال سعد لأسيد:" انطلق الى هذا الرجل فازجره"..

    وحمل أسيد حربته، وأغذ السير الى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا الى الاسلام.

    وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في اهتمام للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها الى الله، مصعب بن عمير..

    وفجأهم أسيد بغضبه وثورته..

    وقال له مصعب:

    " هل لك في أن تجلس فتسمع.. فان رضيت أمرنا قبلته، وان كرهته، كففنا عنك ما تكره"..؟؟




    **




    كان أسيد رجلا.. وكان مستنير العقل ذكيّ القلب حتى لقبه أهل المدينة بالكامل.. وهو لقب كان يحمله أبوه من قبله..

    فلما رأى مصعبا يحتكم به الى المنطق والعقل، غرس حربته في الأرض، وقال لمصعب:

    لقد أنصفت: هات ما عندك..

    وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن، ويفسّر له دعوة الدين الجديد. الدين الحق الذي أمر محمد عليه الصلاة والسلام بتبليغه ونشر رايته.

    ويقول الذين حضروا هذا المجلس:

    " والله لقد عرفنا في وجه أسيد الاسلام قبل أن يتكلم..

    عرفناه في اشراقه وتسهّله"..!!




    **




    لم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد مبهورا:

    " ما أحسن هذا الكلام وأجمله..

    كيف تصنعون اذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين".؟

    قال له مصعب:

    " تطهر بدنك، وثوبك، وتشهد شهادة الحق، ثم تصلي"..

    ان شخصية أسيد شخصية مستقيمة قوية مستقيمة وناصعة، وهي اذ تعرف طريقها ، لا تتردد لحظة أمام ارادتها الحازمة..

    ومن ثمّ، قام أسيد في غير ارجاء ولا ابطاء ليستقبل الدين الذي انفتح له قلبه، وأشرقت به روحه، فاغتسل وتطهر، ثم سجد لله رب العالمين، معلنا اسلامه، مودّعا أيام وثنيّته، وجاهليته..!!

    كان على أسيد أن يعود لسعد بن معاذ، لينقل اليه أخبار المهمة التي كلفه بها.. مهمة زجر مصعب بن عمير واخراجه..

    وعاد الى سعد..

    وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله:

    " أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به".!!

    أجل..

    لقد ذهب بوجه طافح بالمرارة، والغضب والتحدي..

    وعاد بوجه تغشاه السكينة والرحمة والنور..!!




    **




    وقرر أسيد أن يستخدم ذكاءه قليلا..

    انه يعرف أن سعد بن معاذ مثله تماما في صفاء جوهره ومضاء عزمه، وسلامة تفكيره وتقديره..

    ويعلم أنه ليس بينه وبين الاسلام سوى أن يسمع ما سمع هو من كلام الله، الذي يحسن ترتيله وتفسيره سفير الرسول اليهم مصعب بن عمير..

    لكنه لو قال لسعد: اني أسلمت، فقم وأسلم، لكانت مجابهة غير مأمونة العاقبة..

    اذن فعليه أن يثير حميّة سعد بطريقة تدفعه الى مجلس مصعب حتى يسمع ويرى..

    فكيف السبيل لهذا..؟

    كان مصعب كما ذكرنا من قبل ينزل ضيفا على أسعد بن زرارة..

    وأسعد بن زرارة هو ابن خالة سعد بن معاذ..

    هنالك قال أسيد لسعد:

    " لقد حدّثت أن بين الحارثة قد خرجوا الى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك"..

    وقام سعد، تقوده الحميّة والغضب، وأخذ الحربة، وسار مسرعا الى حيث أسعد ومصعب، ومن معهما من المسلمين..

    ولما اقترب من المجلس لم يجد ضوضاء ولا لغطا، وانما هي السكينة تغشى جماعة يتوسطهم مصعب بن عمير، يتلو آيات الله في خشوع، وهم يصغون اليه في اهتمام عظيم..

    هنالك أدرك الحيلة التي نسجها له أسيد لكي يحمله على السعي الى هذا المجلس، والقاء السمع لما يقوله سفير الاسلام مصعب بن عمير.

    ولقد صدقت فراسة أسيد في صاحبه، فما كاد سعد يسمع حتى شرح الله صدره للاسلام، وأخذ مكانه في سرعة الضوء بين المؤمنين السابقين..!!




    **




    كان أسيد يحمل في قلبه ايمانا وثيقا ومضيئا..

    وكان ايمانه بفيء عليه من الأناة والحلم وسلامة التقدير ما يجعله أهلا للثقة دوما..

    وفي غزوة بني المصطلق تحركت مغايظ عبدالله بن أبيّ فقال لمن حوله من أهل المدينة:

    " لقد أحللتمومهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم..

    أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا الى غير دياركم..

    أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل"..

    سمع الصحابي الجليل زيد بن الأرقم هذه الكلمات، بل هذه السموم المنافقة المسعورة، فكان حقا عليه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    وتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، وقابله أسيد فقال له النبي عليه السلام:

    أوما بلغك ما قال صاحبكم..؟؟

    قال أسيد:

    وأيّ صاحب يا رسول الله..؟؟

    قال الرسول:

    عبدالله بن أبيّ!!

    قال أسيد:

    وماذا قال..؟؟

    قال الرسول:

    زعم انه ان رجع الى المدينة لخرجنّ الأعز منها الأذل.

    قال أسيد:

    فأنت والله، يا رسول الله، تخرجه منها ان شاء الله.. هو والله الذليل، وأنت العزيز..

    ثم قال أسيد:

    " يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك وان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه على المدينة ملكا، فهو يرى أن الاسلام قد سلبه ملكا"..

    بهذا التفكير الهادئ اعميق المتزن الواضح، كان أسيد دائما يعالج القضايا ببديهة حاضرة وثاقبة..





    وفي يوم السقيفة، اثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعلن فريق من الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن عبادة أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واحتدمت المناقشة، كان موقف أسيد، وهو كما عرفنا زعيم أنصاري كبير، كان موقفه فعالا في حسم الموقف، وكانت كلماته كفلق الصبح في تحديد الاتجاهه..

    وقف أسيد فقال مخاطبا فريق الأنصار من قومه:

    " تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين..

    فخليفته اذن ينبغي أن يكون من المهاجرين..

    ولقد كنا أنصار رسول الله..

    وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته"..

    وكانت كلماته، بردا، وسلاما..




    **




    ولقد عاش أسيد بن حضير رضي الله عنه عابدا، قانتا، باذلا روحه وماله في سبيل الخير، جاعلا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار نصب عينيه:

    " اصبروا.. حتى تلقوني على الحوض"..

    ولقد كان لدينه وخلقه موضع تكريم الصدّيق حبّه، كذلك كانت له نفس المكانة والمنزلة في قلب أمير المؤمنين عمر، وفي أفئدة الصحابة جميعا.

    وكان الاستماع لصوته وهو يرتل القرآن احدى المغانم الكبرى التي يحرص الأصحاب عليها..

    ذلك الصوت الخاشع الباهر المنير الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة لسماعه..

    وفي شهر شعبان عام عشرين للهجرة، مات أسيد..

    وأبى أمير المؤمنين عمر الا أن يحمل نعشه فوق كتفه..

    وتحت ثرى البقيع وارى الأصحاب جثمان مؤمن عظيم..

    وعادوا الى المدينة وهم يستذكرون مناقبه ويرددون قول الرسول الكريم عنه:

    " نعم الرجل.. أسيد بن حضير"..
    </FONT>

  3. #18
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    15 / سهيل بن عمرو :

    عندما وقع أسيرا بأيدي المسلمين في غزوة بدر اقترب عمر بن الخطاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:

    " يا رسول الله.. دعني أنزع ثنيّتي سهيل بن عمرو حتى لا يقوم عليك خطيبا بعد اليوم"..

    فأجابه الرسول العظيم:

    " كلا يا عمر..

    لا أمثل بأحد، فيمثل الله بي، وان كنت نبيا"..!

    ثم أدنى عمر منه وقال عليه السلام:

    " يا عمر..

    لعل سهيلا غدا يقف موقفا يسرّك"..!!
    ودارت نبوءة الرسول..

    وتحوّل أعظم خطباء قريش سهيل بن عمرو الى خطيب باهر من خطباء الاسلام..

    وتحوّل المشرك اللدود.. الى مؤمن أوّاب، لا تكف عيناه من البكاء من خشية الله..!!

    وتحوّل واحد من كبار زعماء قريش وقادة جيوشها الى مقاتل صلب في سبيل الاسلام.. مقاتل عاهد نفسه أن يظل في رباط وجهاد حتى يدركه الموت على ذلك، عسى الله أن يغفر ما تقدم من ذنبه..!!

    فمن كان ذلك المشرك العنيد، والمؤمن التقي الشهيد..؟؟




    **




    انه سهيل بن عمرو..

    واحد من زعماء قريش المبرّرين، ومن حكمائها وذوي الفطنة والرأي فيها..

    وهو الذي انتدبته قريش ليقنع الرسول بالعدول عن دخول مكة عام الحديبية..

    ففي أخريات العام الهجري السادس خرج الرسول وأصحابه الى مكة ليزوروا البيت الحرام، وينشؤا عمرة، لا يريدون حربا، وليسوا مستعدين لقتال..

    وعلمت قريش بمسيرهم الى مكة، فخرجت لتقطع عليهم الطريق، وتصدّهم عن وجهتهم..

    وتأزم الموقف، وتوترت الأنفس..

    وقال الرسول لأصحابه:

    " لا تدعوني قريش اليوم الى خطة يسألونني فيها صلة الرحم الا أعطيتهم اياها"..

    وراحت قريش ترسل رسلها ومندوبيها الى النبي عليه الصلاة والسلام، فيخبرهم جميعا أنه لم يأت لقتال، انما جاء يزور البيت الحرام، ويعظم حرماته:

    وكلما عاد الى قريش أحد مندوبيها، أرسلوا من بعده آخر أقوى شكيمة، وأشد اقناعا حتى اختاروا عروة بن مسعود الثقفي وكان من أقواهم وأفطنهم.. وظنت قريش أن عروة قادر على اقناع الرسول بالعودة.

    ولكنه سرعان ما رجع اليهم يقول لهم:

    " يا معشر قريش..

    اني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه..

    واني والله ما رأيت ملكا قط يعظمه قومه، كما يعظم أصحاب محمد محمدا..!!

    ولقد رأيت حوله قوما لن يسلموه لسوء أبدا..

    فانظروا رأيكم"..!!




    **




    عندئذ آمنت قريش أنه لا جدوى من محاولاتها وقررت أن تلجأ الى المفاوضة والصلح.. واختارت لهذه المهمة أصلح زعمائها لها.. وكان سهيل بن عمرو..

    رأى المسلمون سهيلا وهو مقبل عليهم فعرفوه، وأدركوا أن قريشا آثرت طريق التفاهم والمصالحة، ما دامت قد بعثت آخر الأمر سهيلا..

    وجلس سهيل بين يدي الرسول، ودار حوار طويل انتهى بالصلح..

    وحاول سهيل أن يكسب لقريش الكثير.. وساعده على ذلك، التسامح النبيل والمجيد الذي كان الرسول عليه الصلاة والسلام يديره في التفاوض والصلح..

    ومضت الأيام، ينادي بعضها بعضا، جتى جاءت السنة الثامنة من الهجرة.. وخرج الرسول والمسلمون لفتح مكة بعد أن نفضت قريش عهدها وميثاقها مع رسول الله.

    وعاد المهاجرون الى وطنهم الذين أخرجهم بالأمس كارهين..

    عادوا، ومعهم الأنصار الذين آووهم في مينتهم وآثروهم على أنفسهم..

    وعاد الاسلام كله، تخفق في جو السماء راياته الظافرة..

    وفتحت مكة جميع أبوابها..

    ووقف المشركون في ذهول.. ترى ماذا سيكون اليوم مصيرهم، وهم الذين أعملوا بأسهم في المسلمين من قبل قتلا، وحرقا، وتعذيبا، وتجويعا..؟!

    ولم يشأ الرسول الرحيم أن يتركهم طويلا تحت وطأة هذه المشاعر المذلة المنهكة.

    فاستقبل وجوههم في تسامح وأناة، وقال لهم ونبرات صوته الرحيم تقطر حنانا ورفقا:

    " يا معشر قريش..

    ما تظنون أني فاعل بكم"..؟؟

    هنالك تقدم خصم الاسلام بالأمس سهيل بن عمرو وقال مجيبا:

    " نظن خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم".

    وتألقت ابتسامة من نور على شفتي حبيب الله وناداهم:

    " اذهبوا...

    فأنتم الطلقاء"..!!

    لم تكن هذه الكلمات من الرسول المنتصر لتدع انسانا حيّ المشاعر الا أحالته ذوبا من طاعة وخجل، بل وندم..

    وفي نفس اللحظة استجاش هذا الموقف الممتلئ نبلا وعظمة، كل مشاعر سهيل بن عمرو فأسلم لله رب العالمين.

    ولم يكن اسلامه ساعتئذ، اسلام رجل منهزم مستسلم للمقادير.

    بل كان كما سيكشف عنه مستقبله فيما بعد اسلام رجل بهرته وأسرته عظمة محمد وعظمة الدين الذي يتصرّف محمد وفق تعاليمه، ويحمل في ولاء هائل رايته ولواءه..!!




    **




    أطلق على الذين أسلموا يوم الفتح اسم الطلقاء.. أي الذين نقلهم عفو الرسول من الشرك الى الاسلام حين قال لهم:

    " اذهبوا فأنتم الطلقاء"

    بيد أن نفرا من أولئك الطلقاء جاوزوا هذا الخط باخلاصهم الوثيق، وسموا الى آفاق بعيدة من التضحية والعبادة والطهر، وضعتهم في الصفوف الأولى بين أصحاب النبي الأبرار ومن هؤلاء سهيل بن عمرو.




    **




    لقد صاغه الاسلام من جديد.

    وصقل كل مواهبه الأولى، وأضاف اليها، ثم وضعها جميعا في خدمة الحق، والخير، والايمان..

    ولقد نعتوه في كلمات فقالوا:

    " السّمح، الجواد..

    كثير الصلاة، والصوم، والصدقة، وقراءة القرآن، والبكاء من خشية الله"..!!

    وتلك هي عظمة سهيل.

    فعلى الرغم من أنه أسلم يوم الفتح، لا قبله، نراه يصدق في اسلامه وفي يقينه، الى مدى الذي يتفوّق فيه على كل نفسه، ويتحوّل الى عابد، زاهد والى فدائي مجاهد في سبيل الله والاسلام.

    ولما انتقل الرسول الى الرفيق الأعلى، لم يكد النبأ يبلغ مكة، وكان سهيل يومئذ مقيما بها، حتى غشي المسلمين هناك من الهرج والذهول ما غشي المسلمين بالمدينة.

    واذا كان ذهول المدينة، قد بدّده أبو بكر رضي الله عنه ساعتئذ بكلماته الحاسمة:

    " من كان يعبد محمد، فان محمدا قد مات..

    ومن كان يعبد الله، فان الله حيّ لا يموت"..



    فسيأخذنا العجب حين نرى سهيلا رضي الله عنه هو الذي وقف بمكة، نفس موقف أبي بكر بالمدينة.

    فقد جمع المسلمين كلهم هناك، ووقف يبهرهم بكلماته الناجعة، يخبرهم أن محمدا كان رسول الله حقا.. وأنه لم يمت حتى أدّى الأمانة، وبلّغ الرسالة. وأنه واجب المؤمنين به أن يمعنوا من بعده السير على منهجه.

    وبموقف سهيل هذا، وبكلماته الرشيدة وايمانه الوثيق، درأ الفتنة التي كادت تقلع ايمان بعض الناس بمكة حين بلغهم نبأ وفاة الرسول..!!

    وفي هذا اليوم أكثر من سواه تألقت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ألم يكن لعمر يوم استأذنه في نزع ثنيتي سهيل أثناء أسره ببدر:

    " دعها فلعلها تسرك يوما"..؟!

    ففي هذا اليوم.. وحين بلغ المسلمين بالمدينة موقف سهيل بمكة وخطابه الباهر الذي ثبت الايمان في الأفئدة، تذكر عمر بن الخطاب نبوءة الرسول.. وضحك طويلا، اذ جاء اليوم الذي انتفع فيه الاسلام بثنيتي سهيل اللتين كان عمر يريد تهشيمهما واقتلاعهما..!!




    **




    عندما أسلم سهيل يوم الفتح.

    وبعد أن ذاق حلاوة الايمان، أخذ على نفسه عهدا لخصه في هذه الكلمات:

    " والله لا أدع موقفا من المشركين، الا وقفت مع المسلمين مثله... ولا نفقة أنفقتها مع المشركين الا أنفقت مع المسلمين مثلها، لعل أمري أن يتلو بعضه بعضا"..!!

    ولقد وقف مع المشركين طويلا أمام أصنامهم..

    فليقف الآن طويلا وطويلا مع المؤمنين بين يدي الله الواحد الأحد.

    وهكذا راح يصلي.. ويصلي..

    ويصوم.. ويصوم..

    ولا يدع عبادة تجلو روحه، وتقربه من ربه الأعلى الا أخذ منها حظا وافيا..

    وكذلك كان في أمسه يقف مع المشركين في مواطن العدوان والحرب ضد الاسلام.

    فليأخذ الآن مكانه في جيش الاسلام، مقاتلا شجاعا، يطفئ مع كتائب الحق نار فارس التي يعبدونها من دون الله، ويحرقون فيها مصاير الشعوب التي يستعبدونها. ويدمدم مع كتائب الحق أيضا على ظلمات الرومان وظلمهم..

    وينشر كلمة التوحيد والتقوى في كل مكان.



    وهكذا خرج الى الشام مع جيوش المسلمين، مشاركا في حروبها.

    ويوم اليرموك حيث خاض المسلمون موقعة تناهت في الضراوة والعنف والمخاطرة..

    كان سهيل بن عمرو يكاد يطير من الفرح، اذ وجد هذه الفرصة الدسمة لكي يبذل من ذات نفسه في هذا اليوم العصيب ما يمحق به خطايا جاهليته وشركه..




    **




    وكان يحب وطنه مكة حبا ينسيه نفسه..

    ومع ذلك، فقد أبى أن يرجع اليها بعد انتصار المسلمين بالشام وقال:

    " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مقام أحدكم في سبيل الله ساعة، خير له من عمله طوال عمره..

    واني لمرابط في سبيل الله حتى أموت، ولن أرجع الى مكة"..!!




    **




    ووفى سهيل عهده..

    وظل بقيّة حياته مرابطا، حتى جاء موعد رحيله، فطارت روحه مسرعة الى رحمة من الله ورضوان..


  4. #19
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    16/ أنس بن مالك :

    كان أنس بن مالك في عمر الورد حين لقنته أمه (( الغميصاء )) الشهادتين , و ملأت فؤاده الغض بحب نبي الإسلام محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام ...

    فشغف أنس به حباً على السماع .

    ولا غرو , فالأذن تعشق قبل العين أحياناً ...

    وكم تمنى الغلام الصغير أن يمضي إلى نبيه في مكة أو يفد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) عليهم في (( يثرب )) ليسعد برؤياه و يهنأ بلقياه .

    ***

    لم يمض على ذلك طويل وقتٍ حتى سرى في (( يثرب )) المحظوظة المغبوطة أن النبي صلوات الله وسلامه عليه و صاحبه الصديق في طريقهما إليها ... فغمرت البهجة كل بيت , وملأت الفرحة كل قلب ...

    وتعلقت العيون و القلوب بالطريق المبارك الذي يحمل خطا النبي (صلى الله عليه وسلم) و صاحبه إلى (( يثرب )).

    ***

    و أخذ الفتيان يشيعون مع إشراقة كل صباح :

    أنّ محمداً قد جاء...

    فكان يسعى إليه أنس مع الساعين من الأولاد الصغار ؛ لكنه لا يرى شيئاً فيعود كئيباً محزوناً.

    ***

    وفي ذات صباح شذي الأنداء, نضير الرواء, هتف رجال في (( يثرب )) إن محمداً و صاحبه غدوا قريبين من المدينة.

    فطفق الرجال يتجهون نحو الطريق الميمون الذي يحمل إليهم نبي الهدى والخير ...

    ومضوا يتسابقون إليه جماعاتٍ جماعاتٍ , تتخللهم أسراب من صغار الفتيان تزغرد على وجوههم فرحة تغمر قلوبهم الصغيرة , و تترع أفئدتهم الفتية ...

    وكان في طليعة هؤلاء الصبية أنس بن مالك الأنصاري.

    ***

    أقبل الرسول صلوات الله وسلامه عليه مع صاحبه الصِّدِّيق , و مضيا بين أظهر الجموع الزاخرة من الرجال والولدان ...

    أما النسوة و الصبايا الصغيرات فقد علون سطوح المنازل , وجعلن يتراءين الرسول صلوات الله وسلامه عليه و يقلن :

    أيهم هو؟! ... أيهم هو؟!.

    قكان ذلك اليوم يوماً مشهوداً ...

    ظل أنس بن مالك يذكره حتى نيف على المائة من عمره .

    ***

    ما كاد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يستقر بالمدينة ؛ حتى جائته ((( الغميصاء بنت ملحان )) أم أنس , وكان معها غلامها الصغير , وهو يسعى بين يديها , و ظفيرتاه تتذبذبان على جبينه ...

    ثم حيت النبي عليه الصلاة والسلام وقالت :

    يا رسول الله ... لم يبق رجل ولا امرأة من الأنصار إلا وقد أتحفك بتحفة , و إني لا أجد ما أتحفك به غير ابني هذا ...

    فخذه فليخدمك ما شئت ...

    فهش النبي (صلى الله عليه وسلم) للفتى الصغير و بش , و مسح رأسه بيده الشريفة , و مس ظفيرته بأنامله الندية , وضمه إلى أهله .

    ***

    كان أنس بن مالك أو (( أُنَيْسٌ )) - كما كانوا ينادونه تدليلاً - في العاشرة من عمره يوم سعد بخدمة النبي صلوات الله وسلامه عليه .

    وظل يعيش في كنفه ورعياته إلى أن لحق النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) بالرفيق الأعلى .

    فكانت مدة صحبته له عشر سنوات كاملات , نهل فيها من هديه ما زكى به نفسه , ووعى من حديثه ما ملأ به صدره , و عرف من أحواله و أخباره و أسراره و شمائله ما لم يعرفه أحد سواه .

    ***

    و قد لقي أنس بن مالك من كريم معاملة النبي صلوات الله وسلامه عليه ما لم يظفر به ولد من والد ...

    وذاق من نبيل شمائله , و جليل خصاله ما تغبطه عليه الدنيا .

    فلنترك لأنس الحديث عن بعض الصور الوضاءة من هذه المعاملة الكريمة التي لقيها في رحاب النبي السمح الكريم (صلى الله عليه وسلم) , فهو بها أدرى , و على وصفها أقوى ...

    قال أنس بن مالك :

    كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه من أحسن الناس خلقاً , و أرحبهم صدراً . و أوفرهم حناناً ...

    فقد أرسلني يوماً لحاجة فخرجت , وقصدت صبياناً كانوا يلعبون في السوق لألعب معهم و لم أذهب إلى ما أمرني به , فلما صرت إليهم شعرت بإنسانٍ يقف خلفي , و يأخذ بثوبي ...

    فالتفت فإذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتبسم و يقول :

    ( يا أنيس أذهبت إلى حيث أمرتك؟ ).

    فارتبكت و قلت : نعم ...

    إني ذاهب الآن يا رسول الله ...

    والله لقد خدمته عشر سنين , فما قال لشيءٍ صنعته : لم صنعته ؟! ...

    ولا لشيءٍ تركته : لم تركته ؟! .

    ***

    وكان الرسول صلوات الله وسلامه عليه إذا نادى أنساً ناداه (( أنيساً )) بصيغ التصغير تحبباً و تدليلاً ؛ فتراة يناديه يا أنيس , و أخرى يا بُنَيَّ .

    و كان يغدق عليه من نصائحه و مواعظه ما ملأ قلبه و ملك لبه .

    من ذلك قوله له :

    ( يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل ...

    يابني إن ذلك من سنتي , و من أحيا سنتي فقد أحبني ...

    و من أحبني كان معي في الجنة ...

    يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم يكن بركة عليك و على أهل بيتك ) .

    ***

    عاش أنس بن مالك بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من ثمانين عاماً ؛ ملأ خلالها الصدور علماً من علم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) , وأترع فيها العقول فقهاً من فقه النبوة ...

    و أحيا فيها القلوب بما بثه بين الصحابة والتابعين من هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) , و ما أذاعه في الناس من شريف أقوال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) و جليل أفعاله .


    وقد غدا أنس على طول هذا العمر المديد مرجعاً للمسلمين , يفزعون إليه كلما أشكل عليهم أمر , و يعولون عليه كلما استغلق على أفهامهم حكم .

    من ذلك , أن بعض الممارين في الدين جعلوا يتكلمون في ثبوت حوض النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم القيامة , فسألوه في ذلك , فقال :

    ما كنت أظن أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض , لقد تركت عجائز خلفي ما تصلي إحداهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي عليه الصلاة والسلام .

    ***

    و لقد ظل أنس بن مالك يعيش مع ذكرى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ما امتدت به الحياة ...

    فكان شديد البهجة بيوم لقائه . سخي الدمعة على يوم فراقه , كثير الترديد لكلامه ...

    حريصاً على متابعته أقواله و أفعاله , يحب ما أحب , و يكره ما كره , و كان أكثر ما يذكره من أيامه يومان :

    يوم لقائه معه أول مرة, و يوم مفارقته له آخر مرة.

    فإذا ذكر اليوم الأول سعد به و انتشى , و إذا خطر له اليوم الثاني انتحب و بكى , و أبكى من حوله من الناس .

    و كثيراً ما كان يقول : لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام يوم دخل علينا , و رأيته يوم قُبض منا , فلم أرَ يومين يشبهانهما .

    ففي يوم دخوله المدينة أضاء فيها كل شيء ...

    وفي اليوم الذي أوشك فيه أن يمضي إلى جوار ربه أظلم فيها كل شيء ...

    و كان آخر نظرة نظرتها إليه يوم الإثنين حين كشفت الستارة عن حجرته , فرأيت وجهه كأنه ورقة مصحف , و كان الناس يومئذٍ وقوفاً خلف أبي بكر ينظرون إليه , و قد كادوا أن يضطربوا , فأشار إليهم أبو بكر أن اثبتوا .

    ثم توفي الرسول عليه الصلاة والسلام فما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجهه - (صلى الله عليه وسلم) - حين واريناه ترابه .

    ***

    ولقد دعا رسول الله صلوات الله عليه لأنس بن مالك أكثر من مرة ...

    وكان من دعائه له :

    ( اللهم ارزقه مالاً وولداً , و بارك له ) ...

    وقد استجاب الله سبحانه دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام , فكان أنس أكثر الأنصار مالاً , و أوفرهم ذرية ؛ حتى إنه رأى من أولاده و حفدته ما يزيد على المائة .

    وقد بارك اله له في عمره حتى عاش قرناً كاملاً ...

    و فوقه ثلاث سنوات .

    وكان أنس رضوان الله عليه شديد الرجاء لشفاعة النبي (صلى الله عليه وسلم) له يوم القيامة ؛ فكثيراً ما كان يقول :

    إني لأرجوا أن ألقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم القيامة فأقول له :

    يا رسول الله هذا خويدمك أُنَيْس .

    ***

    ولما مرض أنس بن مالك مرض الموت قال لأهله :

    لقنوني لا إله إلا الله, محمد رسول الله .

    ثم ظل يقولها حتى مات .

    وقد أوصى بعصية صغيرة كانت لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأن تدفن معه , فوضعت بين جنبه و قميصه .

    ***

    هنيئاً لأنس بن مالك الأنصاري على ما أسبغه الله عليه من خير .

    فقد عاش في كنف الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) عشر سنوات كاملات ...

    و كان ثالث اثنين في رواية حديثه هما أبو هريرة , و عبد الله بن عمر ...

    وجزاه الله هو و أمه الغميصاء عن الإسلام و المسلمين خير الجزاء .
    </FONT>

  5. #20
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    16/ صهيب بن سنان :


    ولد في أحضان النعيم..

    فقد كان أبوه حاكم الأبلّة ووليا عليها لكسرى.. وكان من العرب الذين نزحوا الى العراق قبل الاسلام بعهد طويل، وفي قصره القائم على شاطئ الفرات، مما يلي الجزيرة والموصل، عاش الطفل ناعما سعيدا..

    وذات يوم تعرضت البلاد لهجوم الروم.. وأسر المغيرون أعدادا كثيرة وسبوا ذلك الغلام " صهيب بن سنان"..

    ويقتنصه تجار الرقيق، وينتهي طوافه الى مكة، حيث بيع لعبد الله بن جدعان، بعد أن قضى طفولته وشبابه في بلاد الروم، حتى أخذ لسانهم ولهجتهم.

    ويعجب سيده بذكائه ونشاطه واخلاصه، فيعتقه ويحرره، ويهيء له فرصة الاتجار معه.
    وذات يوم.. ولندع صديقه عمار بن ياسر يحدثنا عن ذلك اليوم:

    " لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها..

    فقلت له: ماذا تريد..؟

    فأجابني وما تريد أنت..؟

    قلت له: أريد أن أدخل على محمد، فأسمع ما يقول.

    قال: وأنا اريد ذلك..

    فدخلنا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فعرض علينا الاسلام فأسلمنا.

    ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا..

    ثم خرجنا ونحن مستخفيان".!!



    عرف صهيب طريقه اذن الى دار الأرقم..

    عرف طريقه الى الهدى والنور، وأيضا الى التضحية الشاقة والفداء العظيم..

    فعبور الباب الخشبي الذي كان يفصل داخل دار الأرقم عن خارجها لم يكن يعني مجرّد تخطي عتبة.. بل كان يعني تخطي حدود عالم بأسره..!

    عالم قديم بكل ما يمثله من دين وخلق، ونظام وحياة..

    وتخطي عتبة دار الأرقم، التي لم يكن عرضها ليزيد عن قدم واحدة كان يعني في حقيقة الأمر وواقعه عبور خضمّ من الأهوال، واسع، وعريض..

    واقتحام تلك العتبة، كان ايذانا بعهد زاخر بالمسؤليات الجسام..!

    وبالنسبة للفقراء، والغرباء، والرقيق، كان اقتحام عقبة دار الأرقم يعني تضحية تفوق كل مألوف من طاقات البشر.



    وان صاحبنا صهيبا لرجل غريب.. وصديقه الذي لقيه على باب الدار، عمّار بن ياسر رجل فقير.. فما بالهما يستقبلان الهول ويشمّران سواعدهما لملاقاته..؟؟

    انه نداء الايمان الذي لا يقاوم..

    وانها شمائل محمد عليه الصلاة والسلام، الذي يملؤ عبيرها أفئدة الأبرار هدى وحبا..

    وانها روعة الجديد المشرق. تبهر عقولا سئمت عفونة القديم، وضلاله وافلاسه..

    وانها قبل هذا كله رحمة الله يصيب بها من يشاء.. وهداه يهدي اليه من ينيب...

    أخذ صهيب مكانه في قافلة المؤمنين..

    وأخذ مكانا فسيحا وعاليا بين صفوف المضطهدين والمعذبين..!!

    ومكانا عاليا كذلك بين صفوف الباذلين والمفتدين..

    وانه ليتحدث صادقا عن ولائه العظيم لمسؤولياته كمسلم بايع الرسول، وسار تحت راية الاسلام فيقول:

    " لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط الا كنت حاضره..

    ولم يبايع بيعة قط الا كنت حاضرها..

    ولا يسر سرية قط. الا كنت حاضرها..

    ولا غزا غزاة قط، أوّل الزمان وآخره، الا منت فيها عن يمينه أو، شماله..

    وما خاف المسلمون أمامهم قط، الا كنت أمامهم..

    ولا خافوا وراءهم الا كنت وراءهم..

    وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين االعدوّ أبدا حتى لقي ربه"..!!

    هذه صورة باهرة، لايمان فذ وولاء عظيم..

    ولقد كان صهيب رضي الله عنه وعن اخوانه أجمعين، أهلا لهذا الايمان المتفوق من أول يوم استقبل فيه نور الله، ووضع يمينه في يمين الرسول..

    يومئذ أخذت علاقاته بالناس، وبالدنيا، بل وبنفسه، طابعا جديدا. يومئذ. امتشق نفسا صلبة، زاهدة متفانية. وراح يستقبل بها الأحداث فيطوّعها. والأهوال فيروّعها.

    ولقد مضى يواجه تبعاته في اقدام وجسور.. فلا يتخلف عن مشهد ولا عن خطر.. منصرفا ولعه وشغفه عن الغنائم الى المغارم.. وعن شهوة الحياة، الى عشق الخطر وحب الموت..



    ولقد افتتح أيام نضاله النبيل وولائه الجليل بيوم هجرته، ففي ذلك اليوم تخلى عن كل ثروته وجميع ذهبه الذي أفاءته عليه تجارته الرابحة خلال سنوات كثيرة قضاها في مكة.. تخلى عن كل هذه الثروة وهي كل ما يملك في لحظة لم يشب خلالها تردد ولا نكوص.

    فعندما همّ الرسول بالهجرة، علم صهيب بها، وكان المفروض أن يكون ثالث ثلاثة، هم الرسول.. وأبو بكر.. وصهيب..

    بيد أن القرشيين كانوا قد بيتوا أمرهم لمنع هجرة الرسول..

    ووقع صهيب في بعض فخاخهم، فعوّق عن الهجرة بعض الوقت بينما كان الرسول وصاحبه قد اتخذا سبيلهما على بركة الله..

    وحاور صهيب وداور، حتى استطاع أن يفلت من شانئيه، وامتطى ظهر ناقته، وانطلق بها الصحراء وثبا..

    بيد أن قريشا أرسلت في أثره قناصتها فأدركوه.. ولم يكد صهيب يراهم ويواجههم من قريب حتى صاح فيهم قائلا:

    " يا معشر قريش..

    لقد علمتم أني من أرماكم رجلا.. وأيم والله لا تصلون اليّ حتى ارمي بكل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منه شيء، فأقدموا ان شئتم..

    وان شئتم دللتكم على مالي، وتتركوني وشاني"..



    ولقد استاموا لأنفسهم، وقبلوا أن يأخذوا ماله قائلين له:

    أتيتنا صعلوكا فقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت بيننا ما بلغت، والآن تنطلق بنفسك وبمالك..؟؟

    فدلهم على المكان الذي خبأ فيه ثروته، وتركوه وشأنه، وقفلوا الى مكة راجعين..



    والعجب أنهم صدقوا قوله في غير شك، وفي غير حذر، فلم يسألوه بيّنة.. بل ولم يستحلفوه على صدقه..!! وهذا موقف يضفي على صهيب كثيرا من العظمة يستحقها كونه صادق وأمين..!!

    واستأنف صهيب هجرته وحيدا سعيدا، حتى أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء..



    كان الرسول جالسا وحوله بعض أصحابه حين أهل عليهم صهيب ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهللا:

    " ربح البيع أبا يحيى..!!

    ربح البيع أبا يحيى..!!

    وآنئذ نزلت الآية الكريمة:

    ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد)..



    أجل لقد اشترى صهيب نفسه المؤمنة ابتغاء مرضات الله بكل ثروته التي أنفق شبابه في جمعها، ولم يحس قط أنه المغبون..

    فمال المال، وما الذهب وما الدنيا كلها، اذا بقي له ايمانه، واذا بقيت لضميره سيادته.. ولمصيره ارادته..؟؟

    كان الرسول يحبه كثيرا.. وكان صهيب الى جانب ورعه وتقواه، خفيف الروح، حاضر النكتة..

    رآه الرسول يأكل رطبا، وكان باحدى عينيه رمد..

    فقال له الرسول ضاحكا:" أتأكل الرطب وفي عينيك رمد"..؟

    فأجاب قائلا:" وأي بأس..؟ اني آكله بعيني الآخرى"..!!

    وكان جوّادا معطاء.. ينفق كل عطائه من بيت المال في سبيل الله، يعين محتاجا.. يغيث مكروبا.." ويطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا".

    حتى لقد أثار سخاؤه المفرط انتباه عمر فقال له: أراك تطعم كثيرا حتى انك لتسرف..؟

    فأجابه صهيب لقد سمعت رسول الله يقول:

    " خياركم من أطعم الطعام".




    **




    ولئن كانت حياة صهيب مترعة بالمزايا والعظائم، فان اختيار عمر بن الخطاب اياه ليؤم المسلمين في الصلاة مزية تملأ حياته ألفة وعظمة..

    فعندما اعتدي على أمير المؤمنين وهو يصلي بالمسلمين صلاة الفجر..

    وعندما احس نهاية الأجل، فراح يلقي على اصحابه وصيته وكلماته الأخيرة قال:

    " وليصلّ بالناس صهيب"..

    لقد اختار عمر يومئذ ستة من الصحابة، ووكل اليهم أمر الخليفة الجديد..



    وخليفة المسلمين هو الذي يؤمهم في الصلاة، ففي الأيام الشاغرة بين وفاة أمير المؤمنين، واختيار الخليفة الجديد، من يؤم المسلمين في الصلاة..؟

    ان عمر وخاصة في تلك الللحظات التي تأخذ فيها روحه الطاهرة طريقها الى الله ليستأني ألف مرة قبل أن يختار.. فاذا اختار، فلا أحد هناك أوفر حظا ممن يقع عليه الاختيار..

    ولقد اختار عمر صهيبا..

    اختاره ليكون امام المسلمين في الصلاة حتى ينهض الخليفة الجديد.. بأعباء مهمته..

    اختاره وهو يعلم أن في لسانه عجمة، فكان هذا الاختيار من تمام نعمة الله على عبده الصالح صهيب بن سنان..
    </FONT>

  6. #21
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    17/ البراء بن مالك :


    هو ثاني أخوين عاشا في الله، وأعطيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا نما وأزهر مع الأيام..

    أما أولهما فهو أنس بن مالك خادم رسول الله عليه السلام.

    أخذته أمه أم سليم الى الرسول وعمره يوم ذاك عشر سنين وقالت:

    "يا رسول الله..
    هذا أنس غلامك يخدمك، فادع الله له"..

    فقبّله رسول الله بين عينيه ودعا له دعوة ظلت تحدو عمره الطويل نحو الخير والبركة..

    دعا له لرسول فقال:

    " اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له، وأدخله الجنة"..

    فعاش تسعا وتسعين سنة، ورزق من البنين والحفدة كثيرين، كما أعطاه الله فيما أعطاه من رزق، بستانا رحبا ممرعا، كان يحمل الفاكهة في العام مرتين..!!




    **




    وثاني الأخوين، هو البراء بن مالك..

    عاش حياته العظيمة المقدامة، وشعاره:

    " الله، والجنة"..

    ومن كان يراه، وهو يقاتل في سبيل الله، كان يرى عجبا يفوق العجب..

    فلم يكن البراء حين يجاهد المشركين بسيفه ممن يبحثون عن النصر، وان يكن النصر آنئذ أجلّ غاية.. انما كان يبحث عن الشهادة..

    كانت كل أمانيه، أن يموت شهيدا، ويقضي نحبه فوق أرض معركة مجيدة من معارك الاسلام والحق..

    من أجل هذا، لم يتخلف عن مشهد ولا غزوة..

    وذات يوم ذهب اخوانه يعودونه، فقرأ وجوههم ثم قال:

    " لعلكم ترهبون أن أموت على فراشي..

    لا والله، لن يحرمني ربي الشهادة"..!!

    ولقد صدّق الله ظنه فيه، فلم يمت البراء على فراشه، بل مات شهيدا في معركة من أروع معارك الاسلام..!!




    **




    ولقد كانت بطولة البراء يوم اليمامة خليقة به.. خليقة بالبطل الذي كان عمر بن الخطاب يوصي ألا يكون قائدا أبدا، لأن جسارته واقدامه، وبحثه عن الموت.. كل هذا يجعل قيادته لغيره من المقاتلين مخاطرة تشبه الهلاك..!!

    وقف البراء يوم اليمامة وجيوش الاسلام تحت امرة خالد تتهيأ للنزال، وقف يتلمظ مستبطئا تلك اللحظات التي تمرّ كأنها السنين، قبل أن يصدر القائد أمره بالزحف..

    وعيناه الثاقبتان تتحركان في سرعة ونفاذ فوق أرض المعركة كلها، كأنهما تبحثان عن أصلح مكان لمصرع البطل..!!

    أجل فما كان يشغله في دنياه كلها غير هذه الغاية..

    حصاد كثير يتساقط من المشركين دعاة الظلام والباطل بحدّ سيفه الماحق..

    ثم ضربة تواتيه في نهاية المعركة من يد مشركة، يميل على أثرها جسده الى الأرض، على حين تأخذ روحه طريقها الى الملأ الأعلى في عرس الشهداء، وأعياد المباركين..!!




    **




    ونادى خالد: الله أكبر، فانطلقت الصفوف المرصوصة الى مقاديرها، وانطلق معها عاشق الموت البراء بن مالك..

    وراح يجندل أتباع مسيلمة الكذاب بسيفه.. وهم يتساقطون كأوراق الخريف تحت وميض بأسه..

    لم يكن جيش مسيلمة هزيلا، ولا قليلا.. بل كان أخطر جيوش الردة جميعا..

    وكان بأعداده، وعتاده، واستماتة مقاتليه، خطرا يفوق كل خطر..

    ولقد أجابوا على هجوم المسلمين شيء من الجزع. وانطلق زعماؤهم وخطباؤهم يلقون من فوق صهوات جيادهم كلمات التثبيت. ويذكرون بوعد الله..

    وكان البراء بن مالك جميل الصوت عاليه..

    وناداه القائد خالد تكلم يا براء..

    فصاح البراء بكلمات تناهت في الجزالة، والدّلالة، القوة..

    تلك هي:

    " يا أهل المدينة..

    لا مدينة لكم اليوم..

    انما هو الله والجنة"..

    كلمات تدل على روح قائلها وتنبئ بخصاله.

    أجل..

    انما هو الله، والجنة..!!

    وفي هذا الموطن، لا ينبغي أن تدور الخواطر حول شيء آخر..

    حتى المدينة، عاصمة الاسلام، والبلد الذي خلفوا فيه ديارهم ونساءهم وأولادهم، لا ينبغي أن يفكروا فيها، لأنهم اذا هزموا اليوم، فلن تكون هناك مدينة..

    وسرت كلمات البراء مثل.. مثل ماذا..؟

    ان أي تشبيه سيكون ظلما لحقيقة أثرها وتأثيرها..

    فلنقل: سرت كلمات البراء وكفى..

    ومضى وقت وجيز عادت بعده المعركة الى نهجها الأول..

    المسلمون يتقدمون، يسبقهم نصر مؤزر.

    والمشركون يتساقطون في حضيض هزيمة منكرة..

    والبراء هناك مع اخوانه يسيرون راية محمد صلى الله عليه وسلم الى موعدها العظيم..

    واندفع المشركون الى وراء هاربين، واحتموا بحديقة كبيرة دخلوها ولاذوا بها..

    وبردت المعركة في دماء المسلمين، وبدا أن في الامان تغير مصيرها بهذه الحيلة التي لجأ اليها أتباع مسيلمة وجيشه..

    وهنا علا البراء ربوة عالية وصاح:

    " يا معشر المسلمين..

    احملوني وألقوني عليهم في الحديقة"..

    ألم أقل لكم انه لا يبحث عن النصر بل عن الشهادة..!!

    ولقد تصوّر في هذه الخطة خير ختام لحياته، وخير صورة لمماته..!!

    فهو حين يقذف به الى الحديقة، يفتح المسلمين بابها، وفي نفس الوقت كذلك تكون أبواب الجنة تأخذ زينتها وتتفتح لاستقبال عرس جديد ومجيد..!!




    **




    ولم ينتظر البراء أن يحمله قومه ويقذفوا به، فاعتلى هو الجدار، وألقى بنفسه داخل الحديقة وفتح الباب، واقتحمته جيوش الاسلام..

    ولكن حلم البراء لم يتحقق، فلا سيوف المشركين اغتالته، ولا هو لقي المصرع الذي كان يمني به نفسه..

    وصدق أبو بكر رضي الله عنه:

    " احرص على الموت..

    توهب لك الحياة"..!!



    صحيح أن جسد البطل تلقى يومئذ من سيوف المشركين بضعا وثمانين ضربة، أثخنته ببضع وثمانين جراحة، حتى لقد ظل بعد المعركة شهرا كاملا، يشرف خالد بن الوليد نفسه على تمريضه..

    ولكن كل هذا الذي أصابه كان دون غايته وما يتمنى..

    بيد أن ذلك لا يحمل البراء على اليأس.. فغدا تجيء معركة، ومعركة، ومعركة..

    ولقد تنبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه مستجاب الدعوة..

    فليس عليه الا أن يدعو ربه دائما أن يرزقه الشهادة، ثم عليه ألا يعجل، فلكل أجل كتاب..!!



    ويبرأ البراء من جراحات يوم اليمامة..

    وينطلق مع جيوش الاسلام التي ذهبت تشيّع قوى الظلام الى مصارعها.. هناك حيث تقوم امبراطوريتان خربتان فانيتان، الروم والفرس، تحتلان بجيوشهما الباغية بلاد الله، وتستعبدان عباده..

    ويضرب البراء بسيفه، ومكان كل ضربة يقوم جدار شاهق في بناء العالم الجديد الذي ينمو تحت راية الاسلام نموّا سريعا كالنهار المشرق..




    **




    وفي احدى حروب العراق لجأ الفرس في قتالهم الى كل وحشية دنيئة يستطيعونها..

    فاستعملوا كلاليب مثبتة في أطراف سلاسل محمأة بالنار، يلقونها من حصونهم، فتخطف من تناله من المسلمين الذين لا يستطيعون منها فكاكا..

    وكان البراء وأخوه العظيم أنس بن مالك قد وكل اليهما مع جماعة من المسلمين أمر واحد من تلك الحصون..

    ولكن أحد هذه الكلاليب سقط فجأة، فتعلق بأنس ولم يستطع أنس أن السلسلة ليخلص نفسه، اذ كانت تتوهج لهبا ونارا..

    وأبصرالبراء المشهد لإاسرع نحو أخيه الذي كانت السلسلة المحمأة تصعد به على سطح جدار الحصن.. وقبض على السلسلة بيديه وراح يعالجها في بأس شديد حتى قصمها وقطعها.. ونجا أنس وألقى البراء ومن معه نظرة على كفيه فلم يجدوهما مكانهما..!!

    لقد ذهب كل ما فيهما من لحم، وبقي هيكلهما العظمي مسمّرا محترقا..!!

    وقضى البطل فترة أخرى في علاج بطيء حتى بريء..




    **




    أما آن لعاشق الموت أن يبلغ غايته..؟؟

    بلى آن..!!

    وهاهي ذي موقعة تستر تجيء ليلاقي المسلمون فيها جيوش فارس

    ولتكون لـ البراء عيدا أي عيد..




    **




    احتشد أهل الأهواز، والفرس في جيش كثيف ليناجزوا المسلمين..

    وكتب امير المؤمنين عمر بن الخطاب الى سعد بن أبي وقاص بالكوفة ليرسل الى الأهواز جيشا..

    وكتب الى أبي موسى الأشعري بالبصرة ليرسل الى الأهواز جيشا، قائلا له في رسالته:

    " اجعل امير الجند سهيل بن عديّ..

    وليكن معه البراء بن مالك"..





    والتقى القادمون من الكوفة بالقادمين من البصرة ليواجهوا جيش الأهواز وجيش الفرس في معركة ضارية..

    كان الاخوان العظيمان بين الحنود المؤمنين.. أنس بن مالك، والبراء بن مالك..

    وبدأت الحرب بالمبارزة، فصرع البراء وحده مائة مبارز من الفرس..

    ثم التحمت الجيوش، وراح القتلى يتساقطون من الفرقين كليهما في كثرة كاثرة..

    واقترب بعض الصحابة من البراء، والقتال دائر، ونادوه قائلين:

    " أتذكر يا براء قول الرسول عنك: ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء بن مالك..؟

    يا براء أقسم على ربك، ليهزمهم وينصرنا"..

    ورفع البراء ذراعيه الى السماء ضارعا داعيا:

    " اللهم امنحنا أكتافهم..

    اللهم اهزمهم..

    وانصرنا عليهم..

    وألحقني اليوم بنبيّك"..

    ألقى على جبين أخيه أنس الذي كان يقاتل قريبا منه.. نظرة طويلة، كأنه يودّعه..

    وانقذف المسلمون في استبسال لم تألفه الدنيا من سواهم..

    ونصروا نصرا مبينا.




    **




    ووسط شهداء المعركة، كان هناك البراء تعلو وجهه ابتسامة هانئة كضوء الفجر.. وتقبض يمناه على حثيّة من تراب مضمّخة بدمه الطهور..

    لقد بلغ المسافر داره..

    وأنهى مع اخوانه الشهداء رحلة عمر جليل وعظيم، ونودوا:

    ( أن تلكم الجنة، أورثتموها بما كنتم تعملون)....
    </FONT>

  7. #22
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    18/ عبد الله بن عمر :


    تحدّث وهو على قمة عمره الطويل فقال:

    "لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    فما نكثت ولا بدّلت الى يومي هذا..

    وما بايعت صاحب فتنة..

    ولا أيقظت مؤمنا من مرقده"..

    وفي هذه الكلمات تلخيص لحياة الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين، والذي بدأت علاقته بالاسلام والرسول، وهو في الثالثة عشر من العمر، حين صحب أباه في غزوة بدر، راجيا أن يكون له بين المجاهدين مكان، لولا أن ردّه الرسول عليه السلام لصغر سنه..

    من ذلك اليوم.. بل وقبل ذلك اليوم حين صحب أباه في هجرته الى المدينة.. بدأت صلة الغلام ذي الرجولة المبكرة بالرسول عليه السلام والاسلام..

    ومن ذلك اليوم الى اليوم الذي يلقى فيه ربه، بالغا من العمر خمسة وثمانين عاما، سنجد فيه حيثما نلقاه، المثابر الأوّاب الذي لا ينحرف عن نهجه قيد أشعرة، ولا يند عن بيعة بايعها، ولا يخيس بعهد أعطاه..

    وان المزايا التي تأخذ الأبصار الى عبدالل بن عمر لكثيرة.

    فعلمه وتواضعه، واستقامة ضميره ونهجه، وجوده، وورعه، ومثابرته، على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة..

    كل هذه الفضائل والخصال، صاغ ابن عمر عمره منها، وشخصيته الفذة، وحياته الطاهرة الصادقة..

    لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب خيرا كثيرا.. وتعلم مع أبيه من رسول الله الخير كله والعظمة كلها..

    لقد أحسن كأبيه الايمان بالله ورسوله.. ومن ثم، كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر الألباب..

    فهو ينظر، ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر، فيحاكيه في دقة واخبات..

    هنا مثلا، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي.. فيصلي ابن عمر في ذات المكان..

    وهنا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو قائما، فيدعو ابن عمر قائما...

    وهنا كان الرسول يدعو جالسا، فيدعو عبدالله جالسا..

    وهنا وعلى هذا الطريق نزل الرسول يوما من فوق ظهر ناقته، وصلى ركعتين، فصنع ابن عمر ذلك اذا جمعه السفر بنفس البقعة والمكان..



    بل انه ليذكر أن ناقة الرسول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة، قبل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها، ويصلي ركعتين، وقد تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها.

    لكن عبدالل بن عمر لا يكاد يبلغ ها المكان يوما حتى يدور بناقته، ثم ينيخها، ثم يصلي ركعتين للله.. تماما كما رأى المشهد من قبل مع رسول الله..



    ولقد أثار فرط اتباعه هذا، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت:

    "ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله، كما كان يتبعه ابن عمر".

    ولقد قضى عمره الطويل المبارك على هذا الولاء الوثيق، حتى لقد حاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول:

    "اللهم أبق عبدالله بن عمر ما أبقيتني، كي أقتدي به، فاني لا أعلم أحد على الأمر الأول غيره".



    وبقوة هذا التحري لشديد الويق لخطى لبرسول وسنته، كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول الله ولا يروي عنه عليه السلام حديثا الا اذا كان ذاكرا كل حروفه، حرفا.. حرفا.

    وقد قال معاصروه..

    "لم يكن من أصحاب رسول الله أحد أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه، من عبدالله بن عمر"..!!



    وكذلك كان شديد الحذر والتحوّط في الفتيا..

    جاءه يوما رجل يستفتيه، فلماألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائلا:

    " لا علم لي بما تسأل عنه"

    وذهب الرجل في سبيله، ولا يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلان فرحا ويقول لنفسه:

    "سئل ابن عمر عما لا يعلم، فقال لا أعلم"..!

    كان يخاف أن يجتهد في فتياه، فيخطئ في اجتهاده، وعلى الرغم من أنه يحيا وفق تعاليم الدين العظيم، للمخطئ أجر وللمصيب أجرين، فان ورعه أن يسلبه ورعه كان يسلبه الجسارة على الفتيا.

    وكذلك كان ينأى به عن مناصب القضاة..

    لقد كانت وظيفة القضاء من أرقع مناصب الدولة والمجتمهع، وكانت تضمن لشاغرها ثراء، وجاها، ومجدا..

    ولكن ما حاجة ابن عمر الورع للثراء، وللجاه، وللمجد..؟!



    دعاه يوما الخليفة عثمان رضي الله عنهما، وطلب اليه أن يشغل منصب القضاة، فاعتذر.. وألح عليه عثمان، فثابر على اعتذاره..

    وسأله عثمان: أتعصيني؟؟

    فأجاب ابن عمر:

    " كلا.. ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة..

    قاض يقضي بجهل، فهو في النار..

    وقاض يقضي بهوى، فهو في النار..

    وقاض يجتهد ويصيب، فهو كفاف، لا وزر، ولا أجر..

    واني لسائلك بالله أن تعفيني"..

    وأعفاه عثمان، بعد أن أخذ عليه العهد ألا يخبر أحدا بهذا.

    ذلك أن عثمان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس، وانه ليخشى اذا عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا نهجه، وعندئذ لا يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا..



    وقد يبدو هذا الموقف لعبد الله بن عمر سمة من سمات السلبية.

    بيد أنه ليس كذلك، فعبد الله بن عمر لم يمتنع عن القضاء وليس هناك من يصلح له سواه.. بل هناك كثيرون من أصحاب رسول الله الورعين الصالحين، وكان بعضهم يشتغل بالقضاء والفتية بالفعل..

    ولم يكن في تخلي ابن عمر عنه تعطيل لوظيفة القضاء، ولا القاء بها بين أيدي الذين لا يصلحون لها.. ومن ثمّ قد آثر البقاء مع نفسه، ينمّيها ويزكيها بالمزيد من الطاعة، والمزيد من العبادة..



    كما أنه في ذلك الحين من حياة الاسلام، كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين وفاضت الأموال، وكثرت المناصب والامارات.

    وشرع اغراء المال والمناصب يقترب من بعض القلوب المؤمنة، مما جعل بعض أصحاب الرسول، ومنهم ابن عمر، يرفعون راية المقاومة لهذا الاغراء باتخذهم من أنفسهم قدوة ومثلا في الزهد والورع والعزوف عن المانصب الكبيرة، وقهر فتنتها واغرائها...




    **




    لقد كان ابن عمر،أخا الليل، يقومه مصليا.. وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا..

    ولقد رأى في شبابه رؤيا، فسرها الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبدالله، ومناط غبطته وحبوره..



    ولنصغ اليه يحدثنا عن نبأ رؤياه:

    "رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن بيدي قطعة استبرق، وكأنني لا أريد مكانا في الجنة الا طارت بي اليه..

    ورأيت كأن اثنين أتياني، وأرادا أن يذهبا بي الى النار، فتلقاهما ملك فقال: لا ترع، فخليّا عني..

    فقصت حفصة - أختي- على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبدالله، لو كان يصلي من الليل فيكثر"..

    ومن ذلك اليوم والى أن لقي ربه، لم يدع قيام الليل في حله، ولا في ترحاله..

    فكان يصلي ويتلو القرآن، ويذكر ربه كثيرا.. وكان كأبيه، تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن.



    يقول عبيد بن عمير: قرأت يوما على عبدالله بن عمر هذه الآية:

    (فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا)..

    فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت لحيته من دموعه.

    وجلس يوما بين اخوانه فقرا:

    (ويل للمطففين، الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون، واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم ميعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين)..

    ثم مضى يردد الآية:

    (..يوم يقوم الناس لرب العالمين).

    ودموعه تسيل كالمطر. حتى وقع من كثرة وجده وبكائه..!!




    **




    ولقد كان جوده، وزهده، وورعه، تعمل معا في فن عظيم، لتشكل أروع فضائل هذا الانسان العظيم.. فهو يعطي الكثير لأنه جواد..

    ويعطي الحلال الطيب لأنه ورع..

    ولا يبالي أن يتركه الجود فقيرا، لأنه زاهد..!!



    وكان ابن عمر رضي الله عنه، من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة، اذ كان تاجرا أمينا ناجحا شطر حياته، وكان راتبه من بيت المال وفيرا.. ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط، انما كان يرسله غدقا على الفقراء، والمساكين والسائلبن..

    يحدثنا أيوب بن وائل الراسبي عن أحد مكرماته، فيخبرنا أن ابن عمر جاءه يوما بأربعة آلافدرهم وقطيفة..

    وفي اليوم التالي، رآه أيوب بن وائل في السوق يشتري لراحلته علفا نسيئة – أي دينا- ..

    فذهب ابن وائل الى أهل بيته وسالهم أليس قد أتى لأبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالأمس أربعة آلاف،وقطيفة..؟

    قالوا: بلى..

    قال: فاني قد رأيته اليوم بالسوق يشتر علفا لراحلته ولا يجد معه ثمنه..

    قالوا: انه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعها، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره، خرج.. ثم عاد وليست معه، فسألناه عنهتا. فقال: انه وهبها لفقير..!!

    فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف. حتى أتى السوق فتوقل مكانا عاليا، وصاح في الناس:

    " يا معشر التجار..

    ما تصنعون بالدنيا، وهذا بن عمر تأتيه الف درهم فيوزعها، ثم يصلح فيستدين علفا لراحلته"..؟؟!!



    ألا ان من كان محمد أستاذه، وعمر أباه، لعظيم، كفء لكل عظيم..!!

    ان وجود عبد الله بن عمر، وزهزد وورعه، هذه الخصال الثلاثة، كانت تحكي لدى عبد الله صدق القدوة.. وصدق البنوّة..

    فما كان لمن يمعن في التأسي برسول الله، حتى انه ليقف بناقته حيث رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف ناقته. ويقول" لعل خفا يقع على خف".!

    والذي يذهب برأيه في برأبيه وتوقيره والاعجاب به الى المدى الذي كانت شخصية عمر تفرضه على الأعداء، فضلا عن الأقرباء. فضلا عن الأبناء..

    أقول ما ينبغي لمن ينتمي لهذا الرسول، ولهذا الوالد أن يصبح للمال عبدا..

    ولقد كانت الأموال تاتيه وافرة كثيرة.. ولكنها تمر به مرورا.. وتعبر داره عبورا..

    ولم يكن جوده سبيلا الى الزهو، والا الى حسن الأحدوثة.

    ومن ثم. فقد كان يخص به المحتاجين والفقراء.. وقلما كان يأكل الطعام وحده.. فلا بد أن يكون معه أيتام، أو فقراء.. وطالما كان يعاتب بعض أبنائه، حين يولمون للأغنياء، ولا يأتون معهم بالفقراء، ويقول لهم:

    "تدعون الشباع. وتدعون الجياع"..!!



    وعرف الفقراء عطفه، وذاقوا حلاوة بره وحنانه، فكانوا يجلسون في طريقه، كي يصحبهم الى داره حين يراهم.. وكانوا يحفون به كما تحف أفواج النحل بالأزاهير ترتشف منها الرحيق..!




    **




    لقد كان المال بين يديه خادما لا سيدا،،

    وكان وسيلة لضروات العيش لا للترف..

    ولم يكن ماله وحده، بل كان للفقراء فيه حق معلوم، بل حق متكافئ لا يتميز فيه بنصيب..

    ولقد أعانه على هذا الجود الواسع زهده.. فما كان ابن عمر يتهالك على الدنيا، ولا يسعى اليها، بل ولا رجو منها الا كا يستر الجسد من لباس، ويقيم الأود من الطعام..



    أهداه أحد اخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة أنيقة، وقال له:

    لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان، وانه لتقر عيناي، اذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه، وترتدي هذا الثوب الجميل..

    قال له ابن عمر: أرنيه اذن..

    ثم لمسه وقال: أحرير هذا.؟

    قال صاحبه: لا .. انه قطن.

    وتملاه عبد الله قليلا، ثم دفعه بيمينه وهويقول:"لا.اني أخاف على نفسي.. أخاف ان يجعلني مختالا فخورا.. والله لا يحب كل مختال فخور"..!!



    وأهداه يوما صديقا وعاء مملوءا..

    وسأله ابن عمر: ما هذا؟

    قال: هذا دواء عظيم جئتك به من العراق.

    قال ابن عمر: وماذا يطبب هذا الدواء..؟؟

    قال: يهضم الطعام..

    فالتسم ابن عمر وقال لصاحبه:" يهضم الطعام..؟ اني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما".!!



    ان هذا الذي لم يشبع من الطعام منذ أربعين عاما، لم يكنيترك الشبع خصاصة، بلزهدا وورعا، ومحاولة للتاسي برسوله وأبيه..

    كان يخاف أن يقال له يوم القيامة:

    (أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)..



    وكان يدرك انه في الدنيا ضيف أو عابر شبيل..

    ولقد تحدث عن نفسه قائلا:

    "ما وضعت لبنة على لبنة، ولا غرست نخلة منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم"..

    ويقول ميمون بن مهران:

    " دخلت على ابن عمر، فقوّمت كل شيء في بيته من فراش، ولحاف وبساط. ومن كل شيء فيه، فما وجدته تساوي مئة ردهم"..!!

    لم يكن ذلك عن فقر.ز قد كان ابن عمر ثريا..

    ولا كان ذلك عن بخل فقد كان جوّدا سخيا..

    زامكا كان عن زهد في الدنيا، وازدراء للترف، والتزام لمنهجه في الصدق والورع..

    ولقد عمّر ابن عمر طويلا، وعاش في العصر الأموي الذي فاضت فيها لأموال وانتشرت الضياع، وغطى البذخ أكث الدور.. بل قل أكثر القصور..

    ومع هذا، بقي ذلك الطود الجليل شامخا ثابتا، لا يبرح نهجه ولا يتخلى عن ورعه وزهده.

    واذا ذكّر بحظوظ الدنيا ومتاعها التي يهرب منها قال:

    "لقد اجتمعت وأصحابي على أمر، واني أخاف ان خالفتهم ألا ألأحق بهم"..

    ثم يعلم الآخرين أنه لم يترك دنياهم عجزا، فيرفع يده الى السماء ويقول:

    "اللهم انك تعلم أنه لولا مخافتك لزاحمنا قومنا قريشا في هذه الدنيا".




    **






    أجل.. لولا مخافة ربه لزاحم في الدنيا، ولكان من الظافرين..

    بل انه لم يكن بحاجة الى أن يزاحم، فقد كانت الدنيا تسعى اليه وتطارده بطيباتها ومغرياتها..

    وهل هناك كمنصب الخلافة اغراء..؟

    لقد عرض على ابن عمر مرات وهو يعرض عنه.. وهدد بالقتل ان لم يقبل. فازداد له رفضا، وعنه اعراضا..!!



    يقول الحسن رضي الله عنه:

    " لما قتل عثمان بن عفان، قالوا لعبد الله بن عمر: انك سيّد الناس، وابن سيد الناس، فاخرج نبايع لك الناس..

    قال: ان والله لئن استطعت، لا يهراق بسببي محجمة من دم..

    قالوا: لتخرجن، أ، لنقتلنكك على فراشك.. فأعاد عليهم قوله الأول..

    فأطمعوه.. وخوّفوه.. فما استقبلوا منه شيئا"..!!



    وفيما بعد.. وبينما الزمان يمر، والفتن تكثر، كان ابن عمر دوما هو الأمل، فيلح الناس عليه، كي يقبل منصب الخلافة، ويجيئوا له بالبيعة، ولكنه كان دائما يأبى..

    ولقد يشكل هذا الرفض مأخذا يوجه الى ابن عمر..

    بيد أن كان له منطقه وحجته.فبعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ساءت الأمور وتفاقمت على نحو ينذر بالسوء والخطر..



    وابن عمر وان يك زاهدا في جاه الخلافة، فانه يتقبل مسؤلياتها ويحمل أخطارها، ولكن شريطة أن يختاره جميع المسلمين طائين، مختارين، أما أن يحمل واحد لا غير على بيعته بالسيف، فهذا ما يرفضه، ويرفض الخلافة معه..

    وآنئذ، لم يكن ذلك ممكنا.. فعلى الرغم من فضله، واجماع المسلمين على حبه وتوقيره، فان اتساع الأمصار، وتنائبها، والخلافات التي احتدمت بين المسلمين، وجعلتهم شيعا تتنابذ بالحرب، وتتنادى للسيف، لم يجعل الجو مهيأ لهذا الاجماع الذي يشترطه عبدالله بن عمر..



    لقيه رجل يوما فقال له: ما أحد شر لأمة محمد منك..!

    قال ابن عمر: ولم..؟ فوالله ما سفكت دماءهم، ولا فرقت جماعتهم، ولا شققت عصاهم..

    قال الرجل: انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان..

    قال ابن عمر: ما أحب أنها أتتني، ورجل يقول: لا، وآخر يقول: نعم.



    وحتى بعد أن سارت الأحداث شوطا طويلا، واستقر الأمر لمعاوية.. ثم لابنه يزيد من بعده.ز ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدا فيها بعد أيام من توليها..

    حتى في ذلك اليوم، وابن عمر شيخ مسن كبير، كان لا يزال أمل الناس، وأمل الخلافة.. فقد ذهب اليه مروان قال له:

    هلم يدك نبايع لك، فانك سيد العرب وابن سيدها..

    قال له ابن عمر: كيف نصنع بأهل المشرق..؟

    قال مروان: نضربهم حتى يبايعوا..

    قال ابن عمر:"والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما، ويقتل بسببي رجل واحد"..!!

    فانصرف عنه مروان وهو ينشد:

    اني أرى فتنة تغلي مراجلها والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا

    يعني بأبي ليلى، معاوية بن يزيد...




    **




    هذا الرفض لاستعمال القوة والسيف، هو الذي جعل ابن عمر يتخذ من الفتنة المسلحة بين أنصار علي وأنصار معاوية، موقف العزلة والحياد جاعلا شعاره ونهجه هذه الكلمات:

    "من قال حي على الصلاة أجبته..

    ومن قال حي على الفلاح أجبته..

    ومن قال حي على قتل أخيك المسلم واخذ ماله قلت: لا".!!

    ولكنه في عزلته تلك وفي حياده، لا يماليء باطلا..

    فلطالما جابه معاوية وهو في أوج سلطانه يتحديات أوجعته وأربكته..

    حتى توعده بالقتل، وهو القائل:" لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت"..!!



    وذات يوم، وقف الحجاج خطيبا، فقال:" ان ابن الزبير حرّف كتاب الله"!

    فصاح ابن عمر في وجهه:" كذبت، كذبت، كذبت".

    وسقط في يد الحجاج، وصعقته المفاجأة، وهو الذي يرهبه كل شيء، فمضى يتوعد ابن عمر بشرّ جزاء..

    ولوذح ابن عمر بذراعه في وجه الحجاج، وأجابه الناس منبهرون:" ان تفعل ما تتوعد به فلا عجب، فانك سفيه متسلط"..!!

    ولكنه برغم قوته وجرأته ظل الى آخر أيامه، حريصا على ألا يكون له في الفتنة المسلحة دور ونصيب، رافضا أن ينحاز لأي فريق...

    يقول أبو العالية البراء:

    " كنت أمشي يوما خلف ابن عمر، وهو لا يشعر بي، فسمعته يقول لنفسه:

    " واضعين سيوفهم على عواتقهم، يقتل بعضهم بعضا يقولون: يا عبد الله بن عمر، أعط يدك"..؟!



    وكان ينفجر أسى وألما، حين يرى دماء المسلمين تسيل بأيديهم..!!

    ولو استطاع أن يمنع القتال، ويصون الدم لفعل، ولكن الأحداث كانت أقوى منه فاعتزلها.

    ولقد كان قلبه مع علي رضي الله عنه، بل وكان معه يقينه فيما يبدو، حتى لقد روي عنه أنه قال في أخريات أيامه:

    " ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا الا أني لم أقاتل مع عليّ، الفئة الباغية"..!!



    على أنه حين رفض أن يقاتل مع الامام علي الذي كان الحق له، وكان الحق معه، فانه لم يفعل ذلك هربا، والا التماسا للنجاة.. بل رفضا للخلاف كله، والفتنة كلها، وتجنبا لقتال لا يدو بين مسلم ومشرك، بل بين مسلمين يأكل بعضهم بعضا..

    ولقد أوضح ذلك تماما حين سأله نافع قال:" يا أبا عبد الرحمن، أنت ابن عم.. وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت وأنت، فما يمنعك من هذا الأمر_ يعني نصرة علي_؟؟

    فأجابه قائلا:

    " يمنعني أن الله تعالى حرّم عليّ دم المسلم، لقد قال عز وجل: (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين ..)

    ولقد فعلنا وقاتلنا المشركين حتى كان الدين لله،اما اليوم. فيم نقاتل..؟؟

    لقد قاتلت الأوثان تملأ الحرم.. من الركن الى الباب، حتى نضاها الله من أرض العرب..

    أفأقاتل اليوم من يقول لا اله الا الله".؟!

    هكذا كان منطقه، وكانت حجته، وكان اقتناعه..



    فهو اذن لم يتجنب القتال ولم يشترك فيه، لاهروبا، أ، سلبية، بل رفضا لاقرار حرب أهلية بين الأمة المؤمنة، واستنكافا على أن يشهر مسلم في وجه مسلم سيفا..

    ولقد عاش عبد الله بن عمر طويلا.. وعاصر الأيام التي فتحت أبواب الدنيا على المسلمين، وفاضت الأموال، وكثرت المناصب، واستشرت المطامح والرغبات..



    لكن قدرته النفسية الهائلة، غيّرت كيمياء الومن..!! فجعلت عصر الطموح والمال والفتن.. جعلت هذا العصر بالنسبة اليه، أيام زهد، وورع ويلام، عاشها المثابر الأواب بكل يقينه، ونسكه وترفعه.. ولم يغلب قط على طبيعته الفاضلة التي صاغها وصقلها الاسلام في أيامه الأولى العظيمة الشاهقة..

    لقد تغيّرت طبيعة الحياة، مع بدء العصر الأموي، ولم يكن ثمّة مفر من ذلك التغيير.. وأصبح العصر يومئذ، عصر توسع في كل شيء.. توسع لم تستجب اليه مطامح الدولة فحسب، بل ومطامح الجماعة والأفراد أيضا.

    ووسط لجج الاغراء، وجيشان العصر المفتون بمزايا التوسع، وبمغانمه، ومباهجه، كان ابن عمر يعيش مع فضائله، في شغل عن ذلك كله بمواصلة تقدمه الروحي العظيم.

    ولقد أحرز من أغراض حياته الجليلة ما كان يرجو حتى لقد وصفه معاصروعه فقالوا:

    ( مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل)



    بل لقد كان يطيب لهم حين يبهرهم ألق فضائله، أن يقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر.. فيقولون:

    ( كان عمر في زمان له فيه نظراء، وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير)..!!

    وهي مبالغة يغفرها استحقاق ابن عمر لها، أما عمر فلا يقارن بمثله أحد.. وهيهات أن يكون له في كل عصور الزمان نظير..




    **




    وفي العام الثاث والسبعين للهجرة.. مالت الشمس للمغيب، ورفعت احدى سفن الأبدية مراسيها، مبحرة الى العالم الآخر والرفيق الأعلى، حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _في مكة والمدينة_ عبد الله بن عمر بن الخطاب. كان آخر الصحابة رحيلا عن الدنيا كلها أنس بن مالك رضي الله عنه، توفي بالبصرة، عام واحد وتسعين، وقيل عام ثلاث وتسعين.

    </FONT>

  8. #23
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    19 / الطفيل بن عمرو الدوسي :



    في أرض دوس نشأ بين أسرة شريفة كريمة..

    وأوتي موهبة الشعر، فطار بين القبائل صيته ونبوغه..

    وفي مواسم عكاظ حيث يأتي الشعراء العرب من كل فج ويحتشدون ويتباهون بشعرائهم، كان الطفيل يأخذ مكانه في المقدمة..



    كما كان يتردد على مكة كثيرا في غير مواسم عكاظ..

    وذات مرة كان يزورها، وقد شرع الرسول يجهر بدعوته..
    وخشيت قريش أن يلقاه الطفيل ويسلم، ثم يضع موهبته الشعرية في خدمة الاسلام، فتكون الطامة على قريش وأصنامها..

    من أجل ذلك أحاطوا به.. وهيئوا له من الضيافة كل أسباب الترف والبهجة والنعيم، ثم راحوا يحذرونه لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون له:

    " ان له قولا كالسحر، يفرّق بين الرجل وابيه.. والرجل وأخيه.. والرجل وزوجته.. ونا نخشى عليك وعلى قومك منه، فلا تكلمه ولا تسمع منه حديثا"..!!

    ولنصغ للطفيل ذاته يروي لنا بقية النبأ فيقول:

    " فوالله ما زالوا بي حتى عزمت ألا أسمع منه شيئا ولا ألقاه..

    وحين غدوت الى الكعبة حشوت أذنيّ كرسفا كي لا أسمع شيئا من قوله اذا هو تحدث..

    وهناك وجدته قائما يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه، فأبي الله الا أن يسمعني بعض ما يقرأ، فسمعت كلاما حسنا..

    وقلت لنفسي: واثكل أمي.. والله اني لرجل لبيب شاعر، لا يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من الرجل ما يقول، فان كان الذي يأتي به حسن قبلته، وان كان قبيحارفضته.

    ومكثت حتى انصرف الى بيته، فاتبعته حتى دخل بيته، فدخلت وراءه، وقلت له: يا محمد، ان قومك قد حدثوني عنك كذا وكذا.. فوالله ما برحوا يخوّفوني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف لئلا أسمع قولك..

    ولكن الله شاء أن أسمع، فسمعت قولا حسنا، فاعرض عليّ أمرك..

    فعرض الرسول عليّ الاسلام، وتلا عليّ من القرآن..

    فأسلمت، وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا رسول الله: اني امرؤ مطاع في قومي واني راجع اليهم، وداعيهم الى الاسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون عونا لي فيما أدعوهم اليه، فقال عليه السلام: اللهم اجعل له آية"..




    **




    لقد أثنى الله تعالى في كتابه على " الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه"..

    وها نحن أولاء نلتقي بواحد من هؤلاء..

    انه صورة صادقة من صور الفطرة الرشيدة..

    فما كاد سمعه يلتقط بعض آيات الرشد والخير التي أنزلها الله على فؤاد رسوله، حتى تفتح كل سمعه، وكل قلبه. وحتى بسط يمينه مبايعا.. ليس ذلك فحسب.. بل حمّل نفسه من فوره مسؤولية دعوة قومه وأهله الى هذا الدين الحق، والصراط المستقيم..!



    من أجل هذا، نراه لا يكاد يبلغ بلده وداره في أرض دوس حتى يواجه أباه بالذي من قلبه من عقيدة واصرار، ويدعو أباه الى الاسلام بعد أن حدّثه عن الرسول الذي يدعو الى الله.. حدثه عن عظمته.. وعن طهره وأمانته.. عن اخلاصه واخباته لله رب العالمين..

    وأسلم أبوه في الحال..

    ثم انتقل الى أمه، فأسلمت

    ثم الى زوجه، فأسلمت..

    ولما اطمأن الى أن الاسلام قد غمر بيته، انتقل الى عشيرته، والى أهل دوس جميعا.. فلم يسلم منهم أحد سوى أبي هريرة رضي الله عنه..

    ولقد راحوا يخذلونه، وينأون عنه، حتى نفذ صبره معهم وعليهم. فركب راحلته، وقطع الفيافي عائدا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو اليه ويتزوّد منه بتعاليمه..

    وحين نزل مكة، سارع الى دار الرسول تحدوه أشواقه..

    وقال للنبي:

    " يا رسول الله..

    انه قد غلبني على دوس الزنى، والربا، فادع الله أن يهلك دوسا"..!!

    وكانت مفاجأة أذهلت الطفيل حين رأى الرسول يرفع كفيه الى السماء وهو يقول:

    " اللهم اهد دوسا وأت بهم مسلمين"..!!

    ثم التفت الى الطفيل وقال له:

    " ارجع الى قومك فادعهم وارفق بهم".



    ملأ هذا المشهد نفس الطفيل روعة، وملأ روحه سلاما، وحمد اله أبلغ الحمد أن جعل هذا الرسول الانسان الرحيم معلمه وأستاذه. وأن جعل الاسلام دينه وملاذه.

    ونهض عائدا الى أرضه وقومه وهناك راح يدعوهم الى الاسلام في أناة ورفق، كما أوصاه الرسول عليه السلام.

    وخلال الفترة التي قضاها بين قومه، كان الرسول قد هاجر الى المدينة وكانت قد وقعت غزوة بدر، أحد والخندق.

    وبينما رسول الله في خيبر بعد أن فتحها الله على المسلمين اذا موكب حافل ينتظم ثمانين اسرة من دوس أقبلوا على الرسول مهللين مكبّرين ..

    وبينما جلسوا يبايعون تباعا..

    ولما فرغوا من مشهدهم الحافل، وبيعتهم المباركة جلس الطفيل بن عمرو مع نفسه يسترجع ذكرياته ويتأمل خطاه على الطريق..!!

    تذكر يوم قدوم الرسول يسأله أن يرفع كفيه الى السماء ويقول:

    اللهم اهلك دوسا، فاذا هو يبتهل بدعاء آخر أثار يومئذ عجبه..

    ذلك هو:

    " اللهم اهد دوسا وأت بهم مسلمين"..!!

    ولقد هدى الله دوسا..

    وجاء بهم مسلمين..

    وها هم أولاء.. ثمانون بيتا، وعائلة منهم، يشكلون أكثرية أهلها، يأخذون مكانهم في الصفوف الطاهرة خلف رسول الله الأمين.




    **




    ويواصل الطفيل عمله مع الجماعة المؤمنة..

    ويوم فتح مكة، كان يدخلها مع عشرة آلاف مسلم لا يثنون أعطافهم زهوا وصلفا، بل يحنون جباههم في خشوع واذلال، شكرا لله الذي أثابهم فتحا قريبا، ونصرا مبينا..

    ورأى الطفيل رسول الله وهو يهدم أصنام الكعبة، ويطهرها بيده من ذلك الرجس الذي طال مداه..

    وتذكر الدوسي من فوره صنما كان لعمرو بن حممة. طالما كان عمرو هذا يصطحبه اليه حين ينزل ضيافته، فيتخشّع بين يديه، ويتضرّع اليه..!!

    الآن حانت الفرصة ليمحو الطفيل عن نفسه اثم تلك الأيام.. هنالك تقدم من الرسول عليه الصلاة والسلام يستأذنه في أن يذهب ليحرق صنم عمرو بن حممة وكان هذا الصنم يدعى، ذا الكفين، وأذن له النبي عليه السلام..

    ويذهب الطفيل ويوقد عليه النار.. وكلما خبت زادها ضراما وهو ينشد ويقول:

    يا ذا الكفين لست من عبّادكا

    ميلادنا أقدم من ميلادكا!!

    اني حشوت النار في فؤادكا



    وهكذا عاش مع النبي يصلي وراءه، ويتعلم منه، ويغزو معه.

    وينتقل الرسول الى الرفيق الأعلى، فيرى الطفيل أن مسؤوليته كمسلم لم تنته بموت الرسول، بل انها لتكاد تبدأ..

    وهكذا لم تكد حروب الردة تنشب حتى كان الطفيل يشمّر لها عن ساعد وساق، وحتى كان يخوض غمراتها وأهوالها في حنان مشتاق الى الشهادة..

    اشترك في حروب الردة حربا.. حربا..

    وفي موقعة اليمامة خرج مع المسلمين مصطحبا معه ابنه عمرو بن الطفيل".

    ومع بدء المعركة راح يوضي ابنه أن يقاتل جيش مسيلمة الكذاب قتال من يريد الموت والشهادة..

    وأنبأه أنه يحس أنه سيموت في هذه المعركة.

    وهكذا حمل سيفه وخاض القتال في تفان مجيد..

    لم يكن يدافع بسيفه عن حياته.

    بل كان يدافع بحياته عن سيفه.

    حتى اذا مات وسقط جسده، بقي السيف سليما مرهفا لتضرب به يد أخرى لم يسقط صاحبها بعد..!!

    وفي تلك الموقعة استشهد الطفيل الدوسي رضي الله عنه..

    وهو جسده تحت وقع الطعان، وهو يلوّح لابنه الذي لم يكن يراه وسط الزحام..!!

    يلوّح له وكأنه يهيب به ليتبعه ويلحق به..

    ولقد لحق به فعلا.. ولكن بعد حين..

    ففي موقعة اليرموك بالشام خرج عمرو بن الطفيل مجاهدا وقضى نحبه شهيدا..

    وكان وهو يجود بأنفاسه، يبسط ذراعه اليمنى ويفتح كفه، كما لو كان سيصافح بها أحدا.. ومن يدري..؟؟

    لعله ساعتئذ كان يصافح روح أبيه..!!

    </FONT>

  9. #24
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    20 / عبد الله بن عمرو بن العاص :



    القانت، التائب، العابد، الأواب، الذي نستهل الحديث عنه الآن هو: عبدالله بن عمرو بن العاص..

    بقدر ما كان أبوه أستاذا في الذكاء والدهاء وسعة الحيلة.. كان هو أستاذا ذا مكانة عالية بين العابدين الزاهدين، الواضحين..
    لقد أعطى العبادة وقته كله، وحياته ملها..

    وثمل بحلاوة الايمان، فلم يعد الليل والنهار يتسعان لتعبّده ونسكه..




    **




    ولقد سبق أباه الى الاسلام، ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعا، وقلبه مضاء كالصبح النضير بنور الله ونور طاعته..

    عكف أولا على القرآن الذي كان يتنزل منجّما، فكان كلما نزلت منه آيات حفظها وفهمها، حتى اذا تمّ واكتمل، كان لجميعه حافظا..

    ولم يكن يحفظه ليكون مجرّد ذاكرة قوية، تضمّ بين دفتيها كتابا محفوظا..

    بل كان يحفظه ليعمر به قلبه، وليكون بعد هذا عبده المطيع، يحلّ ما أحلّ، ويحرّم ما يحرّم، ويستجيب له في كل ما يدعو اليه ثم يعكف على قراءته، وتدبّره وترتيله، متأنقا في روضاته اليانعات، محبور النفس بما تفيئه آياته الكريمة من غبطة، باكي العين بما تثيره من خشية..!!

    كان عبدالله قد خلق ليكون قدّيسا عابدا، ولا شيء في الدنيا كان قادرا على أن يشغله عن هذا الذي خلق له، وهدي اليه..

    اذا خرج جيش الاسلام الى جهاد يلاقي فيه المشركين الذين يشنون عليه الحروب والعداوة، وجدناه في مقدمة الصفوف يتمنى الشهادة بروح محب، والحاح عاشق..!!



    فاذا وضعت الحرب أوزارها، فأين نراه..؟؟

    هناك في المسجد الجامع، أو في مسجد داره، صائم نهاره، قائم ليله، لا يعرف لسانه حديثا من أحاديث الدنيا مهما يكن حلالا، انما هو رطب دائما بذكر الله، تاليا قرآنه، أو مسبّحا بحمده، أو مستغفرا لذنبه..

    وحسبنا ادراكا لأبعاد عبادته ونسكه، أن نرى الرسول الذي جاء يدعو الناس الى عبادة الله. يجد نفسه مضطرا للتدخل كما يحد من ايغال عبدالله في العبادة..!!

    وهكذا اذا كان أحد وجهي العظة في حياة عبدالله بن عمرو، الكشف عما تزخر به النفس الانسانية من قدرة فائقة على بلوغ أقضى درجات التعبّد والتجرّد والصلاح، فان وجهها الآخر هو حرص الدين على القصد والاعتدال في نشدان كل تفوّق واكتمال، حتى يبقى للنفس حماستها وأشواقها..

    وحتى تبقى للجسد عافيته وسلامته..!!

    لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبدالله بن عمرو بن العاص يقضي حياته على وتيرة واحدة..

    وما لم يكن هناك خروج في غزوة فان أيامه كلها تتلخص في أنه من الفجر الى الفجر في عبادة موصولة، صيام وصلاة، وتلاوة قرآن..

    فاستدعاه النبي اليه، وراح يدعوه الى القصد في عبادته..

    قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:

    " ألم اخبر أنك تصوم النهار، ولا تفطر، وتصلي الليل لا تنام..؟؟

    فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام..

    قال عبدالله:

    اني أطيق أكثر من ذلك..

    قال النبي صلى الله عليه وسلم:

    فحسبك ان تصوم من كل جمعة يومين..

    قال عبدالله:

    فاني أطيق أكثر من ذلك..

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    فهل لك اذن في خير الصيام، صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما..

    وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام يسأله قائلا:

    وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة

    واني أخشى أن يطول بك العمر

    وأن تملّ قراءته..!!

    اقرأه في كل شهر مرّة..

    اقرأه في كل عشرة أيام مرّة..

    اقرأه في كل ثلاث مرّة..

    ثم قال له:

    اني أصوم وأفطر..

    وأصلي وأنام.

    وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي

    فليس مني".

    ولقد عمّر عبدالله بن عمرو طويلا.. ولما تقدمت به السن ووهن منه العظم كان يتذكر دائما نصح الرسول فيقول:

    " يا ليتني قبلت رخصة رسول الله"..




    **





    رأينااذا كيف كان عبدالله بن عمرو مقبلا على العبادة اقبالا كاد يشكّل خطرا حقيقيا على حياته، الأمر الذي كان يشغل بال أبيه دائما، فيشكوه الى رسول الله كثيرا.

    وفي المرة الأخيرة التي امره الرسول فيها بالقصد في العبادة وحدد له مواقيتها كان عمرو حاضرا، فأخذ الرسول يد عبدالله، ووضعها في يد عمرو ابن العاص أبيه.. وقال له:

    " افعل ما أمرتك، وأطع أباك".

    وعلى الرغم من أن عبدالله، كان بدينه وبخلق، مطيعا لأبويه فقد كان أمر الرسول له بهذه الطريقة وفي هذه المناسبة ذا تأثير خاص على نفسه.

    وعاش عبدالله بن عمرو عمره الطويل لا ينسى لحظة من نهار تلك العبارة الموجزة.

    " افعل ما أمرتك، وأطع أباك".




    ***

    وبينما هو يتوغل الثانية والسبعين من عمره المبارك..

    واذ هو في مصلاه، يتضرّع الى ربه، ويسبّح بحمده دعي الى رحلة الأبد، فلبى الدعاء في شوق عظيم..

    والى اخوانه الذين سبقوه بالحسنى، ذهبت روحه تسعى وتطير..

    والبشير يدعوها من الرفيق الأعلى:

    ( يا أيتها النفس المطمئنة..

    ارجعي الى ربك راضية مرضية

    فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)..

    </FONT>

  10. #25
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    21/ العباس بن عبد المطلب :



    في عام الرمادة، وحيث أصاب العباد والبلاد قحط وبيل، خرج أمير المؤمنين عمر والمسلمون معه الى الفضاء الرحب يصلون صلاة الاستسقاء، ويضرعون الى الله الرحيم أن يرسل اليهم الغيث والمطر..

    ووقف عمر وقد أمسك يمين العباس بيمينه، ورفعها صوب السماء وقال:

    " اللهم انا كنا نسقى بنبيك وهو بيننا..

    اللهم وانا اليوم نستسقي بعمّ نبيّك فاسقنا"..
    ولم يغادر المسلميون مكانهم حتى حاءهم الغيث، وهطل المطر، يزفّ البشرى، ويمنح الريّ، ويخصب الأرض..

    وأقبل الأصحاب على العباس يعانقونه، ويقبّلونه، ويتبركون به وهم يقولون:

    " هنيئا لك..

    ساقي الحرمين"..

    فمن كان ساقي الحرمين هذا..؟؟

    ومن ذا الذي توسل به به عمر الى الله.. وعمر من نعرف تقى وسبقا ومكانة عند الله ورسوله ولدى المؤمنين..؟؟

    انه العباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    كان الرسول يجلّه بقدر ما كان يحبه، وكان يمتدحه ويطري سجاياه قائلا:

    " هذه بقيّة آبائي"..




    **




    هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفا وأوصلها"..!!

    وكما كان حمزة عمّ الرسول وتربه، كذلك كان العباس رضي الله عنه فلم يكن يفصل بينهما في سنوات العمر سوى سنتين أو ثلاث، تزيد في عمر العباس عن عمر الرسول..

    وهكذا كان محمد، والعباس عمه، طفلين من سن واحدة، وشابين من جيل واحد..

    فلم تكن القرابةالقريبة وحدها، آصرة ما بينهما من ودّ، بل كانت كذلك زمالة السنّ،وصداقة العمر..

    وشيء آخر نضعه معايير النبي في المكان الأول دوما.. ذلك هو خلق العباس وسجاياه..

    فلقد كان العباس جوّادا، مفرط الجود، حتى كأنه للمكارم عمّها أو خالها..!!

    وكان وصولا للرحم والأهل، لا يضنّ عليهما بجهد ولا بجاه، ولا بمال...

    وكان الى هذه وتلك، فطنا الى حدّ الدهاء، وبفطنته هذه التي تعززها مكانته الرفيعة في قريش، استطاع أن يدرأ عن الرسول عليه الصلاة والسلام حين يجهر بدعوته الكثير من الأذى والسوء..




    **




    كان حمزة كما رأينا في حديثنا عنه من قبل يعالج بغي قريش، وصلف أبي جهل بسيفه الماحق..

    أما العباس فكان يعالجها بفطنة ودهاء أدّيا للاسلام من لنفع مثلما أدّت السيوف المدافعة عن حقه وحماه..!!



    فالعباس لم يعلن اسلامه الا عام فتح مكة، مما جعل بعض المؤرخين يعدونه مع الذين تأخر اسلامه..

    بيد أن روايات أخرى من التاريخ تنبئ بأنه كان من المسلمين المبكّرين، غير أنه كان يكتم اسلامه..

    يقول أبو رافع خادم الرسول صلى الله عليه وسلم:

    " كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الاسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت... وكان العباس يكتم اسلامه"..

    هذه رواية أبو رافع يتحدث بها عن حال العباس واسلامه قبل غزوة بدر..

    كان العباس اذن مسلما..

    وكان مقامه بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه خطة أدت غايتها على خير نسق..

    ولم تكن قريش تخفي شكوكها في نوايا العباس و ولكنها أيضا لم تكن تجد سبيلا لمحادّته، لا سيما وهو في ظاهر أمره على ما يرضون من منهج ودين..

    حتى اذا جاءت غزوة بدر رأتها قريش فرصة تبلو بها سريرة العباس وحقيقته..

    والعباس أدهى من أن يغفل عن اتجاهات ذلك المكر السيء الذي تعالج به قريش حسراتها، وتنسج به مؤامراتها..

    ولئن كان قد نجح في ابلاغ النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أنباء قريش وتحرّكاتها، فان قريشا ستنجح في دفعه الى معركة لا يؤمن بها ولا يريدها.. بيد أنه نجاح موقوت لن يلبث حتى ينقلب على القرشيين خسارا وبوارا..




    **




    ويلتقي الجمعان في غزوة بدر..

    وتصطك السيوف في عنفوان رهيب، مقررة مصير كل جمع، وكل فريق..

    وينادي الرسول في أصحابه قائلا:

    " ان رجالا من بني هاشم، ومن غير بني هاشم، قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا.. فمن لقي منكم أحدهم فلا يقتله..

    ومن لقي البختريّ بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله..

    ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فانه انما أخرج مستكرها"..

    لم يكن الرسول بأمره هذا يخصّ عمّه العباس بميّزة، فما تلك مناسبة المزايا، ولا هذا وقتها..

    وليس محمد عليه الصلاة والسلام من يرى رؤوس أصحابه تتهاوى في معرة الحق، ثم يشفع والقتال دائر لعمه، لو كان يعلم أن عمه من المشركين..

    أجل..

    ان الرسول الذي نهى عن أن يستغفر لعمه أبي طالب على كثرة ما أسدى أبو طالب له وللاسلام من أياد وتضحيات..

    ليس هو منطقا وبداهة من يجيء في غزوة بدر ليقول لمن يقتلون آباءهم واخوانهم من المشركين: استثنوا عمي ولا تقتلوه..!!

    أما اذا كان الرسول يعلم حقيقة عمه، ويعلم أنه يطوي على الاسلام صدره، كما يعلم أكثر من غيره، الخدمات غير المنظورة التي أدّاها للاسلام.. كما يعلم أخيرا أنه خرج مكرها ومحرجا فآنئذ يصير من واجبه أن ينقذ من هذا شأنه، وأن يعصم من القتل دمه ما استطاع لهذا سبيلا..





    واذا كان أبو البختري بن حارث وهذا شأنه، قد ظفر بشفاعة الرسول لدمه حتى لا يهدر، ولحياته كي لا تزهق..

    أفلا يكون جديرا بهذه الشفاعة، مسلم يكتم اسلامه... ورجل له في نصرة الاسلام مواقف مشهودة، وأخرى طوي عليها ستر الخفاء..؟؟

    بلى..ولقد كان العباس ذلك المسلم، وذلك النصير.

    ولنعد الى الوراء قليلا لنرى..




    **




    في بيعة العقبة الثانية عندما قدم مكة في موسم الحاج وفد الأنصار، ثلاثة وسبعون رجلا وسيدتان، ليعطوا الله ورسوله بيعتهم، وليتفقوا مع النبي عليه الصلاة والسلام على الهجرة الى المدينة، أنهى الرسول الى عمه العباس نبأ هذا الوفد، وهذه البيعة.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يثق بعمه في رأيه كله..

    ولما جاء موعد اللقاء الذي انعقد سرا وخفية، خرج الرسول وعمه العباس الى حيث الأنصار ينتظرون..

    وأراد العباس ان يعجم عود القوم ويتوثق للنبي منهم..

    ولندع واحدا من أعضاء الوفد يروي لنا النبأ، كما سمع ورأى.. ذلكم هو كعب بن مالك رضي الله عنه:

    ".. وجلسنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب.. وتكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج، ان محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وانه أبى الا الانحياز اليكم واللحوق بكم..

    فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك..

    وان كنتم ترون أنكم مسلموه خاذلوه بعد خروجه اليكم، فمن الآن فدعوه"..



    كان العباس يلقي بكلماته الحازمة هذه، وعيناه تحدقان كعيني الصقر في وجوه الأنصار.. يتتبع وقع الكلام وردود فعله العاجلة..

    ولم يكتف العباس بهذا، فذكاؤه العظيم ذكاء عملي يتقصّى الحقيقة في مجالها المادي، ويواجه كل أبعادها مواجهة الحاسب الخبير..



    هناك استأنف حديثه مع الأصار بسؤال ذكي ألقاه، ذلك هو:

    " صفوا لي الحرب، كيف تقاتلون عدوّكم"!!؟؟

    ان العباس بفطنته وتجربته مع قريش يدرك أن الحرب لا محالة قادمة بين الاسلام والشرك، فقريش لن تتنازل عن دينها ومجدها وعنادها.

    والاسلام ما دام حقا لن يتنازل للباطل عن حقوقه المشروعة..

    فهل الأنصار، أهل المدينة صامدون للحرب حين تقوم..؟؟

    وهل هم من الناحية الفنية، أكفاء لقريش، يجيدون فنّ الكرّ والفرّ والقتال..؟؟

    من اجل هذا ألقى سؤاله السالف:

    " صفوا لي الحرب، كيف تقاتلون عدوّكم"..؟؟

    كان الأنصار الذين يصغون للعباس رجالا كالأطواد...

    ولم يكد العباس يفرغ من حديثه، لا سيما ذلك السؤال المثير الحافز حتى شرع الأنصار يتكلمون..

    وبدأ عبدالله بن عمرو بن حرام مجيبا على السؤال:

    " نحن، والله، أهل الحرب.. غذينا بها،ومرّنا عليها، وورثناها عن آبائنا كابرا فكابر..

    نرمي بالنبل حتى تفنى..

    ثم نطاعن بالرماح حتى تنكسر..

    ثم نمشي بالسيوف، فنضارب بها حتى يموت الأعجل منا أو من عدونا"..!!

    وأجاب العباس متهللا:

    " أنتم أصحاب حرب اذن، فهل فيكم دروع"..؟؟

    قالوا:

    " نعم.. لدينا دروع شاملة"..

    ثم دار حديث رائع وعظيم بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الأنصار.. حديث سنعرض له ان شاء الله فيما بعد.




    **




    هذا موقف العباس في بيعة العقبة..

    وسواء عليه أكان يومئذ اعتنق الاسلام سرا، أم كان لا يزال يفكّر، فان موقفه العظيم هذا يحدد مكانه بين قوى الظلام الغارب، والشروق المقبل،

    ويصوّر أبعاد رجولته ورسوخه..!!



    ويوم يجيء حنين ليؤكد فداءية هذا الهادئ السمت، اللين الجانب، حينما تدعو الحاجة اليها، ويهيب المواقف بها، بينما هي في غير ذلك الظرف الملحّ، مستكنّة تحت الأضلاع، متوارية عن الأضواء..!!




    **




    في السنة الثامنة للهجرة، وبعد ان فتح الله مكة لرسوله ولدينه عز بعض القبائل السائدة في الجزيرة العربية أن يحقق الدين الجديد كل هذا النصر بهذه السرعة..

    فاجتمعت قبائل هوزان وثقيف ونصر وجشم وآخرون. وققروا شنّ حرب حاسمة ضدّ الرسول والمسلمين..

    ان كلمة قبائل لا ينبغي أن تخدعنا عن طبيعة تلك الحروب التي كان يخوضها الرسول طوال حياته. فنظن انها كانت مجرّد مناوشات جبلية صغيرة، فليس هناك حروب أشدّ ضراوة من حروب تلك القبائل في معاقلها..!!

    وادراك هذه الحقيقة لا يعطينا تقديرا سديدا للجهد الخارق الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فحسب، بل يعطينا تقديرا صحيحا وأمينا لقيمة النصر العظيم الذي أحرزه الاسلام والمؤمنون، ورؤية واضحة لتوفيق الله الماثل في هذا النجاح وذلك الانتصار..



    احتشدت تلك القبائل في صفوف لجبة من المقاتلين الأشدّاء..

    وخرج اليهم المسلمون في اثني عشر ألفا..

    اثنا عشر ألفا..؟؟

    وممن..؟؟

    من الذين فتحوا مكة بالأمس القريب، وشيعوا الشرك والأصنام الى هاويتها الأخيرة والسحيقة، وارتفعت راياتهم تملأ الأفق دون مشاغب عليها أو مزاحم لها..!!

    هذا شيء يبعث الزهو..

    والمسلمون في آخر المطاف بشر، ومن ثم، فقد ضعفوا امام الزهو الذي ابتعثته كثرتهم ونظامهم، وانتصارهم بمكة، وقالوا:

    " لن نغلب اليوم عن قلة".

    ولما كانت السماء تعدّهم لغاية أجلّ من الحرب وأسمى، فان ركونهم الى قوتهم العسكرية، وزهزهم بانتصارهم الحربي، عمل غير صالح ينبغي أن يبرؤا منه سريعا، ولو بصدمة شافية..

    وكانت الصدمة الشافية هزيمة كبرى مباغتة في أول القتال، حتى اذا تضرعوا الى الله، وبرؤا من حولهم الى حوله، ومن قوتهم الى قوته، انقلبت الهزيمة نصرا، ونزل القرآن الكريم يقول للمسلمين:

    (.. ويوم حنين اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين)..



    كان صوت العباس يومئذ وثباته من ألمع مظاهر السكينة والاستبسال..

    فبينما كان المسلمون مجتمعين في أحد أودية تهامة ينتظرون مجيء عدوّهم، كان المشركون قد سبقوهم الى الوادي وكمنوا لهم في شعابه وأحنائه، شاحذين أسلحتهم، ممسكين زمام المبادرة بأيديهم..

    وعلى حين غفلة، انقضّوا على المسلمين في مفاجأة مذهلة، جعلتهم يهرعون بعيدا، لا يلوي أحد على أحد..

    ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه الهجوم المفاجئ الخاطف على المسلمين، فعلا صهوة بغلته البيضاء، وصاح:

    " الى أين أيها الناس..؟؟

    هلموا اليّ..

    أنا النبي لا كذب..

    انا ابن عبد المطلب"..

    لم يكن حول النبي ساعتئذ سوى أبي بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وولده الفضل بن العباس، وجعفر بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وقلة أخرى من الأصحاب..

    وكان هناك سيدة أخذت مكانا عاليا بين الرجال والأبطال..

    تلك هي أم سليم بنت ملحان..

    رأت ذهول المسلمين وارتباكهم، فركبت جمل زوجها أبي طلحة رضي الله عنهما، وهرولت بها نحو الرسول..

    ولما تحرك جنينها في بطنها، وكانت حاملا، خلعت بردتها وشدّت بها على بطنها في حزام وثيق، ولما انتهت الى النبي صلى الله عليه وسلم شاهرة خنجرا في يمينها ابتسم لها الرسول وقال:

    " أم سليم؟؟"..

    قالت: " نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله..

    اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فانهم لذلك أهل"..

    وازدادت البسمة تألقا على وجه الرسول الواثق بوعد ربه وقال لها:

    " ان الله قد كفى وأحسن يا أم سليم"..!!



    هناك ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، كان العباس الى جواره، بل كان بين قدميه بخطام بغلته يتحدى الموت والخطر..

    وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرخ في الناس، وكان العباس جسيما جهوري الصوت، فراح ينادي:

    " يا معشر الأنصار..

    يا أصحاب البيعة"...

    وكانما كان صوته داعي القدر ونذيره..

    فما كاد يقرع أسماع المرتاعين من هول المفاجأة، المشتتين في جنبات الوادي، حتى أجابوا في صوت واحد:

    " لبّيك.. لبّيك"..

    وانقلبوا راجعين كالاعصار، حتى ان أحدهم ليحرن بعيره أو فرسه، فيقتحم عنها ويترجل، حاملا درعه وسيفه وقوسه، ميممّا صوب موت العباس..

    ودارت المعركة من جديد.. ضارية، عاتية..

    وصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    " الآن حمي الوطيس"..

    وحمي الوطيس حقا..

    وتدحرج قتلى هوزان وثقيف، وغلبت خيل الله خيل اللات، وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين..!!!




    **




    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العباس عمه حبا كبيرا، حتى انه لم ينم يوم انتهت غزوة بدر، وقضى عمه ليله في الأسر..

    ولم يخف النبي عليه السلام عاطفته هذه، فحين سئل عن سبب أرقه، وقد نصره الله نصرا مؤزرا أجاب:

    " سمعت أنين العباس في وثاقه"..

    وسمع بعض المسلمين كلمات الرسول، فأسرع الى مكان الأسرى، وحلّ وثاق العباس، وعاد فأخبر الرسول قائلا:

    " يا رسول الله..

    اني أرخيت من وثاق العباس شيئا"..

    ولكن لماذا وثاق العباس وحده..؟

    هنالك قال الرسول لصاحبه:

    " اذهب، فافعل ذلك بالأسرى جميعا".

    أجل فحب النبي صلى الله عليه وسلم لعمه لا يعني أن يميزه عن الناس الذين تجمعهم معه ظروف مماثلة..

    وعندما تقرر أخذ الفدية من الأسرى، قال الرسول لعمه:

    " يا عباس..

    افد نفسك، وابن اخيك عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو وأخا بني الحارث بن فهر، فانك ذو مال"..

    وأردا العباس أن يغادر أسره با فدية، قائلا:

    " يا رسول الله، اني كنت مسلما، ولكن القوم استكرهوني"..

    ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أصرّ على الفدية، ونزل لقرآن الكريم في هذه المناسبة يقول:

    " يا ايها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم، والله غفور رحيم".

    وهكذا فدى العباس نفسه ومن معه، وقفل راجعا الى مكة.. ولم تخدعه قريش بعد ذلك عن عقله وهداه، فبعد حين جمع ماله وحمل متاعه، وأدرك الرسول بخيبر، ليأخذ مكانه في موكب الاسلام، وقافلة المؤمنين.. وصار موضع حب المسلمين واجلالهم العظيم، لا سيما وهم يرون تكريم الرسول له وحبه اياه وقوله عنه:

    " انما العباس صنو أبي..

    فمن آذى العباس فقد آذاني".

    وأنجب العباس ذريّة مباركة.

    وكان حبر الأمة عبدالله بن عباس واحدا من هؤلاء الأبناء المباركين.




    **




    وفي يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من رجب سنة اثنتين وثلاثين سمع اهل العوالي بالمدينة مناديا ينادي:

    " رحم الله من شهد العباس بن عبد المطلب".

    فأدركوا أن العباس قد مات..

    وخرج الناس لتشييعه في أعداد هائلة لم تعهد المدينة مثلها..

    وصلى عليه خليفة المسلمين يومئذ عثمان رضي الله عنه.

    وتحت ثرى البقيع هدأ جثمان أبي الفضل واستراح..

    ونام قرير العين، بين الأبرار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه!!

    </FONT>

  11. #26
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    22/ عبد الله بن الزبير :


    كان جنينا مباركا في بطن أمه، وهي تقطع الصحراء اللاهبة مغادرة مكة الى المدينة على طريق الهجرة العظيم.

    هكذا قدّر لعبدالله بن الزبير أن يهاجر مع المهاجرين وهو لم يخرج الى الدنيا بعد، ولم تشقق عنه الأرحام..!!

    وما كادت أمه أسماء رضي الله عنها وأرضاها، تبلغ قباء عند مشارف المدينة، حتى جاءها المخاض ونزل المهاجر الجنين الى أرض المدينة في نفس الوقت الذي كان ينزلها المهاجرون من أصحاب رسول الله..!!

    وحمل أول مولود في الهجرة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره بالمدينة مقبّله وحنّكه، وكان أول شيء دخل جوف عبدالله بن الزبير ريق النبي الكريم.
    واحتشد المسلمون في المدينة، وحملوا الوليد في مهده، ثم طوّفوا به في شوارع المدينة كلها مهللين مكبّرين.

    ذلك أن اليهود حين نزل الرسول وأصحابه المدينة كبتوا واشتعلت أحقادهم، وبدؤا حرب الأعصاب ضد المسلمين، فأشاعوا أن كهنتهم قد سحروا المسلمين وسلطوا عليهم العقم، فلن تشهد المدينة منهم وليدا جديدا..

    فلما أهلّ عبدالله بن الزبير عليهم من عالم الغيب، كان وثيقة دمغ بها القدر افك يهود المدينة وأبطل كيدهم وما يفترون..!!

    ان عبدالله لم يبلغ مبلغ الرجال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكنه تلقى من ذلك العهد، ومن الرسول نفسه بحكم اتصاله الوثيق به، كل خامات رجولته ومبادئ حياته التي سنراها فيما بعد ملء الدنيا وحديث الناس..

    لقد راح الطفل ينمو نموّا سريعا، وكان خارقا في حيويته، وفطنته وصلابته..

    وارتدى مرحلة الشباب، فكان شبابه طهرا، وعفة ونسكا، وبطولة تفوق الخيال..

    ومضى مع أيامه وقدره، لا تتغيّر خلائقه ولا تنبوبه رغائبه.. انما هو رجل يعرف طريقه، ويقطعه بعزيمة جبارة، وايمان وثيق وعجيب..




    **




    وفي فتح افريقية والأندلس، والقسطنطينية. كان وهو لم يجاوز السابعة والعشرين بطلا من أبطال الفتوح الخالدين..

    وفي معركة افريقية بالذات وقف المسلمون في عشرين ألف جندي أمام عدو قوام جيشه مائة وعشرون ألفا..

    ودار القتال، وغشي المسلمين خطر عظيم..

    وألقى عبد الله بن الزبير نظرة على قوات العدو فعرف مصدر قوتهم. وما كان هذا المصدر سوى ملك البربر وقائد الجيش، يصيح في جنوده ويحرضهم بطريقة تدفعهم الى الموت دفعا عجيبا..

    وأدرك عبدالله أن المعركة الضارية لن يحسمها سوى سقوط هذا القائد العنيد..

    ولكن أين السبيل اليه، ودون بلوغه جيش لجب، يقاتل كالاعصار..؟؟

    بيد أن جسارة ابن الزبير واقدامه لم يكونا موضع تساؤول قط..!!

    هنالك نادى بعض اخوانه، وقال لهم:

    " احموا ظهري، واهجموا معي"...

    وشق الصفوف المتلاحمة كالسهم صامدا نحو القائد، حتى اذا بلغه، هوى عليه في كرّة واحدة فهوى، ثم استدار بمن معه الى الجنود الذين كانوا يحيطون بملكهم وقائدهم فصرعوهم.. ثم صاحوا الله أكبر..

    ورأى المسلمون رايتهم ترتفع، حيث كان يقف قائد البربر يصدر أوامره ويحرّض جيشه، فأدركوا أنه النصر، فشدّوا شدّة رجل واحدة، وانتهى كل شيء لصالح المسلمين..

    وعلم قائد الجيش المسلم عبدالله بن أبي سرح بالدور العظيم الذي قام به ابن الزبير فجعل مكافأته أن يحمل بنفسه بشرة النصر الى المدينة والى خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه..




    **




    على أن بطولته في القتال كانت برغم تفوقها واعجازها تتوارى أمام بطولته في العبادة.

    فهذا الذي يمكن أن يبتعث فيه الزهو، وثني الأعطاف، أكثر من سبب، يذهلنا بمكانه الدائم والعالي بين الناسكين العابدين..

    فلا حسبه، ولا شبابه، ولا مكانته ورفعته، ولا أمواله ولا قوته..

    لا شيء من ذلك كله، استطاع أن يحول بين عبدالله بن الزبير وبين أن يكون العابد الذي يصوم يومه، ويقوم ليله، ويخشع لله خشوعا يبهر الألباب.

    قال عمر بن عبدالعزيز يوما لابن أبي مليكة:صف لنا عبدالله بن الزبير..فقال:

    " والله ما رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفسه..

    ولقد كان يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء اليها..

    وكان يركع أو يسجد، فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله،

    لا تحسبه من طول ركوعه وسجوده الا جدارا، أو ثوبا مطروحا..

    ولقد مرّت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي، فوالله ما أحسّ بها ولا اهتز لها، ولا قطع من أجلها قراءته، ولا تعجل ركوعه"..!!



    ان الأنباء الصادقة التي يرويها التاريخ عن عبادة ابن الزبير لشيء يشبه الأساطير..

    فهو في صيامه، وفي صلاته، وفي حجه، وفي علوّ همّته، وشرف نفسه..

    في سهره طوال العمر قانتا وعبدا..

    وفي ظمأ الهواجر طوال عمره صائما مجاهدا..

    وفي ايمانه الوثيق بالله، وفي خشيته الدائمة له..

    هو في كل هذا نسيج وحده..!

    سئل عنه ابن عباس فقال :

    " كان قارئا لكتاب الله، متبعا سنة رسوله.. قانتا لله، صائما في الهواجر من مخافة الله.. ابن حواريّ رسول الله.. وأمه أسماء بنت الصديق.. وخالته عائشة زوجة رسول الله.. فلا يجهل حقه الا من أعماه الله"..!!




    **




    وهو في قوة خلقه وثبات سجاياه، يزري بثبات الجبال..

    واضح شريف قوي، على استعداد دائم لأن يدفع حياته ثمنا لصراحته واستقامة نهجه..

    أثناء نزاعه مع الأمويين زاره الحصين بن نمير قائد الجيش الذي أرسله يزيد لاخماد ثورة بن الزبير..

    زاره اثر وصول الأنباء الى مكة بموت يزيد..

    وعرض عليه أن يذهب معه الى الشام، ويستخدم الحصين نفوذه العظيم هناك في أخذ البيعة لابن الزبير..

    فرفض عبدالله هذه الفرصة الذهبية،لأنه كان مقتنعا بضرورة القصاص من جيش الشام جزاء غزوهم للمدينة، خدمة لأطماع الأمويين..

    قد نختلف مع عبدالله في موقفه هذا، وقد نتمنى لو أنه آثر السلام والصفح، واستجاب للفرصة النادرة التي عرضها عليه الحصين قائد يزيد..

    ولكنّ وقفة الرجل أي رجل، الى جانب اقتناعه واعتقاده.. ونبذه الخداع والكذب، أمر يستحق الاعجاب والاحترام..



    وعندما هاجمه الحجاج بجيشه، وفرض عليه ومن معه حصارا رهيبا، كان من بين جنده فرقة كبيرة من الأحباش، كانوا من أمهر الرماة والمقاتلين..

    ولقد سمعهم يتحدثون عن الخليفة الراحل عثمان رضي الله عنه، حديثا لا ورع فيه ولا انصاف، فعنّفهم وقال لهم:" والله ما أحبّ أن أستظهر على عدوي بمن يبغض عثمان"..!!

    ثم صرفهم عنه في محنة هو فيها محتاج للعون، حاجة الغريق الى أمل..!!

    ان وضوحه مع نفسه، وصدقه مع عقيدته ومبادئه، جعلاه لا يبالي بأن يخسر مائتين من أكفأ الرماة، لم يعد دينهم موضع ثقته واطمئنانه، مع أنه في معركة مصير طاحنة، وكان من المحتمل كثيرا أن يغير اتجاهها بقاء هؤلاء الرماة الأكفاء الى جانبه..!!




    **



    وظل ابن الزبير أميرا للمؤمنين، متخذا من مكة المكرّمةعاصمة خلافته، باسطا حكمه على الحجاز، واليمن والبصرة الكوفة وخراسان والشام كلها ما عدا دمشق بعد أن بايعه أهل الأمصار جميعا..

    ولكن الأمويين لا يقرّ قرارهم، ولا يهدأ بالهم، فيشنون عليه حروبا موصولة، يبوءون في أكثرها بالهزيمة والخذلان..

    حتى جاء عهد عبدالملك بن مروان حين ندب لمهاجمة عبدالله في مكة واحدا من أشقى بني آدم وأكثرهم ايغالا في القسوة والاجرام..

    ذلكم هو الحجاج الثقفي الذي قال عنه الامام العادل عمر بن عبدالعزيز:

    " لو جاءت كل أمة بخطاياها، وجئنا نحن بالحجاج وحده، لرجحناهم جميعا"..!!




    **




    ذهب الحجاج على رأس جيشه ومرتزقته لغزو مكة عاصمة ابن الزبير، وحاصرها وأهلها قرابة ستة أشهر مانعا عن الناس الماء والطعام، كي يحملهم على ترك عبدالله بن الزبير وحيدا، بلا جيش ولا أعوان.

    وتحت وطأة الجوع القاتل استسلم الأكثرون، ووجد عبدالله نفسه، وحيدا أو يكاد، وعلى الرغم من أن فرص النجاة بنفسه وبحياته كانت لا تزال مهيأة له، فقد قرر أن يحمل مسؤوليته الى النهاية، وراح يقاتل جيش الحجاج في شجاعة أسطورية، وهو يومئذ في السبعين من عمره..!!

    ولن نبصر صورة أمينة لذلك الموقف الفذ الا اذا اصغينا للحوار الذي دار بين عبدالله وأمه. العظيمة المجيدة أسماء بنت أبي بكر في تلك الساعات الأخيرة من حياته.

    لقد ذهب اليها، ووضع أمامها صورة دقيقة لموقفه، وللمصير الذي بدأ واضحا أنه ينتظره..

    قالت له أسماء:

    " يا بنيّ: أنت أعلم بنفسك، ان كنت تعلم أنك على حق، وتدعو الى حق، فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، ولا تمكّن من رقبتك غلمان بني أميّة..

    وان كنت تعلم أنك أردت الدنيا، فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك.

    قل عبد الله:

    " والله يا أمّاه ما أردت الدنيا، ولا ركنت اليها.

    وما جرت في حكم الله أبدا، ولا ظلمت ولا غدرت"..

    قالت أمه أسماء:

    " اني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسنا ان سبقتني الى الله أو سبقتك.

    اللهم ارحم طول قيامه في الليل، وظمأه في الهواجر، وبرّه بأبيه وبي..

    اللهم اني اسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبدالله بن الزبير ثواب الصابرين الشاكرين.!"

    وتبادلا معا عناق الوداع وتحيته.

    وبعد ساعة من الزمان انقضت في قتال مرير غير متكافئ، تلقى الشهيد العظيم ضربة الموت، في وقت استأثر الحجاج فيه بكل ما في الأرض من حقارة ولؤم، فأبى الا أن يصلب الجثمان الهامد، تشفيا وخسّة..!!




    **




    وقامت أمه، وعمره يومئذ سبع وتسعون سنة، قامت لترى ولدها المصلوب.

    وكالطود الشامخ وقفت تجاهه لا تريم.. واقترب الحجاج منها في هوان وذلة قائلا لها:

    يا أماه، ان أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان قد أوصاني بك خيرا، فهل لك من حاجة..؟

    فصاحت به قائلة:

    " لست لك بأم..

    انما أنا أم هذا المصلوب على الثنيّة..

    وما بي اليكم حاجة..

    ولكني أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يخرج من ثقيف كذاب ومبير"..

    فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير، فلا أراه الا أنت"!!

    واقدم منها عبد الله بن عمر رضي الله عنه معزيا، وداعيا اياها الى الصبر، قأجابته قائلة:

    " وماذا يمنعني من الصبر، وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا الى بغيّ من بغايا بني اسرائيل"..!!

    يا لعظمتك يا ابنة الصدّيق..!!

    أهناك كلمات أروع من هذه تقال للذين فصلوا رأس عبدالله بن الزبير عن رأسه قبل أن يصلبوه..؟؟

    أجل.. ان يكن رأس ابن الزبير قد قدّم هديّة للحجاج وعبدالملك.. فان رأس نبي كريم هو يحيى عليه السلام قد قدم من قبل هدية لـ سالومي.. بغيّ حقيرة من بني اسرائيل!!

    ما أروع التشبيه، وما أصدق الكلمات.




    **




    وبعد، فهل كان يمكن لعبدالله بن الزبير أن يحيا حياته دون هذا المستوى البعيد من التفوّق، والبطولة والصلاح، وقد رضع لبان أم من هذا الطراز..؟؟

    سلام على عبدالله..

    وسلام على أسماء..
    سلام عليهما في الشهداء الخالدين..

    وسلام عليهما في الأبرار المتقين.
    </FONT>

  12. #27
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    23 / المقداد بن عمرو :

    تحدث عنه أصحابه ورفاقه فقالوا:

    " أول من عدا به فرسه في سبيل الله، المقداد بن الأسود..

    والمقداد بن الأسود، هو بطلنا هذا المقداد بن عمرو كان قد حالف في الجاهلية الأسود بن عبد يغوث فتبناه، فصار يدعى المقداد بن الأسود، حتى اذا نزلت الآية الكريمة التي تنسخ التبني، نسب لأبيه عمرو بن سعد..

    والمقداد من المبكّرين بالاسلام، وسابع سبعة جاهروا باسلامهم وأعلنوه، حاملا نصيبه من أذى قريش ونقمتها، فيس شجاعة الرجال وغبطة الحواريين..!!

    ولسوف يظل موقفه يوم بدر لوحة رائعة كل من رآه لو أنه كان صاحب هذا الموقف العظيم..

    يقول عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله:

    " لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون صاحبه، أحبّ اليّ مما في الأرض جميعا".
    في ذلك اليوم الذي بدأ عصيبا.. حيث أقبلت قريش في بأسها الشديد واصرارها العنيد، وخيلائها وكبريائها..

    في ذلك اليوم.. والمسلمون قلة، لم يمتحنوا من قبل في قتال من أجل الاسلام، فهذه أول غزوة لهم يخوضونها..

    ووقف الرسول يعجن ايمان الذين معه، ويبلوا استعدادهم لملاقاة الجيش الزاحف عليهم في مشاته وفرسانه..

    وراح يشاورهم في الأمر، وأصحاب الرسول يعلمون أنه حين يطلب المشورة والرأي، فانه يفعل ذلك حقا، وأنه يطلب من كل واحد حقيقة اقتناعه وحقيقة رأيه، فان قال قائلهم رأيا يغاير رأي الجماعة كلها، ويخالفها فلا حرج عليه ولا تثريب..



    وخاف المقدادا أن يكون بين المسلمين من له بشأن المعركة تحفظات... وقبل أن يسبقه أحد بالحديث همّ هو بالسبق ليصوغ بكلماته القاطعة شعار المعركة، ويسهم في تشكيل ضميرها.

    ولكنه قبل أن يحرك شفتيه، كان أبو بكر الصديق قد شرع يتكلم فاطمأن المقداد كثيرا.. وقال أبو بكر فأحسن، وتلاه عمر بن الخطاب فقل وأحسن..

    ثم تقدم المقداد وقال:

    " يا رسول الله..

    امض لما أراك الله، فنحن معك..

    والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى

    اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون..

    بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون..!!

    والذي بعثك بالحق، لو سرت بنا الى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ومن خلفك حتى يفتح الله لك".. انطلقت الكلمات كالرصاص المقذوف.. وتلل وجه رسول الله وأشرق فمه عن دعوة صالحة دعاها للمقداد.. وسرت في الحشد الصالح المؤمن حماسة الكلمات الفاضلة التي أطلقها المقداد بن عمرو والتي حددت بقوتها واقناعها نوع القول لمن أراد قولا.. وطراز الحديث لمن يريد حديثا..!!



    أجل لقد بلغت كلمات المقداد غايتها من أفئدة المؤمنين، فقام سعد بن معاذ زعيم الأنصار، وقال:

    " يا رسول الله..

    لقد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق.. وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك.. والذي عثك بالحق.. لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا..

    انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء.. ولعل الله يريك منا ما تقر عينك.. فسر على بركة الله"..

    وامتلأ قلب الرسول بشرا..

    وقال لأصحابه:" سيروا وأبشروا"..

    والتقى الجمعان..

    وكان من فرسان المسلمين يومئذ ثلاثة لا غير: المقداد بن عمرو، ومرثد بن أبي مرثد، والزبير بن العوّام، بينما كان بقية المجاهدين مشاة، أو راكبين ابلا..




    **




    ان كلمات المقداد التي مرّت بنا من قبل، لا تصور شجاعته فحسب، بل تصور لنا حكمته الراجحة، وتفكيره العميق..

    وكذلك كان المقداد..

    كان حكيما أريبا، ولم تكن حمته تعبّر عن نفسها في مجرّد كلمات، بل هي تعبّر عن نفسها في مبادئ نافذة، وسلوك قويم مطرّد. وكانت تجاربه قوتا لحكته وريا لفطنته..



    ولاه الرسول على احدى الولايات يوما، فلما رجع سأله النبي:

    " كيف وجدت الامارة"..؟؟

    فأجاب في صدق عظيم:

    " لقد جعلتني أنظر الى نفسي كما لو كنت فوق الناس، وهم جميعا دوني..

    والذي بعثك بالحق، لا اتآمرّن على اثنين بعد اليوم، أبدا"..

    واذا لم تكن هذه الحكمة فماذا تكون..؟

    واذا لم يكن هذا هو الحكيم فمن يكون..؟

    رجل لا يخدع عن نفسه، ولا عن ضعفه..

    يلي الامارة، فيغشى نفسه الزهو والصلف، ويكتشف في نفسه هذا الضعف، فيقسم ليجنّبها مظانه، وليرفض الامارة بعد تلك التجربة ويتتحاماها.. ثم يبر بقسمه فلا يكون أميرا بعد ذلك أبدا..!!

    لقد كان دائب التغني بحديث سمعه من رسول الله.. هوذا:

    " ان السعيد لمن جنّب الفتن"..

    واذا كان قد رأى في الامارة زهوا يفتنه، أو يكاد يفتنه، فان سعادته اذن في تجنبها..

    ومن مظاهر حكمته، طول أناته في الحكم على الرجال..

    وهذه أيضا تعلمها من رسول الله.. فقد علمهم عليه السلام أن قلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر حين تغلي..



    وكان المقداد يرجئ حكمه الأخير على الناس الى لحظة الموت، ليتأكد أن هذا الذي يريد أن يصدر عليه حكمه لن يتغير ولن يطرأ على حياته جديد.. وأي تغيّر، أو أي جديد بعد الموت..؟؟

    وتتألق حكمته في حنكة بالغة خلال هذا الحوار الذي ينقله الينا أحد أصحابه وجلسائه، يقول:



    " جلسنا الى المقداد يوما فمرّ به رجل..

    فقال مخاطبا المقداد: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى اله عليه وسلم..

    والله لوددناةلو أن رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت فأقبل عليه المقداد وقال:

    ما يحمل أحدكم على أن يتمنى مشهدا غيّبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه؟؟ والله، لقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام كبّهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم. أولا تحمدون الله الذي جنّبكم مثلا بلائهم، وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم"..



    حكمة وأية حكمة..!!

    انك لا تلتقي بمؤمن يحب الله ورسوله، الا وتجده يتمنى لو أنه عاش أيام الرسول ورآه..!

    ولكن بصيرة المقداد الحاذق الحكيم تكشف البعد المفقود في هذه الأمنية..

    ألم يكن من المحتمل لهذا الذي يتمنى لو أنه عاش تلك الأيام.. أن يكون من أصحاب الجحيم..

    ألم يكون من المحتمل أن يكفر مع الكافرين.

    وأليس من الخير اذن أن يحمد الله الذي رزقه الحياة في عصور استقرّ فيها الاسلام، فأخذه صفوا عفوا..

    هذه نظرة المقداد، تتألق حكمة وفطنة.. وفي كل مواقفه، وتجاربه، وكلماته، كان الأريب الحكيم..




    **




    وكان حب المقداد للاسلام عظيما..

    وكان الى جانب ذلك، واعيا حكيما..

    والحب حين يكون عظيما وحكيما، فانه يجعل من صاحبه انسانا عليّا، لا يجد غبطة هذا الحب في ذاته.. بل في مسؤولياته..

    والمقداد بن عمرو من هذا الطراز..

    فحبه الرسول. ملأ قلبه وشعوره بمسؤولياته عن سلامة الرسول، ولم يكن تسمع في المدينة فزعة، الا ويكون المقداد في مثل لمح البصر واقفا على باب رسول الله ممتطيا صهوة فرسه، ممتشقا مهنّده وحسامه..!!

    وحبه للاسلام، ملأ قلبه بمسؤولياته عن حماية الاسلام.. ليس فقط من كيد أعدائه.. بل ومن خطأ أصدقائه..



    خرج يوما في سريّة، تمكن العدو فيها من حصارهم، فأصدر أمير السرية أمره بألا يرعى أحد دابته.. ولكن أحد المسلمين لم يحط بالأمر خبرا، فخالفه، فتلقى من الأمير عقوبة أكثر مما يستحق، أ، لعله لا يستحقها على الاطلاق..

    فمر المقداد بالرجل يبكي ويصيح، فسأله، فأنبأه ما حدث

    فأخذ المقداد بيمينه، ومضيا صوب الأمير، وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له:

    " والآن أقده من نفسك..

    ومكّنه من القصاص"..!!

    وأذعن الأمير.. بيد أن الجندي عفا وصفح، وانتشى المقداد بعظمة الموقف، وبعظمة الدين الذي أفاء عليهم هذه العزة، فراح يقول وكأنه يغني:

    " لأموتنّ، والاسلام عزيز"..!!



    أجل تلك كانت أمنيته، أن يموت والاسلام عزيز.. ولقد ثابر مع المثابرين على تحقيق هذه الأمنية مثابرة باهرة جعلته أهلا لأن يقول له الرسول عليه الصلاة والسلام:

    "ان الله أمرني بحبك..

    وأنبأني أنه يحبك"...

    </FONT>

  13. #28
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    24 / بلال بن رباح :

    كان عمر بن الخطاب، اذا ذكر أبو بكر قال:

    " أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"..

    يعني بلالا رضي الله عنه..

    وان رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ..

    لكن هذا الرجل الشديد السمرة، النحيف الناحل، المفرط الطول الكث الشعر، الخفيف العارضين، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه اليه، وتغدق عليه، الا ويحني رأسه ويغض طرفه، ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل:

    "انما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!

    فمن هذا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا..!!

    انه "بلال بن رباح" مؤذن الاسلام، ومزعج الأصنام..
    انه احدى معجزات الايمان والصدق.

    احدى معجزات الاسلام العظيم..

    في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ الاسلام الى اليوم، والى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..

    أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا، وحفظوا اسمه، وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الاسلام: أبي بكر وعمر...!!

    وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر، أ، باكستان، أ، الصين..

    وفي الأمريكيتين، وأوروبا وروسيا..

    وفي تاعراق ، وسوريا، وايران والسودان..

    في تونس والمغرب والجزائر..

    في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا..

    في كل بقعة من الأرض يقطنها مسلمون، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من بلال يا غلام؟

    فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه، فيقول:

    "أحد.. أحد.."



    وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا، لم يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر، حتى يطو به الموت، ويطوّح به الى أعماق النسيان..

    لكن صدق ايمانه، وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته، وفي تاريخه مكانا عليّا في الاسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء...

    ان كثيرا من عليّة البشر، وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!

    بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..

    ان سواد بشرته، وتواضع حسبه ونسبه، وهوانه على الانس كعبد رقيق، لم يحرمه حين آثر الاسلام دينا، من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه، وطهره، وتفانيه..



    ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب، الا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..

    فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال، ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له أهل، ولا حول، ولا يملك من حياته شيئا، فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته..

    كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن، لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا..

    ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا، فيقدر على ايمان، هيهات أن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!

    أجل.. بلال بن رباح!

    أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!




    **




    انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..

    كان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا أمل له في غده..!!

    ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها، وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم، سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..

    لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا، وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا، وغمّا وشرا..



    وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون، الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!

    أجل انه ليسمعهم يعجبون، ويحارون، في هذا الذي جاء به محمد..!!

    ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان ام يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى دينه..!!

    سمعهم يتحدّثون عن أمانته..

    عن وفائه..

    عن رجولته وخلقه..

    عن نزاهته ورجاحة عقله..

    وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا، ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها، ثم الحقد على بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!




    **




    وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه، فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم..

    ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..

    عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!

    ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق..!!

    ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها، وحماة الوثنية فيها...!




    **




    أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده، وان كان الاسلام أحق به، ولكنه شرف للانسانية جميعا..

    لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام.

    ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها، واعتصمت بباريها، وتشبثت بحقها..

    لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا، ولا بملئها عذابا..

    لقد وضع عريانا فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى..



    لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والاسلام، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته..

    لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الماتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره..

    ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره..



    ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه، ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد ايمانه، ويتخلى عن اقتناعه..

    حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!

    نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:"أحد أحد"

    يقولون له: قل كما نقول..

    فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:

    "ان لساني لا يحسنه"..!!

    ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره، حتى اذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:" أحد أحد".



    وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:

    غدا قل كلمات خير في آلهتنا، قل ربي اللات والعزى، لنذرك وشأتك، فقد تعبنا من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذبون!

    فيهز رأسه ويقول:" أحد.. أحد..".

    ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا، ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.

    ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:

    "أحد.. أحد.."

    ويعود للحديث والمساومة، من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه، فيقول:

    خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم، ان بلالا منا أمه جاريتنا، وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريّتها..

    ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر، ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:

    "أحد.. أحد.."

    وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال الى الرمضاء، وهو صابر محتسب، صامد ثابت.

    ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه، ويصيح بهم:

    (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟؟

    ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..

    وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..



    لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع لال قد بلغ في في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته..

    باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...



    وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية:

    خذه، فواللات والعزى، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..

    وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..

    ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له، وندّا،أجاب أمية قائلا:

    والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها..!!



    وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!

    وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة، واستقرارهم بها، يشرّع الرسول للصلاة أذانها..

    فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟

    انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد..أحد".

    لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.

    وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة ايمانا، والأسماع روعة وهو ينادى:

    الله أكبر.. الله أكبر

    الله أكبر .. الله أكبر

    أشهد أن لااله الا الله

    أشهد أن لا اله الا الله

    أشهد أن محمدا رسول الله

    أشهد أن محمدا رسول الله

    حي على الصلاة

    حي على الصلاة

    حي على الفلاح

    حي على الفلاح

    الله أكبر.. الله أكبر

    لااله الا الله...



    ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..

    وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الاسلام، غزوة بدر.. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: "أحد..أحد".




    **




    في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها، وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم..!!

    ولقد همّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف" .. هذا الذي كان سيدا لبلال، والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..



    همّ بالنكوص لولا أن ذهب اليه صديقه "عقبة بن أبي معيط" حين علم عن نبأ تخاذله وتقاعسه، حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي، استجمر بهبذ، فانما أنت من النساء..!!!

    وصاح به أمية قائلا: قبحك الله، وقبّح ما جئت به..

    ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..

    أيّة أسرار للقدر، يطويها وينشرها..؟

    لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال، وغير بلال من المسلمين المستضعفين..

    واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!

    كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!

    لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج..!!

    ولكن الله بالغ أمره، فليخرج أمية فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما، جاء أوان تصفيته، فالديّان لا يموت، وكما تدينون تدانون..!!



    وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين.. فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه، ويسارع اى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء، هو نفسه الذب سيقود أميّة الى مصرعه..

    وبيد من..؟

    بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!!

    نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلاسل، وأوجع صاحبها ضربا، وعذابا..

    مع هذه اليد ذاتها، هي اليوم، وفي غزوة بدر، على موعد أجاد القدر توقيته، مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا..

    ولقد حدث هذا تماما..



    وحين بدأ القتال بين الفريقين، وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم:" أحد.. أحد" انخلع قلب أمية، وجاءه النذير..

    ان الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار الأمة الجديدة كلها..!!

    "أحد..أحد"؟؟!!

    أهكذا..؟ وبهذه السرعة.. وهذا النمو العظيم..؟؟




    **




    وتلاحمت السيوف وحمي القتال..

    وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف" عبد الرحمن بن عوف" صاحب رسول الله، فاحتمى به، وطلب اليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته..

    وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره، ثم سار به وسط العمعمة الى مكان السرى.

    وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا:

    "رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت ان نجا".

    ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر، فصاح به عبد الرحمن بن عوف:

    "أي بلال.. انه أسيري".

    أسير والحرب مشبوبة دائرة..؟

    أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟

    لا.. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية..

    سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم، وهذا المأزق، وهذا المصير..!!

    ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف، فصاح بأعلى صوته في المسلمين:

    "يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت ان نجا"...!

    وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا، وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا.. بل لم يستطع أن يحمي أذراعه التي بددها الزحتم.

    وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة، ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح:

    "أحد.. أحد.."




    **




    لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام..

    فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى، لجازنا أن نسال بلالا حق التسامح، وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل به.

    لكن اللقاء الذي تم بينهما، كان في حرب، جاءها كل فريق ليفني غريمه..



    السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب، ثم يبصر بلال أمية الذي لم يترك في جسده موضع أنملة الا ويحمل آثار تعذيب.

    وأين يبصره وكيف..؟

    يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح به..

    في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل..؟؟




    **




    وتمضي الأيام وتفتح مكة..

    ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين..

    ويتوجه الى الكعبة رأسا.. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الأصنام..!!

    لقد جاء الحق وزهق الباطل..

    ومن اليوم لا عزى.. ولا لات.. ولا هبل.. لن يجني الانسان بعد اليوم هامته لحجر، ولا وثن.. ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم الا الله الي ليس كمثله شيء، الواحد الأحد، الكبير المتعال..

    ويدخل الرسول الكعبة، مصطحبا معه بلال..!

    ولا يكاد يدخلها حتى يواجه تمثالا منحوتا، يمثل ابراهيم عليه السلام وهو يستقسم بالأزلام، فيغضب الرسول ويقول:

    "قاتلهم الله..

    ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين".



    ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد، ويؤذن.

    ويؤذن بلال.. فيالروعة الزمان، واملكان، والمناسبة..!!

    كفت الحياة في مكة عن الحركة، ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة، تردد في خشوع وهمس كلمات الآذان ورء بلال.



    والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:

    أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟

    أهذا هو حقا، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين..؟؟

    أهذا هو حقا الذي قاتلناه، وطاردنبه، وقتلنا أحب الناس اليه..؟

    أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه، ويقول لنا:

    "اذهبوا فأنتم الطلقاء"..!!



    ولكن ثلاثة من أشراف قريش، كانوا جلوسا بفناء الكعبة، وكأنما يلفحهم مشهد بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه، ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع..

    أما هؤلاء الثلاثة فهم، أبوسفيان بن حرب، وكان قد أسلم منذ ساعات، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام، وكانا لم يسلما بعد.



    قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:

    لقد أكرم الله اسيدا، ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:

    أما والله لو أعلم أن محمدا محق لاتبعته..!!

    وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا:

    اني لا أقول شيئا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي الكعبة رآهم، وقرأ وجوههم في لحظة، قال وعيناه تتألقان بنور الله، وفرحة النصر:

    قد علمت الذي قلتم..!!!

    ومضى يحدثهم بما قالوا..

    فصاح الحارث وعتاب:

    نشهد أنك رسول الله، والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!

    واستقبلا بلال بقلوب جديدة..في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة:

    " يامعشر قريش..

    ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء..

    الناس من آدم وآدم من تراب"..




    **




    وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشهد معه المشاهد كلها، يؤذن للصلاة، ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات الى النور، ومن الرق الى الحريّة..

    وعلا شأن الاسلام، وعلا معه شأن المسلمين، وكان بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:" رجل من أهل الجنة"..

    لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا، لا يرى نفسه الا أنه:" الحبشي الذي كان بالأمس عبدا"..!!





    ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما:

    "أنا بلال، هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. ومنا عبدين فأعتقنا الله.. ان تزوّجونا فالحمد لله.. وان تمنعونا فالله أكبر.."!!




    **




    وذهب الرسول الى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا، ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق..

    وذهب بلال الى خليفة رسول الله يقول له:

    " يا خليفة رسول الله..

    اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل لبمؤمن الجهاد في سبيل الله"..

    فقال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟

    قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتىأموت..

    قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟

    قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع، اني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.

    قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال..

    قال بلال: ان كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وان كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له..

    قالأبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال..

    ويختلف الرواة، فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا.

    ويروي بعضهم الآخر، أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة، فلما قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج الى الشام.



    على أية حال، فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الاسلام، مصمما أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.



    ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب، ذلك أنه لم ينطق في أذانه "أشهد أن محمدا رسول الله" حتى تجيش به الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع أساه، وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.

    وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة.

    ودعا أمير المؤمنين بلال، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها.

    وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء..!!




    **




    ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد.



    وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف الى جانب العقيدة والاقتناع...
    </FONT>

  14. #29
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    25/ عبد الله بن رواحة :


    عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مستخفيا من كفار قريش مع الوفد القادم من المدينة هناك عند مشترف مكة، يبايع اثني عشر نقيبا من الأنصار بيعة العقبة الأولى، كان هناك عبدالله بن رواحة واحدا من هؤلاء النقباء، حملة الاسلام الى المدينة، والذين مهدّت بيعتهم هذه للهجرة التي كانت بدورها منطلقا رائعا لدين الله، والاسلام..

    وعندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبايع في العام التالي ثلاثة وسبعين من الأنصار أهل المدينة بيعة العقبة الثانية، كان ابن رواحة العظيم واحدا من النقباء المبايعين...
    وبعد هجرة الرسول وأصحابه الى المدينة واستقرارهم بها، كان عبدالله بن رواحة من أكثر الأنصار عملا لنصرة الدين ودعم بنائه، وكان من أكثرهم يقظة لمكايد عبد الله بن أبيّ الذي كان أهل المدينة يتهيئون لتتويجه ملكا عليها قبل أن يهاجر الاسلام اليها، والذي لم تبارح حلقومه مرارة الفرصة الضائعة، فمضى يستعمل دهاءه في الكيد للاسلام. في حين مضى عبدالله بن رواحة يتعقب هذا الدهاء ببصيرةمنيرة، أفسدت على ابن أبيّ أكثر مناوراته، وشلّت حركة دهائه..!!

    وكان ابن رواحة رضي الله عنه، كاتبا في بيئة لا عهد لها بالكتابة الا يسيرا..

    وكان شاعرا، ينطلق الشعر من بين ثناياه عذبا قويا..

    ومنذ أسلم، وضع مقدرته الشعرية في خدمة الاسلام..

    وكان الرسول يحب شعره ويستزيده منه..



    جلس عليه السلام يوما مع أصحابه، وأقبل عبدالله بن رواحة، فسأله النبي:

    " كيف تقول الشعر اذا أردت أن نقول"..؟؟

    فأجاب عبدالله:" أنظر في ذاك ثم أقول"..

    ومضى على البديهة ينشد:

    يا هاشم الخير ان الله فضّلكم

    على البريّة فضلا ما له غير

    اني تفرّست فيك الخير أعرفه

    فراسة خالفتهم في الذي نظروا

    ولو سألت أو استنصرت بعضهمو

    في حلّ أمرك ما ردّوا ولا نصروا

    فثّبت الله ما آتاك من حسن

    تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا



    فسرّ الرسول ورضي وقال له:

    " واياك، فثّبت الله"..

    وحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يطوف بالبيت في عمرة القضاء

    كان ابن رواحة بين يديه ينشد من رجزه:

    يا ربّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلينا

    فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام ان لاقينا

    ان الذين قد بغوا علينا اذا أرادوا فتنة ألبنا

    وكان المسلمون يرددون أنشودته الجميلة..

    وحزن الشار المكثر، حين تنزل الآية الكريمة:

    ( والشعراء يتبعهم الغاوون)..

    ولكنه يستردّ غبطة نفسه حين تنزل آية أخرى:

    ( الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا..)




    **




    وحين يضطر الاسلام لخوض القتال دفاعا عن نفسه، يحمل ابن رواحة سيفه في مشاهد بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر جاعلا شعاره دوما هذه الكلمات من شعره وقصيده:

    " يا نفس الا تقتلي تموتي"..

    وصائحا في المشركين في كل معركة وغزاة:

    خلوا بني الكفار عن سبيله

    خلوا، فكل الخير في رسوله




    **




    وجاءت غزوة مؤتة..

    وكان عبدالله بن رواحة ثالث الأمراء، كما أسلفنا في الحديث عن زيد وجفعر..

    ووقف ابن رواحة رضي الله عنه والجيش يتأهب لمغادرة المدينة..

    وقف ينشد ويقول:

    لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع وتقذف الزبدا

    أو طعنة بيدي حرّان مجهرة بحربة تنفد الأحشاء والكبدا

    حتى يقال اذا مرّوا على جدثي يا أرشد الله من غاز، وقد رشدا

    أجل تلك كانت أمنيته ولا شيء سواها.. ضربة سيف أ، طعنة رمح، تنقله الى عالم الشهداء والظافرين..!!




    **




    وتحرّك الجيش الى مؤتة، وحين استشرف المسلمون عدوّهم حزروا جيش الروم بمائتي ألف مقاتل، اذ رأوا صفوفا لا آخر لها، وأعداد نفوق الحصر والحساب..!!

    ونظر المسلمون الى عددهم القليل، فوجموا.. وقال بعضهم:

    " فلنبعث الى رسول الله، نخبره بعدد عدوّنا، فامّا أن يمدّنا بالرجال، وأمّا أن يأمرنا بالزحف فنطيع"..

    بيد أن ابن رواحة نهض وسط صفوفهم كالنهار، وقال لهم:

    " يا قوم..

    انّا والله، ما نقاتل الا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به..

    فانطلقوا.. فانما هي احدى الحسنيين، النصر أو الشهادة"...

    وهتف المسلمون الأقلون عددا، الأكثرون ايمانا،..

    هتفوا قائلين:

    "قد والله صدق ابن رواحة"..

    ومضى الجيش الى غايته، يلاقي بعدده القليل مائتي ألف، حشدهم الروم للقال الضاري الرهيب...




    **




    والتقى الجيشان كما ذكرنا من قبل..

    وسقط الأمير الأول زيد بن حارثة شهيدا مجيدا..

    وتلاه الأمير الثاني جعفر بن عبد المطلب حتى أدرك الشهادة في غبطة وعظمة..

    وتلاه ثالث الأمراء عبداله بن رواحة فحمل الراية من يمين جعفر.. وكان القتال قد بلغ ضراوته، وكادت القلة المسلمة تتوه في زحام العرمرم اللجب، الذي حشده هرقل..

    وحين كان ابن رواحة يقاتل كجندي، كان يصول ويجول في غير تردد ولا مبالاة..

    أما الآن، وقد صار أميرا للجيش ومسؤولا عن حياته، فقد بدا أمام ضراوة الروم، وكأنما مرّت به لمسة تردد وتهيّب، لكنه ما لبث أن استجاش كل قوى المخاطرة في نفسه وصاح..



    أقسمت يا نفس لتنزلنّه مالي أراك تكرهين الجنّة؟؟

    يا نفس الا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت

    وما تمنّت فقد أعطيت ان تفعلي فعلهما هديت

    يعني بهذا صاحبيه الذين سبقاه الى الشهادة: زيدا وجعفر..

    "ان تفعلي فعلهما هديت.



    انطلق يعصف بالروم عصفا..

    ولا كتاب سبق بأن يكون موعده مع الجنة، لظلّ يضرب بسيفه حتى يفني الجموع المقاتلة.. لكن ساعة الرحيل قد دقّت معلنة بدء المسيرة الى الله، فصعد شهيدا..

    هوى جسده، فصعدت الى الرفيق الأعلى روحه المستبسلة الطاهرة..

    وتحققت أغلى أمانيه:

    حتى يقال اذا مرّوا على جدثي

    يا أرشد الله من غار، وقد رشدا

    نعم يا ابن رواحة..

    يا أرشد الله من غاز وقد رشدا..!!




    **




    وبينما كان القتال يدور فوق أرض البلقاء بالشام، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في المدينة، يحادثهم ويحادثونه..

    وفجأة والحديث ماض في تهلل وطمأنينة، صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسدل جفنيه قليلا.. ثم رفعهما لينطلق من عينيه بريق ساطع يبلله أسى وحنان..!!

    وطوفّت نظراته الآسية وجوه أصحابه وقال:

    "أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.

    ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا"..

    وصمت قليلا ثم استأنف كلماته قائلا:

    " ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها، حتى قتل شهيدا"..

    ثم صمت قليلا وتألقت عيناه بومض متهلل، مطمئن، مشتاق. ثم قال:

    " لقد رفعوا الى الجنة"..!!

    أيّة رحلة مجيدة كانت..

    وأي اتفاق سعيد كان..

    لقد خرجوا الى الغزو معا..

    وكانت خير تحيّة توجّه لذكراهم الخالدة، كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    " لقد رفعوا الى الجنة"..!!

  15. #30
    التسجيل
    24-02-2005
    الدولة
    الـمـمـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة
    المشاركات
    3,874

    مشاركة: &&[[ ... بعض من صور حياة الصحابة ... ]]&&

    26 / عبد الله بن عباس :

    يشبه ابن عباس، عبدالله بن الزبير في أنه أدرك الرسول وعاصره وهو غلام، ومات الرسول قبل أن يبلغ ابن عباس سنّ الرجولة.

    لكنه هو الآخر تلقى في حداثته كل خامات الرجولة، ومبادئ حياته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤثره، ويزكيه، ويعلّمه الحكمة الخالصة.

    وبقوة ايمانه، وقوة خلقه، وغزارة علمه، اقتعد ابن عباس رضي الله عنه مكانا عاليا بين الرجال حول الرسول.


    **




    هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ولقبه الحبر.. حبر هذه الأمة، هيأه لهذا اللقب، ولهذه المنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه، واتساع معارفه.

    لقد عرف ابن عباس طريق حياته في أوليات أيامه وازداد بها معرفة عندما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يدنيه منه وهو طفل ويربّت على كتفه وهو يقول:

    " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".

    ثم توالت المناسبات والفرص التي يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبدالله بن عباس.. وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم، والمعرفة.

    وكان استعداده العقلي يدفعه في هذا الطريق دفعا قويا.



    فعلى الرغم من أنه لم يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول الله، فانه لم يصنع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهد مجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول..

    وبعد ذهاب الرسول الى الرفيق الأعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه..

    هنالك، جعل من نفسه علامة استفهام دائمة.. فلا يسمع أن فلانا يعرف حكمة، أو يحفظ حديثا، الا سارع اليه وتعلم منه..

    وكان عقله المضيء الطموح يدفعه لفحص كل ما يسمع.. فهو لا يعنى بجمع المعرفة فحسب، بل ويعنى مع جمعها بفحصها وفحص مصادرها..

    يقول عن نفسه:

    " ان كنت لأسأل عن الأمر الواحد، ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".

    ويعطينا صورة لحرصه على ادراكه الحقيقة والمعرفة فيقول:

    " لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لفتى من الأنصار:

    هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله، فانهم اليوم كثير.

    فقال: يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون اليك، وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى..؟؟

    فترك ذلك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله.. فان كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي اليه وهو قائل في الظهيرة، فأتوسّد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك..؟؟ هلا أرسلت اليّ فآتيك..؟؟ فأقول لا، أنت أحق بأن أسعى اليك، فأسأله عنه الحديث وأتعلم منه"..!!

    هكذا راح فتانا العظيم يسأل، ويسأل، ويسأل.. ثم يفحص الاجابة مع نفسه، ويناقشها بعقل جريء.

    وهو في كل يوم، تنمو معارفه، وتنمو حكمته، حتى توفرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم، وحصافتهم، وحتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحرص على مشورته في كل أمر كبير.. وكان يلقبه بفتى الكهول..!!

    سئل ابن عباس يوما:" أنّى أصبت هذا العلم"..؟

    فأجاب:

    " بلسان سؤل..

    وقلب عقول"..

    فبلسانه المتسائل دوما، وبعقله الفاحص أبدا، ثم بتواضعه ودماثة خلقه، صار ابن عباس" حبر هذه الأمة..

    ويصفه سعد بن أبي وقاص بهذه الكلمات:

    " ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا أكبر لبّا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس..

    ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس، ولا يجاوز عمر قوله"..

    وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال:

    " ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس..

    ولا رأيت أحدا، أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه..

    ولا أفقه في رأي منه..

    ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير للقرآن، ولا بحساب وفريضة منه..

    ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها..

    وما رأيت عالما جلس اليه الا خضع له، ولا سائلا الا وجد عنده علما"..!!




    **




    ووصفه مسلم من أهل البصرة، وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها للامام عليّ ابن أبي طالب، فقال:

    " انه آخذ بثلاث، تارك لثلاث..

    آخذ بقلوب الرجال اذا حدّث..

    وبحسن الاستماع اذا حدّث..

    وبأيسر الأمرين اذا خولف..

    وتارك المراء..

    ومصادقة اللئام..

    وما يعتذر منه"..!!




    **




    وكان تنوّع ثقافته، وشمول معرفته ما يبهر الألباب.. فهو الحبر الحاذق الفطن في كل علم.. في تفسير القرآن وتأويله وفي الفقه.. وفي التاريخ.. وفي لغة العرب وآدابهم، ومن ثمّ فقد كان مقصد الباحثين عن المعرفة، يأتيه الناس أفواجا من أقطار الاسلام، ليسمعوا منه، وليتفقهوا عليه..

    حدّث أحد أصحابه ومعاصريه فقال:

    " لقد رأيت من ابن عباس مجلسا، لو أن جميع قريش فخرت به، لكان لها به الفخر..

    رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب..

    فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءا، فتوضأ وجلس وقال: أخرج اليهم، فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله..فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سالوا عن شيء الا اخبرهم وزاد..

    ثم قال لهم: اخوانكم.. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم.

    ثم قال لي: أخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام..

    فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوا عن شيء الا أخبرهم وزادهم..

    ثم قال: اخوانكم.. فخرجوا..

    ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض، فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم..

    ثم قال لي: ادع من يريد أن يسال عن العربية، والشعر..

    فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم"!!



    وكان ابن عباس يمتلك الى جانب ذاكرته القوية، بل الخارقة، ذكاء نافذا، وفطنة بالغة..

    كانت حجته كضوء الشمس ألقا، ووضوحا، وبهجة.. وهو في حواره ومنطقه، لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب، بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار..

    ومع غزارة علمه، ونفاذ حجته، لم يكن يرى في الحوار والمناقشة معركة ذكاء، يزهو فيها بعلمه، ثم بانتصاره على خصمه.. بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية الصواب ومعرفته..

    ولطالما روّع الخوارج بمنطقه الصارم العادل..

    بعث به الامام عليّ كرّم الله وجهه ذات يوم الى طائفة كبيرة منهم فدار بينه وبينهم حوار رائع وجّه فيه الحديث وساق الحجة بشكل يبهر الألباب..

    ومن ذلك الحوار الطويل نكتفي بهذه الفقرة..

    سألهم ابن عباس:

    " ماذا تنقمون من عليّ..؟"

    قالوا:

    " ننتقم منه ثلاثا:

    أولاهنّ: أنه حكّم الرجال في دين الله، والله يقول ان الحكم الا لله..

    والثانية: أنه قاتل، ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارا، فقد حلّت أموالهم، وان كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم..!!

    والثالثة: رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، استجابة لأعدائه، فان لم يكن امير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.."

    وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال:

    " أما قولكم: انه حكّم الرجال في دين الله، فأيّ بأس..؟

    ان الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم..

    فنبؤني بالله: أتحكيم الرجال في حقن دماء المسلمين أحق وأولى، أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم..؟؟!!

    وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم.. واستأنف حبر الأمة حديثه:

    " وأما قولكم: انه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا، ويأخذ أسلابها غنائم..؟؟

    وهنا كست وجوههم صفرة الخحل، وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم..

    وانتقل ابن عباس الى الثالثة:

    " وأما قولكم: انه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله الرسول يوم الحديبية، اذ راح يملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش، فقال للكاتب: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك..

    فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله.. فقال لهم الرسول: والله اني لرسول الله وان كذبتم.. ثم قال لكاتب الصحيفة: أكتب ما يشاءون: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"..!!

    واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز.. وما كاد ينتهي النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا، معلنين اقتناعهم، ومعلنين خروجهم من خصومة الامام عليّ..!!




    **




    ولم يكن ابن عباس يمتلك هذه الثروة الكبرى من العلم فحسب. بل كان يمتلك معها ثروة أكبر، من أخلاق العلم وأخلاق العلماء.

    فهو في جوده وسخائه امام وعلم..

    انه ليفيض على الناس من ماله.. بنفس السماح الذي يفيض به عليهم من علمه..!!

    ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون:

    " ما رأينا بيتا أكثر طعاما، ولا شرابا، ولا فاكهة، ولا علما من بيت ابن عباس"..!!

    وهو طاهر القلب، نقيّ النفس، لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا.

    وهوايته التي لا يشبع منها، هي تمنّيه الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف من الناس..

    يقول عن نفسه:

    " اني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم..

    واني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له.. ومالي عنده قضيّة..!!

    واني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالي بتلك الأرض سائمة..!!"




    **




    وهو عابد قانت أوّاب.. يقوم من الليل، ويصوم من الأيام، ولا تخطئ العين مجرى الدموع تحت خديّه، اذ كان كثير البكاء كلما صلى.. وكلما قرأ القرآن..

    فاذا بلغ في قراءته بعض آيات الزجر والوعيد، وذكر الموت، والبعث علا نشيجه ونحيبه.





    **




    وعاش ابن عباس يمأ دنباه علما وحكمة، وينشر بين الناس عبيره وتقواه..

    وفي عامه الحادي والسبعين، دعي للقاء ربه العظيم وشهدت مدينة الطائف مشهدا حافلا لمؤمن يزف الى الجنان.

    وبينما كان جثمانه يأخذ مستقره الآمن في قبره، كانت جنبات الأفق تهتز بأصداء وعد الله الحق:

    ( يا أيتها النفس المطمئنة

    ارجعي الى ربك راضية مرضية

    فادخلي في عبادي

    وادخلي جنتي)

    </FONT>

صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 123456 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •